الأحد، 18 يونيو 2017

شبل الدولة

    أبو الهيجاء مقاتل بن عطية بن مقاتل البكري الحجازي، الملقب شبل الدولة؛ كان من أولاد أمراء العرب، فوقع بينه وبين إخوته وحشة أوجبت رحيله عنهم، ففارقهم ووصل إلى بغداد ثم خرج إلى خراسان وانتهى إلى غزنة، وعاد إلى خراسان، واختص بالوزير نظام الملك وصاهره، ولما قتل نظام النلك رثاه أبو الهيجاء المذكور ببيتين، تقدم ذكرهما في ترجمته.
    ثم عادى إلى بغداد وأقام بها مدة، وعزم على قصد كرمان مسترفداً وزيرها ناصر الدين مكرم بن العلاء، وكان من الأجواد المشاهير، فكتب إلى الأمام المستظهر بالله قصة يلتمس فيها الإنعام عليه بكتاب إلى الوزير المذكور، مضمونه الإحسان إليه، فوقع المستظهر على رأس قصته: " يا أبا الهيجاء، أبعدت النجعة، أسرع الله بك الرجعة، وفي ابن العلاء مقنع، وطريقه في الخير مَهْيَع، وما يسديه إليك تستحلي ثمرة شكره، وتستعذب مياه بره، والسلام " فاكتفى أبو الهيجاء بهذه الأسطر، واستغنى عن الكتاب.
    وتوجه إلى كرمان، فلما وصلها قصد حضرة الوزير واستأذن في الدخول فأذن له، فدخل عليه وعرض على رأيه القصة، فلما رآها قام وخرج عن دسته فأذن له، إجلالاً لها وتعظيماً لكاتبها، وأطلق لأبي الهيجاء ألف دينار في ساعته ثم عاد إلى دسته، فعرفه أبو الهيجاء أن معه قصيدة يمدحه بها، فاستنشده إياها فأنشده:
    دع العيس تذرع عرض الفلا ... إلى ابن العلاء، وإلا فلا فلما سمع الوزير هذا البيت أطلق له ألف دينار أخرى، ولما أكمل إنشاده القصيدة أطلق له ألف دينار أخرى، وخلع عليه، وقاد إليه جواداً بمركبة، وقال له: دعاء أمير المؤمنين مسموع مرفوع، وقد دعا بسرعة الرجوع، وجهزه بجميع ما يحتاج إليه.
    فرجع إلى بغداد وأقام بها قليلاً، ثم سافر إلى ما وراء النهر وعاد إلى خراسان ونزل إلى مدينة هراة، وهوي بها امرأة وأكثر من التشبيب فيها، ثم رحل إلى مرو واستوطنها؛ ومرض في آخر عمره وتسودن، وحمل إلى البيمارستان، وتوفي في حدود سنة خمس وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
    وكان من جملة الأدباء الظرفاء، وله النظم البديع الرائق، وبينه وبين العلامة أبي القاسم الزمخشري المقدم ذكره مكاتبات ومادعبات، وكتب إليه قبل الاجتماع به:
    هذا أديب كامل ... مثل الدراري درره
    زمخشري فاضلٌ ... أنجبه زمخشره
    كالبحر إن لم أره ... فقد أتاني خبره فكتب إليه الزمخشري:
    شعره أمطر شعري شرفا ... فاعتلى منه ثياب الحسد (1) كيف لا يستأسد النبت إذا ... بات مسقياً بنوء الأسد (1) وله كل مقطوع لطيف، رحمه الله تعالى.
    والوزير المذكور هو الذي تقدم ذكره في ترجمة أبي إسحاق إبراهيم الغزي الشاعر المشهور، فإن قصده بكرمان وامتدحه بقصيدة بائية طنانة ذكرت منها في ترجمة الغزي بيتين هما من الشعر العجيب، وضمنهما المعنى الغريب.
    وأول هذه القصيدة:
    ورود ركايا الدمع يكفي الركائبا ... وشم تراب الربع يشفي الترائبا
    إذا شمت من برق العقيق عقيقه ... فلا تنتجع دون الجفون (2) السحائبا ومنها عند الخروج إلى المديح:
    وعيسٍ لها برهان عيسى بن مريم ... إذا قتل الفج العميق المطالبا
    يرقصهن الآل إما طوافيا ... تراهن في آذيه أو رواسبا
    سوانح (3) كالبنيان تحسب أنني ... مسحت المطايا إذ مسحت السباسبا
    تنسمن من كرمان عرفاً عرفته ... فهن يلاعبن النشاط لواغبا
    يرين وراء الخفاقين من المنى ... مشارق لم يؤبه لها ومغاربا
    إلى ماجد لم يقبل المجد وارثاً ... ولكن سعى حتى حوى المجد كاسبا
    تبسم ثغر الدهر منه بصاحب ... إذا جد لم يصحب سوى العزم صاحبا ومنها:
    تصيخ له الأسماع ما دام قائلاً ... وتعنو له الأبصار مادام كاتبا
    ولم أر ليثاً خادراً قبل مكرم ... ينافس في العليا ويعطي الرغائبا
    ولو لم يكن ليثاً مع الجود لم يكن ... إذا صال بالأقلام صارت مخالبا
    ومنها:
    إذا زان قوماً بالمناقب واصف ... ذكرنا له فضلاً يزين المناقبا
    له السئيم الشم التي لو تجسمت ... لكانت لوجه الدهر عيناً وحاجبا
    ثنى نحو شمطاء الوزارة طرفه ... فصارت بأدنى لحظة منه كاعبا
    تناول أولاها وما مد ساعداً ... وأحرز أخراها وما قام واثبا وهي من غرر القصائد، وفي هذا الأنموذج منها دلالة على الباقي.

مقاتل صاحب التفسير

    أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير، الأزدي بالولاء الخراساني المروزي، أصله من بلخ وانتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدث بها، وكان مشهوراً بتفسير كتاب الله العزيز، وله التفسير المشهور.
    وأخذ الحديث عن مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح - المقدم ذكره - وأبي إسحاق السبيعي - وقد تقدم ذكره أيضاً - والضحاك بن مزاحم ومحمد بن مسلم الزهري وغيرهم. وروى عنه بقية بن الوليد الحمصي (2) وعبد الرزاق بن همام الصنعاني - المقدم ذكره - وحرمي بن عمارة وعلي بن الجعد، وغيرهم.
    وكان العلماء الأجلاء، حكى عن الإمام الشافعي، رضي الله عنه، أنه قال: الناس كله عيال على ثلاثة: على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير ابن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام.
    وروي أن أبا جعفر المنصور كان جالساً، فسقط عليه الذباب فطيره، فعاد إليه، وألح عليه، وجعل يقع على وجهه، وأكثر من السقوط عليه مراراً حتى أضجره، فقال المنصور: انظروا من بالباب، فقيل له: مقاتل بن سليمان، فقال: علي به، فأذن له، فلما دخل عليه قال له: هل تعلم لماذا خلق الله تعالى الذباب قال: نعم ليذل الله عز وجل به الجبابرة، فسكت المنصور.
    وقال إبراهيم الحربي: قعد مقاتل بن سليمان فقال: سلوني عما دون العرش، فقال له رجل: آدم صلى الله عليه وسلم حين حج من حلق رأسه فقال له: ليس هذا من علمكم، ولكن الله تعالى أراد أن يبتليني لما أعجبتني نفسي. وقالسفيان بن عيينة، قال مقاتل بن سليمان يوماً: عما دون العرش، فقال له إنسان: يا أبا الحسن، أرأيت الذرة والنملة معاها في مقدمها أو في مؤخرها قال: فبقي الشيخ لا يدري ما يقول له، قال سفيان: فظننت أنها عقوبة عوقب بها.
    وقد اختلف العلماء في أمره، فمنهم من وثقه في الرواية، ومنهم من نسبه إلى الكذب. قال بقية بن الوليد: كنت كثيراً أسمع شعبة بن الحجاج وهو يسأل عن مقاتل، فما سمعته قط ذكره إلا بخير. وسئل عبد الله بن المبارك عنه فقال: رحمه الله، لقد ذكر لنا عنه عباده. وروي عن عبد الله بن المبارك أيضاً أنه ترك حديثه. وسئل إبراهيم الحربي عن مقاتل: هل سمع من الضحاك ابن مزاحم شيئاً فقال: لا مات الضحاك قبل أن يولد مقاتل بأربع سنين. وقال مقاتل: أغلق علي وعلى الضحاك باب أربع سنين؛ قال إبراهيم: وأراد بقوله باب يعني باب المدينة، وذلك في المقابر. وقال إبراهيم أيضاً: ولم يسمع مقاتل عن مجاهد شيئاً ولم يلقه.
    وقال أحمد بن سيار: مقاتل بن سليمان كان من أهل بلخ، وتحول إلى مرو، وخرج إلى العراق، وهو متهم متروك الحديث مهجور القول، وكان يتكلم في الصفات بما لا تحل الرواية عنه. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: مقاتل بن سليمان كان دجالاً جسوراً. وقال أبو عبد الرحمن النسائي: الكذابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة: ابن يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بن سليمان بخراسان، ومحمد بن سعيد ويعرف بالمصلوب بالشام.
    وذكر وكيع يوماً مقاتل بن سليمان فقال: كان كذاباً. وقال أبو بكر الآجري: سألت أبا داود سليمان بن الأشعث عن مقاتل بن سليمان، فقال: تركوا حديثه. وقال عمرو بن علي الفلاس: مقاتل بن سليمان كذاب متروك الحديث. وقال البخاري: مقاتل بن سليمان سكتوا عنه. وقال في موضع آخر: لا شيء ألبتة. وقال يحيى بن معين: مقاتل بن سليمان ليس حديثه بشيء. وقال أحمد بن حنبل: مقاتل بن سليمان صاحب التفسير ما يعجبني أن أروي عنه 
    شيئاً. وقال أبو حاتم الرازي: هو متروك الحديث. وقال زكريا بن يحيى الساجي: مقاتل بن سليمان من أهل خراسان قالوا: كان كذاباً متروك الحديث. وقال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: مقاتل بن سليمان كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن العزيز الذي يوافق كتبهم، وكان مشبهاً يشبه الرب بالمخلوقين، وكان يكذب مع ذلك في الحديث.
    وبالجملة فإن الكلام في حقه كثير، وقد خرجنا عن المقصود، لكن أردت ذكر اختلاف أقاويل العلماء في شأنه.
    وتوفي سنة خمسين ومائة بالبصرة، رحمه الله تعالى.
    وقد تقدم الكلام على الأزدي والمروزي فأغنى عن الإعادة.

