الجمعة، 31 مارس 2017

ضياء الدين شارح المهذب

    أبو عمرو عثمان بن عيسى بن درباس بن فير بن جهم بن عبدويس الهذباني الماراني الملقب ضياء الدين؛ كان من أعلم الفقهاء في وقته بمذهب الإمام الشافعي، وهو أخو القاضي صدر الدين أبي القاسم عبد الملك الحاكم بالديار المصرية - كان - وناب عنه في الحكم في القاهرة، واشتغل في صباه بإربل على الشيخ أبي العباس الخضر بن عقيل - المقدم ذكره في حرف الخاء - ثم انتقل إلى دمشق وقرأ على الشيخ أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون - المقدم ذكره - وتمهر في المذهب وأصول الفقه وأتقنهما، وشرح " المذهب " شرحاً شافياً لم يسبق إلى مثله في قريب من عشرين مجلداً ولم يكمله، بل بقي من كتاب الشهادات إلى آخره، وسماه " الاستقصاء لمذاهب الفقهاء " وشرح " اللمع " في أصول الفقه للشيخ أبي إسحاق الشيرازي شرحاً مستوفى في مجلدين وصنف غير ذلك. وقبل أن مات القاضي صدر الدين، رحمه الله تعالى - وكان موته في الليلة الخامسة من رجب ليلة الأربعاء سنة خمس وستمائة - عزل ضياء الدين المذكور عن النيابه، فوقف عليه الأمير جمال الدين خشترين الهكاري  مدرسة أنشأها بالقصر بالقاهرة وفوض تدريسها إليه. ولم يزل بها إلى أن توفي في ثاني عشر ذي القعدة سنة اثنتين وستمائة بالقاهرة ودفن بالقرافة الصغرى وقد قارب تسعين سنة، رحمه الله تعالى.
    ثم توفي صدر الدين في التاريخ المذكور، ودفن في تربته بالقرافة الصغرى، وكان يتردد في مولده: هل هو في أواخر سنة ست عشرة أو أوائل سنة سبع عشرة وخمسمائة؛ وفوض إليه السلطان صلاح الدين القضاء بالديار المصرية بعد أن كان قاضي الغربية من أعمال الديار المصرية في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وقيل سنة خمس وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
    وفير: بكسر الفاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء.
    وجهم: بفتح الجيم وسكون الهاء وبعدها ميم.
    وعبدوس: بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وضم الدال المهملة وسكون الواو وبعدها سين مهملة.
    والماراني: بفتح الميم وبعد الألف راء مفتوحة وبعد الألف الثانية نون، هذه النسبة إلى بني ماران بالمروج تحت الموصل.

أبو القاسم الأنماطي

أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأحول الأنماطي الفقيه الشافعي؛ كان من كبار الفقهاء الشافعية أخذ الفقه عن المزني والربيع بن سليمان المرادي، وأخذ عنه أبو العباس ابن سريج وغيره، وكان هو السبب في نشاط الناس ببغداد في كتب الشافعي وتحفظها. وقال عن المزني: أنا أنظر في كتاب " الرسالة " عن الشافعي، رضي الله عنه، منذ خمسين سنة ما أعلم أني نظرت فيه مرةً إلا وأنا أستفيد منه شيئاً كثيرا، لم أكن عرفته. وتوفي في شوال سنة ثمان وثمانين ومائتين ببغداد، رحمه الله تعالى.
وقال أبو حفص عمر بن علي المطوعي في كتاب " المذهب في ذكر أئمة المذهب " اسم أبي القاسم عبيد الله بن أحمد بن بشار الأنماطي، رحمه الله تعالى.
والأنماطي: بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الميم وبعد الألف طاء مهملة، هذه النسبة إلى الأنماط وبيعها  ، وهي البسط التي تفرش وغير ذلك من آلة الفرش من الأنطاع والوسائد، وأهل مصر يسمون هذه الآلات الأنماط وبائعها الأنماطي، والله أعلم.

