الاثنين، 3 ديسمبر 2018

رضي الدين النيسابوري

أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي الأصل النيسابوري الدار المجدث الملقب رضي الدين؛ كان أعلى المتأخرين إسناداً، لقي جماعة من الأعيان وأخذ عنهم، وسمع صحيح مسلم من الفقيه أبي عبد الله محمد بن الفضل الفراوي - المقدم ذكره - وهو آخر من بقي من أصحابه، وسمع صحيح البخاري من أبي بكر وجيه بن طاهر بن محمد الشحامي وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه ابن أحمد الشاذياخي، وسمع المؤطأ رواية أبي مصعب إلا ما استثني منه من أبي محمد هبة الله بن سهل بن عمر (2) البسطامي المعروف بالسندي (3) ، وسمع " تفسير القرآن الكريم " تصنيف أبي إسحاق الثعلبي من أبي العباس محمد الطوسي المعروف بعباسة، وسمع أيضاً من جماعة من سيوخ نيسابور منهم الفقيه أبو محمد عبد الجبار ابن محمد الخواري وأم الخير فاطمة بنت أبي الحسن علي بن المظفر بن زعبل ، وحدث بالكثير، ورحل إليه من القطار، ولنا منه إجازة كتبها من خراسان باستدعاء الوالد رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنةعشروستمائة، وإنماذكرته لشهرته تفرده في آخر عصره؛ وكانت ولادته سنة أربع وعشر وخمسمائة، ظنا. وتوفي ليلة العشرين من شوال سبع عشرة وستمائة بنيسابور، ودفن من الغد، رحمه الله تعالى.
ثم بعد إثبات هذه الترجمة على هذه الصورة بسنين رأيت بخط الشيخ المؤيد المذكور في إجازة، وقد رفع نسبه فقال: كتبه المؤيد بن محمد بن علي بن الحسن ابن محمد بن أبي صالح الطوسي.

أبو منصور الجواليقي

أبو منصور موهوب بن أبي طاهر أحمد بن محمد بن الخضر، الجواليقي البغدادي الأديب اللغوي؛ كان إماماً في فنون الأدب، وهو من مفاخر بغداد قرأ الأدب على الخطيب أبي زكريا التبريزي - الآتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - ولازمه وتتلمذ له حتى برع في فنه.
وهو متدين ثقة غزير الفضل وافر العقل مليح الخط كثير الضبط، صنف التصانيف المفيدة وانتشرت عنه، مثل شرح أدب الكاتب والمعرب ولم يعمل في جنسه أكبر منه وتتمة درة الغواص تأليف الحريري صاحب المقامات سماه التكملة فيما يلحن فيه العامة إلى غير ذلك، وكان يختار في بعض مسائل النحو مذاهب غريبة. وكان في اللغة أمثل منه في النحو، وخطه مرغوب فيه، يتنافس الناس في تحصيله والمغالاة فيه (2) .
وكان إماماً للإمام المقتفي بالله يصلي به الصلوات الخمس، وألف له كتاباً لطيفاً في علم العروض، وجرت له مع الطبيب هبة الله بن صاعد المعروف بابن التلميذ النصراني - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - واقعة عنده، وهي أنه لما حضر إليه للصلاة به ودخل عليه أول دخلة فما زاده على أن قال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله تعالى، فقال ابن التلميذ، وكان حاضراً قائماً بين يدي المقتفي، وله إدلال الخدمة والصحبة، ما هكذا يسلم (3) على أمير المؤمنين يا شيخ فلم يلتفت ابن الجواليقي إليه، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى له خبراً في صورة السلام ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانباً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المرضي لما لزمته كفارة الحنث لأن الله تالى ختم على قلوبهم، ولن يفك ختم الله إلا الإيمان، فقال له: صدقت وأحسنت فيما فعلت، وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه.
وسمع ابن الجواليقي من شيوخ زمانه وأكثر، أخذ الناس عنه علماً جماً، وينسب إليه من الشعر شيء قليل، فمن ذلك ما رأيته منسوباً إليه في بعض المجاميع ولم أتحققه له، وهو:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت خلف الورد وقفة حائم
حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم ثم وجدت هذين البيتين لابن الخشاب من جملة أبيات.
وحكى ولده أبو محمد إسماعيل، وكان أنجب أولاده، قال: كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر، والناس يقرؤون عليه، فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي، قد سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهما، وأريد أن تسمعهما مني وتعرفني مهناهما، فقال: قل، فأنشده:
وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجره النار يصليني به النارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني، وبالجوزاء إن زارا قال إسماعيل: فلما سمعهما والدي قال: يا بني، هذا شيء من معرفة علم النجوم وتسييرها لا من صنعة أهل الأدب، فانصرف الشاب من غير حصول فائدة، واستحيا والدي من أن يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، وقام، وآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر، فنظر في ذلك وحصل معرفته، ثم جلس.
ومعنى البيت المسئول عنه أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في غاية الطول، لأنه يكون آخر فصل الخريف، وإذا كانت في آخر الجوزاء يا شيخ فلم يلتفت ابن الجواليقي إليه، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى له خبراً في صورة السلام ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانباً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المرضي لما لزمته كفارة الحنث لأن الله تالى ختم على قلوبهم، ولن يفك ختم الله إلا الإيمان، فقال له: صدقت وأحسنت فيما فعلت، وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه.
وسمع ابن الجواليقي من شيوخ زمانه وأكثر، أخذ الناس عنه علماً جماً، وينسب إليه من الشعر شيء قليل، فمن ذلك ما رأيته منسوباً إليه في بعض المجاميع ولم أتحققه له، وهو:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت خلف الورد وقفة حائم
حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم ثم وجدت هذين البيتين لابن الخشاب من جملة أبيات.
وحكى ولده أبو محمد إسماعيل، وكان أنجب أولاده، قال: كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر، والناس يقرؤون عليه، فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي، قد سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهما، وأريد أن تسمعهما مني وتعرفني مهناهما، فقال: قل، فأنشده:
وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجره النار يصليني به النارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني، وبالجوزاء إن زارا قال إسماعيل: فلما سمعهما والدي قال: يا بني، هذا شيء من معرفة علم النجوم وتسييرها لا من صنعة أهل الأدب، فانصرف الشاب من غير حصول فائدة، واستحيا والدي من أن يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، وقام، وآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر، فنظر في ذلك وحصل معرفته، ثم جلس.
ومعنى البيت المسئول عنه أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في غاية الطول، لأنه يكون آخر فصل الخريف، وإذا كانت في آخر الجوزاء كان الليل في غاية القصر، لأنه آخر فصل الربيع، فكأنه يقول: إذا لم يزرني فالليل عندي في غاية الطول، وإن زارني كان الليل عندي في غاية القصر، والله أعلم.
ولبعض شعراء عصره فيه وفي المغربي مفسر المنامات (1) ، وذكرها في الخريدة لحيص بيض، هكذا وجدتها في مختصر الخريدة للحافظ:
كل الذنوب ببلدتي مغفورة ... إلا اللذين تعاظما أن يغفرا
كون الجواليقي فيها ملقيا ... أدباً، وكون المغربي معبرا
فأسير لكنته يمل (2) فصاحة ... وغفول يقظته يعبر عن كرى ونوادره كثيرة.
وكانت ولادته سنة ست وستين وأربعمائة. وتوفي يوم الأحد منتصف المحرم سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ببغداد، ودفن بباب حرب، رحمه اللله تعالى، بعد أن صلى عليه قاضي القضاة الزينبي بجامع القصر.
والجواليقي: نسبة إلى عمل الجوالق وبيعها، وهي نسبة شاذة لأن الجموع لا ينسب إليها، بل ينسب إلى آحادها إلا ما جاء شاذاً مسموعاً في كلمات محفوظة مثل قولهم: رجل أنصاري، في النسبة إلى الأنصار، والجواليق في جمع جوالق شاذ لأن الياء لم تكن موجودة في مفرده، والمسموع فيه جوالق بضم الجيم وجمعه جوالق بفتح الجيم، وهو باب مطرد، قالوا: رجل حلاحل، إذا كان وقوراً، وجمعه حلاحل، وشجر عدامل، إذا كان قديماً، وجمعه عدامل، ورجل عراعر، وهو السيد، وجمعه عراعر، ورجل علاكد، إذا كان شديداً، وجمعه علاكد، وله نظائر كثير. وهو اسم أعجمي معرب، والجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة واحدة عربية ألبيتة

موسى بن عبد الملك الأصبهاني

أبو عمران موسى بن عبد الملك بن هشام (2) الأصبهاني صاحب ديوان الخراج؛ كان من جلة الرؤساء، وفضلاء الكتاب وأعيانهم، تنقل في الخدم في أيام جماعة من الخلفاء. وكان إليه ديوان (3) السواد وغيره في أيام المتوكل، وكان مترسلاً، وله ديوان رسائل. وقد سبق طرف من خبره مع أبي العيناء في ترجمته، وما دار بينهما من المحاورة في قضية نجاح بن سلمة (4) . وله شعر رقيق حسن فمن ذلك قوله:
ولما وردنا القادسية حيث مجتمع الرفاق ...
وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق
 أيقنت لي ولمن أحب بجمع شمل واتفاق ...
وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق
لم يبق لي إلا تجشم ... هذه السبع الطباق
حتى يطول حديثنا ... بصفات ما كنا نلاقي [يروى: لما وردنا الثعلبية، وكلتاهما من منازل الحاج على طريق العراق، والثعلبية منسوبة إلى ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، قاله ابن الكلبي في " جمهرة النسب
ولهذه الأبيات حكاية مستطرفة أحببت ذكرها هاهنا وقد سردها الحافظ أبو عبد الله الحميدي، في كتاب جذوة المقتبس (1) ، وغيره من أرباب تواريخ المغاربة، وهي أن أبا علي الحسن بن الأشكري (2) المصري قال: كنت رجلاً من جلاس الأمير تميم بن أبي تميم، وممن يخفف عليه جداً - وهذا تميم هو أبو العز بن باديس المذكور في حرف التاء - قال: فأرسلني إلى بغداد، فاتبعت له جارية رائقة فائقةالغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه، قال: وكنت فيهم، ثم مدت الستارة، وأمرها بالغناء فغنت:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرا متمنع أركانه
فمضى لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظراً إليه وصده (3) سجانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه 
وهذه الأبيات ذكرها صاحب الأغاني (4) للشريف أبي عبد الله محمد بن صالح الحسني، قال ابن الأشكري: فأحسنت الجارية ما شاءت، فطرب الأمير تميم ومن حضر، ثم غنت:
سيسليك عما فات دولة مفضل ... أوائله محمودة وأواخره
ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على البر مذ شدت عليه مآزره 
قال: فطرب الأمير تميم ومن حضر طرباً شديداً، قال: ثم غنت:
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه 
وهذا البيت لمحمد بن زريق الكاتب البغدادي، من جملة قصيدة طويلة.
قال الراوي: فاشتد طرب الأمير تميم وأفراط جداً، ثم قال لها: تمني ما شئت، فقال، أتمنى عافية الأمير وسلامته، فقال: والله لا بد أن تتمني، فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى قال: نعم، فقالت: أتمنى أن أغني بهذه النوبة ببغدادفانتقع لون الأمير تميم وتغير وجهه وتكدر المجلس، وقام وقمنا.
وقال ابن الأشكري: فلقيني بعض خدمه وقال لي: ارجع فالأمير يدعوك، فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت عليه وقمت بين يديه، فقال لي: ويحك، ورأيت ما امتحنا به فقلت: نعم أيها الأمير، فقال: لا بد من الوفاء لها، ولا أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنت هناك فاصرفها، فقلت: سمعاً وطاعة.
قال: ثم قمت فتأهبت، وأمرها بالتأهب، وأصحبها جارية سوداء له تعادلها وتخدمها، وأمر بناقة ةمحمل، فأدخلت فيه، وجعلتها معي، وصرت إلى مكة مع القافلة وقضينا حجنا، ثم دخلت في قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا القادسية أتتني السوداء، وقالت لي: تقول لك سيدتي: أين نحن فقلت لها: نزول القادسية، فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتهاقد ارتفع بالغناء، وغنت الأبيات المذكورة، قال: فتصايح الناس من أقطار القافلة: وأعيدي بالله أعيدي قال: فما سمع لها كلمة. قال: ثم نزلنا الياسرية، وبينها وبين بغداد نحو خمسة أميال في بساتين متصلة، ينزل بها فيبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداد. فلما كان وقت الصباح وإذا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقلت: مالك قالت: إن سيدني ليست بحاضرة، فقلت: ويلك، وأين هي قالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثراً بعد ذلك، ودخلت بغداد وقضيت حوائجي منها، وانصرفت إلى الأمير تميم فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه واغتم له غماً شديداً، ثم ما زال بعد ذلك ذاكراً لها واجماً عليها.
والقادسية: بفتح القاف وبعد الألف دال مهملة مكسورة وسين مكسورة أيضاً وبعدها ياء مثناة من تحتها مشدودة ثم هاء ساكنة، وهي قرية فوق الكوفة وعندما كانت الوقعة المشهورة في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
والياسرية: بفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف سين مهملة مكسورة وراء مكسورة أيضاً وبعدها ياء مثناة من تحتها مشددة ثم هاء مشدودة ساكنة وقد ذكرنا أين هي، فلا حاجة إلى الإعادة.
وحكى إسحاق بن إبراهيم أخو زيد بن إبراهيم أنه كان يتقلد بلاد السيروان نيابة عن موسى بن عبد الملك المذكور، فاجتاز به إبراهيم بن العباس الصولي، - الشاعر المقدم ذكره - وهو يريد خراسان، والمأمون يوم ذاك بها، وقد بايع بالعهد علي بن موسى الرضا، وهي قضية مشهورة، وقد امتدحه إبراهيم المذكور بقصيدة ذكر فيها آل علي، وأنهم أحق بالخلافة من غيرهم. قال إسحاق بن إبراهيم المذكور: فاستحسنت القصيدة وسألت إبراهيم بن العباس أن ينسخها ففعل، ووهبته ألف درهم وحملته على دابة، وتوجه إلى خراسان. ثم تراخت الأيام إلى زمن المتوكل، فتولى إبراهيم المذكور موضع موسى بن عبد الملك المذكور، وكان يحب أن يكشف أسباب موسى، فعزلني وأمر أن تعمل مؤامرة (1) ، فعملت وحضرت للمناظرة عنها، فجعلت أحتج بما لايدفع فلا يقبله، ونحتكم إلى الكتاب فلا يلتفت إلى حكمهم، ويسمعني في خلال ذلك غليظ الكلام، إلى أن أوجب الكتاب اليمين على باب من الأبواب فحلفت، فقال: ليست يمين السلطان عندك يميناً لأنك رافضي، فقلت له: تأذن لي في الدنو منك فأذن لي، فقلت له: ليس مع تعريضك بمهبجتي للقتل صبر، وهذا المتوكل إن كتبت إليه بما أسمعه منك لم آمنه على نفسي، وقد احتملت كل ما جرى سوى الرفض. والرافضي من زعم أن علي بن أبي طالب أفضل من العباس، وأن ولده أحق من ولد العباس بالخلافة. قال: ومن هو ذاك قلت: أنت، وخطك عندي به. فأخبرته بالشعر الذي عنله في المأمون وذكر فيه علي بن موسى، فوالله ما هو إلا أن قلت له ذلك حتى سقط في يده ثم قال لي:
أحضر الدفتر الذي بخطي، فقلت له: هيهات، لا والله أو توثق لي بما أسكن إليه أنك لا تطالبني بشيء مما جرى على يدي، وتخرق هذه المؤامرة ولا تنظر لي في حساب، فحلف لي على ذلك بما سكنت إليه وخرق العمل المعمول، فأحضرت له الدفتر فوضعه في خفه، وانصرفت وقد زالت عني المطالبة.
ولموسى المذكور أخبار كثيرة أضربت عن ذكرها طلباً للاختصار. وتوفي في شوال سنة ست وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى.
والسيروان: بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء والواو وبعد الألف نون، وهي كورة ماسبذان من أعمال الجبل.
وماسبذان: بفتح الميم وبعد الألف سين مهملة وباء موحدة وذال معجمة والجميع مفتوح وبعد الألف نون، وهي قرية كان يسكنها المهدي بن المنصور أبي جعفر، والد هارون الرشيد، وبها توفي، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة الشاعر - المقدم ذكره:
وأكرم قبر بعد قبر محمد ... نبي الهدى قبر بماسبذان
عجبت لأيد هالت الترب فوقه ... ضحى كيف لم ترجع بغير بنان والسيروان: اسم لأربعة مواضع هذا أحدها.