معن بن زائدة

    أبو الوليد معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك بن الصلب - بضم الصاد المهملة وسكون اللام وآخره الباء الموحدة (2) - واسمه عمرو بن قيس بن شراحيل بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، الشيباني، وبقيت النسب معروف؛ وقال البن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب ": هو معن بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو بن قيس بن شراحيل بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر (3) بن وائل بن قاسط هنب بن أفضى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان 
    كان جواداً شجاعاً جزل العطاء كثير المعرف ممدحاً مقصوداً؛ حكى الأصمعي قال: وفد أعرابي على معن بن زائدة فمدحه وطال مقامه على بابه ولم يحصل له جائزة، فعزم على الرحيل، فخرج معن راكباً فقام إليه وأمسك بزمام دابته وقال:
    وما في يديك الخير يا معن كله ... وفي الناس معروف وعنك مذاهب
    ستدري بنات العم ما قد أتيته ... إذا فتشت عند الإياب الحقائب فأمر معن بإحضار خمس نوق من كرام إبله وأوقرهم (5) له ميرة وبراً وثياباً وقال: انصرف يا ابن أخي في حفظ الله إلى بنات عمك، فلئن فتشن الحقائب ليجدن فيها ما يسرهن، فقال له: صدقت، وبيت الله (1) . وقد سبق في ترجمة مروان بن أبي حفصة الشاعر طرف من أخباره، وكان مروان خصيصاً به وأكثر مدائحه فيه.
    وكان معن في أيام بني أمية متنقلاً في الولايات، منقطعاً إلى يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين، فلما انتقلت الدولة إلى بني العباس وجرى بين أبي جعفر المنصور وبين يزيد بن عمر المذكور من محاصرته بمدينة واسط ما هو مشهور - وسيأتي في ترجمة يزيد المذكور طرف من هذه الواقعة إن شاء الله تعالى - أبلى يؤمئذ معن مع يزيد بلاء حسناً، فلما قتل يزيد خاف معن بن المنصور (2) فاستتر عنه مدة، وجرى له مدة استتاره غرائب.
    فمن ذلك ما حكاه مروان بن أبي حفصة الشاعر المذكور قال: أخبرني معن بن زائدة، وهو يومئذ متولي بلاد اليمن، أن المنصور جد في طلبي وجعل لمن يحملني إليه مالاً، قال: فاضطررت لشدة الطلب إلى أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي، وخففت عارضي ولبست جبة صوف، وركبت جملاً وخرجت متوجهاً إلى البادية لأقيم بها، قال: فلما خرجت من باب حرب، وهو أحد أبواب بغداد، تبعني أسود متقلد بسيف، حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض على يدي، فقلت له: ما بك فقال: أنت طلبة أمير المؤمنين فقلت: ومن أنا حتى أطلب (3) فقال: أنت معن ابن زائدة، فقلت له: يا هذه اتق الله عز وجل، وأين أنا من معن فقال: دع هذا، فوالله إني لأعرف بك منك، فلما رأيت منه الجد قلت له: هذا جوهر قد حملته بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي، فخذه ولا تكن سبباً في سفك دمي، قال: هاته، فأخرجته إليه، فنظر فيه ساعة وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، 
    فقلت (1) : قل (2) ، قال: إن الناس قد وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبت مالك كله قط قلت: لا، قال: فنصفه قلت: لا، قال فثلثه قلت لا، حتى بلغ العشر، فاستحييت وقلت: أظن أني قد فعلت هذا، قال: ما ذاك بعظيم، وأنا والله راجل ورزقي من أبي جعفر المنصور كل شهر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألوف دنانير، وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور (3) بين الناس، ولتعلم أن في هذه الدنيا (4) من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسك، ولتحقر (5) بعد هذا كل جود فعلته ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى العقد في حجري وترك خطام الجمل وولى منصرفاً، فقلت: يا هذا، قد والله فضحتني ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته لك فإني غني عنه، فضحك وقال: أردت أن تكذ بني في مقالي هذا، والله لا أخذته ولا آخذ لمعروف ثمناً أبداً، ومضى لسبيله، فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت، وبذلت لمن يجيء به ما شاء، فما عرفت له خبراً، وكأن الأرض ابتلعته.
    ولم يزل معن مستتراً حتى كان يوم الهاشمية، وهو يوم مشهور ثار فيه جماعة من أهل خراسان على المنصور فوثبوا عليه، وجرت مقتلة (6) بينهم وبين أصحاب المنصور بالهاشمية، وهي مدينة بناها السفاح بالقرب من الكوفة. ذكر غرس النعمة بن الصابي في كتاب " الهفوات " ما مثاله (7) : لما فرغ السفاح من بناء مدينته بالأنبار، وذلك في ذي العقدة سنة أربع وثلاثين ومائة، وكان معن متوارياً بالقرب منهم، فخرج متنكراً معتماً ملثماً، وقد تقدم إلى القوم وقاتل قدام المنصور قتالاً أبان فيه عن نجدة وشهامة وفرقهم، فلما أفرج عن المنصور ال له: من أنت ويحك فكشف لثامه فقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة، فأمنه المنصور وأكرمه وكساه وزينه، وصار من خواصه، ثم دخل عليه بعد ذلك في بعض الأيام فلما نظر إليه قال: هيه يا معن، تعطي مروان بن أبي حفصة مائة ألف درهم على قوله:
    معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان فقال: كلا يا أمير المؤمنين، إنما أعطيته على قوله في هذه القصيدة:
    ما زلت يوم الهاشمية معلناً ... بالسيف دون خليفة الرحمن
    فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كل مهند وسنان فقال: أحسنت يا معن.
    وقال له يوماً: يا معن، ما أكثر وقوع الناس في قومك فقال: يا أمير المؤمنين:
    إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حساداً ودخل عليه يوماً وقد أسن فقال له: كبرت يا معن، فقال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، فقال: وإني لجلد، فقال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، فقال: وفيك بقية، فقال، هي لك يا أمير المؤمنين.
    وعرض هذا الكلام على عبد الرحمن بن زيد زاهد أهل البصرة، فقال: ويح هذا، ما ترك لربه شيئاً.
    وأشهر قصائد مروان فيه وأحسنها القصيدة اللامية التي ذكرت بعضها في ترجمة مروان، وهي طويلة تزيد على خمسين بيتاً، ولولا خوف الإطالة لذكرتها، وله فيه من قصيدة:
    قد آمن الله من خوف ومن عدم ... من كان معن له جاراً من الزمن
    معن بن زائدة الموفي بذمته ... والمشتري المجد بالغالي من الثمن
    يرى العطايا التي تبقى محامدها ... غنماً إذا عدها المعطي من الغبن
    بنى لشيان مجداً لا زوال له ... حتى تزول ذرى الأركان من حضن حضن: بفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة وبعدها نون، اسم جبل عظيم بين نجد وتهامة، بينه وبين تهامة مرحلة، يقال في المثل: أنجد من رأى حضناً، وله ذكر كثير من الأشعار والأخبار (1) .
    ودخل على معن بعض الفصحاء يوماً فقال له: إني لو أردت أن أستشفع إليك ببعض من يثقل عليك لوجدت ذلك سهلاً، ولكني استشفعت إليك بقدرك، واستغنيت بفضلك، فإن رأيت أن تضعني من كرمك بحيث وضعت نفسي من رجائك فافعل، وإني لم أكرم نفسي عن مسألتك فأكرم وجهي عن ردك.
    ولمعن أشعار جيدة وأكثرها في الشجاعة، وقد ذكره أبو عبد الله ابن المنجم في كتاب البارع وأورد له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله في خطاب ابن أخي عبد الجبار بن عبد الرحمن، وقد رآه يتبختر بين السماطين، وكان قبل ذلك لقي الخوارج ففر منهم:
    هلا مشيت كذا غداة لقيتهم ... وصبرت عند الموت يا خطاب
    نجاك خوار العنان كأنه ... تحت العجاج إذا استحث عقاب
    وتركت صحبك والرماح تنوشهم ... وكذاك من قعدت به الأحساب وقال أبو عثمان المازني النحوي: حدثني صاحب شرطة معن قال: بينما أنا على رأس معن إذا هو براكب يوضع، فقال معن: ما أحسب الرجل يريد غيري، ثم قال لحاجبه: لا تحجبه، قال: فجاء حتى مثل بين يديه وأنشد:
    أصلحك الله قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
    ألح دهر رمى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا قال: فقال معن وأخذته الأريحية: لا جرم والله لأعجلن أوبتك، ثم قال: ا غلام، ناقتي الفلانية وألف دينار، فادفعها إليه، فادفعها إليه وهو لا يعرفه، هكذا روى هذا الخطيب في تاريخه (1) .
    وأخبار معن ومحاسنه كثيرة.
    وكان قد ولي سجستان في أواخر أمره، وانتقل إليها، وله في آثار وماجرايات، وقصده الشعراء بها، فلما كانت سنة إحدى وخمسين، وقيل اثنتين وخمسين، وقيل ثمان وخمسين ومائة، كان في داره صناع يعملون له شغلاً، فاندس بينهم قوم من الخوارج، فقتلوه بسجستان وهو يحتجم، ثم تتبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فقتلهم بأسرهم، وكان قتله بمدينة بست. ولما قتل معن رثاه الشعرا بأحسن المراثي، فمن ذلك قول مروان بن أبي حفصة شاعره المذكور، وهي قصيدة من أفخر الشعر وأحسنه، وأولها:
    مضى لسبيله معن، وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا
    كأن الشمس يوم أصيب معن ... من الإظلام ملبسة جلالاً
    هو الجبل الذي كانت نزار ... تهد من العدو به الجبالا
    وعطلت الثغور لفقد معن ... وقد يروي بها الأسل النهالا (2)
    وأظلمت العراق وأورثتها ... مصيبته المجللة اختلالا
    وظل الشام يرجف جانباه ... لركن العز حين وهى فمالا (3)
    وكادت من تهامة كل أرض ... ومن نجد تزول غداة زالا
    فإن يعل (4) البلاد له خشوع ... فقد كانت تطول به اختيالا
    أصاب الموت يوم أصاب معناً ... من الأحياءأكرمهم فعالا
    وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار جفرته عيالا
    ولم يك طالب للعرف ينوي ... إلى غير ابن زائدة ارتحالا
    مضى من كان يحمل كل ثقل ... ويسبق فيض نائله السؤالا
    وما عمد الوفود لمثل معن ... ولا حطوا بساحته الرحالا
    ولا بلغت أكف ذوي العطايا ... يميناً من يديه ولا شمالا
    وما كانت تجف له حياض ... من المعروف مترعة سجالا
    لأبيض لايعد المال حتى ... يعم به بغاة الخير مالا (1)
    فليت الشامتين به فدوه ... وليت العمر مد له فطالا
    ولم يك كنزه ذهباً، ولكن ... سيوف الهند والحلق المذالا
    ومارنة من الخطي سمراً ... ترى فيهن ليناً واعتدالا
    وذخراً من محامد باقيات ... وفضل تقى به التفضيل نالا ومنها (2) :
    مضى لسبيله من كنت ترجو ... به عثرات دهرك أن تقالا
    فلست بمالك عبرات عين ... أبت بدموعها إلا انهمالا
    وفي الأحشاء منك غليل حزنٍ ... كحر النار تشتعل اشتعالا
    وقائلة رأت جسمي ولوني ... معاً عن عهدها قلباً فحالا
    أرى مروان عاد كذي نحول ... من الهنندي قد فقد الصقالا
    رأت رجلاً براه الحزن حتى ... أضر به وأورثه خبالا
    فقلت لها: الذي أنكرت مني ... لفجع مصيبة أنكى وعالا (3)
    وأيام المنون لها صروف ... تقلب بالفتى حالاً فحالا ومنها (4) :
    كأن الليل واصل بعد معن ... ليالي قد قرن به فطالا
    فلهف أبي عليك إذا العطايا ... جعلن منى كواذب واعتلالا
    ولهف أبي عليك إذا اليتامى ... غدوا شعثاً كأن بهم سلالا (1)
    ولهف أبي عليك إذا القوافي ... لممتدح بها ذهبت ضلالا
    ولهف أبي عليك لكل هيجا ... لها تلقي حواملها السخالا
    أقمنا باليمامة إذ يئسنا ... مقاماً لا نريد له زيالا
    وقلنا أين نرحل بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
    ما شهد الوقائع منك أمضى ... وأكرم مقدماً وأشد بالا
    سيذكرك الخليقة غير قال ... إذا هو في الأمور بلا الرجالا
    ولا ينسى وقائعك اللواتي ... على أعدائه جعلت وبالا
    ومعتركاً شهدت به حفاظاً ... وقد كرهت فوارسه النزالا
    حباك أخو أمية بالمراثي ... مع المدح الذي قد كان قالا
    أقام وكان نحوك كل عام ... يطيل بواسط الرحل اعتقالا
    وألقى رحله أسفاً وآلى ... يميناً لا يشد له حبالا وهذه المرثية من أحسن المراثي. وقال عبد الله بن المعتز في كتاب طبقات الشعراء (2) : دخل مروان بن أبي حفصة على جعفر البرمكي فقال له: ويحك، أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة، فقال: بل أنشدك مديحي فيك، فقال جعفر: أنشدني مرثيتك في معن، فأنشأ يقول:
    وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا حتى فرغ من القصيدة، وجعل جعفر يرسل دموعه على خديه، فلما فرغ قال له جعفر: هل أثابك على هذه المرثية أحد من ولده وأهله شيئاً قال: 
    لا: قال جعفر: فلو كان معن حياً ثم سمعها منك كم كان يثيبك عليها قال: أصلح الله الوزير، أربعمائة دينار، قال جعفر: فأنا نظن أنه كان لا يرضى لك بذلك، قد أمرنا لك عن معن، رحمه الله تعالى، بالضعف مما ظننت، وزدناك نحن مثل ذلك، فاقبض من الخازن ألفاً وستمائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك، فقال مروان يذكر جعفراً وما سمح به عن معن:
    نفحت مكافئاً عن قبر معن ... لنا مما تجود به سجالا
    فعجلت العطية يا ابن يحيى ... لنادبه ولم ترد المطالا
    فكافأ عن صدى معن جواد ... بأجود راحة بذل النوالا
    بنى لك خالد وأبوك يحيى ... بناء في المكارم لن ينالا
    كأن البرمكي بكل مال ... تجود به يداه يفيد مالا ثم قبض المال وانصرف.
    وحكى أبو الفرج الاصبهاني في كتاب الأغاني عن محمد البيذق النديم أنه دخل على هارون الرشيد، فقال له: أنشدني مرثية مروان بن أبي حفصة في معن ابن زائدة، فأنشده بعض هذه القصيدة، فبكى الرشيد، قال: وكان بين يديه سكرجة فملأها من دموعه.
    ويقال: أن مروان بعد هذه القصيدة المرثية (1) لم ينتفع بشعره، فإنه كان إذا مدح خليفة أو من دونه قال له: أنت قلت في مرثيتك:
    وقلنا أين نرحل بعد معن ... وقد ذهبت النوال فلا نوالا فلا يعطيه الممدوح شيئاً، ولا يسمع قصيدته.
    حدث الفضل ابن الربيع قال (2) : رأيت مروان بن أبي حفصة وقد دخل على المهدي بعد موت معن بن زائدة في جماعة من الشعراء فيهم سلم الخاسر وغيره، فأنشده مديحاً، فقال له: من أنت فقال: شاعرك مروان بن أبي حفصة،
    فقال له المهدي: ألست القائل:
    وقلنا أين نرحل بعد معن ... وأنشده البيت المذكور، وقد جئت تطلب نوالنا وقد ذهب النوال! لا شيء لك عندنا، جروا برجله، قال: فجروا برجله حتى أخرجوه، فلما كان في العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء، وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء في ذلك الحين في كل عام مرة، قال: فمثل بين يديه وأنشده قصيدته التي أولها:
    طرقتك زائرة فحي خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها
    قادت فؤادك فاستقاد ومثلها ... قاد القلوب إلى الصبا فأمالها فأنصت له حتى بلغ إلى قوله:
    هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفكم أو تسترون هلالها (1) وقد تقد ذكر بعضها في ترجمة مروان، قال: فأنصت له المهدي، ولم يزل يزحف كلما سمع شيئاً فشيئاً منها، حتى صار على البساط إعجاباً بما سمع، ثم قال له: كم بيت هي فقال: مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم، وهذا يخالف ما ذكرناه في ترجمته، لكنه يختلف باختلاف الروايات، ويقال إنها أول مائة ألف أعطيها شاعر في خلافة بني العباس. قال الفضل بن الربيع فلم تلبث الأيام أن (2) أفضت الخلافة إلى هارون الرشيد، ولقد رأيت مروان مائلاً مع الشعراء بين يديه، وقد أنشده شعراً، فقال له: من أنت فقال: شاعرك مروان بن أبي حفصة، فقال له: ألست القائل في معن كذا، وأنشده البيت، ثم قال: خذوا بيده فأخرجوه فإنه لا شيء له عندنا، ثم تلطف حتى دخل عليه بعد ذلك، فأنشده فأحسن جائزته (3) .ومن المراثي النادرة أيضاً أبيات الحسين بن مطير بن الأشيم الأسدي في معن بن زائدة أيضاً، وهي من أبيات الحماسة (1) :
    ألما على معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
    فيا قبر كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
    ويا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطت للمكارم مضجعا
    بلى قد وسعت الجود، والجود ميت ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
    فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
    ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا وقد سبق لمعن في ترجمة الصاحب بن عباد نادرة مستظرفة (2) فلا حاجة على إعادتها هنا، ولولا خوف الإطالة لأتيت من محاسنه بكل نادرة بديعة.
    والحوفزان بن شريك الشيباني الموصوف بالكرم والشجاعة أخو جده مطر بن شريك، وإنما قيل له الحوفزان لأن قيس بن عاصم المنقري حفزه بالرمح حين خاف أن يفوته، ومعنى حفزه أي دفعه من خلفه، واسم الحوفزان الحارث بن شريك، وقيل إن الذي حفزه بسطام بن قيس الشيباني، والأول أصلح، والله تعالى أعلم بالصواب.