عبد المؤمن صاحب المغرب

    أبو محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي الذي قام بأمره محمد بن تومرت المعروف بالمهدي؛ كان والده وسطاً في قومه، وكان صانعاً في عمل الطين يعمل منه الآنية فيبيعها، وكان عاقلاً من الرجال وقوراً. ويحكى أن عبد المؤمن في صباه كان نائماً تجاه أبيه وأبوه مشتغل بعمله في الطين ، فسمع أبوه دوياً من السماء، فرفع رأسه فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت مطبقة على الدار، فنزلت كلها مجتمعة على عبد المؤمن وهو نائم، فغطته ولم يظهر من تحتها ولا استيقظ لها، فرأته أمه على تلك الحال فصاحت خوفاً على ولدها، فسكتها أبوه فقالت: أخاف عليه، فقال: لا بأس عليه، بل إني متعجب مما يدل عليه ذلك، ثم إنه غسل يديه من الطين ولبس ثيابه ووقف ينتظر ما يكون من أمر النحل، فطار عنه بأجمعه، فاستيقظ الصبي وما به من ألم، فتفقدت أمه جسده فلم تر به أثراً، ولم يشك إليها ألماً، وكان بالقرب منهم رجل معروف بالزجر، فمض أبوه إليه فأخبره ما رآه من النحل مع ولده، فقال الزاجر: يوشك أن يكون له شأن، يجتمع على طاعته أهل المغرب، فكان من أمره ما اشتهر.
    ورأيت في بعض تواريخ المغرب  أن ابن تومرت كان قد ظفر بكتاب يقال له " الجفر " وفيه ما يكون على يده وقصة عبد المؤمن وحليته واسمه، وأن ابن تومرت أقام مدة يتطلبه حتى وجده وصحبه وهو إذ ذاك غلام، وكان يكرمه ويقدمه على أصحابه، وأفضى إليه بسره وانتهى به إلى مراكش وصاحبها يومئذ أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين، وجرى له معه فصول يطول شرحها، وأخرجه منها فتوجه إلى الجبال وحشد واستمال المصامدة، وبالجملة فإنه لم يملك شيئاً من البلاد، بل عبد المؤمن ملك بعد وفاته بالجيوش التي جهزها ابن تومرت والترتيب الذي رتبه، وكان أبداً يتفرس فيه النجابة وينشد إذا أبصره:
    تكاملت فيك أوصافٌ خصصت بها ... فكلنا بك مسرورٌ ومغتبط
    السن ضاحكةٌ والكف مانحة ... والنفس واسعةٌ والوجه منبسط وهذان البيتان وجدتهما منسوبين إلى أبي الشيص الخزاعي الشاعر المشهور ،وكان يقول لأصحابه: صاحبكم هذا غلاب الدول، ولم يصح عنه أنه استخلفه، بل راعى أصحابه في تقديمه إشارته فتم له الأمر وكمل.
    وأول ما أخذ من البلاد وهران ثم تلمسان ثم فاس ثم سلا ثم سبتة، وانتقل بعد ذلك إلى مراكش وحاصرها أحد عشر شهراُ ثم ملكها، وكان أخذه لها في أوائل سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، واستوثق له الأمر، وامتد ملكه إلى المغرب الأقصى والأدنى وبلاد إفريقية وكثير من بلاد الأندلس، وتسمى أمير المؤمنين، وقصدته الشعراء وامتدحته  بأحسن المدائح، وذكر العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن أبي العباس التيفاشي لما أنشده:
    ما هز عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي
    أشار عليه بأن يقتصر على هذا البيت وأمر له بألف دينار.
    ولما تمهدت له القواعد وانتهت أيامه خرج من مراكش إلى مدينة سلا، فأصابه بها مرض شديد، وتوفي منه في العشر الأخير من جمادى الآخرة السابع والعشرين منه سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وقيل أنه حمل إلى تين مل المذكورة في ترجمة المهدي محمد بن تومرت، ودفن هناك، والله أعلم، وكانت مدة ولايته ثلاثاً وثلاثين سنة وأشهراً، وكان عند موته شيخاً نقي البياض.
    ونقلت من تاريخ فيه سيرته وحليته، فقال مؤلفه: رأيته شيخاً معتدل القامة عظيم الهامة أشهل العينين كث اللحية شثن الكفين طويل القعدة واضح بياض الأسنان، بخده الأيمن خال، رحمه الله تعالى.
    وقيل إن ولادته كانت سنة خمسمائة، وقيل سنة تسعين وأربعمائة، والله أعلم. وعهد إلى ولده أبي عبد الله محمد فاضطرب أمره وأجمعوا على خلعه في شعبان من سنة ولايته، وبويع أخوه يوسف - على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.والكومي: بضم الكاف وسكون الواو وبعدها ميم، هذه النسبة إلى كومية، وهي قبيلة صغيرة نازلة بساحل البحر من أعمال تلمسان، ومولده في قرية هناك يقال لها تاجرة  .
    وأما كتاب " الجفر " فقد ذكره ابن قتيبة في أوائل كتاب " اختلاف الحديث "  فقال بعد كلام طويل واعجب من هذا التفسير تفسير الروافد للقرآن الكريم وما يدعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من الجفر الذي ذكره سعد بن هارون العجلي وكان رأس الزيدية فقال:
    ألم تر أن الرافضين تفرقوا ... فكلهم في جعفر قال منكرا
    فطائفة قالوا إمامٌ ومنهم ... طوائف سمته النبي المطهرا
    ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم ... برئت إلى الرحمن ممن تجفرا والأبيات أكثر من هذا  فاقتصرت منها على هذا لأنه المقصود بذكر الجفر، ثم قال ابن قتيبة بعد الفراغ من الأبيات: " وهو جلد جفر ادعوا أنه كتب لهم فيه الإمام كل ما يحتاجون إليه وكل ما يكون إلى يوم القيامة ". قلت: وقولهم " الإمام " يريدون به جعفراً الصادق، رضي الله عنه، وقد تقدم ذكره. وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء المعري بقوله من جملة أبيات :
    لقد عجبوا لأهل البيت لما ... أتاهم علمه في مسك جفر
    ومرآة المنجم وهي صغرى ... أرته كل عامرةٍ وقفر
    وقوله " في مسك جفر " المسك، بفتح الميم وسكون السين المهملة، الجلد. والجفر، بفتح الجيم وسكون الفاء وبعدها راء، من أولاد المعز ما بلغ أربعة
    أشهر، وجفر جنباه، وفصل عن أمه، والأنثى جفرة، وكانت عاداتهم ذلك الزمان أنهم  يكتبون في الجلود والعظام والخزف  وما شاكل ذلك.

الحافظ عبد المجيد العبيدي

    أبو الميمون عبد المجيد، الملقب الحافظ، ابن أبي القاسم محمد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله - وقد تقدم ذكر المهدي وجماعة من حفدته -؛ بويع الحافظ بالقاهرة يوم مقتل ابن عمه الآمر بولاية العهد وتدبير المملكة حتى يظهر الحمل المخلف عن الآمر - حسبما يأتي شرحه في آخر هذه الترجمة إن شاء الله تعالى - فغلب عليه أبو علي أحمد بن الأفضل شاهان شاه ابن أمير الجيوش بدرٍ الجمالي - وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الشين - في صبيحة يوم مبايعته وكان الآمر لما قتل الأفضل اعتقل جميع أولاده وفيهم أبو علي المذكور، فأخرجه الجند من الاعتقال لما قتل الآمر وبايعوه  فسار إلى القصر وقبض على الحافظ المذكور واستقل بالأمر وقام به أحسن قيام، ورد على المصادرين أموالهم، وأظهر مذهب الإمامية وتمسك بالأئمة الاثني عشر، ورفض الحافظ وأهل بيته، ودعا على المنابر للقائم في أخر الزمان المعروف بالإمام المنتظر على زعمهم وكتب اسمه على السكة، ونهى أن يؤذن " حي على خير العمل "، وأقام كذلك إلى أن وثب عليه رجل من الخاصة بالبستان الكبير بظاهر القاهرة في النصف من المحرم سنة ست وعشرين وخمسمائة فقتله، وكان ذلك بتدبير الحافظ، فبادر الأجناد بإخراج الحافظ وبايعوه ولقبوه الحافظ، ودعي له على المنابر.
    وكان مولده بعسقلان في المحرم من سنة سبع وستين وأربعمائة، وقيل سنة ست وستين، وكان قد بويع بالعهد يوم قتل الآمر - وسيأتي تاريخه في ترجمته في حرف الميم إن شاء الله تعالى - ثم بويع بالاستقلال يوم قتل أحمد بن الأفضل في التاريخ المذكور. وتوفي أخر ليلة الأحد لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع، وقيل ثلاث وأربعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وقيل أنه ولد في الثالث عشر وقيل الخامس عشر من شهر رمضان سنة ثمان وستين وأربعمائة.
    وكان سبب ولادته بعسقلان أن أباه خرج إليها من مصر في أيام الشدة والغلاء المفرط الذي حصل بمصر في زمان جده المستنصر - حسبما هو مشروح في ترجمته في حرف الميم - فأقام بها ينتظر أيام الرخاء وزوال الشدة، فولد له الحافظ المذكور هناك، هكذا قاله شيخنا عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير، والله أعلم (3) .
    ولم يتول الأمر من ليس أبوه صاحب الأمر من بيتهم سواه وسوى العاضد عبد الله - وقد تقدم ذكره في العبادلة - وكان سبب توليته أن الآمر لم يخلف ولداً وخلف امرأة حاملاً، فماج أهل مصر وقالوا: هذا البيت لا يموت إمام  
    منهم حتى يخلف ولداً ذكراً وينص عليه بالإمامة، وكان الآمر قد نص على الحمل، فوضعت له المرأة بنتاً، فكان ما شرحناه من حديث الحافظ المذكور وأحمد بن الأفضل أمير الجيوش، ولهذا السبب بويع الحافظ بولاية العهد ولم يبايع بالإمامة مستقلاً، لأنهم كانوا ينتظرون ما يكون من الحمل.
    وهذا الحافظ كان كثير المرض بعلة القولنج فعمل له شيرماه الديلمي - وقيل موسى النصراني - طبل القولنج الذي كان في خزائنهم لما ملك السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، الديار المصرية، وكسره السلطان المذكور، وقصته مشهورة، وأخبرني حفيد شيرماه المذكور أن جده ركب هذا الطبل من المعادن السبعة والكواكب السبعة في إشرافها كل واحد منها في وقته، وكان من خاصته أن الإنسان إذا ضربه خرج الريح من مخرجه، ولهذه الخاصية كان ينفع من القولنج.