وبلاد الجبل عبارة عن عراق العجم الفاصل بين عراق العرب وخراسان، وبلاده المشهورة: أصبهان وهمذان والري وزنجان.

الملك الأشرف موسى الأيوبي

أبو الفتح موسى ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، الملقب الملك الأشرف مظفر الدين؛ أول شيء ملكه من البلاد مدينة الرها، سيره إليها والده من الديار المصرية في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ثم أضيفت إليه حران. وكان محبوباً إلى الناس مسعوداً مؤيداً في الحروب من يومه، لقي نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل - المذكور في حرف الهمزة - وكان يوم ذاك من الملوك المشاهير الكبار، وتواقعا في مصاف فكسره، وذلك في سنة ستمائة يوم السبت تاسع عشر شوال بموضع يقال له بين النهرين من أعمال الموصل وهي وقعة مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها؛ ولما توفي أخوه عبد الملك الأوحد نجم الدين أيوب صاحب خلاط وميافارقين وتلك النواحي، أخذ الملك الأشرف مملكته مضافة إلى ملكه، وتوفي الملك في شهر ربيع الأول سنة تسع وستمائة وكانت وفاته بملازكرد من أعمال خلاط ودفن بها، وكان الملك الأوحد قد ملك خلاط في سنة أربع وستمائة.
فاتسعت حينئذ مملكته وبسط العدل على الناس وأحسن إليهم إحسانا لم يعهدوه ممن كان قبله، وعظم وقعه في قلوب الناس، وبعد صيته، وكان قد ملك نصيبين الشرق في سنة ست وستمائة، وأخذ سنجار سنة سبع عشرة في رابع جمادى الأولى، ورأيت في موضع آخر أنه أخذها في مستهل صفر من السنة، والله أعلم، كذلك الخابور، وملك (2) معظم بلاد الجزيرة، وكان يتنقل فيها، وأكثر إقامته بالرقة لكونها على الفرات.
ولما مات ابن عمه الملك الظاهر غازي صاحب حلب - في التاريخ المذكور في ترجمته في حرف الغين - عزم عز الدين كيكاوس بن غياث الدين كيسخرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان صاحب الروم على قصد حلب فسير أرباب الأمر بحلب إلى الملك الأشرف وسألوه الوصول إليهم لحفظ البلد، فأجابهم إلى شؤالهم وتوجه إليهم وأقام بالياروقية بظاهر حلب مدة ثلاث سنين، وجرت له مع صاحب الروم وابن عمه الملك الأفضل بن صلاح صاحب سمسياط وقائع مشهورة لا حاجة إلى الإطالة في شرحها.
ولما أخذت الفرنج دمياط في سنة ست عشرة وستمائة - حسبما شرحناه في ترجمة الملك الكامل - توجهت جماعة من ملوك الشام إلى الديار المصرية، لإنجاد الملك الكامل، وتأخر عنه الملك الأشرف لمنافرة كانت بينهما، فجاءه أخوه الملك العظيم - المقدم ذكره في حرف العين - بنفسه، وأرضاه، ولم يزل بلاطفه حتى استصبحه معه، فصادف عقيب وصوله إليها بأشهر - كما ذكرناه في ترجمة الكامل محمد - انتصار المسلمين على الفرنج وانتزاع دمياط من أيديهم، وكانوا يرون ذلك بسب يمن غرته. وكان وصوله إليها في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة، واستناب أخاه الملك المظفر شهاب الدبن غازي ابن الملك العادل في خلاط، فعصى عليه، فقصده في عساكره وأخذها منه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وستمائة.
ولما مات الملك المعظم - في التاريخ المذكور في ترجمته - قام بالأمر من بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، فقصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخذ دمشق منه، فاستنجد بعمه الملاك الأشرف، وكان يومئذ ببلاد الشرق، فوصل إليه، واجتمع به في دمشق، ثم خرج منها متوجهاً إلى أخيه الملك الكامل، واجتمع به وجرى الاتفاق بينهما على أخذ دمشق من الملك الناصر وتسليمها إلى الملك الأشرف، ويبقى للملك الناصر الكرك والشوبك ونابلس وبيسان وتلك النواحي، وينزل الملك الأشرف عن حران والرها وسروج والرقة ورأس عين، ويسلمها إلى الملك الكامل، فاستتب الحال على ذلك.
وتسلم الملك الكامل دمشق لاستقبال شعبان من السنة بنوابه، ورحل الناصر إلى بلاده التي عليه يوم الجمعة ثاني عشر شعبان، ثم دخل الملك الكامل إلى دمشق في سادس عشر الشهر المذكور وعاد وخرج إلى مكانه الذي كان فيه، ثم دخل هو الأشرف إلى القلعة في ثامن عشر شعبان ثم سلمها إلى أخيه الملك الأشرف على ما تقرر بينهما، في أواخر شعبان من سنة ست وعشرين وستمائة، وانتقل الملك الكامل إلى بلاده التي تسلمها بالشرق، ليكشف أحوالها ويرتب أمورها، واجتزت في التاريخ المذكور بحران وهو بها.
وانتقل الأشرف إلى دمشق واتخذها دار إقامة وأعرض عن بقية البلاد، ونزل جلال الدين خوارزم شاه على خلاط وحاصرها وضايقها أشد مضايقة، وأخذها في جمادى الآخرة من سنة ست وعشرين من نواب الملك الأشرف، وهو مقيم بدمشق، ولم يمكنه في ذلك الوقت قصدها للدفع عنها لأعذار كانت له. ثم عقيب ذلك دخل إلى بلاد الروم باتفاق مع سلطانها علاء الدين كيقباذ أخي عز الدين كيكاوس المذكور، وتعاقدا (1) على قصد خوارزم شاه، وضرب المصاف معه، فإن صاحب الروم أيضاً كان يخاف على بلاده منه. لكونه مجاوره، فتوجها نحوه في جيش عظيم من جهة الشام والشرق في خدمة الملك الأشرف، وعسكر صاحب الروم، والتقوا بين خلاط وأرزنكان، بموضع يقال له: يا للرحمان (2) في يوم الجمعة ثاني عشر رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة، وانكسر خوارزم شاه، وهي واقعة مشهورة، وعادت خلاط إلى الملك الأشرف وقد خربت.
ثم رجع إلى الشام وتوجه إلى الديار المصرية، وأقام عند أخيه الملك الكامل مدة، ثم خرج في خدمته قاصدين آمد، ونزلوا عليها وفتحوها في مدة يسيرة وذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة، وأضافها الملك الكامل إلى ممالكها ببلاد الشرق، ورتب فيها ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب - المذكور في ترجمة والده - وفي خدمته الطواشي شمس الدين صواب الخادم العادلي، ثم عاد كل واحد إلى بلاده.
ثم كانت واقعة ببلاد الروم والدربندات في أواخر سنة إحدى وثلاثين وستمائة وهي مشهورة، ورجع الكامل والأشرف ومن معهما من الملوك بغير حصول مقصود، ولما رجعا خرج عسكر صاحب الروم على بلاد الكامل بالشرق فأخذها وأخربها، ثم عاد الكامل والأشرف وأتباعهما ومن معهما من الملوك إلى بلاد الشرق، واستنقذوها من نواب صاحب الروم. ثم رجعوا إلى دمشق في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكنت يومئذ بدمشق، وفي تلك الواقعة (1) رأيت الكامل والأشرف، وكانا يركبان معاً ويلعبان بالكرة في الميدان الأخضر الكبير كل يوم، وكان شهر رمضان، فكانا يقصدان بذلك تعبير النهار لأجل الصوم؛ ولقد كنت أرى من تأدب كل واحد منهما مع الآخر شيئاً كثيراً، ثم وقعت بينهما وحشة، وخرج الأشرف عن طاعة الكامل، ووافقته الملوك بأسرها، وتعاهد هو وصاحب الروم وصاحب حلب وصاحب حماة وصاحب حمص وأصحاب الشرق، على الخروج على الملك الكامل، ولم يبق مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحب الكرك، فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية، فلما تحالفوا وتحزبوا واتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل، مرض الملك الأشرف مرضاً شديداً، وتوفي يوم الخميس رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة بدمشق، ودفن بقلعتها ثم نقل إلى التربة التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب الشمالي من جامع دمشق. وكان ولادته سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بالديار المصرية بالقاهرة، وقيل بقلعة الكرك، رحمه الله تعالى. وقد ذكرت في ترجمة أخيه الملك المعظم عيسى ما ذكره سبط ابن الجوزي في مولدهما؛ وتوفي أخوه شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين في رجب سنة خمس وأربعين وستمائة بميافارقين.