أبو عبيدة معمر بن المثنى

    أبو عبيدة معمر بن المثنى، التميمي بالولاء، تيم قريش، البصري النحوي العلامة؛ قال الجاحظ في حقه: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه. وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف (4) : كان الغريب أغلب عليه وأخبار العرب وأيامها، وكان مع معرفته ربما لم يقم البيت إذا أنشده حتى يكسره، وكان يخطئ إذا قرأ القرآن الكريم نظراً، وكان يبغض العرب، وألف في مثالبها كتباً، وكان يرى رأي الخوارج.
    وقال غيره: إن هارون الرشيد أقدمه من البصرة إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائة، وقرأ عليه بها أشياء (5) من كتبه، وأسند الحديث إلى هشام بن عروة وغيره، وروى عنه علي بن المغيرة الأثرم وأبو عبد القاسم بن سلام - المقدم 
    ذكره - وأبو عثمان المازني وأبو حاتم السجستاني وعمر بن شبة النميري، وغيرهم، وقد تقدم ذكر هؤلاء جميعهم.
    وقال أبو عبيدة: أرسل إلي الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه، فقدمت عليه، وكنت أخبر عن تجبره، فأذن لي، فدخلت عليه وهو في مجلس طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه، وفي صدره فرش عاليةلايرتقى عليها إلابكرسي وهو جالس على الفرش، فسلمت عليه بالوزارة، فرد وضحك إلي واستد ناني حتى جلست معه على فرشه، ثم سألني وبسطني وتلطف بي وقال: أنشدني، فأنشدته من عيون أشعار أحفظها جاهلية، فقال لي: قد عرفت أكثر هذه وأريد من ملح الشعر، فأنشدته، فطرب وضحك وزاد نشاطاً، ثم دخل رجل في زي الكتاب وله هيئة حسنة، فأجلسه إلى جانبي، وقال له: أتعرف هذا قال: لا، فقال: هذاأبو عبيدة علامة أهل البصرة أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا الرجل وقرظه لفعله هذا، ثم التفت إلي وقال لي: كنت إليك مشتاقاً، وقد سئلت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرفك إياها قلت: هات، فقال: قال الله تعالى " طلعها كأنه رءوس الشياطين " الصافات: - 65 -، وإنما يقع الوعد والايعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف، قال: فقلت: إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
    أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة رزق كأنياب أغوال وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل، وأزمعت منذ ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه، ولما يحتاج إليه من علمه، ولما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز وسألت عن الرجل فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه.
    وقال أبو عثمان المازني (1) ، سمعت أبا عبيدة يقول: أدخلت على هارون الرشيد 
    فقال لي: يا معمر، بلغني أن عندك كتاباً حسناً في صفة الخيل أحب أن أسمعه منك، فقال الأصمعي: وما تصنع بالكتب يحضر فرس ونضع أيدينا على عضو عضو منه ونسميه ونذكر ما فيه، فقال الرشيد: يا غلام، فرس، فأحضر فرس (1) فقام الاصمعي فجعل يضع يده على عضو عضو منه ويقول: هذا كذا، قال فيه الشاعر كذا، حتى انقضى قوله، فقال لي الرشيد: ما تقول فيما قال فقلت: أصاب في بعض وأخطأ في بعض، والذي أصاب فيه مني تعلمه، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به.
    وبلغ أبا عبيدة أن الأصمعي يعيب عليه كتاب المجاز، فقال: يتكلم في كتاب الله تعالى برأيه؛ فسأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم ومر بحلقته، فنزل عن حماره وسلم عليه، وجلس عنده وحادثه ثم قال له: أبا سعيد، ما تقول في الخبز، أي شيء هو فقال: هو الذي تخبزه وتأكله، فقال أبو عبيدة: فقد فسرت كتاب الله تعالى برأيك، فإن الله تعالى قال: وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً يوسف: - 26 -،فقال الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته ولم أفسره برأيي، فقال أبو عبيدة: والذي تعيب علينا كله شيء بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا، وقام فركب حماره وانصرف.
    وزعم الباهلي صاحب كتاب المعاني أن طلبة العلم كانوا إذا أتو مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر، لأن الأصمعي كان حسن الانشاد والزخرفة لردئ الأخبار والأشعار حتى يحسن عنده القبح، وإن الفائدة عنده مع ذلك قليلة، وإن أبا عبيدة كان معه سوء عبارة مع فوائد كثيرة وعلوم جمة، ولم يكن أبو عبيدة يفسر الشعر.
    وقال المبرد: كان أبو زيد الانصاري أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكانا بعده يتقاربان، وكان أبو عبيدة أكمل القوم، وكان علي بن المديني يحسن ذكر أبي عبيدة ويصحح روايته، وقال: كان لا يحكي عن العرب إلا الشيء 
    الصحيح. وحمل أو عبيدة والأصمعي إلى هارون الرشيد للمجالسة، فاختار الأصمعي لأنه كان أصلح للمنادمة.
    وكان أبو نواس يتعلم من أبي عبيدة ويصفه ويشنأ الأصمعي ويهجره، فقيل له: ما تقول في الأصمعي فقال: بلبل في قفص، قيل له: فما تقول في خلف الأحمر فقال: جمع علوم الناس وفهمها، قيل: فما تقول في أبي عبيدة فقال: ذاك أديم طوي على علم (1) .
    وقال إسحاق بن إبراهيم النديم الموصلي يخاطب الفضل بن الربيع، يمدح أبا عبيدة ويذم الأصمعي (2) :
    عليك أبي عبيدة فاصطنعه ... فإن العلم عند أبي عبيده
    وقدمه وآثر علي ... ودع عنه القريد بن القريده وكان أبو عبيدة إذا أنشد بيتاً لا يقيم وزنه، وإذا تحدث أو قرأ لحن عتماداً منه لذلك، ويقول: النحو محدود.
    ولم يزل يصنف حتى مات؛ وتصانيفه تقارب مائتي تصنيف: فمنها كتاب " مجاز القرآن الكريم " وكتاب غريب القرآن وكتاب معاني القرآن وكتاب غريب الحديث وكتاب الديباج وكتاب التاج وكتاب الحدود وكتاب خراسان وكتاب خوارج البحرين واليمامة وكتاب الموالي وكتاب البله وكتاب الضيفان وكتاب مرج (3) راهط وكتاب المنافرات وكتاب القبائل وكتاب خبر البراض وكتاب القرائن وكتاب الببازي وكتاب الحمام وكتاب الحيات وكتاب العقارب وكتاب النواكح (4) وكتاب 
    النواشز (1) وكتاب حضر الخيل وكتاب الأعيان وكتاب بيان بالهلة وكتاب أيادي الأزد وكتاب الخيل وكتاب الإبل وكتاب الإنسان وكتاب الزرع وكتاب الرحل وكتاب الدلو وكتاب البكرة وكتاب السرج وكتاب اللجام وكتاب الفرس وكتاب السيف وكتاب الشوارد وكتاب الاحتلام وكتاب مقاتل الفرسان وكتاب مقاتل الأشراف وكتاب الشعر والشعراء وكتاب فعل وأفعل وكتاب المثالب وكتاب خلق الإنسان وكتاب الفرق وكتاب الخف وكتاب مكة والحرم وكتاب الجمل وصفين وكتاب بيوتات العرب وكتاب اللغات وكتاب الغازات وكتاب المعاتبات وكتاب الملاومات وكتاب الأضداد وكتاب مآثر العرب وكتاب مآثر غطفان وكتاب أدعية العرب وكتاب مقتل عثمان رضي الله عنه وكتاب أسماء الخيل وكتاب العققة وكتاب قضاة (2) البصرة وكتاب فتوح الأهواز وكتاب فتوح أرمينية وكتاب لصوص العرب وكتاب أخبار الحجاج وكتاب قصة الكعبة وكتاب الحمس من قريش وكتاب فضائل الفرس (3) وكتاب ما تلحن فيه العامة وكتاب السواد وفتحه وكتاب من شكر العمال وحمد (4) وكتاب الجمع والتثنية " وكتاب المجلة الأولى والثانية، وكتاب البيضة (5) وكتاب الأوس والخزرج وكتاب محمد وإبراهيم ابني عبد الله ابن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وكتاب الأيام الصغير، خمسة وسبعون يوماً، وكتاب الأيام الكبير، ألف ومائتا يوم، وكتاب أيام بني مازن وأخبارهم وغير ذلك من الكتب النافعة، ولولا خوف الإطالة لذكرت (6) جميعها.
     [ولما جمع كتاب المثالب، قال له رجل مطعون النسب: بلغني أنك عبت العرب جميعها، فقال: وما يضرك أنت من ذلك برئ، يعني أنه ليس منهم (1) .
    وقال أبو عبيدة: لما قدمت على الفضل بن الربيع قال لي: من أشعر الناس فقلت: الراعي، قال: وكيف فضلته على غيره فقلت: لأنه ورد على سعيد ابن عبد الرحمن الأموي فوصله في يومه الذي لقيه فيه وصرفه، فقال يصف حاله معه:
    وأنضاء تحن إلى سعيد ... طروقاً ثم عجلن ابتكارا
    حمدن مناخه وأصبن منه ... عطاء لم يكن عدة ضمارا فقال الفضل: ما أحسن ما اقتضيتنا يا أبا عبيدة، ثم غدا إلى هارون الرشيد فأخرج لي صلة، وأمر لي بشيء من ماله وصرفني.
    وكان أبو عبيدة من موالي بني عبيد الله بن معمر التيمي، وقال له بعض الأجلاء: تقع في الناس فمن أبوك فقال: أخبرني أبي عن أبيه أنه كان يهودياً من أهل باجروان، فمضى الرجل وتركه.
    وكان أبو عبيدة جباهاً، لم يكن بالبصرة أحد إلا وهو يداجيه ويتقيه على عرضه؛ وخرج إلى بلاد فارس قاصداً موسى بن عبد الرحمن الهلالي، فلما قدم عليه قال لغلمانه: احترزوا من أبي عبيدة، فإن كلامه كله دق، ثم حضر الطعام فصب بعض الغلمان على ذيله مرقة، فقال له موسى: قد أصاب ثوبك مرق، وأنا أعطيك عوضه عشر (2) ثياب، فقال أبو عبيدة: لا عليك، فإن مرقكم لا يؤذي، أي ما فيه دهن، ففطن لها موسى وسكت.
    وكان الأصمعي إذا أراد دخول المسجد قال: انظروا لا يكون فيه ذاك، يعني أبا عبيدة، خوفاً من لسانه، فلما مات لم يحضر جنازته أحد، لأنه لم يكن يسلم من لسانه شريف ولا غيره.
    وكلن وسخاً ألثغ مدخول النسب مدخول الدين يميل إلى مذهب الخوارج،
    قال أبو حاتم السجستاني: كان أبو عبيدة يكرمني على أنني من خوارج سجستان. وقال الثوري: دخلت المسجد على أبي عبيدة، وهو ينكت الأرض جالساً وحده فقال لي: من القائل:
    أقول لها وقد جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي فقلت له: قطري بن الفجاءة، فقال: فض الله فاك! هلا قلت: هو لأمير المؤمنين أبي نعامة، ثم قال لي: اجلس، واكتم على ما سمعت مني، قال: فما ذكرته حتى مات.
    قلت أنا: وهذه الحكاية فيها نظر، لأن البيت من جملة أبيات لعمرو ابن الإطنابة الخزرجي الأنصاري، والإطنابة أمه، وسام أبيه زيد مناة، لا يكاد يخالف فيه أحد من أهل الأدب، فإنها أبيات مشهورة للشاعر المذكور.
    وذكر المبرد في كتاب الكامل (1) أن معاوية بن أبي سفيان الأموي قال: اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر آدابكم، فإن فيه مآثر أسلافكم، ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير وقد عزمت على الفرار فما ردني، إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري:
    أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
    وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
    وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
    لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صريح رجعنا إلى حديث أبي عبيدة:
    وكان لا يقبل شهادته أحد من الحكام أنه كان يتهم بالميل إلى الغلمان؛ قال الأصمعي: دخلت أنا وأبو عبيدة يوماً المسجد، فإذا على الاسطوانة التي 
    يجلس إليها أبو عبيدة مكتوب على نحو من سبعة أذرع:
    صلى الإله على لوط وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله أمينا فقال لي: يا أصمعي، امح هذا، فركبت على ظهره ومحوته بعد أن أثقلته إلى أن قال: أثقلتني وقطعت ظهري، فقلت له: قد بقيت الطاء، فقال: هي شر حروف هذا البيت؛ وقيل إنه لما ركب ظهره وأثقله قال له: عجل، فقال: قد بقي لوط، فقال: من هذا نفر. وكان الذي كتب البيت أبو نواس الحسن بن هانئ المقدم ذكره.
    وقيل إنه وجدت رقاع في مجلس أبي عبيدة هذا البيت فيها، وبعده:
    فأنت عندي بلا شك بقيتهم ... منذ احتملت وقد جاوزت سبعينا (1) وقال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار في باب الأسماء والكنى والأقاب: سأل رجل أباعبيدة عن اسم رجل، فما عرفه، فقال كيسان: أنا أعرف الناس به، هو: خداش، أو خراش أو رياش أو شيء آخر، فقال أبو عبيدة: ما أحسن ما عرفته! فقال: إي والله، وهو قرشي أيضاً، قال: فما يدريك قال: أما ترى كيف احتوشته الشينات من كل جانب (2)
    وأخبار أبي عبيدة كثيرة؛ وكانت ولادته في رجب سنة عشر ومائة، في الليلة التي توفي فيها الحسن البصري، رضي الله عنه، وقد تقدم ذكره، وقيل في سنة إحدى عشرة ومائة، وقيل أربع عشرة، وقيل ثمان، وقيل تسع، والأول أصح؛ والذي يدل عليه أن الأمير جعفربن سليمان بن علي بن عبد الله ابن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه سأله عن مولده فقال: قد سبقني إلى الجواب عن مثل هذا عمر بن أبي ربيعة المخزومي وقد قيل له: متى ولدت فقال: في الليلة التي مات فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأي خير رفع وأي شر وضع وإني ولدت في الليلة التي مات فيها الحسن البصري وجوابي  
    جواب عمر بن أبي ربعة. وقد تقدم في ترجمة ابن أبي ربيعة هذا الجواب منسوباً إلى الحسن البصري رضي الله عنه، فلينظر هناك؛ وتوفي سنة تسع ومائتين بالبصرة وقيل سنة إحدى عشرة، وقيل سنة عشر، وقيل ثلاث عشرة ومائتين رحمه الله تعالى. وكان سبب موته أن محمد بن القاسم بن سهل النوشجاني أطعمه موزاً فمات منه، ثم أتاه أبو العتاهية فقدم إليه موزاً، فقال له: ما هذا يا أبا جعفر قتلت أبا عبيدة بالموز، وتريد أن تقتلني به لقد استحليت قتل العلماء!.
    وأبو عبيدة: بضم العين المهملة وإثبات الهاء في آخره، بخلاف القاسم بن سلام المقدم ذكره فإنه أبو عبيدة، بغير هاء.
    ومعمر: بفتح الميمين بينهما عين مهملة وفي آخره الراء.
    والمثنى: بضم الميم وفتح الثاء المثلثة وتشديد النون المفتوحة وفي آخره ياء مثناة من تحتها.
    وباجروان التي والده منها: بفتح الباء الموحدة وبعد الألف جيم مفتوحة ثم راء ساكنة وبعدها واو مفتوحة وبعد الألف نون، وهو اسم لقرية من بلاد البليخ من أعمال الرقة، واسم المدينة بنواحي أرمينية من أعمال شروان عندها - فيما قيل - عين الحياة التي وجدها الخضر عليه السلام، وغالب ظني أن أبا عبيدة من هذه المدينة. وقيل إن باجروان اسم للقرية التي استطعم أهلها موسى والخضر عليهما السلام.
    والنوشجاني: بضم النون وسكون الواو والشين المعجمة وفتح الجيم وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى نوشجان، وهي بلدة من بلاد فارس، والله تعالى أعلم بالصواب.

المعز باديس الصنهاجي

    المعز بن باديس بن المنصور بن بلكين بن زيري بن مناد الحميري الصنهاجي، صاحب إفريقية وما والاها من بلاد المغرب، وقد سبق تمام نسبه عند ذكر ولده الأمير تميم، وكان الحاكم صاحب مصر قد لققبه شرف الدولة، وسير له تشريفاً وسجلاً يتضمن اللقب المذكور، وذلك في ذي الحجة سنة سبع وأربعمائة. وكان ملكاً جليلاً عالي الهمة، محباً لأهل العلم كثير العطاء، وكان واسطة عقد بيته - وقد تقدم ذكر أبيه وجده وجد أبيه - ومدحه الشعراء وانتجعه الأدباء، وكانت حضرته نحط بني الآمال. وكان مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه يإفريقية أظهر المذاهب، فحمل المعز المذكور جميع أهل المغرب على التمسك بمذهب الإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه، وحسم مادة الخلاف في الذاهب واستمر الحال في ذلك إلى الآن.
    وقد تقدم في خبر المستنصر بالله العبيدي أن المعز المذكور قطع خطبته وخلع طاعته، فلما فعل ذلك خطب للإمام القائم بأمر الله خليفة بغداد، فكتب إليه المستنصر يتهدده ويقول له: هلا اقتفيت آثار آبائك في الطاعة والولاء، في كلام طويل، فأجابه المعز: إن آبائي وأجدادي كانوا ملوك الغرب قبل أن تملكه أسلافك، ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم، ولو أخروهم لتقدموا بأسيافهم؛ واستمر على قطع الخطبة، ولم يخطب بعد ذلك بإفريقية لأحد من المصرينن إلى اليوم.
    وأخبار المعز كثيرة وسيرته مشهورة، فلا حاجة إلى الإطالة، وله شعر قليل لم أقف منه على شيء.
    وكان المعز يوماً جالساً في مجلسه وعنده جماعة من الادباء، وبين يديه أترجة ذات أصابع، فأمرهم المعز أن يعملوا فيها شيئاً، فعمل أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني الشاعر المقدم ذكره (1) :
    أترجة سبطة الأطراف ناعمة ... تلقى العيون بحسن غير منحوس
    كأنما بسطت كفا لخالقها ... تدعو بطول بقاء لابن باديس فاستحسن ذلك منه وفضله على من حضر من الجماعة الأدباء.
    وكانت ولادته بالمنصورية، ويقال لها صبرة، من أعمال إفريقية، يوم الخميس لخمس مضين من جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وملك بعد أبيه باديس في التاريخ المذكور في ترجمته، وبويع بالمحمدية من أعمال إفريقية أيضاً يوم السبت لثلاث مضين من ذي الحجة سنة ست وأربعمائة. وتوفي رابع شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة بالقيروان، من أصابه وهو ضعيف الكبد، ولم تطل مدة أحد من أهل بيته في الولاية كمدته، ورثاه أبو علي الحسن بن 
    رشيق - المقدم ذكره - بأبيات على روي الكاف (1) ، أضربت عن ذكرها (2) خوف الإطالة.
    وهذا المعز لا يعرف له اسم سوى المعز، مع أني كشفت عنه كشفاً تاماً من الكتب وأفواه العلماء وأهل المغرب، فلم يذكر أحد سوى المعز، ولاتعرف كنيته أيضاً، والظاهر أن هذا اسمه، فإن أهل بيته لم يكن فيهم من تلقب حتى يقال هذا لقب، فأ على قدر ما وجدته، والله تعالى أعلم بالصواب.