عبد المحسن الصوري

    أبو محمد عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب بن غلبون الصوري الشاعر المشهور؛ أحد المحسنين الفضلاء، المجيدين الأدباء، شعره بديع الألفاظ حسن المعاني، رائق الكلام مليح النظام، من محاسن الشام، له ديوان شعر أحسن فيه كل الإحسان، فمن محاسنه قوله:
    أترى بثأرٍ أم بدين ... علقت محاسنها بعيني
    في لحظها وقوامها ... ما في المهند والرديني
    وبوجهها ماء الشبا ... ب خليط نار الوجنتين
    بكرت  علي وقالت اخ ... تر خصلة من خصلتين
    إما الصدود أو الفرا ... ق فليس عندي غير ذين
    فأجبتها ومدامعي ... تنهل مثل المأزمين
    لا تفعلي، إن حان ص ... دك أو فراقك حان حيني
    فكأنما قلت انهضي ... فمضت مسارعةً لبيني
    ثم استقلت أين حل ... ت عيسها رميت بأين
    ونوائبٍ أظهرن أيا ... مي إلي بصورتين
    سودنها وأطلنها ... فرأيت يوماً ليلتين ومنها:
    هل بعد ذلك من يع ... رفني النضار من اللجين
    فلقد جهلتهما لبع ... د العهد بينهما وبيني
    متكسباً بالشعر يا ... بئس الصناعة في اليدين
    كانت كذلك قبل أن ... يأتي علي بن الحسين
    فاليوم حال الشعر ثا ... لثة لحال الشعريين
    أغنى وأعفى مدحه ال ... عافين عن كذب ومين وهذه القصيدة عملها عبد المحسن في علي بن الحسين والد الوزير أبي القاسم بن المغربي، وهي قصيدة طويلة جيدة ولها حكاية ظريفة، وهي أنه كان بمدينة عسقلان رئيس يقال له ذو المنقبتين، فجاءه بعض الشعراء وامتدحه بهذه القصيدة وجاء في مديحها:
    ولك المناقب كلها ... فلم اقتصرت على اثنتين فأصغى الرئيس إلى إنشاده واستحسنها وأجزل جائزته، فلما خرج من عنده قال له بعض الحاضرين: هذه القصيدة لعبد المحسن، فقال: أعلم هذا وأحفظ القصيدة، ثم أنشدها، فقال له ذلك الرجل: فكيف حتى عملت معه هذا العمل من الإقبال عليه والجائزة السنية فقال: لم أفعل ذلك إلا لأجل البيت الذي ضمنها، وهو قوله:
    ولك المناقبُ كلها ... فإن هذا البيت ليس لعبد المحسن، وأنا ذو المنقبتين، فأعلم قطعاً أن هذا البيت ما عمل إلا في، وهو في نهاية الحسن.
    ومن شعره أيضاً، وذكر الثعالبي في كتابه الذي جعله ذيلاً على " يتيمة الدهر "، هذه الأبيات لأبي الفرج ابن أبي حصين علي بن عبد الملك الرقي أصلاً، وكان أبوه قاضي حلب، والله أعلم، ولكنها في ديوان عبد المحسن - والثعالبي قد نسب أشياء إلى غير أربابها وغلط فيها، ولعل هذا من جملة الغلط أيضاً - وذكر في ديوانه أنه عملها في أخيه عبد الصمد، وهي:
    وأخٍ مسه نزولي بقرحٍ ... مثلما مسني من الجوع قرح
    بت ضيفاً له كما حكم الده ... ر وفي حكمه على الحر قبح
    فابتداني يقول وهو من السك ... رة بالهم طافح ليس يصحو
    لم تغربت قلت قال رسول الله ... والقول منه نصحٌ ونجح
    سافروا تغنموا، فقال: وقد قا ... ل تمام الحديث صوموا تصحوا وذكر له صاحب " اليتيمة " هذين البيتين:
    عندي حدائق شكرٍ غرس جودكم ... قد مسها عطش فليسق من غرسا
    تداركوها وفي أغصانها رمقٌ ... فلن يعود اخضرار العود إن يبسا واجتاز يوماً بقبر صديق له فأنشده:
    عجباً لي وقد مررت على قب ... رك كيف اهتديت قصد الطريق
    أتراني نسيت عهدك يوماً ... صدقوا ما لميت من صديق ولما ماتت أمه ودفنها وجد عليها وجداً كثيراً فأنشد:
    رهينة أحجار ببيداء دكدك ... تولت فحلت عروة المتمسك
    وقد كنت أبكي إن تشكت وإنما ... أنا اليوم أبكي أنها ليس تشتكي وهذا المعنى مأخوذ من قول المتنبي:
    وشكيتي فقد السقام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء وقد استعمل أبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن سنان الخفاجي الحلبي 
    هذا المعنى في بيت من جملة قصيدة طويلة فقال:
    بكى الناس أطلال الديار وليتني ... وجدت دياراً للدموع السواكب ومحاسنه كثيرة، والاقتصار أولى.
    وتوفي يوم الأحد تاسع شوال سنة تسع عشرة وأربعمائة، وعمره ثمانون سنة أو أكثر، رحمه الله تعالى.
    وغلبون: بفتح الغين المعجمة وسكون اللام وضم الباء الموحدة وبعد الواو نون.
    والصوري قد تقدم الكلام عليه.

