الاثنين، 3 يوليو 2017

ملكشاه السلجوقي

    أبو الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، الملقب جلال الدولة وقد تقدم ذكر أبيه وجماعة من أهل بيته.
    ولما توفي أبوه في التاريخ المذكور في ترجمته كان ملكشاه المذكور في صحبته، ولم يصحبه قبلها في سفر غير هذه المرة، فولي الأمر من بعده بوصية والده وتحليف الأمراء والجناد على طاعته، ووصى وزيره نظام الملك أبا علي الحسن المقدم ذكره في حرف الحاء  على تفرقة البلاد بين أولاده، ويكون مرجعهم إلى ملكشاه المذكور، ففعل ذلك وعبر بهم نهر جيحون راجعاً إلى البلاد، وقد شرحت الوقاعة في ترجمة والده فلا حاجة إلى الإعادة.
    فلما وصل إلى البلاد وجد بعض أعمامه وهو قاروت بك  صاحب كرمان قد خرج عليه، فعاجله وتصافا بالقرب من همذان، فنصره الله عليهم وانهزم عمه، فتبعه بعض جند ملكشاه فأسروه وحملوه إلى ملكشاه، فبذل التوبة ورضي بالاعتقال وأن لا يقتل، فلم يجبه ملكشاه إلى ذلك، فأنفذ له خريطة مملوءة من كتب أمرائه، وأنهم حملوه على الخروج عن طاعته وحسنوا له ذلك، فدعا السلطان بالوزير نظام الملك فأعطاه الخريطة ليفتحها ويقرأ ما فيها، فلم يفتحها، وكان هناك كانون نار فرمى الخريطة فيه فاحترقت الكتب، فسكنت قلوب العساكر وأمنوا، ووطنوا أنفسهم على الخدمة، بعد أن كانوا قد خافوا من الخريطة لأن أكثرهم كان قد كاتبه، وكان ذلك سبب ثبات قدم ملكشاه في السلطنة، وكانت هذه معدودة في جميل آراء نظام الملك.
    ثم إن ملكشاه أمر بقتل عمه فخنق بوتر قوسه، واستقرت القواعد للسلطان وفتح البلاد واتسعت عليه المملكة، وملك ما لم يملكه أحد من ملوك الإسلام بعد الخلفاء المتقدمين فكان في مملكته جميع بلاد ما وراء النهر وبلاد الهياطلة وباب الأبواب والروم وديار بكر والجزيرة والشام وخطب له على جميع منابر الإسلام سوى بلاد المغرب، فإنه ملك من كاشغر وهي مدينة في أٌقصى بلاد الترك إلى بيت المقدس طولاً، ومن القسطنطينية إلى بلاد الخزر وبحر الهند عرضاً، وكان قد قدر لمالكه ملك الدنيا.
    وكان من أحسن الملوك سيرة حتى كان يلقب بالسلطان العادل، وكان منصوراً في الحروب، ومغرماً بالعمائر، فحفر كثيراً من الأنهار، وعمر على كثير من البلدان الأسوار، وأنشأ في المفاوز رباطات وقناطر، وهو الذي عمر جامع السلطان ببغداد ابتدأ بعمارته في المحرم من سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وزاد في دار السلطنة بها، وصنع بطريق مكة مصانع، وغرم عليها أموالاً كثيرة خارجة عن الحصر، وأبطل المكوس والخفارات في جميع البلاد.
    وكان لهجاً بالصيد، حتى قيل إنه ضبط ما اصطاده بيده فكان عشرة آلاف، فتصدق بعشرة آلاف دينار بعد أن نسي كثيراً منه، وقال: إنني خائف من الله سبحانه وتعالى لإزهاق الأرواح لغير مأكلة، وصار بعد ذلك كلما قتل صيداً تصدق بدينار.
    وخرج من الكوفة لتوديع الحاج، فجاوز العذيب وشيعهم بالقرب من الواقصة وصاد في طريقه وحشاً كثيراً فبنى هناك منارة من حوافر الحمر الوحشية وقرون الظباء التي صادها في ذلك الطريق، والمنارة باقية إلى الآن وتعرف بمنارة القرون، وذلك في سنة ثمانين وأربعمائة.
    وكانت السبيل في أيامه ساكنة والمخاوف آمنة، تسير القوافل من ما وراء النهر إلى أقصى الشام وليس معها خفير، ويسافر الواحد والإثنان من غير خوف ولا رهب.
    وحكى محمد بن عبد الملك الهمذاني في تاريخه أن السلطان ملكشاه المذكور توجه لحرب أخيه تكش فاجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا رضي الله عنهما بطوس ودخل مع نظام الملك الوزير وصليا فيه وأطالا الدعاء، ثم قال لنظام الملك: بأي شيء دعوت قال: دعوت الله تعالى أن ينصرك ويظفرك بأخيك، فقال: أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت: اللهم انصر أصلحنا للمسليمن وأنفعنا للرعية.