هذه خلاصة أحواله؛ وكان سلطاناً كريماً حليماً واسع الصدر كريم الأخلاق كثير العطاء، لا يوجد في خزانته شيء من المال مع إتساع مملكته، ولا تزال عليه الديون للتجار وغيرهم. ولقد رأى يوماً في دواة كاتبه وشاعره الكمال أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن النبيه المصري قلماً واحداً، فأنكر عليه ذلك، فأنشده في الحال دوبيت:
قال الملك الأشرف قولاً رشدا ... أقلامك يا كمال قلت عددا
جاوبت لعظم كتب ما تطلقه ... تحفى فتقط فهي تفنى أبدا ويقال إنه طرب ليلة في مجلس أنسه على بعض الملاهي، فقال لصاحب الملهى: تمن علي، فقال: تمنيت مدينة خلاط، فأعطاها له، وكان نائبه بها الأمين حسام الدين المعروف بالحاجب علي بن حماد الموصلي، فتوجه ذلك الشخص إليه ليتسلمها منه، فعوضه الحاجب عنها جملة كثيرة من المال وصالحه عنها، وكان له في ذلك غرائب.
وكان يميل إلى أهل الخير والصلاح ويحسن الاعتقاد فيهم، وبنى بدمشق دار حديث، فوض تدريسها إلى الشيخ تقي الدين عثمان المعروف بابن الصلاح، المقدم ذكره.
وكان بالعقيبة ظاهر دمشق خان يعرف بابن الزنجاري، قد أجمع أنواع أسباب الملاذ، ويجري فيه من الفسوق والفجور ما لايحد ولا يوصف، فقيل له عنه: إن مثل هذا لايليق أن يكون في بلاد المسلمين، فهدمه وعمره جامعاً غرم عليه جملة مستكثرة، وسماه الناس جامع التوبة كأنه تاب إلى الله تعالى وأناب مما كان فيه. وجرت في خطابته نكتة لطيفة، أحببت ذكرها، وهي: أنه كان بمدرسة ست الشام التي خارج البلد، إمام يعرف بالجمال السبتي، أعرفه شيخاً حسناً، ويقال كان في صباه بشيء من الملاهي، وهي التي تسمى الجغانة، ولما كبر حسنت طريقته وعاشر العلماء وأهل الصلاح، حتى صار معدوداً في الأخيار، فلما احتاج الجامع المذكور إلى خطيب ذكر للملك الأشرف جماعة، وشكر الجمال المذكور، فتولى خطابته، فلما توفي تولى موضعه العماد الواسطي الواعظ، وكان يتهم باستعمال الشراب، وكان صاحب دمشق يومئذ الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل بن أيوب، فكتب إليه الجمال عبد الرحيم المعروف بابن زويتينة الرحبي أبياتاً، وهي:
يا مليكاً أوضح الحق لدينا وأبانه ... جامع التوبة قد قلدني منه أمانه ...
قال قل للملك الصا ... لح أعلى الله شانه
يا عماد الدين يا من ... حمد الناس زمانه 
كم إلى كم أنا في ضر وبؤس وإهانه ...
لي خطيب واسطي ... يعشق الشرب ديانه
والذي قد كان من قب ... ل يغني بجغانه
فكما نحن فما زلن ... اوما نبرح حانه
ردني للنمط الأو ... ل واستبق ضمانه 
وهذه الأبيات في بابها في غاية الظرف (1) ، وكان ابن زويتينة المذكور قد وصل إلى الديار المصرية في رسالة من عند صاحب حمص، وأنشدني هذه الأبيات وحكى السبب الحامل عليها، وذلك في بعض شهور سنة سبع وأربعين وستمائة. ومدح الملك الأشرف أعيان شعراء عصره، وخلدوا مدائحه في دواوينهم فمنهم:
شرف الديم محمد بن عنين وقد سبق ذكره.
والبهاء أسعد السنجاري وقد سبق ذكره أيضاً.
والشرف راجح الحلي وقد ذكرته في ترجمة الملك الظاهر.
 والكمال ابن النبيه المذكرو وكانت وفاته سنة تسع عشرة وستمائة، بمدينة نصيبين الشرق، وعمره تقديراً مقدار ستين سنة ، كذا أخبرني صهره بالقاهرة.
والمهذب (2) محمد بن أبي الحسين (3) بن يمن بن علي بن أحمد بن محمد بن عثمان ابن عبد الحميد الأنصاري، المعروف بابن الأردخل الموصلي الشاعر المشهور، ومولده سنة سبع وسبعين وخمسمائة بالموصل، وتوفي في شهر رمضان، سنة ثمان وعشرين وستمائة بميافارقين، رحمه الله تعالى.
وغير هؤلاء خلق كثير، والله أعلم بالصواب.

الجمعة، 30 نوفمبر 2018

موسى بن نصير

بو عبد الرحمن موسى بن نصير، اللخمي بالولاء، صاحب فتح الأندلس؛ كان من التابعين، رضي الله عنهم، وروى عن تميم الداري، رضي الله عنه،
وكان عاقلاً كريماً شجاعاً ورعاً تقياً لله تعالى، لم يهزم له جيش قط.
وكان والده نصير على حرس معاوية بن أبي سفيان، ومنزلته عنده مكينة. ولما خرج معاوية لقتال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لم يخرج معه، فقال له معاوية: ما منعك من الخروج معي ولي عندك يد لم تكافئني عليها فقال: لم يمكني أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكري، فقال: ومن هو قال: الله عزوجل، فقال: وكيف لا أم لك قال: وكيف لا أعلمك هذا، فأعض وأمص (1) ، قال: فأطرق معاوية ملياً، ثم قال: أستغفر الله، ورضي عنه.
وكان عبد الله بن مروان أخو عبد الملك بن مروان والياً على مصر وإفريقية، فبعث إليه ابن أخيه الوليد بن عبد الملك أيام خلافته يقول له: أرسل موسى بن نصير إلى إفريقية، وذلك في سنة تسع وثمانين للهجرة.
وقال الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس: إن موسى ابن نصير تولى إفريقية والمغرب سنة سبع وسبعين، فأرسله إليها، فلما قدمها ومعه جماعة من الجند، بلغه أن بأطراف البلاد جماعة خارجين عن الطاعة، فوجه ولده عبد الله، فأتاه بمائة ألف رأس من السبايا، ثم وجه ولده مروان إلى جهة أخرى فأتاه بمائة ألف رأس.
قال الليث بن سعد: فبلغ الخمس ستين ألف رأس، وقال أبو شبيب (2) الصدفي: لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير. ووجد أكثر مدن إفريقية خالية لاختلاف أيدي البربر عليها، وكانت البلاد (3) في قحط شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء، ومعه سائر الحيوانات، وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصراخ والضجيج، وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صلى وخطب بالناس، ولم يذكر الوليد بن عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين فقال: هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله عزوجل، فسقوا حتى رووا.
ثم خرج موسى غازياً، وتتبع البربر وقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وسبى سبياً عظيماً، وسار حتى انتهى إلى السوس الأدنى لا يدافعه أحد. فلما رأى بقية البربر ما نزل بهم استأمنوا وبذلوا له الطاعة فقبل منهم، وولى عليهم والياً، واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد البربري، ويقال إنه من الصدف، وترك عنده تسعة عشر ألف فارس من البربر بالأسلحة والعدد الكاملة، وكانوا قد أسموا وحسن إسلامهم، وترك موسى عندهم خلقاً يسيراً من العرب لتعليم القرآن وفرائض الإسلام، ورجع إلى إفريقية، ولم يبق بالبلاد من ينازعه من البربر ولا من الروم.
فلما استقرت له القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس في جيش من البربر ليس فيه من العرب إلا قدر يسير، فامتثل طارق أمره، وركب البحر (1) من سبتة إلى الجزيرة الخضراء من بر الأندلس، وصعد إلى جبل يعرف اليوم بجبل طارق لأنه نسب إليه لما حصل عليه، وكان صعوده إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين للهجرة في اثني عشر ألف فارس من البربر خلا اثني عشر رجلاً.
وذكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب وقت التعدية، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يمشون على الماء، حتى مروا به فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح؛ وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، ذكر ذلك ابن بشكوال - المقدم ذكره في حرف الخاء - في تاريخ الأندلس.
وكان صاحب طليطلة ومعظم بلاد الأندلس ملك يقال له لذريق (2) . ولما احتل (3) طارق بالجبل المذكور كتب إلى موسى بن نصير: إني فعلت ما أمرتني به، وسهل الله سبحانه وتعالى بالدخول. فلما وصل كتابه إلى نوسى بدم على تأخره، وعلم أنه إن فتح نسب الفتح إليه دونه، فأخذ في جمع العساكر، وولى على القيروان ولده عبد الله، وتبعه فلم يدركه إلا بعد الفتح. وكان لذريق المذكور قد قصد عدواً له، واستخلف في المملكة شخصاً يقال له تدمير، وإلى هذا الشخص تنتسب بلاد تدمير بالأندلس - وهي مرسية وما والاها، وهي خمس مواضع تسمى بهذا الاسم، واستولى الفرنج على مرسية سنة اثنتين وخمسين وستمائة (1) - فلما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه كتب تدمير إلى لذريق الملك إنه قد وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض، فلما بلغ ذلك لذريق رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس، ومعه العجل يحمل الأموال والمتاع، وهو على سريره بين دابتين عليه قبة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد.
فلما بلغ طارقاً دنوه قام في أصحابه فحمد الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة، ثم قال: أيها الناس، أين المفر والبحر من ورائكم والعدو أمامكم فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتم عدو كم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم، ولا أقوات (2) لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب برعبها منكم الجراءة عليكم، فافعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية (3) ، فقد ألقت إليكم مدينته المحصنة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت. وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة (4) ، ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس أبداً فيها بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي، وقد بلغكم نا أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عرباناً (1) ، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه معكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين. واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم (2) أمره ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكت قلب وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون.
فلما فرغ طارق من تحريض أصحابه على الصبر في قتال (3) لذريق وأصحابه وما وعدهم من النيل الجزيل، انبسطت نفوسهم وتحققت آمالهم وهبت ريح النصر عليهم وقالوا: قد قطعنا الآمال مما يخالف ما عزمت عليه، فاحضر إليه فأنا معك وبين يديك. فركب طارق وركبوا وقصدوا مناخ لذريق، وكان قد نزل بمتسع من الأرض، فلما تراءى الجمعان نزل طارق وأصحابه، فباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح.
فلما أصبح الفريقان تلببوا (4) وعبوا كتائبهم (5) وحمل لذريق على سريره، وقد رفع على رأسه رواق ديباج يظله، وهو مقبل (6) في غاية من (7) البنود والأعلام وبين يديه المقاتلة والسلاح، وأقبل طارق وأصحابه عليهم الزرد، ومن فوق رؤوسهم العمائم البيض وبأيديهم القسي العربية، وقد تقلدوا السيوف واعتقلوا الرماح، فلما نظر إليهم لذريق قال: أما والله إن هذه الصور التي رأينا ببيت الحكمة ببلدنا، فداخله منهم رعب.
ونتكلم هاهنا على بيت الحكمة ماهو، ثم نتكلم على حديث (1) هذه الواقعة:
وأصل خبر بيت احكمة أن اليونان - وهم الطائفة المشهورة بالحكمة - كانوا يسكنون ببلاد المشرق قبل عهد الإسكندر، فلما ظهرت الفرس واستولت على البلاد، وزاحمت اليونان على ما كان بأيديهم من الممالك، انتقل اليونان إلى جزيرة الأندلس، لكونها طرفاً في آخر العمارة، ولم يكن لها ذكر يوم ذاك، ولا ملكها أحد من الملوك المعتبرةن ولاكانت عامرة، وكان أول من عمر فيها واختطها أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام، فسميت باسمه، ولما عمرت الأرض بعد الطوفان كان صورة المعمور منها عندهم على شكل طائر رأسه المشرق والجنوب والشمال جناحاه، وما بينهما بطنه، والمغرب ذنبه، فكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخس أجزاء الطائر.
قلت (2) : وجرى في مجلس الحافظ أبي طاهر السفلي نادرة تصلح أن نذكرها هاهنا وهي أن أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن الجمش البلبيسي كان في مجلسه، وعبد العزيز الشريشي يقرأ حديث عمرو بن العاص: خلقت الدنيا على صورة طير ... الحديث المذكور؛ فقال الشريشي لأبي إسحاق يمازحه: اسمع يا أبا إسحاق، وشر ما في الطير ذنبه، فقال أبو إسحاق: هيهات ما عرفت أنت ما كان ذلك الطائر المشبه كان طاووساً، وما فيه أحسن من ذنبه.
وكانت اليونان لا ترى فناء الأمم بالحروب لما ترى فيه من الإضرار والاشتغال عن العلوم التي كان أمرها عندهم من أهم الأمور، فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس. فلما صاروا إليها أقبلوا على عمارتها، فشقوا الأنهار وبنوا المعاقل، وغرسوا (1) الجنات والكروم، وشيدوا الأمصار، وملؤوها حرثاً ونسلاً وبنياناً، فعظمت وطابت حتى قال قائلهم لما رأى بهجتها: إن الطائر الذي صورت العمارة على شكله، وكان المغرب ذنبه، كان طاوساً معظم جماله في ذنبه. فاغتبطوا بها أتم اغتباط واتخذوا دار الملك والحكمة بها مدينة (2) طليطلة لأنها وسط البلاد، وكان أهم الأمور عندهم تحصينها عمن يتصل به خبرها من الأمم، فنظروا فإذا ليس ثم من يحسدهم على أرغد العيش إلا أرباب الشظف والشقاء، وهم يوم ذاك طائفتان: العرب والبربر (3) ، فخافوهم على جزيرتهم المعمورة، فعزموا أن يتخذوا لدفع هذين الجنسين من الناس طلمساً، فرصدوا لذلك أرصاداً.
ولما كان البربر بالقرب منهم، وليس بينهم سوى تعدية البحر، ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع خارجة عن الأوضاع، وازدادوا منهم نفراً، وكثر تحذيرهم من مخالطتهم في نسب أو مجاورة، حتى انبث ذلك في طبائعهم، وصار بغضهم مركباً في غرائزهم، فلما علم البربر عداوة أهل الأندلس لهم وبغضهم، أبغضوهم وجسدوهم، فلا تجد أندلسياً إلا مبغضاً بربرياً ولا بربرياً إلا مبغضاً أندلسياً، إلا أن البربر أحوج إلى أهل الأندلس من أهل الأندلس إلى البربر، لكثرة وجود الأشياء بالأندلس وعدمها ببلاد البربر.
وكان بنواحي غرب جزيرة الأندلس ملك يوناني بجزيرة يقال لها قادس، وكانت له ابنة في غاية الجمال، فتسامع بها ملوك الأندلس، وكانت جزيرة الأندلس كثيرة الملوك، لكل بلدة أو بلدتين ملك تناصفاً منهم في ذلك، فخطبها كل واحد منهم (4) ، وكان أبوها يخشى من تزويجها لواحد منهم وإسخاط الباقين، فتحير في أمره، وأحضر ابنته المذكورة، وكانت الحكمة مركبة في طباع القوم ذكورهم وإناثهم (1) - ولذلك قيل إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض: على أدمغة اليونان وأيدي أهل الصين وألسنة العرب - فلما حضرت بين يديه قال لها: يا ينية، وإني قد أصبحت في حيرة من أمري، قالت: وما حيرك قال: قد خطبك جميع ملوك الأندلس، ومتى أرضيت واحداً أسخطت الباقين، فقالت: اجعل الأمر إلي تخلص من اللوم، قال: وما تصنعين قالت: أقترح لنفسي أمراً من فعله كنت زوجته، ومن عجز عنه لم يحسن به السخط قال: وما الذي تقترحين قالت: أقترح أن يكون ملكاً حكيماً، قال: نعم ما اخترتيه (2) لنفسك، وكتب في أجوبة الملوك الخطاب: إني جعلت الأمر إليها فاختارت من الأزواج الملك الحكيم. فلما وقفوا على الأجوبة سكت عنها كل من لم يكن حكيماً.