معروف الكرخي

    أبو محفوظ معروف بن فيروز، وقيل الفيروزان، وقيل علي، الكرخي الصالح المشهور، وهو من موالي علي بن موسى الرضا - وقد تقدم ذكره.
    وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدبهم وهو صبي، فكان المؤدب يقول له: قل ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فضربه المعلم على ذلك ضرباً مبرحاً فهرب منه. وكان أبواه يقولان: ليته يرجع إلينا على أي دين شاء فنوافقه عليه، ثم إنه أسلم على يد علي بن موسى الرضا، ورجع إلى أبويه 
    فدق الباب، فقيل له: من بالباب فقال: معروف، فقيل له: على أي دين فقال: على الاسلام، فأسلم أبواه.
    وكان مشهوراً بإجابة الدعوة، وأهل بغداد يستسقون بقبره ويقولون: قبر معروف ترياق مجرب. وكان سري السقطي المقدم ذكره تلميذه، وقال له يوماً: إذا كانت لك حاجة إلى الله تعالى فأقسم عليه بي. وقال سري السقطي: رأيت معروفاً الكرخي في النوم (1) كأنه تحت العرش، والباري جلت قدرته يقول لملائكته: من هذا وهو يقولون: أنت أعلم يا ربنا منا، فقال: هذا معروف الكرخي سكر من حبي فلا يفيق ألا بلقائي.
    وقال معروف: قال لي بعض أصحاب داود الطائي: إياك أن تترك العمل، فإن ذلك الذي يقربك إلى رضا مولاك، فقلت: وما ذلك العمل قال: دوام الطاعة لمولاك (2) ، وحرمة المسلمين، والنصيحة لهم.
    وقال محمد بن الحسين، سمعت أبي يقول: رأيت معروفاً الكرخي في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي، فقلت: بزهدك وورعك فقال: لا بل بقبول موعظة ابن السماك ولزومي الفقر ومحبتي للفقراء. وكانت موعظة ابن السماك ما رواه معروف قال: كنت ماراً بالكوفة فوقفت على رجل يقال له ابن السماك وهو يعظ الناس، فقال في خلال كلامه: من أعرض عن الله بكليته أعرض عنه الله جملة، ومن أقبل على الله تعالى بقلبه أقبل الله تعالى برحمته عليه، وأقبل بوجوه الخلق إليه، ومن كان مرة ومرة فالله تعالى يرحمه وقتاً ما، فوقع كلامه في قلبي وأقبلت على الله تعالى وتركت جميع ما كنت عليه إلا خدمة مولاي علي بن موسى الرضا، وذكرت هذا الكلام لمولاي فقال: يكفيك هذا موعظة إن اتعظت.
    وقد تقدم ذكر ابن السماك في المحمدين.
    وقيل لمعروف في مرض موته: أوص، فقال: إذا مت فتصدوا بقميصي فإني أريد أن أخرج من الدينا عرياناً كما دخلتها عرياناً؛ ومر معروف بسقاء وهو يقول: رحم الله من يشرب، فتقدم وشرب، وكان صائماً، فقيل له: ألم تك صائماً قال: بلى، ولكن رجوت دعاءه.
    وأخبار معروف ومحاسنه أكثر من أن تعد؛ وتوفي سنة مائتين، وقيل إحدى ومائتين، وقيل أربع ومائتين ببغداد، وقبره مشهور بها يزار، رحمه الله تعالى.
    والكرخي: بفتح الكاف وسكون الرء وبعدها خاء معجمة، هذه النسبة إلى الكرخ، وهو اسم تسع مواضع ذكرها ياقوت الحموي في كتابه، وأشهرها كرخ بغداد، والصحيح أن معروفاً الكرخي منه، وقيل إنه من كرخ جدان - بضم الجيم وتشديد الدال المهملة وبعد الألف نون - وهي بليدة بالعراق تفصل بين ولاية خانقين وشهرزور، والله تعالى أعلم بالصواب.

المستنصر العبيدي

    أبو تميم معد الملقب المستنصر بالله بن الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم بن العزيز بن المعز لدين الله المذكور قبله، وقد تقدم بقية النسب؛ بويع بالمر بعد موت والده الظاهر، وذلك يوم الأحد النصف من شعبان سنة سبع وشعرين وأربعمائة، وجرى على أيامه ما لم يجر على أيام أحد من أهل بيته ممن تقدمه ولا تأخره:
    منها قضية أبي الحارث أرسلان البساسيري - المقدم ذكره في حرف الهمزة - فإنه لما عظم أمره، وكبر شأنه ببغداد قطع خطبة الإمام القائم، وخطب للمسنصر المذكور، وذلك في سنة خمسين وأربعمائة، ودعا له منابرها مدة سنة.
    ومنها أنه ثار في أيامه علي بن محمد الصليحي - المقدم ذكره - وملك بلاد اليمن كما شرحنا، ودعا للمسنصر على منابرها بعد الخطبة، وهو شمهور فلا حاجة إلى الإطالة في شرحه.
    ومنها أنه أقام في الأمر ستين سنة، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من بني العباس.
    ومنها أنه ولي الأمر وهو ابن سبع سنين.
    ومنها أن دعوتهم لم تزل قائمة بالمغرب منذ قام جدهم المهدي - المقدم ذكره - إلى أيام المعز المذكور قبله، ولما توجه المعز إلى مصر واستخلف بلكين بن زيري حسبما شرحناه، كانت الخطبة في تلك النواحي جارية على عادتها لهذا البيت، إلى أن قطعها المعز بن باديس - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - في أيام المستنصر المذكور، وذلك في سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وقال في " تاريخ القيروان " (1) : إن ذلك كان في سنة خمس وثلاثين، والله تعالى أعلم بالصواب. وفي سنة تسع قطع اسمه واسم آبائه من الحرمين الشريفين، وذكر اسم المقتدي خليفة بغداد، والشرح في ذلك يطول.
    ومنها أنه حدث في أيامه الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وأقام سبع سنين، وأكل الناس بعضهم بعضاً، حتى قيل أنه بيع رغيف واحد بخمسين ديناراً، وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده، وكل من معه من الخواص مترجلون ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع، وكان المستنصر يستعير من ابن هبة صاحب ديوان الإنشاء بغلته ليركبها صاحب مظلته، وآخر الأمر توجهت أم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع، وذلك في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتفرق أهل مصر في البلاد وتشتتوا، ولم يزل هذا الأمر على شدته حنى تحرك بدر الجمالي والد الفضل أمير الجيوش من عكا وركب البحر - حسبما شرحناه في ترجمة ولده الأفضل شاهنشاه - وجاء إلى مصر وتولى تدبير الأمور فانصلحت، وشرح ذلك يطول.
    وكانت ولادة المستنصر صبيحة يوم الثلاثاء لثلاث عرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة (2) ، وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقين من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.
    قلت: وهذه الليلة هي ليلة عيد الغدير، أعني ليلة الثامن عشر من ذي الحجة وهو غدير خم - بضم الخاء وتشديد الميم - ورأيت جماعة كثيرة يسألون عن هذه الليلة حتى كانت من ذي الحجة وهذا المكان بين مكة والمدينة، وفيه غدير ماء، ويقال إنه غيضة هناك، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، شرفها الله تعالى، عام حجة الوداع، وصل إلى هذا المكان وآخى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: " علي مني كهارون من موسى، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله "، وللشيعة به تعلق كبير (1) .
    وقال الحازمي: هو وادٍ بين مكة والمدينة عند الجحفة به غدير عنده خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الوادي موصوف بكثرة الوخامة وشدة الحر .
    وقد تقدم ذكر جماعة من أهل بيته وسيأتي ذكر الباقين كل واح في موضعه إن شاء الله تعالى، والله أعلم بالصواب.

المعز العبيدي

أبو تميم معد، الملقب المعز لدين الله، بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله. وقد تقدم ذكر والده وجده وجد أبيه وطرف من أخبارهم؛ وكان 
    المعز المذكور قد بويع بولاية العهد في حياة أبيه المنصور إسماعيل ثم جددت له البيعة بعد وفاته (1) في التاريخ المذكور في ترجمته، ودبر الأمور وساسها وأجراها على أحسن أحكامها إلى يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وثلثمائة، فجلس يومئذ عل سرير ملكه، دخل عليه الخاصة وكثير من العامة، سلموا عليه بالخلافة، وتمسى بالمعز، ولم يظهر على أبيه حزناً.
    ثم خرج إلى بلاد إفريقية يطوف فيها، ليمهد قواعدها ويقرر أسبابها، فانقاد له العصاة من أهل تلك البلاد ودخلوا في طاعته، وعقد لغلمانه، وأتباعه على الأعمال، واستندب لكل ناحية من يعلم كفايته وشهامته، وضم إلى كل واحد منهم جمعاً كبيراً من الجند وأرباب السلاح.
    ثم جهز أبا الحسن جوهراً (2) القائد - المذكور في حرف الجيم - ومه جيش كثيف، ليفتح ما استعصى عليه من بلاد (3) المغرب، فسار إلى فاس، ثم منها إلى سجلماسة ففتحها، ثم توجه إلى البحر المحيط وصاد من سمكه وجعله في قلال الماء (4) ، وأرسله إلى المعز، ثم رجع إلى المعز ومعه صاحب سجلمانة وساحب فاس أسيرين في قفصي حديد، والشرح في ذلك يطول. وخلاصة الأمر: أنه ما رجع القائد جوهر إلى ملولاه المعز إلا وقد وطد له البلاد، وحكم على أهل الزيغ والعناد من باب إفريقية إلى البحر المحيط في جهة الغرب، وفي جهة الشرق من باب إفريقية إلى أعمال مصر، ولم يبق بلد من هذه البلاد إلا أقيمت فيه دعوته وخطب به في جعمته (5) وجماعته، إلا مدينة سبتة فإنها بقيت لبني أمية أصحاب الأندلس.
    ولما وصل الخبر إلى المعز المذكور بموت كافور الإخشيدي صاحب مصر - حسبما شرحناه في ترجمته من هذا الكتاب - تقدم المعز إلى القائد جوهر المذكور
    ليتجهز للخروج إلى مصر، فخرج أولاً إلى جهة المغرب لإصلاح أموره، وكان معه جيش عظيم، وجمع قبائل العرب الذي يتوجه بهم إلى مصر، جبى القطائع التي كانت على البربر فكانت خمسمائة ألف دينار.
    وخرج المعز بنفسه في الشتاء إلى المهدية، فأخرج من قصور آبائه خمسمائة حمل دنانير وعاد إلى قصره.
    ولما عاد جوهر بالرجال والأموال، وكان قدومه على المعز يوم الأحد لثلاث بقين من المحرم سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، أمره المعز بالخروج إلى مصر، فخرج ومعه أنواع القبائل - وقد ذكرت في ترجمة جوهر تاريخ خروجه وتاريخ وصوله إلى مصر فأغنى عن الإعادة " مفصلاً ها هنا " (1) - وأنفق المعز في العسكرالمسير صحبته أموالاً كثيرة، حتى أعطى من ألف دينار إلى عشرين ديناراً، وغمر الناس بالعطاء، وتصرفوا في القيروان وصبرة في شراء جميع حوائجهم (2) ؛ ورحلوا ومعه ألف (3) حمل من الماء والسلاح، ومن الخيل والعدد ما لا يوصف، وكان بمصر في تلك السنة غلاء عظيم ووباء، حتى مات في مصر وأعمالها في تلك المدة ستمائة ألف إنسان على ما قيل.
    ولما كان منتصف شهر رمضان المعظم سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وصلت البشارة إلى المعز بفتح الديار المصرية ودخول عساكره إليها، ثم وصلته النجب بعد ذلك تخبره بصورة الفتح، وكانت كتب جوهر ترد إلى المعز باستدعائه إلى مصر وتحثه كل وقت على ذلك، ثم سير (4) إليه يخبره بانتظام الحال بمصر والشام والحجاز وإقامة الدعوة له بهذه المواضع، فسر المعز بذلك سروراً عظيماً. ولما تقررت قواعده بالديار المصرية استخلف على إفريقية بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي - المذكور في حرف الباء - وخرج المعز متوجهاً بأموال جليلة المقدار ورجال عظيمة الأخطار. وكان خروجه من المنصورية دار ملكه يوم 
    ذاك يوم الاثنين، لثمان بقين من شوال سنة إحدى وستين وثلثمائة، وانتقل إلى سردانية، أقام بها ليجتمع رجاله وأتباعه ومن يستصحبه معه. وفي هذه المنزلة عقد العهد لبلكين في التاريخ المذكور في ترجمته، ورحل عنها يوم الخميس خامس صفر سنة اثنتين وستين وثلثمائة. ولم يزل في طريقه يقيم بعض الأوقات في بعض البلاد أياماً ويجد السير في بعضها، وكان اجتيازه على برقة، ودخل الاسكندرية يوم السبت لست بقين من شعبان من السنة المذكورة وركب فيها (1) ودخل الحمام، وقدم عليه بها قاضي مصر - وهو أبو طاهر محمد ابن أحمد - وأعيان أهل البلاد، وسلموا عليه، وجلس لهم عند المنارة وخاطبهم بخطاب طويل يخبرهم فيه أنه لم يرد دخول مصر لزيادة في ملكه ولا لمال، وإنما أراد إقامة الحق والحج والجهاد، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة، ويعمل بما أمر به جده صلى الله عليه وسلم، ووعظهم وأطال حتى بكى بعض الحاضرين، وخلع على القاضي وبعض الجماعة وحملهم، وودعوه وانصرفوا ثم رحل منها في أواخر شعبان.
    ونزل يوم السبت ثاني شهر رمضان المعظم على ميناء ساحل مصر بالجيزة (2) ، فخرج إليه القائد جوهر وترجل عند لقائه وقبل الأرض بين يديه، وبالجيزة أيضاً اجتمع به الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات - المذكور في حرف الجيم - وأقام المعز هناك ثلاثة أيام، وأخذ العسكر في التعدية بأثقالهم إلى ساحل مصر. ولما كان يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر رمضان المعظيم من السنة، عبر المعز النيل ودخل القاهرة، ولم يدخل مصر، وكانت قد زينت له، وظنوا أنه يدخلها، وأهل القاهرة لم يستعدوا للقائه لأنهم بنوا الأمر على دخوله أولاً، ولما دخل القاهرة ودخل القصر ودخل مجلساً منه خر ساجداً لله تعالى، ثم صلى ركعتين وانصرف الناس عنه.
    وهذا المعز هو الذي تنسب إليه القاهرة، فيقال القاهرة المعزية، لأنه الذي بناها القائد جوهر له.
    وفي يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة أربع وستين عزل المعز القائد جوهراً عن دواواين مصر وجباية أموالها والنظر في سائر أمورها.
    وقد ذكرنا في ترجمة الشريف عبد الله بن طباطبا ما دار بينه وبين المعز من السؤال عن نسبه وما أجابه به وما اعتمده بعد الدخول إلى القصر.
    وكان المعز عاقلاً حازماً سرياً أدبياً حسن النظر في النجامة، وينسب إليه من الشعر قوله:
    لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجز في المعاجز
    أمضى وأقضى في النفو ... س من الخناجر في الحناجر
    ولقد تعبت بينكم ... تعب المهاجر في الهواجر وينسب إليه أيضاً:
    أطلع الحسن من جبينك شمساً ... فوق ورد وجنتك أطلا
    وكأن الجمال خاف على الور ... د جفافاً فمد بالشعر ظلا وهو معنى غريب بديع.
    وقد مضى ذكر ولده تميم وشيء من شعره، وسيأتي ذكر ولده العزيز نزار في حرف النون إن شاء الله تعالى.
    وكانت ولادته بالمهدية يوم الاثنين حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلثمائة. وتوفي يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر، وقيل الثالث عشر، وقيل لسبع خلون منه سنة خمس وستين وثلثمائة بالقاهرة، رحمه الله تعالى.
    ومعد: بفتح الميم والعين المهملة وتشديد الدال المهملة، والله تعالى أعلم.