    ثم قال الهمذاني أيضاً عقيب (1) هذا: وحكي أن واعظاً دخل عليه ووعظه، فكان من جملة ما حكى له أن بعض الأكاسرة اجتاز منفرداً عن عسكره على باب بستان، فتقدم إلى الباب (2) وطلب ماء يشربه، فأخرجت له صبية إناء فيه ماء السكر والثلج، فشربه واستطابه، فقال لها: هذا كيف يعمل فقالت: إن قصب السكر يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا، فيخرج منه هذا الماء، فقال: ارجعي وأحضري شيئاً آخر، وكانت الصبية غير عارفة به، ففعلت، فقال في نفسه: الصواب أن أعوضهم عن هذا المكان وأصطفيه لنفسي، فما كان بأسرع من خروجها باكية، وقالت: إن نية سلطاننا قد تغيرت، فقال: ومن أين علمت ذلك قالت: كنت آخذ من هذا ما أريد من غير تعسف، والآن فقد اجتهدت في عصر القصب فلم يسمح ببعض ما كان يأتي، فعلم صدقها، فرجع عن تلك النية، ثم قال لها: ارجعي الآن فأنك تبلغين الغرض، وعقد على نفسه أن لا يفعل ما نواه، فخرجت الصبية ومعها ما شاءت من ماء السكر وهي مستبشرة. فقال السلطان للواعظ: فلم لا تذكر للرعية أن كسرى اجتاز على بستان فقال للناطور: ناولني عتقوداً من الحصرم، فقال له: ما يمكنني ذلك، فإن السلطان لم يأخذ حقه ولا تجوز لي خيانته، فعجب الحاضرون من مقابلته الحكاية بمثلها، ومعارضته بما أوجب الحق له ما أوجب الحق عليه.
    وحكى الهمذاني أيضاً أن سوادياً لقيه وهو يبكي، فسأله السلطان عن سبب بكائه، فقال (1) : ابتعت بطيخاً بدريهمات لا أملك غيرها، فلقيني ثلاثة أغلمة أتراك فأخذوه مني، وما لي حيلة سواه، فقال: أمسك، واستدعى فراشاً وكان ذلك عند باكورة البطيخ، وقال له: إن نفسي قد تاقت إلى البطيخ، فطف في العسكر وانظر من عنه شيء فأحضره، فعاد ومعه بطيخ، فقال: عند من رأيته قال: عند الأمير فلان، فأحضره وقال: من أين لك هذا البطيخ فقال: جاء به الغلمان، فقال: أريدهم الساعة، فمضى وقد عرف نية السلطان فيهم، فهربهم وعاد فقال: لم أجدهم فالتفت إلى السوادي وقال: هذا مملوكي وقد وهبته لك حين لم يحضر القوم الذين أخذوا متاعك، والله لئن خليته لأضربن عنقك، فأخذه السوادي بيده، وأخرجه من بين يدي السلطان فاشترى المير نفسة بثلاثمائة دينار، وعاد السوادي وقال: يا سلطان، قد بعث المملوك بثلثمائة دينار فقال: أو قد رضيت قال: نعم، قال: امض مصاحباً .
    وكانت البركة والثمن مقرونين بناصيته، فكان إذا يدخل أصبهان أو بغداد أو أي بلد من البلاد كان، دخل معه عدد لا يحصى لكثرته فيرخص السعر وتنحط أثمان الأشِياء عما كانت عليه قبله، ويكتسب المتعيشون مع عسكره الكسب الكثير.
    وحكى الهمذاني أيضاً أنه أحضرت إليه مغنية وهو بالري، فأعجب بها واستطاب غناءها، فهم بها فقالت: يا سلطان، إني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذب بالنار، وإن الحلال أيسر، وبينه وبين الحرام  كلمة، فقال: صدقت، واستدعى القاضي فتزوجها منه وابتنى بها، وتوفي عنها.
    [وقال صاحب الندول المنقطعة: ومن جملة ما سعى تاج الملك (2) في نظام الملك الوزير أن قال للسلطان: إنه ينفق في كل سنة على أرباب المدارس والرباطات ثلثمائة ألف دينار، ولو جيش بها جيشاً لبلغ باب القسطنطينية، فاستحضر الناظم واستفسره على الحال، فقال: يا سلطان العالم إني أنا رجل شيخ، ولو ندوي علي لما زادت قيميتي على ثلاثة دنانير، وأنت حدث لو نودي عليك ما زادت قيمتك على ثلاثين ديناراً، وقد أعطاك الله تعالى وأعطاني بك ما لم يعطه أحداً من خلقه، أفلا نعوضه عن ذلك في حملة دينه وحفظة كتابه ثلاثمائة ألف دينار ثم إنك تنفق على الجيوش المحاربة في كل سنة ستة أضعاف هذا المال، مع أن أقواهم وأرماهم لا تبلغ رميته ميلاً ولا يضرب بسيفه إلا ما قرب منه، وأنا أجيش لك بهذا المال جيشاً تصل من الدعاء سهامه إلى العرض لا يحجبها شيء عن الله تعالى، فبكى السلطان وقال: يا أبت استكثر من الجيش، والأموال مبذولة لك، والدنيا بين يديك] (3) .