عبد الحميد الكاتب

    عبد الحميد بن يحيى بن سعد مولى بني عامر بن لؤي بن غالب، الكاتب البليغ المشهور؛ وبه يضرب المثل في البلاغة، حتى قيل فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماماً، وهو من أهل الشام، وكان أولاً معلم صبيةٍ يتنقل في البلدان، وعنه أخذ المترسلون، ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفوا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل، ومجموع رسائله مقدار ألف ورقة. وهو أول من أطال الرسائل واستعمل التحميدات في فصول الكتب، فاستعمل الناس ذلك بعده، وكان كاتب مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي آخر ملوك بني أمية المعروف بالجعدي، فقال له يوماً وقد أهدى له بعض العمال عبداً أسود فاستقله: اكتب إلى هذا العامل كتاباً مختصراً، وذمه على ما فعل، فكتب إليه " لو وجدت لوناً شراً من السواد وعدداً أقل من الواحد لأهديته، والسلام ".
    ومن كلامه أيضاً: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة.وقال إبراهيم بن العباس الصولي  ، وقد ذكر عبد الحميد المذكور عنده: كان والله الكلام معاناً له، ما تمنيت كلام أحد من الكتاب قط أن يكون لي مثل كلامه. وفي رسالة له " والناس أخياف مختلفون، وأطوار متباينون، منهم علق مضنة لا يباع، وغل مظنة لا يبتاع " وكتب على يد شخص كتاباً بالوصاة عليه إلى بعض الرؤساء فقال: " حق موصل كتابي إليك عليك كحقه علي إذ رآك موضعا لأمله، ورآني أهلاً لحاجته، وقد أنجزت حاجته، فصدق أمله ". ومن كلامه " خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً ". وكان كثيراً ما ينشد:
    إذا جرح الكتاب كانت دويهم ... قسياً وأقلام الدوي لها نبلا وله رسائل بليغة.
    وكان حاضراً مع مروان في جميع وقائعه عند آخر أمره، وقد سبق في أخبار أبي مسلم الخراساني طرف من ذلك. ويحكى أن مروان قال له حين أيقن بزوال ملكه: قد احتجت أن تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي، فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك يحوجهم إلى حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي، وإلا لم تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي. فقال له عبد الحميد: إن الذي أشرت به علي أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي، وما عندي إلا الصبر حتى يفتح الله تعالى أو أقتل معك؛ وأنشد:
    أسر وفاء ثم أظهر غدرةً ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهر ذكر ذلك أبو الحسن المسعودي في كتاب " مروج الذهب " .
    ثم إن عبد الحميد قتل مع مروان، وكان قتل مروان يوم الاثنين ثالث عشر ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، بقرية يقال لها بوصير من أعمال الفيوم بالديار المصرية، رحمهما الله تعالى. ورأيت بخطي في مسوداتي أنه لما قتل مروان بن محمد الأموي استخفى عبد الحميد بالجزيرة، فغمز عليه، فأخذ ودفعه أبو العباس، وأظنه السفاح، إلى عبد الجبار بن عبد الرحمن صاحب شرطته، فكان يحمي له طستاً بالنار ويضعه على رأسه حتى مات. وكان من أهل الأنبار وسكن الرقة، وشيخه في الكتابة سالم مولى هشام بن عبد الملك.
    [وروى محمد بن العباس اليزيدي بإسناد ذكره قال: أتي أبو جعفر المنصور أخو السفاح - وهو ثاني خلفاء بني العباس بعد قتل مروان بن محمد الجعدي - بعبد الحميد الكاتب والبعلبكي المؤذن وسلام الحادي، فهم المنصور بقتلهم جميعاً لكونهم من أصحاب مروان، فقال سلام: استبقني يا أمير المؤمنين فإني أحسن الناس حداءً، فقال: وما بلغ من حدائك فقال: تعمد إلى إبل فتظمئها ثلاثاً ثم توردها الماء، فإذا وردت رفعت صوتي بالحداء فترفع رؤوسها وتدع الشرب ثم لا تشرب حتى أسكت، قال (1) : فأمر المنصور بإبل فأظمئت ثلاثة أيام، ثم أوردت الماء، فلما بدأت بالشرب رفع سلام صوته بالحداء فامتنعت من الشرب ثم لم تشرب حتى سكت، فاستبقى سلاماً وأجازه وأجرى عليه رزقه. وقال له البعلبكي [المؤذن] : استبقني يا أمير المؤمنين، قال: وما عندك قال: أنا مؤذن، قال: وما بلغ من أذانك قال: تأمر جارية تقدم إليك طستاً وتأخذ بيدها أبريقاً وتصب عليك، وأبتدئ الآذان فتدهش ويذهب عقلها إذا سمعت أذاني حتى تلقي الأبريق من يدها وهي لا تعلم؛ فأمر جارية فأعدت أبريقاً فيه ماء وقدمت إليه طستاً وجعلت تصب عليه ورفع البعلبكي صوته بالآذان فبقيت الجارية شاخصة وألقت الأبريق من يدها فاستبقاه وأجازه وأجرى عليه الرزق وصير أمر الجامع إليه. قال له: عبد الحميد الكاتب: استبقني يا أمير المؤمنين قال: وما عندك قال: أنا أبلغ أهل زماني في الكتابة، فقال له المنصور: أنت الذي فعلت بنا الأفاعيل وعملت بنا الدواهي. فأمر به فقطعت يداه ورجلاه ثم ضربت عنقه، والله أعلم أي ذلك كان.
    وكان ولده إسماعيل كاتباً ماهراً نبيلاً معدوداً في جملة الكتاب المشاهير.
    وكان يعقوب بن داود وزير المهدي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - كاتباً بين يدي عبد الحميد المذكور، وممن تخرج عليه وتعلم منه.
    وساير عبد الحميد يوماً مروان بن محمد على دابة قد طالت مدتها في ملكه، فقال له مروان: قد طالت صحبة هذه الدابة لك، فقال: يا أمير المؤمنين إن من بركة الدابة طول صحبتها وقلة علفها، فقال له: فكيف سيرها فقال: همها أمامها وسوطها عنانها وما ضربت قط إلا ظلماً.
    وقال أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري في كتاب " أخبار الوزراء " : وجدت بخط أبي علي أحمد بن إسماعيل: حدثني العباس بن جعفر الأصبهاني، قال: طلب عبد الحميد بن يحيى الكاتب وكان صديقاً لابن المقفع، ففاجأهما الطلب وهما في بيت، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد فقال كل واحد منهما: أنا، خوفاً من أن ينال صاحبه مكروه وخاف عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفع فقال: ترفقوا بنا فإن كلاً منا له علامات، فوكلوا بنا بعضكم ويمضي البعض الآخر ويذكر تلك العلامات لمن وجهكم ففعلوا، وأخذ عبد الحميد.
    وبوصير: بضم الباء الموحدة وسكون الواو وكسر الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء. ويقال: إن مروان لما وصل إليها منهزماً والعساكر في طلبه قال: ما اسم هذه القرية فقيل له: بوصير، فقال: إلى الله المصير، فقتل بها، وهي واقعة مشهورة.
    وقال إبراهيم بن جبلة : رآني عبد الحميد الكاتب أخط خطاً رديئاً فقال لي:
    أتحب أن تجود خطك فقلت: نعم، فقال: أطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرف قطتك وأيمنها، ففعلت فجاد خطي.