السبت، 3 يونيو 2017

ابن طرارا الجريري

    القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود المعروف بابن طرارا الجريري النهرواني؛ كان فقيهاً أديباً شاعراً، عالماً بكل فن، ولي القضاء ببغداد، بباب الطاقة نيابة عن ابن صبر القاضي، وروى عن جماعة من الأئمة، منهم أبو القاسم البغوي وأبو بكر بن أبي داود ويحيى بن صاعد وأبو سعيد العدوي وأبو حامد محمد بن هارون الحضرمي وغيرهم. وأخذ الدب عن أبي عبد الله إبراهيم محمد بن عرفة المعروف بنفطويه وغيره. وروى عنه جماعة من الأئمة أيضاً، منهم أبو القاسم الأزهري والقاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي وأحمد بن علي التوزي وأحمد بن عمرو بن روح.
    وذكر أحمد بن عمر بن روح أن أبا الفرج المذكور حضر في دار لبعض الرؤساء، وكان هناك جماعة من أهل العلم والأدب، فقالوا له: في أي نوع من العلوم نتذاكر فقال أبو الفرج لذلك الرئيس: خزانتك قد جمعت أنواع العلوم، وأصناف الأدب، فإن رأيت أن تبعث الغلام إليها، تأمره أن يفتح بابها، ويضرب بيده إلى أي كتاب رأى (1) منها، فيحمله ثم يفتحه، وينظر في أي العلوم هو، فنتذاكره ونتجارى فيه. قال ابن روح: وهذا يدل على أن أبا الفرج كان له أنسة بسائر العلوم. وكان أبو محمد عبد الباقي يقول: إذا حضر القاضي أبو الفرج فقد حضرت العلوم كلها، وقال: لو أوصى رجل بثلث ماله لأعلم الناس (2) لوجب أن يدفع إلى أبي الفرج المعافى.
    وكان ثقة مأموناً في روايته، وله شعر حسن، فمن ذلك ما رواه عنه القاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي، وهو:
    ألا قل لم كان لي حاسداً ... أتدري على من أسأت الأدب
    أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب
    فجازك عنه بأن زادني ... وسد عليك وجوه الطلب وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب " طبقات الفقهاء " وأثنى عليه ثم قال: وأنشدني قاضي بلدنا أبو علي الداودي، قال: أنشدني أبو الفرج لنفسه:
    أأقتبس الضياء من الضباب ... وألتمس الشراب من السراب
    أريد من الزمان النذل بذلاً ... وأرياً من جنى سلع وصاب
    أرجي أن ألاقي لاشتياقي ... خيار الناس في زمان الكلاب ومن شعره أيضاً:
    مالك العلمين ضامن رزقي ... فلماذا أملك الخلق رقي
    قد قضى لي بما علي وما لي ... خالقي جل ذكره قبل خلقي
    صاحبي البذل والندى في يساري ... ورفيقي في عسرتي حسن رفق
    وكما لا يرد عجزي رزقي ... فكذا لا يجر رزقي حذقي وذكر أنه علمها في معنى قول علي بن الجهم (1) :
    لعمرك ما كل التعطل ضائر ... ولا كل شغل فيه للمرء منفعه
    إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم راحة الدعه ومن غريب ما اتفق له ما حكاه أبو عبد الله الحميدي، صاحب " الجمع بي الصحيحين " - المقدم ذكره - قال: قرأت بخط أبي الفرج المعافى بن زكريا النهرواتي: حججت سنة، وكنت بمنى أيام التشريق، فسمعت منادياً ينادي: يا أبا الفرج، فقلت: لعله يريدني، ثم قلت: في الناس خلق كثير ممن يكنى أبا الفرج، ولعله ينادي غيري، فلم أجبه، فلما رأى أنه لا يجيبه أحد نادي: يا أبا الفرج المعافى، ففهمت أن أجيبه، ثم قلت: قد يتفق أن يكون آخر اسمه المعافى، ويكنى أبا الفرج بن زكريا النهرواني، فقلت: لم يبق شك في مناداته إياي إذ ذكر اسمي وكنيتي واسم أبي وبلدي الذي أنسب إليه، فقلت: ها أنا ذا فما تريد قال: لعلك من نهروان الشرق، فقلت: نعم، فقال: نحن نريد نهروان الغرب، فعجبت من اتفاق الاسم والكنية واسم الأب وما أنتسب 
    إليه، علمت أن بالمغرب موضعاً يسمى النهروان، غير النهروان الذي بالعراق.
    ولأبي الفرج المذكور عدة تصانيف ممتعة في الأدب وغيره [وكتاب " الجليس الأنيس " تصنيفه أيضاً] (1) .
    وكانت ولادته يوم الخميس لسبع خلون من شهر رجب سنة ثلاث، وقيل خمس، وثلثمائة؛ وتوفي يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة، سنة تسعين وثلثمائة بالنهروان، رحمه الله تعالى.
    وطرارا: بفتح الطاء المهملة والراء بعد الأف راء ثانية مفتوحة ثم ألف مقصورة وبعضهم يكتبه بالهاء بدلاً من الألف، فيقول: طرارة، والله أعلم.
    والجريري: بفتح الجيم وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء هذه النسبة إلى الامام محمد بن جرير الطبري - المقدم ذكره - وإنما نسب إليه لأنه كان على مذهبه مقلداً له، وقد تقدم في ترجمته أنه كان مجتهداً صاحب مذهب مستقل، وكان له أتباع، وأخذ بمذهبه جماعة منهم أبو الفرج المذكور.
    وقد سبق الكلام على النهرواني (2) فأغنى عن الإعادة، والله تعالى أعلم.

الهرا النحوي

    أبو مسلم معاذ بن مسلم الهرا النحوي الكوفي، من موالي محمد بن كعب القرظي؛ قرأ عليه الكسائي وروى الحديث عنه، وحكيت عنه في القراءات حكايات كثيرة، وصنف في النحو كثيراً، ولم يظهر له شيء من التصانيف، وكان يتشيع، وله شهر كشعر النحاة.
    وكان في عصره مشهوراً بالعمر الطويل، وكان له أولاد وأولاد أولاد، فمات الكل وهو باق. وحكى بعض كتابه قال: صحبت معاذ بن مسلم زماناً، فسأله رجل ذات يوم: كم سنك فقال: ثلاث وستون، قال: ثم مكث بعد ذلك سنين وسأله كم سنك فقال: ثلاث وستون، فقلت: أنا معك منذ إحدى وعشرين سنة، وكلما سألك أحد: كم سنك تقول: ثلاث وستون، فقال: لو كنت معي إحدى وعشرين سنة أخرى ما قلت إلا هذا. وقال عثمان بن أبي شيبة: رأيت معاذ بن مسلم الهرا، وقد شد أسنانه بالذهب من الكبر، وفيه يقول أبو السري سهل بن أبي غالب الخزرجي الشاعر المشهور  :
    إن معاذ بن مسلم رجل ... ليس لميقات عمره أمد
    قد شاب رأس الزمان واكتهل ... الدهر وأثواب عمره جدد
    قل لمعاذ إذا مررت به ... قد ضج من طول عمر الأمد
    يا بكر حواء كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد
    قد أصبحت دار آدم خربت ... وأنت فيها كأنك الوتد
    تسأل غربانها إذا نعبت ... كيف يكون الصداع والرمد
    مصححاً كالظليم ترفل في ... بردك مثل السعير تتقد
    صاحبت نوحاً ورضت بغلة ... ذي القرنين شيخاً لولدك الولد
    فارحل ودعنا لأن غايتك الموت ... وغن شد ركنك الجلد قوله " تسحب ذيل الحياة يا لبد " فهذا لبد آخر نسور لقمان بن عاد، وكان لقمان قد سيره قومه - وهو عاد الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز - إلى الحرم يستقي لها، فلما هلكت عاد خير لقمان بين أن يعيش عمر سبع بعرات سمر أو عمر سبعة أنسر، كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور، فكان بأخذ الفرخ عند خرجه من البيضة فيربيه فيعيش ثمانين سنة، وهكذا، حتى هلك منها ستة، وبقي السابع فسمي لبداً، فلما كبر وعجز عن الطيران كان يقول له لقمان: انهض لبد، فلما هلك لبد مات لقمان، وقد ذكرت العرب لبداً في أشعارها كثيراً، فمن ذلك قول النابغة الذبياني:
    أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد رجعنا إلى حديث معاذ (1) :
    لما مات بنوه وحفدته قال:
    ما يرتجي في العيش من قد طوى ... من عمره الذاهب تسعينا
    أفنى بنيه وبينهم فقد ... جرعه الدهر الأمرينا
    لا بد أن يشرب من حوضهم ... وإن تراخى عمره حينا
    وكان معاذ المذكور صديقاً للكمين بن زيد الشاعر المشهور؛ قال محمد بن سهل رواية الكميت: صار الطرماح الشاعر إلى خالد بن عبد الله القسري أميرالعراقيين وهو بواسط فامتدحه، فأمر له بثلاثين ألف درهم وخلع عليه حلي وشيء لا قيمة لهما (1) ، فبلغ ذلك الكميت، فعزم على قصده، فقال له معاذ الهرا: لا تفعل فلست كالطرماح، فإنه ابن عمه، وبينكما بون: أنت مضري وخالد يمني متعصب على مضر، وأنت شيعي وهو أموي، وأنت عراقي وهو شامي، فلم يقبل إشارته، وأبي إلا قصد خالد، فقصده، فقالت اليمانية لخالد: قد جاء الكميت وقد هجانا بقصيدة نونية فخر فيها علينا، فحبسه خالد وقال: في حبسه صلاح لأنه يهجو الناس ويتأكلهم، فبلغ ذلك معاذاً فغمه فقال:
    نصحتك والنصيحة إن تعدت ... هوى المنصوح عز لها القبول
    فخالفت الذي لك فيه رشد ... فغالت دون ما أملت غول
    فعاد خلاف ما تهوى خلافاً ... له عرض من البلوى طويل فبلغ الكميت قوله، فكتب إليه:
    أراك كمهدي الماء للبحر حاملاً ... إلى الرمل من يبرين متجراً رملا ثم كتب تحته: قد جرى علي القضاء فما الحيلة الآن فأشار عليه أن يحتال في الهرب، وقال له: إن خالداً قاتلك لا محالة، فاحتال بامرأته، وكانت تأتيه بالطعام وترجع، فلبس ثيابها وخرج كأنه هي، فلحق بمسلمة بن عبد الملك فاستجار به وقال:
    خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل ... إليك على تلك الهزاهز والأزل
    علي ثياب الغانيات وتحتها ... عزيمة رأى أشبهت سلة النصل فكان ذلك سبب نجاته من خالد.
    وسأل شخص معاذاً عن مولده فقال: ولدت في أيام يزيد بن عبد الملك أو في أيام عبد الملك؛ وكان يزيد بن عبد الملك قد تولى بعد موت عمر بن عبد العزيز في شهر رجب سنة إحدى ومائة، وتوفي في شعبان سنة خمس ومائة،
    فهذه المدة هي أيامه؛ وأما أبوه عبد الملك فإنه تولى بعد أبيه مروان في شهر رمضان المعظم سنة خمس وستين للهجرة ومات سنة ست وثمانين، فهذه مدته. وتوفي معاذ سنة تسعين ومائة وقيل في السنة التي نكبت فيها البرامكة وهي سنة سبع وثمانين ومائة، وهو الأصح، رحمه الله تعالى.
    وكان يكنى أبا مسلم، فولده له ولد سماه علياً فصار يكنى به.
    والهرا: بفتح الهاء وتشديد الرء وبعدها ألف مقصورة؛ وإنما قيل له ذلك لأنه كان يبيع الثياب الهروية فنسب إليها.
     وأما أبو السري الشاعر صاحب الأبيات الدالية المذكورة فإنه نشأ بسجستان، وادعى رضاع الجن وأنه صار إليهم، ووضع كتاباً ذكر فيه أمر الجن وحكمتهم وأنسابهم وأشعارهم، وزعم أنع بايعهم للأمين بن هارون الرشيد ولي العهد فقربه الرشيد وابنه الأمين وزبيدة أم الأمين، وبلغ معهم، وأفاد منهم، وله أشعار حسان وضعها على الجن والشياطين والسعالي، وقال له الرشيد: إن كنت رأيت ما ذكرت لقد رأيت عبجباً، وإن كنت ما رأيته لقد وضعت أدباً، وأخباره كلها غريبة عجيبة، والله أعلم بالصواب.

موفق الدين العيلاني المصري

    أبو العز مظفر بن إبراهيم بن جماعة بن علي بن شامي (2) بن أحمد بن ناهض بن عبد الرزاق العيلاني، الحنبلي المذهب الملقب موفق الدين، الشاعر المشهور المصري؛ كان أديباً عروضياً شاعراً مجيداً، صنف في العروض مختصراً جيداً دل على حذقه فيه، وله ديوان شعر رائق (3) ، وكان ضريراً، فمن شعره:
    قالوا عشقت وأنت أعمى ... ظبياً كحيل الطرف ألمى
    وحلاه ما عاينتها ... فنقول قد شغفتك هما
    وخياله بك في المنا ... م فما أطاف ولا ألما
    من أين أرسل للفؤا ... د، وأنت لم تنظره، سهما
    ومتى رأيت جماله ... حتى كساك هواه سقما
    والعين داعية الهوى ... وبه تنم إذا تنمى] (1)
    وبأي جارحة وصل ... ت لوصفه نثراً ونظما
    فأجبت إني موسو ... ي العشق إنصاتاً وفهما
    أهوى بجارحة السما ... ع، ولا أرى ذات المسمى ولقد أذكرتني هذه الأبيات أبياتاً لرجل ضرير أيضاً، والشيء بالشيء يذكر، وهي هذه:
    وغادة قالت لأترابها ... يا قوم ما أعجب هذا الضرير
    أيعشق الإنسان ما لا يرى ... فقلت والدمع بعيني غزير:
    إن لم تكن عيني رأت شخصها ... فإنها قد مثلت في الضمير ومثل هذا أيضاً قول المهذب عمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي الأديب الشاعر المشهور من جملة قصيدة طويلة مدح بها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، والبيت المقصود قوله:
    وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها، والأذن كالعين تعشق
    وقد أخذ هذا المعنى من قول بشاربن برد الشاعر المقدم ذكره:
    يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... سمعت بها، والأذن تعشق قبل العين أحياناً
     وكان الوزير صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي، عرف بابن شكر، قد عاد من الشام إلى مصر، فخرج أصحابه للقائه إلى الخشبي المنزلة المجاورة للعباسة، فكتب مظفر المذكور إليه هذه الأبيات، يعتذر من تأخره عن الخروج إليه وهي:
    قالوا إلى الخشبي سرنا على عجل ... نلقى الوزير جميعاً ذوي الرتب 
    ولم تسر أيها الأعمى، فقلت لهم: ... لم أخش من تعب ألقى ولا نصب
    وإنما النار في قلبي لوحشته ... فخفت أجمع بين النار والخشب وهذا المعنى مطروق لكنه استعمله حسناً.
    وأخبرني أحد أصحابه أن شخصاً يقال له: رأيت في بعض تواليف أبي العلاء المعري ما صورته: أصلحك الله وأبقاك، لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي، لكي نحدث عهداً بك يا زين الأخلاء، فما مثلك من غير عهداً أو غفل؛ وسأله: من أي الأبحر هذا وهل هو بيت واحد أم أكثر فإن كان أكثر فهل أبياته على روي واحد أم هي مختلفة الروي قال: فأفكر فيه، ثم أجابه بجواب حسن، فلما قال لي المخبر ذلك قلت له: اصبر علي حتى أنظر فيه ولا تقل ما قاله، ثم أفكرت فيه فوجدته يخرج من بحر الرجز، وهو المجزوء منه، وتشتمل هذه الكلمات على أربع أبيات على روي الكلام، وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضيين، ومن لا يكون له معرفة بهذا الفن فإنه ينكرها، لأجل قطع الموصول منها، ولا بد من الإتيان بها لتظهر صورة ذلك، وهي:
    أصلحك (1) الله وأب ... قاك لقد كان من ال
    واجب أن تأتينا الي ... وم إلى منزلنا ال
    خالي لكي نحدث عه ... داً بك يا زين الأخل
    لاء فما مثلك من ... غير عهداً أو غفل وهذا إنما يذكره أهل هذا الشأن للمعاياة، لا لأنه من الأشعار المستعملة، فلما استخرجته عرضته على ذلك الشخص فقال: هكذا قاله مظفر الأعمى.
    وقال الشيخ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المحدث المصري، رحمه الله تعالى، أخبرني الأديب موفق الدين مظفر الضرير الشاعر المصري أنه دخل على القاضي السعيد بن سناء الملك - قلت: وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، واسمه هبة الله - قال: فقال لي: يا أديب، قد صنعت نصف بيت، ولي أيام أفكر فيه، ولا يأتي لي تمامه، فقلت: وما هو فأنشدني:
    بياض عذارى من سواد عذاره ... قال مظفر: فقلت: قد حصل تمامه وأنشدت:
    كما جل ناري فيه من جلناره ... فاستحسنه، وجعل يعمل عليه، فقلت في نفسي: أقوم وإلا يعمل المقطوع من كيسي  .
    وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود، لكن الكلام يسوق بعضه بعضاً.
    [وكتب مظفر المذكور لتقي الدين، ومدحه جماعة هو منهم، فخلع على الجميع ولم يخلع عليه:
    العبد مملوك مولانا وخادمه ... مظفر الشاعر الأعمى حليف ضنى
    يقبل الأرض إجلالاً لمالكه ... رقاً، وينهي إليه بعد كل هنا
    أن القميص جميع الناس قد بصروا ... به وما منهم يعقوب غير أنا وله يوم رمي الشواني:
    يا أيها الملك المسرور آمله ... هذي شوانيك ترمي يوم سراء
    كأنما هي قعبان بها ظمأ ... طاردت من البحر وانقضت على الماء وله في يوم لعبها:
    مولاي هذه الشواني في ملاعبها ... مثل الشواهين بين السهل والجبل
    تسقي مجاذيفها ماء وتنفضه ... نفض العقاب جناحهيا من البلل وله يصف فانوس الجامع العتيق بمصر:
    أرى علماً للناس ينصب ... على جامع ابن العاص أعلاه كوكب
    وما هو في الظلماء إلا كأنه ... على رمح زنجي سنان مذهب
    ومن عجب أن الثريا سماؤها ... مع الليل تلهي كل من يترقب
    فطوراً تحييه بباقة نرجس ... وطوراً يحييها بكاس تلهب
    وما الليل إلا قانص لغزالة ... بفانوس نار نحوها يتطلب
    ولم أر صيداً على البعد قبله ... إذا قربت منه الغزالة يهرب وشعره كثير] (1) .
    وكانت ولادة مظفر المذكور لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمصر. وتوفي بها سحر يوم السبت التاسع من المحرم سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ودفن من الغد بسفح المقطم، رحمه الله تعالى.
    والعيلاني، بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعد اللام ألف نون، هذه النسبة إلى قيس عيلان، وقيل قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن عدنان، فمن قال إنه قيس علان فقد اختلفوا في عيلان ماذا فمنهم من قال: هو اسم فرس كان له فأضيف إليه، وقيل اسم كلب كان له، وقيل اسم رجل كان قد حضنه صغيراً، وإنما أضيف إلى عيلان لأنه كان في عصره شخص يقال له قيس كبة - بضم الكاف وتشديد الباء الموحدة - وهو اسم فرس كنت له أيضاً، فكان كل واحد منهما يضاف إلى ما له ليتميز عن الآخر، والله أعلم، وقد قيل إن قيس عيلان اسمه الناس - بالنون - وهو أخو إلياس - بالياء - جد النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم بالصواب.