    وعيون محاسنه أكثر من أن تحصى.
    وحكى الهمذاني أيضاً أن ناظم الملك الوزير وقع للملاحين الذين عبروا بالسطان والعسكر نهر جيحون على العامل بأنطاكية، وذلك لسعة المملكة، وكان مبلغ أجره المعابر أحد عشر ألف دينار.
    وتزوج الإمام المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين ابنة السلطان، وكات السفير في الخطبة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي صاحب المهذب والتنبيه رحمه الله تعالى، وأنقذه الخليفة إلى نيسابور لهذا السبب، فإن السلطان كان هناك، فلما وصل إلى بغداد في أقل من أربعة أشهر، وناظر إمام الحرمين هناك، فلما 
    أراد الإنصراف من نيسابور خرج إمام الحرمين للوداع، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق، وظهر له في خراسان منزلة (1) عظيمة وكانوا يأخذون التراب الذي وطئته بغلته فيتبركون به.
    وكان زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة في سنة ثمانين وأربعمائة، وفي صبيحة دخولها عليه أحضر الخليفة المقتدي عسكر السلطان على سماط صنعه لهم كان فيه أربعون ألف مناً سكراً، وفي بقية هذه السنة في ذي القعدة منها رزق الخليفة ولداً من ابنة السلطان سماه أبا الفضل جعفراً، وزينت بغداد لأجله.
    وكان السلطان قد دخل إلى بغداد دفعتين، وهي من جملة بلاده التي تحتوي عليها مملكته، وليس للخليفة فيها سوى الاسم، فلما عاد إليها الدفعة الثالثة دخلها في أوائل شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وخرج من فوره إلى ناحية دجيل لأجل الصيد، فاصطاد وحشاَ وأكل من لحمه، فابتدأت به العلة، وافتصد، فلم يكثر من إخراج الدم، فعاد إلى بغداد مريضاً، ولم يصل إليه أحد من خاصته، فلما دخلها توفي ثاني يوم دخوله، وهو السادس عشر من شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وكانت ولادته في التاسع من جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، وقيل إنه سم في خلال تخلل به، وحمل تاوبته إلى أصبهان ودفن بها في مدرسة عظيمة موقوفة على طائفة للشافعية والحنفية، ولم يشهد أحد جنازته ببغداد ولا صلي عليه في الصورة الظاهرة ولا جلسوا للعزاء، ولا حذف عليه ذنب فرس كعادة أمثاله، بل كأنه اختلس من العالم (2) .
    ومن عجيب الاتفاق أنه لما دخل بغدا في هذه المرة، وكان للخليفة المقتدي ولدان أحدهما الإمام المستظهر بالله والآخر أبو الفضل جعفر ابن بنت السلطان وقد تقدم ذكر ولادته، وكان الخليفة قد بايع لولده المستظهر بالله بولاية العهد من بعده لأنه كان الأكبر، فألزم السلطان الخليفة أن يخلعه إلى البصرة، فشق ذلك على الخليفة، وبالغ في استنزال السلطان عن هذه الرأي، فلم يفعل، فسأل المهلة عشرة أيام ليتجهز فأمهله، فقيل إن الخليفة في تلك الأيام جعل يصوم ويطوي وإذا أفطر جلس على الرماد للإفطار، وهو يدعو الله سبحانه وتعالى على السلطان، فمرض السلطان في تلك الأيام ومات، وكفي الخليفة أمره، وتزوج ابنة الإمام المستظهر بالله ابنة السلطان خاتون العصمة (1) في سنة اثنتين وخمسمائة.
    وقد تقدم ذكر أولاده الثلاثة الملوك، وهم بركياروق وسنجر محمد، كل واحد له ترجمة في حرفه، رحمهم الله تعالى أجمعين.
    وكاشغر: بفتح الكاف وبعد الألف شين معجمة ساكنة وغين معجمة مفتوحة وبعدها راء، وقد ذكرت أين هي فلا حاجة إلى الإعادة، وهي قصبة بلاد تركستان.
    والواقصة: بفتح الواو وبعد الألف قاف مكسورة وبعدها صاد مهملة مفتوحة ثم هاء ساكنة، وهي منزل معروف بطريق مكة يقال لها واقصة الحرون.
    والباقي معروف فلا حاجة إلى تفسيره، والله أعلم بالصواب

مكحول الشامي

    أبو عبد الله مكحول بن عبد الله الشامي، من سبي كابل [ذكره ابن ماكولا في كتاب " الإكمال " في ترجمة شاذل فقال في نسبه: وهو مكحول بن أبي مسلم - واسمه شهراب - ابن شاذل بن سند بن سروان بن بزدك بن يغوب ابن كسرى  .
    قال ابن عائشة: كان مولى لامرأة من قيس، وكان سندياً لا يفصح؛ وقال الواقدي: كان مولى لامرأة من هذيل، وقيل هو مولى سعبد بن العاص، وقيل مولى لبني ليث.