وكان في الملوك رجلان حكيمان، فكتب كل واحد منهما إليه: أنا الرجل الحكيم. فلما وقف على كتابيهما قال: يا بنية بقي الأمر على إشكاله، وهذان ملكان حكيمان، أيهما أرضيته أسخطت الأخر قالت: سأقترح على كل واحد منهما أمراً يأتي به، فأيهما سبق إلى الفراغ مما التمسته تزوجت به، قال: وما الذي تقترحين عليهما قالت: إننا ساكنون بهذه الجزيرة، ونحن محتاجون إلى رحى تدور بها، وإني مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذب الجاري إليها من ذلك البر، ومقترحة على الآخر أن يتخذ طلسماً يحصن (3) به جزيرة الأندلس من البربر، فاستظرف أبوها اقتراحها، وكتب إلى الملكين بما قالته ابنته، فأجابا إلى ذلك، وتقاسماه على ما اختارا، وشرع كل واحد في عمل ما ندب (4) إليه من ذلك.
فأما صاحب الرحى فإنه عمد إلى خرز عظام اتخذها من الحجارة، ونضد بعضها في بعض في البحر المالح الذي بين جزيرة الأندلس والبر الكبير في الموضع المعروف بزقاق سبتة، وسد الفروج التي بين الحجارة بما اقتضته حكمته، وأوصل تلك الحجارة من البر إلى الجزيرة، وآثارها باقية إلى اليوم في الزقاق الذي بين سبتة والجزيرة الخضراء، وأكثر أهل الأندلس يزعمون أن هذا أثر قنطرة كان الإسكندر قد عملها ليعبر عليها الناس من سبتة إلى الجزيرة، والله أعلم أي القولين أصح. فلما تم تنضيد الحجارة للملك الحكيم، جلب إليها الماء العذب من موضع عال في الجبل بالبر الكبير، وسلطه في ساقية محكمة البناء، وبنى بجزيرة الأندلس رحى على هذه الساقية.
وأما صاحب الطلسم فإنه أبطأ عمله بسب انتظار الرصد الموافق لعمله، غير أنه أعمل أمره وأحكمه، وابتنى بنياناً مربعاً من حجر أبيض على ساحل البحر في رمل حفر أساسه إلى أن جعله تحت الأرض بمقدار ارتفاعه فوق الأرض ليثبت، فلما انتهى البناء المربع إلى حيث اختار صور من النحاس الأحمر والحديد المصفى المخلوطين بأحكم الخلط صورة رجل بربري له لحية، وفي رأسه ذؤابة من شعر جعد قائم في رأسه لجعودتها، متأبط بصورة بصورة كساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى، بألطف (1) تصوير وأحكمه، في رجليه نعل، وهو قائم في رأس البناء على مستدق (2) بمقدار رجليه فقط، وهو شاهق في الهواء طوله نيف عن ستين ذراعاً أو سبعين، وهو محدد الأعلى إلى أن ينتهي إلى ما سعته قدر الذراع، وقد مد يده اليمنى بمفتاح قفل قابضاً عليه مشيراً إلى البحر كأنه يقول لاعبور. وكان من تأثير هذا الطلسم في البحر الذي تجاهله أنه لم ير قط ساكناً ولا كانت تجري فيه قط سفينة بربري (3) حتى سقط المفتاح من يده.
وكان الملكان العاملان للرحى والطلسم يتسابقان إلى التمام من عملهما إذ كان بالسبق يستحق التزويج، وكان صاحب الرحى قد فرغ لكنه يخفي أمره عن صاحب الطلسم حتى لا يعلم به فيبطل عمل الطلسم، وكان يود عمل الطلسم حتى يحظى بالمرأة والرحى والطلسم، فلما علم اليوم الذي فرغ صاحب الطلسم في آخره أجرى الماء بالجزيرة من أوله وأدار الرحى، واشتهر ذلك واتصل الخبر بصاحب الطلسم وهو في أعلاه يصقل وجهه، وكان الطلسم مذهباً، فلما تحقق أنه مسبوق ضعفت نفسه فسقط من أعلى البناء ميتاً، وحصل صاحب الرحى على الرحى والمرأة والطلسم.
وكان من تقدم من ملوك اليونان يخشى على جزيرة الأندلس من البربر للسب الذي قدمنا ذكره، فاتفقوا وعملوا الطلسمات (1) في أوقات اختاروا أرصادها، وأودعوا تلك الطلسمات تابوتاً من الرخام وتركوه في بيت بمدينة طليطلة، وركبوا على ذلك البيت باباً وأقفلوه، وتقدموا إلى كل من ملك منهم بعد صاحبه أن يلقي على ذلك الباب قفلاً، تأكيداً لحفظ ذلك البيت، فاستمر أمرهم على ذلك.
ولما كان (2) وقت انقراض دولة اليونان ودخول العرب والبربر إلى جزيرة الأندلس، وذلك بعد مضي سنة وعشرين ملكاً من ملوك اليونان من يوم عملهم الطلسمات بمدينة طليطلة، وكان الملك لذريق المذكور السابع والعشرين من ملوكهم، فلما جلس في ملكه قال لوزارئه وأهل الرأي من دولته: قد وقع في نفسي من أمر هذا البيت الذي عليه سنة وعشرون قفلاً شيء، وأريد أن أفتحه لأنظر ما فيه، فإنه لم يعمل عبثاً، فقالوا: أيها الملك، صدقت لم يعمل عبثاً ولا أقفل سدى، بل المصلحة أن تلقي عليه قفلاً كما فعل من تقدمك من الملوك، وكانوا آباءك وأجدادك ولم يهملوا هذا فلا تهمله وسر سيرهم، فقال: إن نفسي تنازعني إلى فتحه، ولا بد لي منه، فقالوا: إن كنت تظن فيه مالاً فقدره ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره، ولا تحدث علينا بفتحه حدثاً لا نعرف عاقبته، فأصر عل ذلك ، وكان رجلاً مهيباً فلم يقدروا على مراجعته، وأمر بفتح الأقفال، وكان على كل قفل مفتاحه معلقاً، فلما فتح الباب لم ير في البيت شيئاً إلا مائدة عظيمة من ذهب وفضة مكللة بالجواهر، وعليها مكتوب هذه مائدة سليمان بن داودعليهما السلام، ورأى في البيت ذلك التابوت، وعليه قفل ومفتاحه معلق، ففتحه فلم يجد فيه سوى رق، وفي جوانب التابوت صور فرسان مصورة بأصباغ محكمة التصوير على أشكال العرب، وعليهم الفراء وهم معممون على ذوائب جعد، ومن تحتهم الخيل العربية، وبأيديهم القسي العربية وهم متقلدون بالسيوف (1) المحلاة، معتقلون بالرماح (2) ، فأمر بنشر ذلك الرق، فإذا فيه: متى فتح هذا الباب وهذا التابوت المقفلان بالحكمة دخل القوم الذين صورهم في التابوت إلى جزيرة الأندلس، وذهب ملك اليونان من أيديهم، ودرست حكمتهم، فهذا هو بيت الحكمة المقدم ذكره؛ فلما سمع لذريق ما في الرق ندم على ما فعل، وتحقق انقراض دولتهم، فلم يلبث إلا قليلاً حتى سمع أن جيشاً وصل من المشرق جهزه ملك العرب يستفتح بلاد الأندلس؛ انتهى الكلام على بيت الحكمة.
ونعود الآن إلى تتمة حديث لذريق وجيش طارق بن زياد:
فلما رأى طارق لذريق قال لأصحابه: هذا طاغية القوم، فحمل وحمل أصحابه معه، فتفرقت المقاتلة من بين يدي لذريق، فخلص إليه طارق، وضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره، فلما رأى أصحابه مصرع ملكهم اقتحم الجيشان، وكان النصر للمسلمين، ولم تقف هزيمة اليونان على موضع، بل كانوا يسلمون بلداً بلداً ومعقلاً معقلاً.
فلما سمع بذلك موسى بن نصير المذكور أولاً عبر الجزيرة بمن معه، ولحق بمولاه طارق، فقال له: يا طارق، إنه لن يجازيك الزليد بن عبد الملك عى بلائك بأكثر من أن يبيحك جزيرة الأندلس، فاستبحه هنيئاً مريئاً، فقال طارق: أيها الأمير، والله لا أرجع عن قصدي هذا مالم أنته إلى البحر المحيط وأخوض فيه بفرسي، يعني البحر الشمالي الذي تحت بنات نعش، فلم يزل طارق يفتح وموسى معه إلى أن بلغ جليقية، وهي على ساحل البحر المحيط، ثم رجع.