ابن كليب الحراني

    أبو الفرج عبد المنعم بن أبي الفتح عبد الوهاب بن سعد بن صدقة بن الخضر بن كليب، الملقب شمس الدين، الحراني الأصل البغدادي المولد والدار الحنبلي المذهب؛ كان تاجراً وله في الحديث السماعات العالية، وانتهت الرحلة إليه من أقطار الأرض وألحق الصغار بالكبار لا يشاركه في شيوخه ومسموعاته أحد.
    وكانت ولادته في صفر سنة خمس خمسمائة. وتوفي ليلة الاثنين السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وخمسمائة ببغداد، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، بباب حرب، عند أبيه وأهله، وكان صحيح الذهن والحواس إلى أن مات، وتسرى مائة وثمانياً وأربعين جارية، رحمه الله تعالى.

أبو الوقت

    أبو الوقت عبد الأول بن أبي عبد الله عيسى بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق السجزي؛ كان مكثراً من الحديث عالي الاسناد ، طالت مدته وألحق الأصاغر بالأكابر.
    سمعت صحيح البخاري بمدينة إربل في بعض شهور سنة إحدى وعشرين وستمائة على الشيخ الصالح أبي جعفر محمد بن هبة الله بن المكرم بن عبد الله الصوفي البغدادي، بحق سماعه في المدرسة النظامية ببغداد من الشيخ أبي الوقت  المذكور، في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، بحق سماعه من أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد بن مظفر الداودي في ذي القعدة سنة خمس وستين وأربعمائة، بحق سماعه من أبي محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي في صفر سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، بحق سماعه من أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري سنة ست عشرة وثلثمائة، بحق سماعه من مؤلفه الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري مرتين، إحداهما سنة ثمان وأربعين ومائتين والثانية سنة اثنتين وخمسين ومائتين، رحمهم الله أجمعين  .
    وكان الشيخ أبو الوقت صالحاً يغلب عليه الخير، وانتقل أبوه إلى مدينة هراة وسكنها فولد له بها أبو الوقت في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين 
    وأربعمائة. وتوفي في ليلة الأحد سادس ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وكان قد وصل إلى بغداد يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شوال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، ونزل في رباط فيروز وبه مات، وصلي عليه فيه ثم صلوا عليه الصلاة العامة بالجامع، وكان الإمام في الصلاة الشيخ عبد القادر الجيلي، وكان الجمع متوفراً، ودفن بالشونيزية في الدكة المدفون بها رويم الزاهد؛ وكان سماعه الحديث بعد الستين والأربعمائة، وهو آخر من روى في الدنيا عن الداودي، رحمه الله تعالى.
    وتوفي والده سنة بضع عشرة وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
    وقد تقدم الكلام على السجزي، وهي من شواذ النسب .
     وكانت ولادة شيخنا أبي جعفر محمد بن هبة الله بن المكرم الصوفي المذكور في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وقيل سنة ست، وقيل سنة سبع وثلاثين. وتوفي ليلة الخميس من المحرم سنة إحدى وعشرين وستمائة ببغداد، ودفن من الغد بالشونيزية، رحمهم الله أجمعين.

الحافظ عبد الغافر الفارسي

أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد بن محمد بن سعيد الفارسي الحافظ؛ كان إماماً في الحديث والعربية وقرأ القرآن الكريم، ولقن الاعتقاد بالفارسية وهو ابن خمس سنين، وتفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني صاحب " نهاية المطلب " في المذهب والخلاف ولازمه مدة أربع سنين وهو سبط الإمام أبي القاسم عبد الكريم القشيري - المقدم ذكره - وسمع عليه الحديث الكثير، وعلى جدته فاطمة بنت أبي علي الدقاق وخاليه أبي سعد وأبي سعيد ولدي أبي القاسم القشيري ووالده أبي عبد الله إسماعيل بن عبد الغافر ووالدته أمة الرحيم ابنة أبي القاسم القشيري وجماعة كبيرة سواهم. ثم خرج من نيسابور إلى خوارزم ولقي بها الأفاضل، وعقد له المجلس، ثم خرج إلى غزنة ومنها إلى الهند، وروى الأحاديث، وقرئ عليه لطائف الإشارات بتلك النواحي، ثم رجع إلى نيسابور وولي الخطابة بها، وأملى بها في مسجد عقيل أعصار يوم الاثنين سنين، ثم صنف كتباً عديدة منها " المفهم لشرح غريب صحيح مسلم " و " السياق لتاريخ نيسابور " وفرغ منه في أواخر ذي القعدة سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وكتاب " مجمع الغرائب " في غريب الحديث، وغير ذلك من الكتب المفيدة.
وكانت ولادته في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وأربعمائة؛ وتوفي في سنة تسع وعشرين وخمسمائة بنيسابور، رحمه الله تعالى.

الحافظ عبد الغني

    أبو محمد عبد الغني بن سعيد بن علي سعيد بن بشر بن مروان بن عبد العزيز الأزدي الحافظ المصري؛ كان حافظ مصر في عصره، وله تواليف نافعة منها " مشتبه النسبة " وكتاب " المؤتلف والمختلف " وغير ذلك وانتفع به خلق كثير وكانت بينه وبين أبي أسامة جنادة اللغوي وأبي علي (2) المقرئ الأنطاكي مودة أكيدة واجتماع في دار الكتب ومذاكرات فلما قتلهما الحاكم صاحب مصر استتر بسبب ذلك الحافظ عبد الغني خوفاً أن يلحق بهما لاتهامه بمعاشرتهما وأقام مستخفياً مدة حتى حصل له الأمن فظهر - وقد تقدم في ترجمة أبي أسامة خبر ذلك (3) .
    وكانت ولادة الحافظ عبد الغني لليلتين بقيتا من ذي القعدة  سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة. وتوفي ليلة الثلاثاء ودفن يوم الثلاثاء سابع صفر سنة تسع وأربعمائة بمصر ودفن بحضرة مصلى العيد، رحمه الله تعالى.
    وذكر أبو القاسم يحيى بن علي الحضرمي المعروف بابن الطحان في تاريخه الذي جعله ذيلاً لتاريخ ابن يونس المصري أن عبد الغني بن سعيد المذكور مولده في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، والله أعلم.
     وتوفي والده سعيد المذكور سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، وعمره ثلاث وأربعون سنة، رحمه الله تعالى، وقال ولده الحافظ عبد الغني: لم أسمع من والدي شيئاً .
    وقال أبو الحسن علي بن بقا كاتب الحافظ عبد الغني بن سعيد: سمعت الحافظ عبد الغني بن سعيد يقول: رجلان جليلان لزمهما لقبان قبيحان: معاوية بن عبد الكريم الضال، وإنما ضل في طريق مكة، وعبد الله بن محمد الضعيف، وإنما كان ضعيفاً في جسمه، لا في حديثه.
    وقال أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ الصوري: قيل للدارقطني: هل رأيت في الحديث أحداً يرجى علمه فقال: نعم، شاباً بمصر كأنه شعلة نار يقال له: عبد الغني، فلما خرج الدارقطني من مصر جاءه المودعون وتحزنوا على مفارقته وبكوا، فقال: لقد تركت عندكم خلفاً، يعني عبد الغني.
    وقال أيضاً - أعني الصوري - لما صنف عبد الغني " المؤتلف والمختلف " عرضه على الدارقطني فقال له: اقرأه، فقال: كيف أقرأه لك ومعظمه أخذته عنك فقال: نعم أخذته عني متفرقاً، والآن قد جمعته.