    قال الخطيب  : كان جده شاذل من أهل هراة، فتزوج ابنة ملك من ملوك كابل، ثم هلك عنها وهي حامل، فانصرفت إلى أهلها، فولدت شهراب  فلم يزل في أخواله بكابل حتى ولد له مكحول، فلما ترعرع سبي، ثم وقع إلى سعيد بن العاص فوهبه لامرأة من هذيل فأعتقته.
    وكان معلم الأوزاعي المقدم ذكره في حرف الهمزة وسعيد بن عبد العزيز، قال الزهري: العلماء أربعة، سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام. ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وكان لا يفتي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا رأي والرأي يخطئ ويصيب. وسمع أنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وأبا هند الداري  وغيرهم، وكان مقامه بدمشق.
    وكان في لسانه عجمة ظاهرة، ويبدل بعض الحروف بغيره، قال نوح بن قيس: سأله بعض الأمراء عن القدر، فقال: أساهر أنا يريد أساحر أنا. وكان يقول بالقدر ورجع عنه، وقال معقل بن عبد الأعلى القرشي: سمعته يقول لرجل: ما فعلت تلك الحاجة يريد الحاجة؛ وهذه العجمة تغلب على أهل السند. 
    يحكى عن أبي عطاء السندي الشاعر (1) المشهور، واسمه مرزوق، وهو من موالي أسد بن خزيمة، أنه كان في لسانه هذه العجمة، فاجتمع حماد الرواية وحماد عجرد الشاعر المقدم ذكرهما (2) وحماد بن الزبرقان النحوي وبكر بن مصعب المزني، في بعض الليالي ليتذاكروا فقالوا: ما بقي شيء إلا وقد تهيأ لنا في مجلسنا هذا، فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي ليحضر عندنا ويكمل به المجلس، فأرسلوا إليه، فقال حماد بن الزبرقان: أيكم يحتال لأبي عطاء حتى يقول: جرادة وزج شيطان وإنما اختار له هذه الألفاظ لأنه كان يبدل من الجيم زاياً ومن الشين سيناً، فقال حماد الراوية: أنا احتال في ذلك، فلم يلبثوا أن جاءهم أبو عطاء فقال لهم: هياكم الله، يريد حياكم الله، فقالوا له: مرهباً مرهبا، يريدون مرحبا مرحبا على لغته، فقالوا له: ألا تتعشى فقال: قد تعسيت، فهل عندكم نبيذ نشرب فقالوا: نعم، فأتوا له بنبيذ فشرب حتى استرخى  فقال له حماد الراوية: يا أبا عطاء، كيف معرفتك باللغز فقال: هسن، يريد حسن، فقال له ملغزاً في جرادة:
    فما صفراء تكنى أم عوف ... كان رجيلتيها منجلان 
    فقال: زرادة، فقال: صدقت، ثم قال ملغزاً في زجٍ:
    فما اسم حديدةٍ في الرمح ترسي ... دوين الصدر ليست بالسنان
    فقال أبو عطاء: زر، فقال حماد: أصبت، ثم قال ملغزاً في مسجد بجوار بني شيطان، وهو بالبصرة:
    أتعرف مسجداً لبني تميم ... فويق الميل دون بني أبان فقال: هو في بني سيطان، فقال: أحسنت، ثم تنادموا وتفاكهوا إلى سحرة في أرغد عيش.
    وهذا أبو عطاء من الشعراء المجيدين، وكان عبداً أخرب، والأخرب: المشقوق الأذن، وله في كتاب الحماسة مقاطيع ناردة، ولولا خشية التطويل والخروج عن المقصود لذكرن جملة من شعره ونوادره.
    وتوفي مكحول المذكور في سنة ثماني عشرة، وقيل ثلاث عشرة، وقيل ست عشرة، وقيل اثنتي عشرة، وقيل أربع عشرة ومائة، رضي الله عنه.
    وكابل: بفتح الكاف وبعد الألف باء موحدة مضمومة ثم لام، وهي ناحية معروفة ببلاد السند.

مكي الماكسيني النحوي

    أبو الحرم مكي بن ريان بن شبة بن صالح، الماكسيني المولد الموصلي الدار، المقرىء النحوي الضرير، الملقب صائن الدين  ؛ كان والده يصنع الأنطاع بماكسين، ومات فقيراً لم يخلف شيئاً، وترك ولده أبا الحرم المذكور وأمه وبنتاً، فلم تقدر أمه على القيام بمصالحه بسب الفقر، وتضجرت منه ففارقها، وخرج من بلده وقصد الموصل، واشتغل بها بعلم القرآن والأدب، ثم رحل إلى بغداد واجتمع بأئمة الأدب، وقرأ على أبي محمد ابن الخشاب وابن العصار وابن الأنباري وأبي محمد سعيد بن الدهان وقد تقدم ذكرهم ثم عاد إلى الموصل وتصدر بها للإفادة، وأخذ الناس عنه، وانتشر ذكره في البلاد وبعد صيته وانتفع به خلق كثير.