قال الحميدي في " جذوة المقتبس ": إن موسى بن بصير نقم على طارق إذ غزا بغير إذنه، وسجنه وهم بقتله، ثم ورد عليه كتاب الوليد بإطلاقه فأطلقه، وخرج معه إلى الشام. وكان خروج موسى من الأندلس وافداً على الوليد يخبره بما فتح الله سبحانه وتعالى على يديه وما معه من الأموال في سنة أربع وتسعين للهجرة، وكان معه مائدة سليمان بن داود عليهما السلام التي وجدت في طليطلة على ما حكاه بعض المؤرخين، فقال: كانت مصنوعة من الذهب والفضة، وكان عليها طوق لؤلؤ وطوق ياقوت وطوق زمرد، وكانت عظيمة بحيث إنها حملت على بغل قوي فما سار قليلاً حتى تفسخت قوائمه، وكان معه تيجان الملوك الذين تقدموا من اليونان، وكلها مكللة بالجواهر، واستصحب ثلاثين ألف رأس من الرقيق.
ويقال إن الوليد كان قد نقم عليه أمراً، فلما وصل إليه وهو بدمشق أقامه في الشمس يوماً كاملاً في يوم صائف حتى خر مغيشاً عليه.
وقد أطلنا هذه الترجمة كثيراً لكن الكلام انتشر فلم يمكن قطعه، مع أني تركت الأكثر وأتيت بالمقصود.
وقال الليث بن سعد: إن موسى بن نصير حين فتح الأندلس كتب إلى الوليد ابن عبد الملك، إنها ليست الفتوح ولكنها الجنة (1) .
ولما وصل موسى إلى الشام ومات الوليد بن عيد الملك وقام من بعده سليمان أخوه، وحج في سنة سبع وتسعين للهجرة - وقيل سنة تسع وتسعين - حج معه موسى بن نصير، ومات في الطريق بوادي القرى، وقيل بمر الظهران، على اختلاف فيه. وكانت ولادته في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة تسع عشرة للهجرة، رحمه الله تعالى.

كمال الدين ابن يونس

أبو الفتح موسى بن أبي الفضل يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد، الملقب كمال الدين، الفقيه الشافعي؛ تفقه بالموصل على والده، ثم توجه إلى بغداد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وأقام بالمدرسة النظامية بشتغل على المعيد بها السديد السلماسي المقدم ذكره وكان المدرس بها يومئذ الشيخ رضي الدين أبو الخير أحمد بن اسماعيل بن يوسف بن محمد بن العباس القزويني، فقرأ الخلاف والأصول وبحث الأدب على الكمال أبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري المقدم ذكره فتميز ومهر، وكان قد قرأ أولاً على الشيخ أبي بكر يحيى بن سعدون القرطبي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وهو بالموصل ثم أصعد إلى الموصل وعكف على الاشتغال، ودرس بعد وفاة والده في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى في موضعه بالمسجد المعروف بالأمير زين الدين صاحب إربل، وهذا المسجد رأيته وهو على وضع المدرسة، ويعرف الآن بالمدرسة الكمالية لأنه نسب إلى كمال الدين المذكور لطول إقامته به.
ولما اشتهر فضله انثال عليه الفقهاء، وتبحر في جمع الفنون، وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد، وتفرد بعلم الرياضة، ولقد رأيته بالموصل في شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة، وترددت إليه دفعات (2) عديدة لما كان بينه وبين الوالد رحمه الله من المؤانسة والمودة الأكيدة، ولم يتفق لي الأخذ عنه لعدم الإقامة وسرعة الحركة إلى الشام، وكان الفقهاء يقولون: إنه يدري أربعة وعشرين فناً دراية متقنة، فمن ذلك المذهب وكان فيه أوحد الزمان، وكان جماعة من الطائفة الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم، ويحل لهم مسائل الجامع الكبير (1) أحسن حل مع ما هي عليه من الإشكال المشهور؛ وكان يتقن فني الخلاف العراقي والبخاري، وأصول الفقه وأصول الدين. ولما وصلت كتب فخر الدين الرازي إلى الموصل وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء لم يفهم أحد منهم اصطلاحة فيها سواه، وكذلك الإرشاد للعميدي لما وقف عليها حلها في ليلة واحدة وأقرأها على ما قالوه.
وكان يدري فن الحكمة: المنطق والطبيعي والإلهي، وكذلك الطب، ويعرف فنون الرياضة من اقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات (2) والمجسطي المجسطي لفظة يونانية معناها بالعربي الترتيب، ذكر ذلك الوكري (3) في كتابه وأنواع الحساب: المفتوح (4) منه والجبر والمقابلة والأرثماطيقي وطريق الخطأين (5) ، والموسيقى والمساحة، معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها، وبالجملة فلقد كان كما قال الشاعر:
وكان من العلوم بحيث يقضى ... له في كل فن بالجميع واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد؛ وكان يبحث في العربية والتصريف بحثاً تاماً مستوفًى، حتى إنه كان يقرىء كتاب سيبويه والإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي، والمفصل للزمخشري، وكان له في التفسير والحديث وأسماء الرجال وما يتعلق به يدٌ جيدة؛ وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم، والأشعار والمحاضرات، شيئاً كثيراً. وكان أهل الذمة يقرءون عليه التوراة والإنجيل، ويشرح لهما هذين الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله. وكان في كل فن من هذه الفنون كأنه يعرف سواه لقوته فيه. وبالجملة فإن مجموع ما كان يعلمه من الفنون لم يسمع عن أحد ممن تقدمه أنه قد جمعه.
ولقد جاءنا الشيخ أثير الدين المفضل بن عمر بن المفضل الأبهري، صاحب التعليقة في الخلاف والزيج والتصانيف المشهورة، من الموصل إلى إربل في سنة ست وعشرين وستمائة وقبلها في خمس وعشرين وستمائة، ونزل بدار الحديث، وكنت أشتغل عليه بشيء من الخلاف، فبينما أنا يوماً عنده إذ دخل عليه بعض فقهاء بغداد، وكان فاضلاً، فتجارياً في الحديث زماناً، وجرى ذكر الشيخ كمال الدين في أثناء الحديث، فقال له الأثير: لما حج الشيخ كمال الدين ودخل بغداد كنت هناك فقال: نعم، فقال: كيف كان إقبال الديوان العزيز عليه فقال ذلك الفقيه: ما أنصفوه على قدر استحقاقه، فقال الأثير: ما هذا إلا عجب، والله ما دخل إلى بغداد مثل الشيخ، فاستعظمت منه هذا الكلام، وقلت له: يا سيدنا كيف تقول كذا (1) فقال: يا ولدي ما دخل إلى بغداد مثل أبي حامد الغزالي، ووالله ما بينه وبين الشيخ نسبة.
وكان الأثير على جلالة قدره في العلوم يأخذ الكتاب ويجلس بين يديه يقرأ عليه، والناس يوم ذاك يشتغلون في تصانيف الأثير. ولقد شاهدت هذا بعيني، وهو يقرأ عليه كتاب " المجسطي " (2) .
ولقد حكى لي بعض الفقهاء أنه سأل الشيخ كمال الدين عن الأثير ومنزلته في العلوم فقال: ما أعلم، فقال: وكيف هذا يا مولانا. وهو في خدمتك منذ سنين عديدة، ويشتغل عليك فقال: لأني مهما (3) قلت له تلقاه بالقبول وقال: نعم يا مولانا، فما جاذبني في مبحث قط حتى أعلم حقيقة فضله، ولا شك أنه كان يعتمد هذا القدر مع الشيخ تأدباً، وكان معيداً عنده في المدرسة البدرية، وكان يقول: ما تركت بلادي وقصدت الموصل إلا للاشتغال على الشيخ. 
وكان شيخنا تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح المقدم ذكره (1) يبالغ في الثناء على فضائله وتعظيم شأنه وتوحده في العلوم؛ فذكره يوماً وسرع في وصفه على عادته، فقال له بعض الحاضرين: يا سيدنا، على من اشتغل ومن كان شيخه فقال: هذا الرجل خلقه الله تعالى عالماً إماماً في فنونه، لا يقال على من اشتغل ولا من شيخه، فإنه أكبر من هذا.