القاضي عبد الوهاب المالكي

    القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون بن مالك بن طوق التغلبي البغدادي الفقيه المالكي، وهو من ذرية مالك بن طوق التغلبي صاحب الرحبة؛ كان فقيهاً أديباً شاعراً، صنف في مذهبه كتاب " التلقين " وهو مع صغر حجمه من خيار الكتب وأكثرها فائدة، وله كتاب " المعونة " و " شرح الرسالة " وغير ذلك عدة تصانيف.
    ذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " فقال (2) : سمع أبا عبد الله بن العسكري وعمر بن محمد بن سبنك (3) وأبا حفص ابن شاهين، وحدث بشيء يسير. كتبت عنه، وكان ثقة، ولم يلق من المالكيين أحداً أفقه منه، وكان حسن النظر جيد العبارة، وتولى القضاء ببادرايا وباكسايا، وخرج في آخر عمره إلى مصر فمات بها.
    وذكره ابن بسام في كتاب " الذخيرة " فقال (4) : كان بقية الناس، ولسان أصحاب القياس، وقد وجدت له شعراً معانيه أجلى من الصبح وألفاظه أحلى من الظفر بالنجح، ونبت به بغداد كعادة البلاد بذوي فضلها، وعلى حكم الأيام في محسني أهلها، فخلع أهلها، وودع ماءها وظلها، وحدثت أنه شيعه يوم فصل عنها من أكابرها وأصحاب محابرها جملة موفورة وطوائفكثير، وأنه قال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية، ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية، وفي ذلك يقول:
    سلام على بغداد في كل موطنٍ ... وحق لها مني سلامٌ مضاعف
    فوالله ما فارقتها عن قلىً لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف
    ولكنها ضاقت علي بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
    وكانت كخلٍ كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف واجتاز في طريقه بمعرة النعمان، وكان قاصداً مصر، وبالمعرة يومئذ أبو العلاء المعري فأضافه، وفي ذلك يقول من جملة أبيات  :
    والمالكي ابن نصرٍ زار في سفرٍ ... بلادنا  فحمدنا النأي والسفرا
    إذا تفقه أحيا  مالكاً جدلاً ... وينشر الملك الضليل إن شعرا
    ثم توجه إلى مصر فحمل لواءها، وملأ أرضها وسماءها، واستتبع سادتها وكبراءها، وتناهت إليه الغرائب، وانثالت في يديه الرغائب، فمات لأول ما وصلها من أكلة اشتهاها فأكلها، وزعموا أنه قال وهو يتقلب، ونفسه يتصعد ويتصوب: لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا.
    وله أشعار رائقة طريفة، فمن ذلك قوله:
    ونائمة قبلتها فتنبهت ... فقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد
    فقلت لها إني فديتك غاصبٌ ... وما حكموا في غاصبٍ بسوى الرد
    خذيها وكفي عن أثيمٍ ظلامةً ... وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد
    فقالت: قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد
    فباتت يميني وهي هميان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد
    فقالت: ألم أخبر بأنك زاهدٌ ... فقلت بلى ما زلت أزهد في الزهد ومن شعره أيضاً:
    بغداد دارٌ لأهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق
    ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحفٌ في بيت زنديق [وله:
    أهيم بذكر الشرق والغرب دائماً ... وما لي لا شرق البلاد ولا غرب
    ولكن أوطاناً نأت وأحبةً ... فعدت متى أذكر عهودهم أصب
    ولم أنس من ودعت بالشط سحرةً ... وقد غرد الحادون واشتغل الركب
    أليفان هذا سائرٌ نحو غربةٍ ... وهذا مقيمٌ سار من صدره القرب وله أيضاً:
    قطعت الأرض في شهري ربيعٍ ... إلى مصر وعدت إلى العراق
    وقال لي الحبيب وقد رآني ... مشوقاً للمضمرة العتاق
    ركبت على البراق فقلت كلا ... ولكني ركبت على اشتياقي
     وكان على خاطري أبيات لا أعرف لمن هي، ثم وجدتها في عدة مواضع للقاضي عبد الوهاب المذكور وهي:
    متى يصل العطاش إلى ارتواءٍ ... إذا استقت البحار من الركايا
    ومن يثني الأصاغر عن مرادٍ ... وقد جلس الأكابر في الزوايا
    وأن ترفع الوضعاء يوماً ... على الرفعاء من إحدى الرزايا
    إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا
     انفردت ر بما بين المعقفين.
     بعد هذا جاء في المطبوعة المصرية: وله أيضاً:
    حمدت إلهي إذ بليت بحبها ... وبي حول يغني عن النظر الشزر
    نظرت إليها والرقيب يخالني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
    وهذا البيتان لأبي حفص الشطرنجي في جارية حولاء، وسيذكرهما المؤلف في ترجمة محمد بن الحسن بن حمدون الكاتب، ولا ريب في أن المؤلف مدقق شديد التحري، فلعل هذه الزيادة هنا ليست من الأصل أو من الإضافات التي ألحقها.
    وذكر صاحب " الذخيرة " أنه ولي القضاء بمدينة اسعرد وقال غيره: كان قاضياً في بادرايا وباكسايا وهما بليدتان من أعمال العراق. وسئل عن مولده فقال: يوم الخميس السابع من شوال سنة اثنتين وستين وثلثمائة ببغداد. وتوفي ليلة الاثنين الرابعة عشرة من صفر سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة بمصر، وقيل: إنه توفي في شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى. ودفن في القرافة الصغرى وزرت قبره فيما بين قبة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وباب القرافة، بالقرب من ابن القاسم وأشهب، رحمهما الله تعالى.
    وكان أبوه من أعيان الشهود المعدلين ببغداد.
     وكان أخوه أبو الحسن محمد بن علي بن نصر أديباً فاضلاً صنف كتاب " المفاوضة " للملك العزيز جلال الدولة أبي منصور ابن أبي طاهر  بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، جمع فيه ما شاهده، وهو من الكتب الممتعة في ثلاثين كراسة، وله رسائل، ومولده ببغداد في إحدى الجماديين في سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة، وتوفي يوم الأحد لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بواسط وكان قد صعد إليها من البصرة فمات بها.
     وتوفي أبوهما أبو الحسن علي يوم السبت ثاني شهر رمضان المعظم إحدى وتسعين وثلثمائة رحمهم الله تعالى.