    وذكره أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " فقال: هو جامع فنون الأدب، وحجة كلام العرب، المجمع على دينه وعقله، والمتفق على علمه وفضله؛ رحل إلى بغداد ولقي بها مشايخ النحو واللغة والحديث، وكان واسع الرواية، قد نصب نفسه للانتفاع عليه بالقرآن العزيز  وجميع ضروب الأدب، ثم قال: وأنشدني من شعره، وكان قد اشتغل عليه بالموصل، أعني ابن المستوفي المذكور:
    سئمت من الحياة فلم أردها ... تسالمني وتشجيني بريقي
    عدوي لا يقصر في أذائي ... ويفعل مثل ذلك بي صديقي
    وقد أضحت لي الحدباء داراً ... وأهل مودتي بلوى العقيق والحدباء: كنية الموصل.
    ومن شعره أيضاً:
    إذا احتاج النوال إلى شفيع ... فلا تقبله تضح قرير عين
    إذا عيف النوال لفرد من ... فأولى أن يعاف لمنتين وله أيضاً:
    على الباب عبد يسأل الإذن طالباً ... به أدباً لا أن نعماك تحجب
    فإن كان إذن فهو كالخير داخلٌ ... عليك وإلا فهو كالشر يذهب وهذا مأخوذ من قول بعضهم:
    على الباب عبدٌ من عبيدك واقفٌ ... بنعماك مغمورٌ بشكرك معترف
    أيدخل كالاإقبال لا زالت مقبلاً ... مدى الدهر أم مثل الحوادث ينصرف (1) ثم قال ابن المستوفي: وكان قد أضر وهو ابن ثمان أو تسع سنين، وكان أبداً يتعصب لأبي العلاء المعري، ويطرب إذا قرئ عليه شعره، للجامع بينهما من العمى والأدب، فسلك مسلكه في النظم؛ انتهى كلام ابن المستوفي.
    قلت: وحكى لي بعض من أخذ عنه أنه لما كان ببلده كان جيرانهم ومعارفهم يسمونه مكيك تصغير مكي، فلما ارتحل واشتغل وحصل اشتاقت نفسه إلى وطنه، فعاد إليه، فتسامع به من بقي ممن كان يعرفه، فزاروه وفرحوا به لكونه فاضلاً من أهل بلدهم، وبات تلك الليلة، فلما كان سحر خرج إلى الحمام فسمع امرأة في غرفتها تقول لأخرى: ما تدرين من جاء فقالت: لا، فقالت: مكيك ابن فلانة، فقال: والله لا قعدت في بلد أدعى فيه مكيك وسافر من غير تربث بعد أن كان قد نوى الإقامة بها مدة وعاد إلى الموصل، ثم خرج إلى الشام في أواخر عمره لزيارة بيت المقدس، فانتهى إليه وقضى منه وطره.
    ورجع إلى الموصل من حلب. وكان دخوله إلى الموصل في شهر رمضان وتوفي ليلة السبت السادس من شوال سنة ثلاث وستمائة بالموصل، وخلف ولداً صغيراً. ودفن بصحراء باب الميدان في مقبرة المعافى بن عمران جوار أبي بكر القرطبي وابن الدهان النحوي، رحمهم الله تعالى؛ ويقال إنه مات مسموماً من جهة صاحب الموصل نور الدين أرسلان شاه المقدم ذكره في حرف الهمزة لسبب اقتضى ذلك، والله أعلم.
    وريان: بفتح الراء وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون.
    وشبه: بفتح الشين المعجمة وتشديد الباء الموحدة وبعد هاء ساكنة.
    والماكسيني: بفتح الميم وبعد الألف كاف مكسورة أيضاً ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها نون، هذه النسبة إلى ماكسين، وهي بليدة من أعمال الجزيرة الفراتية على نهر الخابور، وهي على صغرها تشابه المدن في حسن بنائها ومنازلها.

مكي بن أبي طالب

    أبو محمد مكي بن أبي طالب بن حموش بن محمد بن مختار القيسي المقرئ؛ أصله من القيروان، وانتقل إلى الأندلس وسكن قرطبة، وهو من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية، كان حسن الفهم والخلق جيد الدين والعقل، كثير التواليف في علم القرآن محسناً لذلك، مجوداً للقراءات السبع عالماً بمعانيها.