الواعظ الروزي

    أبو منصور المظفر بن أبي الحسين أزدشير بن أبي منصور العبادي، الواعظ المروزي الملقب قطب الدين، المعروف بالأمير؛ كان من أهل مرو، وله اليد الطولى في الوعظ والتذكير وحسن العبارة، ومارس هذا الفن من صغره إلى كبره، ومهر فيه حتى صار ممن يضرب به المثل في ذلك وصار عين ذلك العصر، وشهد له الكل بالفضل وحيازة قصب السبق.
    وقدم بغداد فأقام بها قريباً من ثلاث سنين يعقد له فيها مجالس الوعظ، ولقي من الخلق قبولاً تاماً، وحظي عند الإمام المقتفي لأمر الله، ثم خرج منها رسولاً إلى جهة السلطان سنجر بن ملك شاه السلجوقي - المقدم ذكره - فوصل إلى خراسان، ثم عاد إلى بغداد، وخرج منها إلى خوزستان في رسالة فمات بعسكر مكرم في سلخ ربيع الآخر يوم الخميس، وقيل الاثنين، سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وحمل تابوته إلى بغداد، ودفن بها في الشونيزية في حظيرة الشيخ الجنيد بن محمد العبد الصالح، رضي الله عنه.
    ومولده في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وسمع الحد يث الكثير بنيسابور من أبي علي نصر الله بن أحمد بن عثمان الخشنامي وأبي عبد الله إسماعيل بن الاحفظ عبد الغافر الفارسي وغيرهما، وروي عنه الحافظ أبو سعد السمعاني، وقال عنه: كان صحيح السماع، ولم يكن موثوقاً به في دينه، رأيت منه أشياء، وطالعت بخطه رسالة جمعها في إباحة شرب الخمر، سامحه الله تعالى وعفا عنه.
    وكان والده أبو الحسين يعرف بالأمير أيضاً، وكان مليح الوعظ حسن السيرة توفي سنة نيف وتسعين وأربعمائة، رحمهما الله تعالى.
    والعبادي: بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف دال مهملة هذه النسبة إلى سنج عباد، وهي قرية من قرى مرو. 
    وسنج: بكسر السين المهملة وسكون النون وبعدها جيم؛ وبأعمال مرو أيضاً قرية كبيرة يقال لها سنج، منها الفقيه أبو علي النجي - وقد تقدم ذكره في حرف الحاء - وتكلمنا على سنج هناك، فلا يظن ظان أنهما موضع واحد، بل هما قريتان، وقد نبه على ذلك جماعة من أرباب هذا الفن.
    وأما أزدشير فقد تقدم الكلام على ضبطه في ترجمة الوزير سابور، فلا حاجة إلى إعادته، والله تعالى أعلم.

مطرف الصنعاني

    أبو أيوب مطرف بن مازن، الكناني بالولاء، وقيل القيسي بالولاء، اليماني الصنعاني؛ ولي القضاء بصنعاء اليمن، وحدث عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح وجماعة كثيرة، وروى عنه الإمام الشافعي رضي الله عنه، وخلق كثير.
    واختلفوا في روايته: فنقل عن يحيى بن معين أنه سئل عنه فقال: كذاب. وقال النسائي: مطرف بن مازن ليس بثقة. وقال السعدي (2) : مطرف بن مازن الصنعاني يتثبت في حدثه حتى يبلى ما عنده. وقال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: مطرف بن مازن الكناني قاضي اليمن يروي عن معمر وابن جريح، روى عنه الشافعي وأهل العراق، وكان يحدث بما لم يسمع، ويروي ما لم يكتب عمن لم يره، ولا تجوز الرواية عنه إلا عند الخواص للإعتبار فقط. وقال حاجب ابن سليمان: كان مطرف بن مازن قاضي صنعاء وكان رجلاً صالحاً، وذكر عنه حكاية في إبراره قسم من أقسم على أمر شنيع يفعله به. وذكر أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني أحاديث من رواية مطرف بن مازن وقال: لمطرف غير 
    ما ذكرت أفراد يتفرد بها عمن يرويها عنه، ولم أر فيما يرويه شيئاً (1) منكراً. وقال أبو بكر أحمد بن الحسين البهقي: أخبرنا أبو سعيد قال، حدثنا أبو العباس قال: أخبرنا الربيع قال الشافعي رضي الله عنه: وقد كان من حكام الآفاق من يستحلف على المصحف وذلك عندي حسن، وقال: وأخبرني مطرف بن مازن بإسناد لا أحفظه أن ابن الزبير أمر بأن يحلف على المصحف قال الشافعي؛ رضي الله عنه: ورأيت مطرفاً بصنعاء اليمن يحلف على المصحف، وقال غيره، قال الشافعي رضي الله عنه ورأيت ابن مازن - وهو قاضي صنعاء - يغلط باليمين بالمصحف.
    وتوفي مطرف المذكور بالرقة، وقيل بمنبج، وكانت وفاته في أواخر خلافة هارون الرشيد، وتوفي هارون الرشيد ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة بطوس، وكانت ولايته يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة، رحمه الله تعالى.
    وهذا مطرف ليس من المشاهير الذين أحتاج إلى ذكرهم، والذي حملني على ذكره أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، ذكره في كتاب ذكره في كتاب " المهذب " في باب اليمين في الدعاوى في فصل التغليظ، فقال: " وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي رضي الله عنه عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف، قال: ورأيت مطرفاً بصنعاء يستحلف على المصحف، قال الشافعي رضي الله عنه: وهو حسن " انتهى كلام صاحب " المهذب ". ورأيت الفقهاء يسألون عن مطرف المذكور ولا يعرفه أحد، حتى غلط فيه صاحبنا عماد الدين أبو المجد إسماعيل بن أبي البركات هبة الله بن أبي الرضى بن باطيش الموصلي الفقيه الشافعي في كتابه الذي وضعه على " المهذب " في أسماء رجاله والكلام على غريبه فقال: " مطرف بن عبد الله بن الشخير " ثم قال " وتوفي (2) سنة سبع وثمانين " يعني للهجرة، فيا لله العجب! شخص يموت في هذا التاريخ كيف يمكن أن يراه الشافعي رضي الله عنه ومولد الشافعي سنة خمسين ومائة بعد موت ابن الشخير بثلاث وستين سنة، وما أدري كيف وقع هذا الغلط فلو أنه ما حكى تاريخ وفاته كان يمكن أن يقال: ظن أنه أدركه الشافعي.
    ولما انتهيت في هذه الترجمة إلى هذا الموضع رأيت في تاريخ أبي الحسين عبد الباقي بن قانع الذي جعله مرتباً على السنين أن مطرف بن مازن توفي سنة إحدى وتسعين ومائة، وهذا يوافق ما قاله الأول من أنه توفي في أواخر خلافة هارون الرشيد.
    والذي أفادني هذه الترجمة على الصورة المحكية في الأول هو الشيخ الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري، نفع الله به.
    ومطرف: بضم الميم وفتح الطاء المهملة وتشديد الراء المكسورة وبعدها فاء. والباقي معروف فلا حاجة إلى ضبطه وتقييده.
     وأما مطرف الذي ذكره عماد الدين فهو أبو عبد الله مطرف بن عبد الله بن الشخير (1) بن عوف بن كعب بن رقدان بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر بن معد بن عدنان، الحرشي، كان فقيهاً، وكان لوالده عبد الله صحبة، وكان مطرف من أعبد الناس وأنسكهم، فذكروا أنه وقع بينه وبين رجل منازعة، فرفع يديه، وكان ذلك في مسجد البصرة، وقال: اللهم إني أسألك ألا يقوم من مجلسه حتى تكفيني إياه، فلم يفرغ مطرف من كلامه حتى صرع الرجل فمات، وأخذ مطرف وقدموه إلى القاضي، فقال القاضي: لم يقتله، وإنما دعا عليه فأجاب الله دعوته، فكان بعد ذلك تتقى دعوته، ومات في سنة سبع وثمانين للهجرة وقيل غير ذلك (2) وقال ابن قانع: سنة خمس وتسعين، والله تعالى أعلم بالصواب.