ابن الصباغ صاحب الشامل

    أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر، المعروف بابن الصباغ، الفقيه الشافعي؛ كان فقيه العراقين في وقته، وكان يضاهي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، وتقدم عليه في معرفة المذهب. وكانت الرحلة إليه من البلاد، وكان تقياً حجة صالحاً، ومن مصنفاته كتاب " الشامل " في الفقه، وهو من أجود كتب أصحابنا، وأصحها نقلاً وأثبتها أدلةً، وله كتاب " تذكرة العالم والطريق السالم " (3) و " العدة " في أصول الفقه، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد أول ما فتحت، ثم عزل بالشيخ أبي إسحاق، وكانتولايته لها عشرين يوماً، ولما توفي أبو إسحاق أعيد لها أبو نصر المذكور.
    وذكر أبو الحسن محمد بن هلال بن الصابئ في تاريخه أن المدرسة النظامية بدئ بعمارتها في ذي الحجة من سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وفتحت يوم السبت عاشر ذي القعدة من سنة تسع وخمسين، وكان نظام الملك أمر أن يكون المدرس بها أبا إسحاق الشيرازي، وقرروا معه الحضور في هذا اليوم للتدريس، فاجتمع الناس ولم يحضر، وطلب فلم يوجد، فنفذ إلى أبي نصر ابن الصباغ فأحضر ورتب بها مدرساً، وظهر الشيخ أبو إسحاق في مسجده ولحق أصحابه من ذلك ما بان عليهم وفتروا عن حضور درسه وراسلوه إن لم يدرس بها مضوا إلى ابن الصباغ وتركوه، فأجاب إلى ذلك، وعزل ابن الصباغ، وجلس أبو إسحاق يوم السبت مستهل ذي الحجة فكان مدة تدريس ابن الصباغ عشرين يوماً.
    وقال ابن النجار في " تاريخ بغداد ": ولما مات أبو إسحاق تولى أبو سعد المتولي ثم صرف في سنة ست وسبعين، وأعيد ابن الصباغ ثم صرف في سنة سبع وسبعين، وأعيد أبو سعد إلى أن مات، وقد ذكرت ذلك في ترجمته. وقد سبق في ترجمة الشيخ أبي إسحاق في حرف الهمزة طرف من هذه القضية.
    وكانت ولادته سنة أربعمائة ببغداد، وكف بصره في آخر عمره. وتوفي في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وأربعمائة ببغداد، وقيل بل توفي يوم الخميس منتصف شعبان من السنة المذكورة، رحمه الله تعالى

عبد الرزاق الصنعاني

    أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني، مولى حمير؛ قال أبو سعد ابن السمعاني: قيل ما رحل الناس إلى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل (4) ما رحلوا إليه. يروي عن معمر بن راشد الأزدي مولاهم البصري والأوزاعي وابن جريج وغيرهم، وروى عنه أئمة الإسلام في ذلك العصر منهم
    سفيان بن عيينة وهو من شيوخه وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم.
    وكانت ولادته في سنة ست وعشرين ومائة. وتوفي في شوال سنة إحدى عشرة ومائتين باليمن، رحمه الله تعالى.
    والصنعاني: بفتح الصاد المهملة وسكون النون وفتح العين المهملة وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى مدينة صنعاء، وهي من أشهر مدن اليمن، وزادوا النون في النسبة إليها، وهي نسبة شاذة، كما قالوا في بهراء: بهراني.
    وقال أبو محمد عبد الله بن الحارث الصنعاني: سمعت عبد الرزاق يقول: من يصحب الزمان ير الهوان، قال: وسمعته ينشد:
    فذاك زمان لعبنا به ... وهذا زمان بنا يلعب

أبو طالب المعافري

    أبو طالب عبد الجبار بن محمد بن علي بن محمد المعافري المغربي؛ كان إماماً في اللغة وفنون الأدب، جاب البلاد وانتهى إلى بغداد وقرأ بها، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، ودخل الديار المصرية في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وقرأ عليه بها الشيخ العلامة أبو محمد عبد الله بن بري - المقدم ذكره - وكتب بخطه كثيراً، وهو حسن الخط على طريق المغاربة، وأكثر ما كتب في الأدب، ورأيت منه شيئاً كثيراً، وقد أتقن ضبطه غاية الإتقان، ورأيت 
    بخطه على ظهر كتاب " المذيل " في اللغة بيتين وهما:
    أقسم بالله على كل من ... أبصر خطي حيثما أبصره
    أن يدعو الرحمن لي مخلصاً ... بالعفو والتوبة والمغفرة
    وكتاب " المسلسل " للشيخ أبي الطاهر محمد بن يوسف بن عبد الله التميمي وهو يروي الكتاب عن مؤلفه - وقد ذكرت ذلك في ترجمة أبي الطاهر المذكور في حرف الميم في ترجمة المحمدين.
    وتوفي في سنة ست وستين وخمسمائة وهو عائد إلى المغرب من الديار المصرية، رحمه الله تعالى.
    والمعافري : بفتح الميم والعين المهملة وبعد الألف فاء مكسورة ثم راء، هذه النسبة إلى المعافر بن يعفر، وهي قبيل كبير، عامتهم بمصر.