    ولد بالقيروان عند طلوع الشمس أو قبل طلوعها بقليل، لسبع بقين من شعبان سنة خمس وخمسين وثلثمائة، وقال أبو عمرو المقرئ الداني: إنه ولد سنة أربع وخمسين، ونشأ بالقيروان وترعرع، وسافر إلى مصر وهو ابن ثلاث عشرة سنة، واختلف بها إلى المؤدبين والعارفين بعلوم الحساب، ثم رجع إلى القيروان، وكان إكماله لاستظهار القرآن بعد كماله وفراغه من الحساب وغيره من الآداب، وذلك في سنة أربع وسبعين وثلثمائة، ثم عاد إلى مصر ثانية بعد استكماله القراءات بالقيروان وذلك في سنة سبع وسبعين، فحج في تلك السنة حجة الإسلام، ثم ابتدأ بالقراءات على أبي الطيب عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي المقرئ نزيل مصر بمصر في أول سنة ثمان وسبعين، فقرأ عليه بقية السنة وبعض سنة تسع، ورجع إلى القيروان وقد بقي عليه بعض القراءات. ثم عاد إلى مصر مرة ثالثة في سنة اثنتين وثمانين، فاستكمل ما بقي له، ثم عاد إلى القيروان في سنة ثلاث وثمانين وأقام بها يقرئ إلى سنة سبع وثمانين، ثم خرج إلى مكة وأقام بها إلى آخر سنة تسعين، وحج أربع حجج متوالية، ثم رجع من مكة سنة إحدى وتسعين، فوصل إلى مصر، ثم رحل منها إلى القيروان في سنة اثنتين وتسعين، ثم ارتحل إلى الأندلس وقدمها في رجب سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وجلس للأقراء بجامع قرطبة، فانتفع به خلق كثير وجودوا عليه القرآن، وعظم اسمه في البلد وجل فيها قدره، ونزل عند دخوله قرطبة في مسجد النخيلة (1) الذي بالزقاقين (2) عند باب العطارين، فأقرأ به، ثم نقله المظفر عبد الملك بن أبي عامر إلى جامع الزاهرة، وأقرأ فيه حتى انصرمت دولة آل عامر، فنقله محمد بن هشام المهدي إلى المسجد الخارج بقرطبة، وأقرأ فيه مدة الفتنة كلها إلى أن قلده أبو الحسن ابن جهور (3) الصلاة والخطبة بالمسجد بعد وفاة يونس بن عبد الله، وكان ضعيفاً عليها على أدبه وفهمه، وأقام في الخطابة إلى أن مات، رحمه الله تعالى.
    وكان خيراً فاضلاً متواضعاً متديناً مشهوراً بإجابة الدعاء، وله في ذلك أخبار، فمن ذلك ما حكاه أبو عبد الله الطرفي المقرئ (4) قال: كان عندنا بقرطبة رجل فيه بعض الحدة، وكان له على الشيخ أبي محمد المذكور تسلط، وكان يدنو منه إذا خطب فيغمره ويحصي عليه سقطاته، وكان الشيخ كثيراً ما يتلعثم ويتوقف، فحضر ذلك الرجل في بعض الجمع، وجعل يحد النظر إلى الشيخ ويغمزه، فلما خرج معنا ونزل في الموضع الذي كان يقرأ فيه قال لنا: أمنوا على دعائي، ثم رفع يديه وقال: اللهم اكفنيه، اللهم اكفنيه  ، فأمنا، قال: فأقعد ذلك الرجل، وما دخل الجامع بعد ذلك اليوم.
    وله تصانيف كثيرة نافعة فمنها: " الهداية إلى بلوغ النهاية " في معاني القرآن الكريم وتفسيره وأنواع علومه، وهو سبعون جزءاً، و " منتخب الحجة " لأبي علي الفارسي، ثلاثون جزءاُ، وكتاب " التبصر في القراءات " في خمسة أجزاء، وهو من أشهر تواليفه  ، و " الموجز في القرءات " جزءان، وكتاب 
    " المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره " عشر أجزاء، وكتاب " الرعاية لتجود القراءة " أربعة أجزاء، وكتاب " اختصار أحكام القرآن " أربعة اجزاء، وكتاب " الكشوف عن وجوه القرءات وعللها " عشرون جزءاً، وكتاب " الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه " ثلاثة أجزاء، وكتاب " الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه " جزء، وكتاب " الزاهي في اللمع الدالة على مستعملات الإعراب " أربعة أجزاء، وكتاب " التنبيه على أصول قراءة نافع وذكر الاختلاف عنه " جزاءان، وكتاب " الانتصاف، فيما رده على أبي بكر الأدفوي وزعم أنه غلط في كتاب الإبانة " ثلاثة أجزاء، وكتاب " الرسالة إلى أصحاب الأنطاكي في تصحيح المد لورش " ثلاثة أجزاء، وكتاب " الإبانة عن معاني القراءة " جزء، وكتاب " الوقف على كلا وبلى في القرآن " جزءان، وكتاب " الاختلاف في عدد الأعشار " جزء، وكتاب " الإدغام الكبير في المخارج " جزء، وكتاب " بيان الصغائر والكبائر " جزء، وكتاب " الاختلاف في الذبيح من هو " جزء، وكتاب " دخول حروف الجر بعضها مكان بعض " جزء، وكتاب " تنزيه الملائكة عن الذنوب وفضلهم على بني آدم " جزء، وكتاب " الياءات المشددة في القرآن والكلام " جزء، وكتاب " اختلاف العلماء في النفس والروح " جزء، وكتاب " إيجاب الجزاء على قاتل الصيد في الحرم خطأ " على مذهب الإمام مالك، والحجة في ذلك " جزء، وكتاب " مشكل غريب القرآن " ثلاثة أجزاء، وكتاب " فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا " جزء وكتاب " التذكرة لاختلاف القراء " جزء، وكتاب " تسمية الأحزاب " جزء (1) ، وكتاب " منخب كتاب الإخوان لابن وكيع " جزءان، وكتاب " الحروف المدغمة " جزءان، وكتاب " شرح التمام والوقف " أربعة أجزاء، وكتاب " مشكل المعاني والتفسير " خمسة عشر جزءاً، وكتاب " هجاء المصاحف " جزءان، وكتاب " الرياض " مجموع خمسة أجزاء، وكتاب " المنتقى في الأخبار " أربعة أجزاء، وله في القراءات واختلاف القراء وعلوم القرآن تصانيف كثيرة، ولولا خوف التطويل لاستوعبت ذكرها.