عز الدين مسعود صاحب الموصل

    أبو الفتح وأبو المظفر، مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي ابن آق سنقر، أتابك صاحب الموصل، الملقب عز الدين - قد تقدم خبر جده وجد أبيه، وخبر ولده نور الدين أرسلان شاه وغيرهم من أهل بيته، وسيأتي ذكر أبيه في هذا الحرف إن شاء الله تعالى - ولما توفي والده قام بالملك ولده سيف الدين غازي - المقدم ذكره - أنه أكبر الإخوة، وكان قد خلف هذين الولدين، وعماد الدين زنكي صاحب سنجار المذكور عقيب ترجمة جده عماد الدين زنكي.
    وكان عز الدين المذكور مقدم الجيوش في أيام أخيه غازي؛ ولما خرج السلطان صلاح الدين من الديار المصرية بعد وفاة الملك العادل نور الدين محمود - المقدم ذكره - وأخذ دمشق وتقدم إلى حلب وحاصرها، خاف غازي منه، وعلم أنه قد استفحل أمره وعظم شأنه، واستشعر أنه متى استحوذ على الشام تعدى الأمر إليه، فجهز جيشاً عظيماً وقدم عليه أخاه عز الدين مسعوداً المذكور، وسار يريد لقاء السلطان، وضرب المصاف معه ليرده على البلاد فلما بلغ السلطان خروجه رحل عن حلب، وذلك في مستهل رجب الفرد سنة سبعين وخمسمائة، وسار إلى حمص وأخذ قلعتها. وكان قد أخذ البلد في جمادى الأولى من السنة المذكورة بعد خروجه من دمشق قاصداً حلب، ووصل عز الدين مسعود إلى حلب لينجد ابن عمه الملك الصالح إسماعيل ابن نور الدين، صاحب حلب.
    هذا كان في الصورة الظاهرة، وفي الباطن كان غرضهم ما ذكرناه من خوفهم على بلادهم، فانضم إلى عز الدين مسعود عسكر حلب وخرج في جمع كثير.
    ولما عرف السلطان مسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة، وراسلهم وراسلوه، واجتهد في أن يصالحوه فلم يفعلوا، ورأوا أن ضرب المصاف معه ربما نالوا به الغرض الأكبر والمقصود الأوفر، والقضاء يجر إلى أمور لا يشعرون بها، فقام المصاف بين العسكرين، وقضى الله تعالى أن انكسر جيش عز الدين وأسر السلطان جماعة من أمرائه ثم أطلقهم، وذلك يوم الأحد التاسع عشر من شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة، وهذه الواقعة من الوقائع المشهورة.
    ثم سار السلطان عقيب الكسر إلى حلب ونزل عليها، وهي الدفعة الثانية، فصالحه الملك الصالح إسماعيل على أخذ المعرة وكفرطاب وبارين ثم رحل عنها.
    وشرح ذلك يطول، وتتمة هذه القضية مذكورة في ترجمة أخيه سيف الدين غازي.
    ولما توفي أخوه سيف الدين في التاريخ المذكور في ترجمته، استقل عز الدين المذكور بالملك من بعده، ولم يزل إلى أن حضرت الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الوفاة - في التاريخ المذكور في ترجمة أبيه نور الدين - فأوصى بمملكة حلب وما معها لابن عمه عز الدين مسعود المذكور، واستخلف له المراء والأجناد، فلما توفي وبلغ الخبر عز الدين مسعوداً، بادر متوجهاً إليها خوفاً من صلاح الدين أن يسبقه فيأخذه، وكان وصوله إليها في العشرين من شعبان سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وصعد القلعة واستولى على ما بها من الخزائن والحواصل، وتزوج أم الملك الصالح في خامس شوال من السنة، وأقام بها إلى سادس عشر شوال.
    ثم علم أنه لا يمكنه حفظ الشام والموصل، وخاف من جانب صلاح الدين، وألح عليه الأمراء في طلب الزيادات، وتبسطوا عليه في المطالب (1) ، وضاق عنهم عطنه. وكان المستولي على أمره مجاهد الدين قايماز الزيني - المقدم ذكره في حرف القاف - فرحل عن حلب وخلف بها مظفر الدين ولده، ومظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل - المذكور في حرف الكاف؛ ولما وصل إلى الرقة لقيه بها أخوه عماد الدين زنكي صاحب سنجار، فقرر معه مقايضة حلب بسنجار وتحالفا على ذلك، وسير عماد الدين من يتسلم حلب، وسير عز الدين من يتسلم سنجار.
    وفي ثالث عشر المحرم سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، صعد عماد الدين إلى قلعة حلب، وكان قد تقرر الصلح بين عز الدين المذكور وابن عمه الملك الصالح، وبين صلاح الدين، على يد قليج أرسلان صاحب الروم، وصعد السلطان صلاح الدين إلى الديار المصرية، واستناب بدمشق ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بن شاهان شاه بن أيوب، فلما بلغه خبر وفاة الملك الصالح وهذه الأمور المتجددة عاد إلى الشام. وكان وصوله إلى دمشق في سابع عشر صفر سنة ثمان وسبعين، وبلغه بها أن رسول عز الدين مسعود وصل إلى الفرنج يحثهم على قتال السلطان ويبعثهم على قصده، فعلم أنه قد غدر به ونكث اليمين، فعزم على قصد حلب والموصل وأخذ في التأ هب للحرب، فبلغ عماد الدين صاحب حلب ذلك، فسير إلى أخيه صاحب الموصل يعلمه ذلك ويستدعي منه العساكر.
    فسار السلطان صلاح الدين من دمشق ونزل على حلب، في ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وأقام عليها ثلاثة أيام. ثم رحل في الحادي والعشرين من الشهر، ثم جاءه مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل، وكان يوم ذلك في خدمة صاحب الموصل وهو صاحب حران، وكان قد استوحش من عز الدين مسعود صاحب الموصل وخاف من مجاهد الدين قايماز الزيني - المذكور في حرف القاف - فالتجأ إلى السلطان صلاح الدين وقطع الفرات وعبر إليه، وقوى عزمه على قصد بلاد الجزيرة وسهل أمرها عليه، فعبر السلطان صلاح الدين الفرات، وأخذ الرها والرقة ونصيبين وسروج، ثم أشحن (1) على بلاد الخابور وأقطعها، وتوجه إلى الموصل، ونزل عليها يوم الخميس حادي عشر رجب سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ليحاصرها، فأقام أياماً، وعلم أنه بلد عظيم لا يتحصل منه شيء بالمحاصرة، وان طريق أخذه أخذ قلاعه وبلاده وإضعاف أهله على طول الزمان، فرحل عنها ونزل على سنجار في سادس عشر شعبان من السنة، وأخذها في ثاني شهر رمضان المعظم، وأعطاها لابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر - المقدم ذكره - وشرح ذلك يطول.
    وخلاصة الأمر أنه رجع إلى الشام فكان وصوله إلى حران في أول ذي القعدة ثم عاد إلى منازلة الموصل، وكان وصوله إليها في أول شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين، ونزلت إليه والدة عز الدين ومعها جماعة من نساء بني أتابك وابنه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود - وقد سبق ذكره في حرف الهمزة - وطلبت منه المصالحة، فردها خائبة ظناً منه أن عز الدين أرسلها عجزاً عن حفظ الموصل، واعتذر بأعذار ندم عليها بعد ذلك، وبذل أهل الموصل نفوسهم في القتال لكونه رد النساء والولد بالخيبة، فأقام عليها إلى أن أتاه خبر وفاة شاه أرمن ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن سكمان القطبي صاحب خلاط، وقيام مملوكه بكتمر بالأمر من بعده، وطمع في خلاط، وقرر معه تسليمها إليه وأن يعوضه عنها ما يرضيه. وكانت وفاة شاه أرمن يوم الخميس تاسع شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة.
    فرحل السلطان صلاح الدين عن الموصل لهذا السبب في العشرين من الشهر المذكور وتوجه نحو خلاط، وفي مقدمته مظفر الدين صاحب إربل وهو يوم ذاك صاحب حران وناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه وهو ابن عم صلاح الدين، فنزلوا بالطوانة، البليدة التي هي بالقرب من خلاط، وسير الرسل إلى بكتمر لتقرير القاعدة، فوصلت الرسل إليه وشمس الدين بهلوان بن الذكر (1) صاحب أذربيجان وعراق العجم قد قرب من خلاط ليحاصرها، فبعث إليه بكتمر يعرفه أنه إن لم يرجع عنه وإلا سلم البلاد إلى السلطان صلاح الدين فصالحه وزوجه ابنته ورجع عنه، وسير بكتمر إلى السلطان صلاح الدين يعتذر عما قاله من تسليم خلاط، وكان السلطان قد نزل على ميافارقين يحاصرها، فقاتلها قتالاً شديداً، ثم أخذها عن صلح بالخديعة في التاسع والعشرين من
     جمادى الأولى من السنة المذكورة، وكان صاحبها قطب الدين ايغازي بن البي بن كرماس (1) بن غازي (2) بن أرتق، فمات وتركها لولده حسام الدين بولق أرسلان، وهو طفل صغير، فطمع في أخذها من واليها فأخذها.
    ولما أيس السلطان من خلاط عاد إلى الموصل، وهي الدفعة الثالثة، ونزل بعيداً عنها بموضع يقال له كفر زمار، فأقام به مدة، وكان الحر شديداً، فمرض السلطان مرضاً شديداً أشفى على الموت، فرحل طالباً حران في مستهل شوال من السنة. ولما علم عز الدين مسعود المذكور بمرض السلطان وأنه رقيق القلب، انتهز الفرصة وسير القاضي بهاء الدين بن شداد - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في حرف الياء - ومعه بهاء الدين الربيب، فوصلا إلى حران في الرسالة والتماس الصلح، فأجاب إلى ذلك، وحلف يوم عرفة من السنة وقد تماثل للصحة، ولم يتغير عن تلك اليمين إلى أن مات رحمه الله تعالى، ثم رحل إلى الشام.
    وأمن حينئذ عز الدين مسعود وطابت نفسه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في السابع والعشرين من شعبان سنة تسع وثمانين وخمسمائة بعلى الإسهال. وكان قد بنى بالموصل مدرسة كبيرة وقفها على الفقهاء الشافعية والحنفية، فدفن بهذه المدرسة في تربة هي بداخلها، رحمه الله تعالى؛ ورأيت المدرسة والتربة، وهي من أحسن المدارس والترب، ومدرسة ولده نور الدين أرسلان شاه في قبالتها، وبينهما ساحة كبيرة.
    ولما مات خلف ولده نور الدين المذكور - وقد تقدم ذكره في حرف الهمزة - ولما مات نور الدين - في التاريخ المذكور في ترجمته - خلف ولدين أحدهما الملك القاهر عز الدين أبو الفتح مسعود، والآخر الملك المنصور عماد الدين زنكي ولما حضرته الوفاة قسم البلاد بينهما، فأعطى الملك القاهر - وهو الأكبر - الموصل وأعمالها، وأعطى عماد الدين الشوش (3) والعقر وتلك النواحي. 
     فأما الملك القاهر فكانت ولادته في سنة تسعين وخمسمائة بالموصل، وتوفي بها فجأة ليلة الاثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وستمائة، وكان قد بنى مدرسة أيضاً فدفن بها.
     وأما عماد الدين فإنه أخذ بعد موت أخيه الملك القاهر قلعة العمادية، ثم أخذت منه، وهي من أحسن القلاع بجبل الهكارية من أعمال الموصل، وكذلك عدة قلاع مما يجاورها، وانتقل إلى إربل، وكان زوج ابنه مظفر الدين صاحب إربل، فأقام بها زماناً، وكنا في جواره، وكان من أحسن الناس صورة، ثم قبض عليه مظفر الدين لأمر يطول شرحه، وسيره إلى سنجار الملك الأشرف ابن الملك العادل - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فأفرج عنه الملك الأشرف، وعاد إلى أربل، وقايضه مظفر الدين عن العقر بشهرزور وأعمالها، فانتقل إليها، وأقام إلى أن توفي في حدود سنة ثلاثين وستمائة، وخلف ولداً أقام بعده قليلاً ثم مات، رحمهما الله تعالى.
    ولما مات عز الدين مسعود بن أرسلان شاه خلف ولدين نور الدين أرسلان شاه، وكان سمي عليا في حياة جده أرسلان شاه، فلما مات جده نور الدين سموه باسمه، وناصر الدين محمد.
     فتولى بعده نور الدين المذكور، وكان تقدير عمره عشر سنين، وبقي بعد أبيه قليلاً وتوفي في بقية السنة.
     وتولى أخوه بعده ناصر الدين محمود، واملدبر لأمر المملكة بدر الدين لؤلؤ الذي ملك الموصل فيما بعد.
     وتوفي بهلوان بن الذكر (1) المذكور، في سلخ ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
     وتوفي والده شمس الدين الذكرالأتابك في أواخر شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة، بنقجوان، ودفن بها رحمه الله تعالى؛ وكان أتابك السلطان أرسلان شاه بن طغرلبك بن محمد بن ملكشاه بن محمد السلجوقي.
    وبعد الذكر بمقدار شهر توفي أرسلان شاه المذكور بهمذان ودفن بها رحمه الله تعالى.
     وقتل قزل بن الذكر المذكور في أوائل شعبان سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وكان ملكاً كبيراً، وهو ابن الذكر المذكور، رحمهم الله تعالى أجمعين. والله تعالى أعلم بالصواب.

غياث الدين السلجوقي

    أبو الفتح مسعود بن محمد بم ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، الملقب غياث الدين، أحد ملوك (2) السلجوقية المشاهير وقد تقدم ذكر والده وأخيه محمود وجماعة من أهل بيته.
    كان مسعود المذكور قد سلمه والده في سنة خمس وخمسمائة إلى الأمير مودود ابن التوتكين وجعله صاحب الموصل ليربيه، فلما قتل مودود في سنة سبع وخمسمائة وتولى الأمير آق سنقر البرسقي - المذكور في حرف الهمزة - مكانه سلمه والده إليه أيضاً، ثم أرسله من بعده إلى جيوش بك (3) أتابك الموصل أيضاً.
    فلما توفي والده وتولى موضعه ولده محمود - المقدم ذكره - أخذ جيوش بك يحسن لمسعود المذكور الخروج على أخيه محمود وأطعمه في السلطنة، ولم يزل على ذلك حتى جمع العساكر واستكثر منها، وقصد أخاه، والتقيا بالقرب من همذان في ربيع الأول سنة أربع عشرة (4) وخمسمائة، وكان النصر لمحمود، وقتل في هذه الواقعة الأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي - وقد سبق شيء من خبره في حرف الحاء.
    ثم انتقلت الأحوال وتقلبت بمسعود المذكور واستقل بالسلطنة سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، ودخل بغداد، واستوزر شرف الدين أنو شروان بن خالد القاشاني الذي كان وزير المسترشد، وقد تقدم ذكره في ترجمة الحريري صاحب المقامات؛ وكان سلطاناً عادلاً لين الجانب كبير النفس، فرق مملكته على أصحابه، ولم يكن له من السلطنة غير الاسم، وكان حسن الأخلاق كثير المزاح والانبساط مع الناس، فمن ذلك أن أتابك زنكي صاحب الموصل أرسل إليه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري في رسالة، فوصل إليه وأقام معه في العسكر، فوقف يوماً على خيمة الوزير حتى قارب أذان امغرب فعاد إلى خيمته وأذن المغرب وهو في الطريق، فرأى إنساناً فقيهاً في خيمة، فنزل إليه فصلى معه، فسأله كمال الدين من أين هو فقال: أنا قاضي مدنية كذا، فقال له كمال الدين: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وهو أنا وأنت، وقاض في الجنة وهو من لا يعرف أبواب هؤلاء الظلمة ولا يراهم. فلما كان من الغد أرسل السلطان وأحضر كمال الدين، فلما دخل عليه ورآه ضحك وقال: القضاة ثلاثة، فقال كمال الدين: نعم يا مولانا، فقال: والله صدقت، ما أسعد من لا يرانا ولا نراه، ثم أمر به فقضيت حاجته وأعاده من يومه.
    ومن ذلك أنه اجتاز يوماً في بعض أطراف بغداد فسمع امرأة تقول لأخرى: تعالي انظري إلى السلطان، فوقف وقال: يقف حتى تجيء هذه الست تنظر إلينا.
    وله مناقب كثيرة (1) وكان مع لين جانبه ما ناوأه أحد وظفر به، وقتل من الأمراء الأكابر خلقاً كثيراً، ومن جملة من قتل الخليفتان المسترشد بالله والراشد لأنه كان قد وقع بينه وبين الخليفة المسترشد وحشة قبل استقلاله في السلطنة، فلما استقل استطال نوابه على العراق، وعارضوا الخليفة في أملاكه، فقويت الوحشة بينهما، وتجهز المسترشد وخرج لمحارتبه، وكان السلطان مسعود بهمذان، فجمع جيشاً عظيماً وخرج للقائه، وتصافا بالقرب من همذان فكسر عسكر الخليفة، وأسر هو وأرباب دولته، وأخذه السلطان مسعود مأسوراً وطاف به بلاد أذربيجان، وقتل على باب المراغة، حسبما شرحناه في ترجمة دبيس بن صدقة، وهو الذي خلع الراشد وأقام المقتفي كما هو مشهور.
    ثم أقبل مسعود على الاشتغال باللذات والانعكاف على مواصلة وجوه الراحات، متكلاً على السعادة تعمل له ما يؤثره، إلى أن حدث له القيء وعلى الغثيان، واستمر به ذلك إلى أن توفي في حادي عشر جمادى الآخرة، سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وقيل يوم الأربعاء، الثاني والعشرين من الشهر المذكور بهمذان ومات معه سعادة البيت السلجوقي فلم تقم له بعد راية يعتد بها ولا يلتفت إليها:
    فما كان قيس هلكه واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما (1) ودفن في مدرسة بناها (2) جمال الدين إقبال الخادم.
    وقال ابن الأزرق الفارقي في تاريخه: رأيت السلطان المذكور ببغداد، في السنة المذكورة، وسار إلى همذان ومات بباب همذان، وحمل إلى أصبهان رحمه الله تعالى، وقد تقدم شيء من خبره في ترجمة دبيس بن صدقة صاحب الحلة.
    ومولده يوم الجمعة، لثلاث خلون من ذي القعدة، سنة اثنتين وخمسمائة.
    ولما ولي السلطنة جرت بينه وبين عمه سنجر - المقدم ذكره - منازعة، ثم خطب له بعد عمه المذكور ببغداد، يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وعشرين وخمسمائة والله أعلم.

الشريف البياضي الشاعر

    الشريف أبو جعفر مسعود بن عبد العزيز بن المحسن بن الحسن بن عبد الرزاق البياضي، الشاعر المشهور، هكذا وجدته بخط بعض الحفاظ المتقينن، ورأيت في أول ديوانه أنه أبو جعفر مسعود بن المحسن بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي، والله أعلم بالصواب.
    وهو من الشعراء الممجيدين في المتأخرين، وديوان شعره صغير، وهو في غاية الرقة، وليس فيه من المدائح (1) إلا اليسير، فمن أحسن شعره قصديته القافية التي أولها:
    إن غاض دمعك والركاب تساق ... مع ما بقلبك فهو منك نفاق
    لا تحبسن ماء الجفون فإنه ... لك يا لديغ هواهم ترياق
    واحذر مصاحبة العذول فإنه ... مغر، وظاهر عذله إشفاق
    لا يبعدن زمن مضت أيامه ... وعلى متون غصونها أوراق
    أيام نرجسنا العيون ووردنا ال ... غض الخدود (2) وخمرنا الأرياق
    ولنا بزوراء العراق مواسم ... كانت تقام لطيبها أسواق
    فلئن بكت عيني دماً شوقاً إلى ... ذاك الزمان فمثله يشتاق ومنها:
    أين الأغيلمة الأولى لولاهم ... ما كان طعم هوى الملاح يذاق
    وكأنما أرماحهم بأكفهم ... أجسامهم ونصولها الأحداق
    شنوا الإغارة في القلوب بأعين ... لا يرتجى لأسيرها إطلاق
    واستعذبوا ماء الجفون فعذبوا ال ... أسراء حتى درت الآماق
    ونمى الحديث بأنهم نذروا دمي ... أو لي دم يوم الفراق يراق وله، وهو مما يغني به:
    كيف يذوي عشب أشوا ... قي ولي طرف مطير
    إن يكن في العشق حر ... فأنا العبد الأسير
    أو على الحسن زكاة ... فأنا ذاك الفقير وله وكتبها على مروحة:
    وارحمتا لي أن حللت بمجلس ... إن لحنوا فيه يكون كسادي (1) وله أيضاً:
    يا ليلة بات فيها البدر معتنقي ... إلى الصباح بلا خوف ولا حذر
    كلامه الدر يغني عن كواكبها ... ووجهه عوض فيها عن القمر
    فبينما أنا أرعي في محاسنه ... سمعي وطرفي إذ أنذرت بالسحر
    ولم يكن عيبها إلا تقاصرها ... وأي عيب لها أشنى من القصر
    وودت لو أنها طالت علي ولو ... أمددتها بسواد القلب والبصر
    والبيت الأخير منها ينظر إلى قول أبي العلاء بن سليمان المعري، وهو  :
    يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر
    وشعره كله على هذا الأسلوب، وقد تقدم له بيتان في ترجمة صر در الشاعر. وتوفي الباضي المذكور يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة سنة ثمان وستين وأربعمائة ببغداد، ودفن بمقبرة باب أبرز. وإنما قيل له البياضي لأن أحد أجداداه كان في مجلس بعض الخلفاء مع جماعة من العباسيين، وكانوا قد لبسوا سواداً، ما عداه، فإنه كان قد لبس بياضاً فقال الخليفة: من ذلك البياضي فثبت الإسم عليه واشتهر به.
    وذكر ابن الجوزي في كتاب " الألقاب " أن صاحب هذه الواقعة هو محمد ابن عيسى بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم أجمعين، وهو الذي يقال له البياضي. ورأيت بخط أسامة بن منقذ - المقدم ذكره - أن الذي لقبه بهذا اللقب هو الخليفة الراضي بالله، والله تعالى أعلم.