وحكى لي بعض الفقهاء بالموصل أن ابن الصلاح المذكور سأله أن يقرأ عليه شيئاً من المنطق سراً، فأجابه إلى ذلك، وتردد إليه مدة فلم يفتح عليه فيه بشيء فقال له: يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن، فقال له: ولم ذاك يا مولانا فقال: لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم فيك ولا يحصل لك من هذا الفن شيء؛ فقبل إشارته وترك قراءته (2) .
ومن يقف على هذه الترجمة فلا (3) ينسبني إلى المغالاة في حق الشيخ. ومن كان من أهل تلك البلاد وعرف ما كان عليه الشيخ، عرف أني ما أعرته وصفاً ونعوذ بالله من الغلو والتساهل في النقل.
ولقد ذكره أبو البركات المبارك بن المستوفي المقدم ذكره (4) في تاريخ إربل فقال: هو عالم مقدم، ضرب في كل علم، وهو في علم الأوائل: كالهندسة والمنطق وغيرهما ممن يشار إليه، حل اقليدس (5) والمجسطي على الشيخ شرف الدين المظفر بن محمد المظفر الطوسي الفارابي، يعني صاحب الاصطرلاب الخطي المعروف بالعصا.
ثم قال ابن المستوفي: وردت عليه مسائل من بغداد في مشكلات هذا العلم، فحلها واستصغرها، ونبه على براهينها، بعد أن احتقرها، وهو في الفقه والعلوم الإسلامية نسيج وحده، ودرس في عدة مدارس بالموصل، وتخرج عليه خلق كثير في كل فن.
ثم قال: أنشدنا لنفسه، وأنفذها إلى صاحب الموصل يشفع عنده:
لئن شرفت أرضٌ بمالك رقها ... فمملكة الدنيا بكم تتشرف (1)
بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ ... وسعيك مشكور وحكمك منصف
ومكنت في حفظ البسيطة مثل ما ... تمكن في أمصار فرعون يوسف قلت أنا: ولقد أنشدني هذه الأبيات عنه أحد أصحابنا بمدينة حلب، وكنت بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وبها رجل فاضل في علوم الرياضة، فأشكل عليه مواضع في مسائل الحساب والجبر والمقابلة والمساحة واقليدس، فكتب جميعها في درج وسيرها إلى الموصل، ثم بعد أشهر عاد جوابه، وقد كشف عن خفيها وأوضح غامضها وذكر ما يعجز الإنسان عن وصفه، ثم كتب في آخر الجواب: فليمهد العذر في التقصير في الأجوبة، فإن القريحة جامدة، والفطنة خامدة، قد استولى عليها كثرة النسيان، وشغلتها حوادث الزمان، وكثير مما استخرجناه وعرفناه نسيناه، بحيث صرنا كأنا ما عرفناه؛ وقال لي صاحب المسائل المذكورة: ما سمعت مثل هذا الكلام إلا للأوائل المتقنين (2) لهذه العلوم، ما هذا من كلام أبناء هذا الزمان.
وحكى لي الشيخ الفقيه الرياضي علم الدين قيصر بن أبي القاسم عبد الغني بن مسافر الحنفي المصري المعروف بتعاسيف، وكان إماماً في علوم الرياضة، قال (3) : لما أتقنت علوم الرياضة بالديار المصرية ودمشق، تاقت نفسي إلى الاجتماع بالشيخ كمال الدين لما كنت أسمعه من تفرده بهذه العلوم، فسافرت إلى الموصل قصد الاجتماع به، فلما حضرت في خدمته وجدته على حلية الحكماء المتقدمين، وكنت قد طالعت أخبارهم، فسلمت عليه وعرفته قصدي له للقراءة عليه، فقال لي: في أي العلوم تريد تشرع فقلت: في الموسيقى، فقال: مصلحة هو، فلي زمان ما قرأه أحد عليّ، فأنا أوثر مذاكرته، وتجديد العهد به، فشرعت فيه ثم في غيره حتى شققت عليه أكثر من أربعين كتاباً في مقدار ستة أشهر، وكنت عارفاً بهذا الفن، لكن كان غرضي الانتساب في القراءة إليه، وكان إذا لم أعرف المسألة أوضحها لي، وما كنت أجد من يقوم مقامه في ذلك (1) .
وقد أطلت الشرح في نشر علومه، ولعمري لقد اختصرت.
ولما توفي أخوه الشيخ عماد الدين محمد المقدم ذكره تولى الشيخ المدرسة العلائية موضع أخيه، ولما فتحت المدرسة القاهرية تولاها. ثم تولى المدرسة البدرية في ذي الحجة سنة عشرين وستمائة. وكان مواظباً على إلقاء الدروس والإفادة. وحضر في بعض الأيام دروسه جماعة من المدرسين أرباب الطيالس، وكان العماد أبو علي عمر بن عبد النور بن ماجوج (2) بن يوسف الصنهاجي اللزني النحوي البجائي حاضراً، فأنشد على البديهة قوله:
كمال كمال الدين للعلم والعلى ... فهيهات ساع في مساعيك يطمع
إذا اجتمع النظار في كل موطن ... فغاية كلٍ أن تقول ويسمعوا
فلا تحسبوهم من غناء (3) تطيلسوا ... ولكن حياء واعترافاً تقنعوا وللعماد المذكور فيه أيضاً:
تجر الموصل الأذيال فخراً ... على كل المنازل والرسوم
بدجلة والكمال، هما شفاء ... لهيمٍ أو لذي فهم سقيم
فذا بحرٌ تدفق وهو عذب ... وذا بحر ولكن من علوم وكان الشيخ سامحه الله تعالى يتهم في دينه لكون العلوم العقلية غالبة عليه، وكانت تعتريه غفلة في بعض الأحيان لاستيلاء الفكرة عليه بسبب هذه العلوم، فعمل فيه العماد المذكور:
أجدك أن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصلٍ لي وأصبح مؤنسي
وعاطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقة شعري أو كدين ابن يونس وقد خرجنا عن المقصود إلى ما لاحاجة بنا إليه.
وكانت ولادته يوم الخميس، خامس صفر إحدى وخمسين وخمسمائة، بالموصل. وتوفي بها رابع عشر شعبان سنة تسع وثلاثين وستمائة، ودفن في تربتهم المعروفة بهم عند تربة عناز (1) ، خارج باب العراق.
وقد سبق ذكر ولده شرف الدين أحمد في حرف الهمزة، وأخيه عماد الدين في حرف الميم، وسيأتي ذكر والده في حرف الياء إن شاء الله تعالى، رحمهم الله أجمعين.
ولما كنت أتردد إلى خدمته بالموصل أوقع الله في نفسي أنه إن رزقت ولداً ذكراً سميته باسمه، ثم سافرت في بقية السنة المذكورة إلى الشام وأقمت به عشر سنين، ثم سافرت إلى الديار المصرية في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وتقلبت الأحوال ثم حصل التأهل، فرزقني الله ولدي الأكبر في بكرة يوم السبت حادي عشر صفر سنة إحدى وخمسين وستمائة بالقاهرة المحروسة فسميته موسى (2) ، وعجبت من موافقته للشيخ في الولادة، في الشهر والسنة، فكان بين مولدهما سنة. وذكرت ذلك للشيخ الحافظ زكي الدين عبد العظيم المحدث فعجب من هذا الاتفاق، وجعل يكرر التعجب ويقول: والله إن هذا لشيء غريب (3) .
 وتوفي الشيخ رضي الدين القزويني (4) مدرس المدرسة النظامية، المذكور
في أول هذه الترجمة، في الثالث والعشرين من المحرم سنة تسعين وخمسمائة. وكانت ولادته في شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وخمسمائة بقزوين، وموته بها أيضاً.
ولولا خوف الإطالة لذكرت من مناقب الشيخ كمال الدين ما يستغرق الوصف. وقد تقدم الكلام على الصنهاجي.
وأما اللزني: فهو بفتح اللام وسكون الزاي وبعدها نون، هذه النسبة إلى لزنة، وهي قبيلة من البربر تسكن بالقرب من بجاية من عمل إفريقية. وتوفي علم تعاسيف (1) المذكور يوم الأحد ثالث عشر رجب من سنة تسع وأربعين وستمائة بدمشق، ودفن خارج باب شرقي، ثم نقل إلى باب الصغير. ومولده في سنة أربع وسبعين وخمسمائة بأصفون (2) ، من شرقي صعيد مصر، رحمه الله تعالى.