    وتوفي يوم السبت عند صلاة الفجر (1) ، ودفن يوم الأحد ضحوة لليلتين خلتا من المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بقرطبة، ودفن بالربض، وصلى عليه ولده أبو طالب محمد، رحمه الله تعالى.
    وحموش: بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم المضمومة وسكون الواو وبعدها شين معجمة.
    وقد تقدم الكلام على القيسي والقيروان وقرطبة، فأغنى عن الإعادة.
    (270) وأبو الطيب عبد المنعم بن غلبون المقرئ المصري (2) المذكور في هذه الترجمة ذكره الثعالبي في كتاب " اليتيمة " فقال: كان على دينه وفضله وعلمه بالقرآن ومعانيه وإعرابه متفنناً في سائر علوم الأدب، أنشدت له قصيدة منها قوله:
    عليك باقلال الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا
    ألم تر أن الغيث يسأم دائماً ... ويطلب بالأيدي إذا هو أمسكا وقال غير الثعالبي: ولد أبو الطيب المذكور في رجب سنة تسع وثلثمائة، وتوفي في مصر يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلثمائة، رحمه الله تعالى.

مخلص الدولة ابن منقذ

    أبو المتوج مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، الملقب مخلص الدولة، والد الأمير سديد الدولة أبي الحسن علي صاحب قلعة شيزر، المقدم ذكره؛ كان رجلاً نبيل القدر سائر الذكر، رزق السعادة في بنيته وحفدته،، وقد تقدم في ترجمة ولده المذكور طرف من بدء أمرهم، وكيف ملك القلعة المذكورة.
    وكان والده مقلد المذكور في جماعة كثيرة من أهل بيته مقيمين بالقرب من 
    قلعة شيزر عند جسر بني مقلد المنسوب إليهم، وكانوا يترددون إلى حلب وحماة وتلك النواحي، ولهم بها الآدار  النفسية والملاك المثمنة، وذلك كله قبل أن ملكوا  قلعة شيزر، وكان ملوك الشام يكرمونهم ويبجلون أقدارهم، وشعراء عصرهم يقصدونهم ويمدحونهم، وكان فيهم جماعة أعيان رؤساء كرماء علماء، وقد سبق ذكر أسامة بن منقذ  ، وهو من أحفاده.
    ولم يزل مخلص الدولة في رياسته وجلالته، إلى أن توفي في ذي الحجة سنة خمسين وأربعمائة بحلب، وحمل إلى كفرطاب؛ ورأيت في ديوان ابن سنان الخفاجي الشاعر عقيب أشعار له في المذكور  ، يقول ما صورته: وقال يرثيه وقد توفي في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، والله أعلم بالصواب، رحمه الله تعالى. ورثاه القاضي أبو يعلى حمزة بن عبد الرزاق بن أبي حصين  بهذه القصيدة، وهي من فائق الشعر، وأنشدها لولده أبي الحسن علي المذكور، سأذكرها كلها إن شاء الله تعالى، وإن كانت طويلة، لكنها غريبة قليلة الوجود بأيدي الناس، وما رأيت أحداً قط يحفظ منها إلا أبياتاً يسيرة فأحببت ذكرها لذلك، وهي هذه:
    ألا كل حي مقصدات مقاتله ... وآجل ما يخشى من الدهر عاجله
    وهل يفرح الناجي السليم وهذه ... خيول الردى قدامه (6) وحبائله
    لعمر الفتى إن السلامة سلم ... إلى الحين والمغرور بالعيش آمله
    فتسلب أثواب الحياة معارها ... ويقضي غريم الدين ما هو ماطله
    مضى قيصرٌ لم تغن عنه قصوره ... وجدل كسرى ما حمته مجادله
    وما صد هلكاً عن سليمان ملكه ... ولا منعت منه أباه سرابله
    ولم يبق إلا من يروح ويغتدي ... على سفر ينأى عن الأهل قافله
    وما نفس الإنسان إلا خزامة ... بأيدي المنايا والليالي مراحله
    فهل غال بدءاً مخلص الدولة الردى ... وهل تنزوي عمن سواه غوائله
    ولكنه حوض الحمام، ففارط ... إليه، وتالٍ مسرعاتٍ رواحله
    لقد دفن الأقوام أروع لم تكن ... بمدفونةٍ طول الزمان فضائله
    سقى جدثاً هالت عليه ترابه ... أكفهم طل الغمام ووابله
    ففيه سحابٌ يرفع المحل هديه ... وبحر ندىً يستغرق البر ساحله
    كأن ابن نصر سائراً في سريره ... حبي (1) من الوسمي أقشع هاطله
    يمر على الوادي فتثني رماله ... عليه، وبالنادي فتبكي أرامله