مسعود الطريثيثي

    أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود بن طاهر النيسابوري الطريثيثي الفقيه الشافعي، الملقب قطب الدين؛ تفقه بنيسابور ومرو على أئمتها، وسمع الحيث من غير واحد، ورأى الاستاذ أبا نصر القشيري، ودرس بالمدرسة الناظمية بنيسابور نيابة عن الجويني. وكان قد قرأ القرآن الكريم والأدب على والده، وقدم بغداد ووعظ بها وتكلم في المسائل فأحسن، وقدم دمشق سنة أربعين وخمسمائة، ووعظ بها وحصل له قبول، ودرس بالمدرسة المجاهدية ثم بالزاوية الغربية من جامع دمشق بعد موت الفقيه أبي الفتح نصر الله المصيصي؛ وذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق ".
    ثم خرج إلى حلب وتولى التدريس مدة في المدرستين اللتين بناهما له نور الدين محمود وأسد الدين شيركوه، ثم مضى إلى همذان وتولى التدريس بها، ثم رجع إلى دمشق ودرس بالزاوية الغرية وحدث، وتفرد برئاسة أصحاب الشافعي رضي الله عنه.
    وكان عالماً صالحاً  ، صنف كتاب " الهادي " في الفقه، وهو مختصر نافع لم يأت فيه إلا بالقول الذي عليه الفتوى، وجمع للسلطان صلاح الدين عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في أمور دينه، وحفظها أولاده الصغار حتى تترسخ في أذهانهم من الصغر، قال بهاء الدين ابن شداد في " سيرة السلطان " (1) : ورأيته - يعني السلطان - وهو يأخذها عليهم، وهو يقرؤونها بين يديه من حفظهم.
    وكان متواضعاً قليل التصنع. مطرحاً للتكليف؛ وكانت ولادته سنة خمس وخمسمائة، في الثالث عشر من شهر رجب الفرد ؛ وتوفي في آخر يوم من شهر رمضان المعظم، سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بدمشق، وصلي عليه يوم العيد، وكان نهار (3) الجمعة، ودفن بالمقبرة التي أنشأها جوار مقبر الصوفية غربي دمشق، وزرت قبره غير مرة، رحمه الله تعالى.
    وكان والده من طريثت، وقد تقدم الكلام عليها في ترجمة عميد الملك الكندري فلا حاجة إلى إعادته، وهي من نواحي نيسابور (4) .
    وقال بعض أصحابه: أنشدنا الشيخ قطب الدين لبعضهم:
    يقولون إن الحب كالنار في الحشا ... ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
    وما هي إلا جذوة مس عودها ... ندى فهي لا تخبو ولا تتوقد والله تعالى أعلم بالصواب.

مسلم صاحب الصحيح

    أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري صاحب الصحيح؛ أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدثين، رحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر، وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وعبد الله بن مسلمة القعنبي وغيرهم، وقدم بغداد غير مرة فروى عنه أهلها، وآخر قدومه إليها في سنة تسع وخمسين ومائتين، وروى عنه الترمذي وكان من التقات.
    وقال محمد الماسرجسي، سمعت مسلم بن الحجاج يقول: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلثمائة ألف حديث مسموعة. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث. وقال الخطيب البغدادي: كان مسلم يناضل عن البخاري، حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه.
    وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ: لما استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم من الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ، ونادى عليه، ومنع الناس من الاختلاف إليه، حتى هجر وخرج من نيسابور في تلك المحنة، قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديماً وحديثاً وأنه عوتب على ذلك بالحجاز والعراق ولم يرجع عنه، فلما كان يوم مجلس محمد ابن يحيى قال في آخر مجلسه: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته، وقام على روؤس الناس وخرج من مجلسه، وجمع كل ما كان كتب منه وبعث به على ظهر حمال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة وتخلف عنه وعن زيارته.
    وتوفي مسلم المذكور عشية يوم الأحد ودفن بنصر أباذ ظاهر نيسابور يوم الاثنين لخمس، وقيل لست، بقين من شهر رجب الفرد سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور، وعمره خمس وخمسون سنة.
    هكذا وجدته في بعض الكتب، ولم أر أحداً من الحفاظ يضبط (1) مولده ولا تقدير عمره، وأجمعوا أنه ولد بعد المائتين. وكان شيخنا تقي الدين أبو عمرو عثمان المعروف بابن الصلاح يذكر مولده، وغالب ظني أنه قال: سنة اثنتين ومائتين، ثم كشفت ما قاله ابن الصلاح فإذا هو في سنة ست ومائتين، نقل ذلك من كتاب " علماء الأمصار " تصنيف الحاكم أبي عبد الله بن البيع النيسابوري الحافظ، ووقعت على الكتاب الذي نقل منه، وملكت النسخة التي نقل منها أيضاً، وكانت ملكه، وبيعت في تركته ووصلت إلي وملكتها، وصورة ما قاله بإن مسلم بن الحجاج توفي بنيسابور لخمس بقين من شهر رجب الفرد سنة إحدى وستين ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين سنة، فتكون ولادته في سنة ست ومائتين، والله أعلم، رحمه الله تعالى.
    وقد تقدم الكلام على القشيري صاحب الرسالة (2) فأغنى عن الإعادة.
    (248) وأما محمد بن يحيى المذكور فهو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله ابن خالد ابن فارس بن ذؤيب الذهلي النيسابوري، وكان أحد الحفاظ الأعيان، روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة القزويني، وكان ثقة مأموناً. وكان سبب الوحشة بينه وبين البخاري أنه لما دخل البخاري مدينة نيسابور شعث عليه محمد بن يحيى في مسألة خلق اللفظ، وكان قد سمع منه، فلم يمكنه ترك الرواية عنه، وروى عنه في الصوم والطب والجنائز والعتق وغير ذلك مقدار ثلاثين موضعاً، ولم يصرح بإسمه فيقول حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، بل يقول: حدثنا محمد، ولا يزيد عليه، ويقول محمد بن عبد الله،

مروان بن أبي حفصة

    أبو السمط - وقيل أبو الهندام - مروان بن أبي حفصة سليمان بن يحيى ابن أبي حفصة يزيد، الشاعر المشهور؛ كان جده أبو حفصة مولى مروان بن الحكم بن أبي العاصي الموي، فأعتقه يوم الدار، لأنه أبلى يومئذ، فجعل عتقه جزاءه، وقيل إن أبا حفصة كان يهودياً طبيباً أسلم على يد مروان بن الحكم ويزعم أهل المدينة أنه كان من موالي اسموأل بن عادياء اليهودي المشهور بالوفاء صاحب القصة المشهورة مع امرئ القيس بن حجر الشاعر المشهور، وأن أبا حفصة سبي من اصطخر وهو غلام فاشتراه عثمان رضي الله عنه، ووهبه لمروان بن الحكم.
    ومروان بن أبي حفصة الشاعر المذكور من أهل اليمامة، وقدم بغداد ومدح المهدي وهارون الرشيد، وكان يتقرب إلى الرشيد بهجاء العلويين، ومروان المذكور من الشعراء المجيدين، والفحول المقدمين. حكى ابن سيف (2) عن أبي خليفة عن ابن سلام قال: لما أنشد مروان بن أبي حفصة المهدي قصيدته التي يقول فيها:
    إليك قسمنا النصف من صلواتنا ... مسير شهر بعد شهر نواصله فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ... لديك ولكن أهنأ العيش عاجله فقال له المهدي، قف بحيث أنت، كم قصيدتك هذه من بيت قال: سبعون بيتاً، قال: فلك سبعون ألفاً، لا تتم إنشادك حتى يحضر المال، فأحضر المال، فأنشد القصيدة وقبضه وانصرف (1)
    وذكره أبو العابس بن المعتز في كتاب " طبقات الشعراء " فقال في حقه (2) : وأجود ما قاله مروان قصيدته الغراء اللامية، وهي التي فضل بها على شعراء زمانه، يمدح فيها معن بن زائدة الشيباني، ويقال إنه أخذ منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره، ولم ينل أحد من الشعراء الماضين ما ناله مروان بشعره، فمما ناله ضربة واحدة ثلثمائة ألف درهم من بعض الخلفاء بسبب بيت واحد؛ انتهى كلام ابن المعتز.
    والقصيدة اللامية طويلة تناهز الستين بيتاً ولولا خوف الإطالة لذكرتها، ولكن نأتي ببعض مديحها وهو في أثنائها (3) :
    بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لهم في بطن خفان أشبل
    هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
    تجنب " لا " في القول حتى كأنه ... حرام عليه قول " لا " حين يسأل
    تشابه يوماه علينا فأشكلا ... فلا نحن ندري أي يوميه أفضل
    أيوم نداه الغمر أم يوم بؤسه ... وما منهما إلا أغر محجل
    بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول
    هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أصابوا وأجزلوا
    وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
    تلاث بأمثال الجبال حبالهم (4) ... وأحلامهم منها لدى الوزن أثقل
    هذا لعمري عز الدولة السحر الحلال المنقح لفظاً ومعنى، وحقه أن يفضل على شعراء عصره وغيرهم، وله في مدائح معن المذكور ومرائيه كل معنى بديع، وسيأتي شيء من ذلك في أخبار معن إن شاء الله تعالى.
    وحكى ابن المعتز أيضاً (1) عن شراحيل بن معن بن زائدة أنه قال: عرضت في طريق مكة ليحيى بن خالد البرمكي، وهو في قبة، وعديله القاضي أبو يوسف الحنفي وهما يريدان الحج، قال شراحيل: فإني لأسير تحت القبة إذ عرض له رجل من بني أسد في شارة حسنة، فأنشده شعراً، فقال له يحيى بن خالد في بيت منها: ألم أنهك عن مثل هذا البيت أيها الرجل ثم قال: يا أخا بني أسد، إذا قلت الشعر فقل كقول الذي يقول، وأنشده الأ بيات اللامية المقدم ذكرها، فقال له القاضي أبو يوسف، وقد أعجبته الأبيات جداً: من قائل هذه البيات يا أبا الفضل فقال يحيى: يقولها مروان بن أبي حفصة يمدح بها أبا هذا الفتى الذي تحت القبة، قال شراحيل: فرمقني أبو يوسف بعينيه وأنا راكب على فرس لي عتيق وقال لي: من أنت يا فتى حياك الله تعالي وقربك قلت: أنا شراحبيل بن معن بن زائدة الشيباني، قال شراحبيل: فوالله ما أتت علي ساعة قط كانت أقر لعيني من تلك الساعة ارتياحاً وسروراً.
    ويحكى أن ولداً لمروان بن أبي حفصة المذكور دخل على شراحبيل المذكور فأنشده:
    أبا شراحيل من معن بن زائدة ... يا أكرم الناس من عجم ومن عرب
    أعطي أبوك أبي مالاً فعاش به ... فأعطيني مثل نا أعطى أبوك أبي
    ما حل قط أبي أرضاً أبوك بها ... إلا وأعطاه قنطاراً من الذهب فأعطاه شراحيل قنطاراً من الذهب.
    ومما يقارب هذه الحكاية ما يروى عن أبي مليكة جرول بن أوس المعروف بالحطيئة الشاعر المشهور لما اعتقله عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لبذاءة  
    لسانه وكثرة هجوه الناس، كتب إليه من الاعتقال:
    ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
    ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم عليك سلام الله يا عمر
    أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهي البشر
    ما آثروك بها إذا قدموك لها  ... لكن لأنفسهم قد كانت الأثر
    فأطلقه، وشرط عليه أن يكف لسانه عن الناس، فقال له: يا أمير المؤمنين اكتب لي كتاباً إلى علقمة بن علاثة لأقصده به، فقد منعتني التكسب بشعري وكان علقمة مقيماً بحوران، وهو من الأجواد المشهورين - قال ابن الكلبي في كتاب جمهرة النسب هو علقمة بن علاثة بن عوف بن ربيعة، ويقال له الأحوص لصغر عينيه، ابن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان - وكان عمر، رضي الله عنه استعمله على حوران، فامتنع عمر رضي الله عنه من ذلك، فقيل له: با أمير المؤمنين وما عليك من ذلك علقمة ليس من عمالك (2) فتخشى من ذلك أن تأثم، وإنما هو رجل من المسلمين تشفع بك غليه. فكتب له بما أراد، فمضى الحطيئة بالكتاب، فصادف علقمة قد مات والناس منصرفون من قبره، وابنه حاضر، فوقف عليه ثم أنشد (3) :
    لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى علقته الحبائل
    فإن تحي لا أملل حياتي، وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
    وما كان بيني لو لقيتك سالماً ... وبين الغنى إلا ليال قلائل

     فقال له ابنه: كم ظننت أن علقمة كان يعطيك لو وجدته حياً فقال: مائة ناقة يتبعها مائة من أولادها، فأعطاه ابنه إياها.
    والبيتان الأخيران من هذه الثلاثة وجدتهما في ديوان النابغة الذبياني، واسمه زياد بن معاوية بن جابر، من جملة قصيدة يرثي بها النعمان بن أبي شمر الغساني.
    وأخبار ابن أبي حفصة ونوادره ومحاسنه كثيرة، فلا حاجة إلى الإطناب بذكرها، وكانت ولادته سنة خمس ومائة. وتوفي سنة إحدى وثمانين ومائة ببغداد، ودفن بمقبرة نصر بن مالك الخزاعي، رحمه الله تعالى.
     وحفيده مروان الأصغر ، وهو أبو السمط مروان بن أبي الجنوب ابن مروان الأكبر المذكور، وكان من شعراء عصره المشاهير المقدمين، وذكر المبرد في كتاب " الكامل " (2) طرفاً من أخبار عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري ثم قال: ويروي أن عبد الرحمن المذكور لدغه زنبور فجاء أباه يبكي، فقال له: ما بك قال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة، فقال أبوه: قلت الشعر والله ثم قال بعد ذلك: وأعرق قوم كانوا في الشعر آل حسان، فإنهم كانوا يعدون ستة في نسق كلهم شاعر، وهم: سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، وبعد هؤلاء في الوقت آل أبي حفصة: فإنهم أهل بيت كل واحد منهم شاعر يتوارثونه كابراً عن كابر (3) ، ويحيى ابن أبي حفصة كنيته أبو جميل، وأمه تحيا بنت ميمون، يقال إنها من ولد النابغة الجعدي، وإن الشعر أتي إلى أبي حفصة بذلك السبب، وكل واحد من هؤلاء كان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، وهو دليل على الفصاحة والبلاغة، والله تعالى أعلم.