    سرى تعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله
    أناعيه إن النفوس منوطةٌ ... بقولك فانظر ما الذي أنت قائله
    بفيك الثرى لم تدر من حل بالثرى ... جهلت وقد يستصغر الأمر جاهله
    هو السيد المهتز للتم بدره ... وللجود عطفاه وللطعن عالمه
    أفاض عيون الناس حتى كأنما ... عيونهم مما تفيض أنامله
    فيا عين سحي لا تشحي بسائل ... على ماجد لم يعرف الشح سائله
    متى يسألوه المال تند بنانه ... وإن لم يسألوه الضيم تبد عوامله
    وكم عاد عنه بالخسار مقنع ... وكم نال منه قانع ما يحاوله
    له الغلب القاضي على كل باسل ... يجالده أو كل خصم يجادله
    محاسنه في روضةٍ طلها الندى ... ولكنه في المجد مات مساجله
    فيا عمره أنى قصرت ولم تطل ... منازله بل كفه بل حمائله
    جرت تحته العلياء ملء فروجها ... إلى غاية طالت على من يطاوله
    فما مات حتى نال أقصى مراده ... كما يستسر البدر تمت منازله (1)
    فتى طالما يعتاده الجيش عافياً ... فينزله أو عادياً فينازله
    صفوحٌ عن الجاني وصفحة سيفه ... إذا هي لم تقتله فالصفح قاتله
    وأدمى عسيب الطرف بعدك هلبه ... وعادته أن يقذف الدم كاهله
    فيا طرفه ما كان عجزك حاملاً ... أدى (2) صارم لو أن ظهرك حامله
    لقد كثر الملبوس بعد مروع ... جرت ببيان المشكلات شواكله
    إذا ظن لا يخطي كأن ظنونه ... على ما يضل الناس عنه دلائله
    فلا رحلت عنه نوازل رحمةٍ ... ضحاه بها موصولة وأصائله
    وروى ثراه منهن العفو في غد ... فقد روت العافين أمس مناهله
    قضى الله أن يرزا الأمير وهذه ... صوافنه موقورة (3) ومناصله
    وكل فتى كالبراق إبريق غمده (4) ... إذا شماه (5) ، او كالذبالة ذابله
    فليت ظباه صلت اليوم خلفه ... وظلت على غير الصيام صواهله
    بني منقذ صبراً فإن مصابكم ... يصاب به حافي الأنام وناعله
    لقد جل حتى كل واجد لوعة ... إذا لج فيها ليس يوجد عاذله
    إذا صوحت أيدي الرجال فأنتم ... بني منقذ روض الندى وخمائله
    وإن فر من وزر الزمان مفرحٌ ... فإنكم أوزاره ومعاقله
    وصاحب، علي، الصبر عنه فما غوى ... مصاحب صبرٍ عن حبيب يزايله
    وما نام حتى قام منك وراءه ... أخو يقظات وافر العزم  كامله
    كأنكما نوءان في فلك العلا ... فطالعه هذه وذلك آفله
    وما كفلوك (1) الأمر إلا لعلمهم ... قيامك بالأمر الذي أنت كافله
    سعيت إلى نيل المكارم سعيه ... ولو كنت لا تسعى كفتك فواضله
    ولم تر أن ترقى بما كان فاعلاً ... أجل إنما المرفوع بالفعل فاعله
    لعمرك إني في الذي عن كله ... شريك عنان ناصح الود ناخله
    وكيف خلو القلب من ذلك الهوى ... وقد خلدت بين الشغاف دواخله
    نجزت القصيدة بتمامها وكمالها. وقد تقدم في ترجمة الصالح طلائع بن رزيك وزير مصر مرثية رثاه بها الفقيه عمارة الميني، وهي على وزن هذه المرثية ورويها، ولم أذكر منها هناك سوى أبيات قلائل لكثرة وجود ديوان عمارة بأيدي الناس، وهذه لا تكاد توجد بكمالها، فلهذا أتممتها ها هنا، وقد تقدم منها ذكر بيتين في ترجمة الوزير جمال الدين أبي جعفر محمد المعروف بالجواد الأصبهاني وزير الموصل.
    وتوفي أخوه أبو الغيث منقذ بن نصر بن منقذ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، ورثاه الشيخ الأديب أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن يحيى بن الحسين بن محمد بن الربيع بن سنان بن الربيع الخفاجي الحلبي الشاعر المشهور صاحب الديوان الشعر بقوله، وهو من شعره القديم زمن الصبا:
    غربت خلائقك الحسان غريبةً ... ورمى الزمان دنوها ببعاد
    ذهبت كما ذهب الربيع وخلفت ... فيض الدموع حرارة الأكباد والخفاجي المذكور رثى مخلص الدولة المذكور أيضاً بقصيدة طويلة رائية، ومدحه بأخرى حائة أجاد فيهما وتركتهما لطولهما، والله تعالى أعلم بالصواب.