ابن حمديس الشاعر الصقلي

    أبو محمد عبد الجبار بن أبي بكر ابن محمد بن حمديس الأزدي الصقلي الشاعر المشهور؛ قال ابن بسام في حقه: هو شاعر ماهر يقرطس أغراض المعاني البديعة، وبعبر عنها بالألفاظ النفيسة الرفيعة، ويتصرف في التشبيه المصيب، ويغوص في بحر الكلم (4) على در المعنى الغريب، فمن معانيه البديعة قوله في صفة نهر 
    ومطرد الأجزاء تصقل متنه ... صباً أعلنت للعين ما في ضميره
    جريحٌ بأطراف الحصى كلما جرى ... عليها شكا أوجاعه بخريره
    كأن حباباً ريع تحت حبابه ... فأقبل يلقي نفسه في غديره
    كأن الدجى خط المجرة بيننا ... وقد كللت حافاته ببدوره
    شربنا على حافاته دور سكره ... وأقتل سكراً منه عينا مديره
    وله من قصيد :
    بت منها مستعيداً قبلاً ... كن لي منها على الدهر اقتراح
    وأروي غلل الشوق بما ... لم يكن في قدرة الماء القراح
    قوله " وأروي غلل الشوق " مأخوذ من قول البحتري :
    وبي ظمأ لا يملك الماء دفعه ... إلى نهلة من ريقها البارد العذب
    وقوله " جريح بأطراف الحصى " مأخوذ من قول المتنبي :
    وذكي رائحة الرياض كأنها ... تلقي الثناء على الحيا فيفوح
    جهد المقل فكيف بابن كريمة ... توليه خيراً واللسان فصيح
    وله من قصيدة أولها:
    قم هاتها من كف ذات الوشاح ... فقد نعى الليل بشير الصباح
    باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح
    من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح
    ومن معانيه النادرة قوله :
    زادت على كحل الجفون تكحلاً ... ويسم نصل السهم وهو قتول
    وله من جملة قصيد يتشوق صقلية :
    ذكرت صقلية والأسى ... يجدد  للنفس تذكارها
    فإن كنت أخرجت من جنةٍ ... فإني أحدث أخبارها
    ولولا ملوحة ماء البكاء ... حسبت دموعي أنهارها وكان قد دخل إلى الأندلس سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، ومدح المعتمد بن عباد فأحسن إليه وأجزل عطاياه، ولما قبض المعتمد وحبس بأغمات - كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله - سمع ابن حمديس المذكور له أبياتاً عملها في الاعتقال، فأجابه عنها بقوله :
    أتيأس من يوم يناقض أمسه ... وشهب الدراري في البروج تدور
    ولما رحلتم بالندى في أكفكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير
    رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير وقد ألم في البيت الأخير بقول عبد الله بن المعتز في مرثيته للوزير أبي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب:
    قد استوى الناس ومات الكمال ... وقال صرف الدهر أين الرجال
    هذا أبو القاسم في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال
    وله ديوان شعر أكثره جيد.
    وتوفي في شهر رمضان سنة سبع وعشرين وخمسمائة بجزيرة ميورقة ودفن إلى جنب قبر ابن اللبانة الشاعر المشهور، وكان قد عمي، وقيل ببجاية، وأبياته الميمية التي في الشيب والعصا  تدل على أنه بلغ الثمانين، رحمه الله تعالى.
    وحمديس: بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة.
    والصقلي: بفتح الصاد المهملة والقاف وبعدها لام مشددة - هذه النسبة إلى جزيرة صقلية وهي في بحر المغرب بالقرب من إفريقية انتزعها الفرنج من المسلمين في سنة أربع وستين وأربعمائة.

الأربعاء، 29 مارس 2017

ابن السمعاني

    تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن أبي بكر محمد بن أبي المظفر المنصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن عبد الجبار بن الفضل ابن الربيع بن مسلم بن عبد الله بن عبد المجيد التميمي السمعاني المروزي الفقيه الشافعي الحافظ الملقب قوام الدين؛ ذكره الشيخ عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير الجزري في أول مختصره فقال : كان أبو سعد واسطة عقد البيت السمعاني وعينهم الباصرة ويدهم الناصرة، وإليه انتهت رياستهم، وبه كملت سيادتهم، رحل في طلب العلم والحديث إلى شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها، وسافر إلى ما وراء النهر وسائر بلاد خراسان عدة دفعات، وإلى قومس والري وأصبهان وهمذان، وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل والجزيرة والشام وغيرها من البلاد التي يطول ذكرها ويتعذر حصرها، ولقي العلماء وأخذ عنهم وجالسهم وروى عنهم واقتدى بأفعالهم الجميلة وآثارهم الحميدة، وكان عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ، وذكر في بعض أماليه فقال: ودعني عبد الله بن محمد بن غالب أبو محمد الجيلي الفقيه نزيل الأنبار، وبكى وأنشدني:
    ولما برزنا لتوديعهم ... بكوا لؤلؤاً وبكينا عقيقا
    أداروا علينا كؤوس الفراق ... وهيهات من سكرها أن نفيقا
    تولوا فأتبعتهم أدمعي ... فصاحوا الغريق فصحت الحريقا
    ومما قيل في المعنى:
    تنفست الغداة غداة ولوا ... وعيرهم معارضة الطريق
    فصاحوا بالحريق، فظلت أبكي ... فصاحوا بالحريق والغريق
    وصنف التصانيف الحسنة الغزيرة الفائدة (2) ، فمن ذلك " تذييل تاريخ بغداد " الذي صنعه الحافظ أبو بكر الخطيب وهو نحو خمسة عشر مجلداً، ومن ذلك " تاريخ مرو " يزيد على عشرين مجلداً، وكذلك " الأنساب " نحو ثماني مجلدات وهو الذي اختصره عز الدين المذكور واستدرك عليه، وهو في ثلاث مجلدات، والمختصر هو الموجود بأيدي الناس والأصل قليل الوجود.
    ذكر أبو سعد السمعاني المذكور في ترجمة والده أن أباه حج سنة سبع وتسعين وأربعمائة، ثم عاد إلى بغداد وسمع بها الحديث من جماعة من المشايخ، وكان يعظ الناس في المدرسة النظامية، ويقرأ عليه الحديث، ويحصل الكتب، وأقام كذلك مدة، ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها من جماعة كبيرة، ثم رجع إلى خراسان وأقام بمرو إلى سنة تسع وخمسمائة، وخرج إلى نيسابور.
    قال أبو سعد: وحملني وأخي إليها، وسمعنا الحديث من أبي بكر عبد الغفار بن محمد الشيروي وغيره من المشايخ، وعاد إلى مرو، وأدركته المنية وهو شاب ابن ثلاث وأربعين سنة .
    وكانت ولادة أبي سعد المذكور بمرو يوم الاثنين الحادي والعشرين من شعبان سنة ست وخمسمائة. وتوفي بمرو في ليلة غرة شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
     وكان أبوه محمد  إماماً فاضلاً مناظراً محدثاً فقيهاً شافعياً حافظاً، وله الإملاء الذي لم يسبق إلى مثله، تكلم على المتون والأسانيد، وأبان مشكلاتها ، وله عدة تصانيف، وكان له شعر غسله قبل موته، وكانت ولادته في جمادى الأولى سنة ست وستين وأربعمائة، وتوفي وقت فراغ الناس من صلاة الجمعة ثاني صفر سنة عشر وخمسمائة، ودفن يوم السبت عند والده أبي المظفر بسفحوان إحدى مقابر مرو، رحمه الله تعالى.
     وكان جده المنصور إمام عصره بلا مدافعة، أقر له بذلك الموافق والمخالف، وكان حنفي المذهب متعيناً عند أئمتهم، فحج في سنة اثنتين وستين وأربعمائة وظهر له بالحجاز ما اقتضى (3) انتقاله إلى مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فلما عاد إلى مرو لقي بسبب انتقاله محناً وتعصباً شديداً، فصبر على ذلك، وصار إمام الشافعية بعد ذلك يدرس ويفتي، وصنف في مذهب الشافعي رضي الله عنه وفي غيره من العلوم تصانيف كثيرة، منها " منهاج أهل السنة " و " الانتصار " و " الرد على القدرية " وغيرها. وصنف في الأصول " القواطع " وفي الخلاف " البرهان " يشتمل على قريب من ألف مسألة خلافية، و " الأوسط " و " الاصطلام " رد فيه على أبي زيد الدبوسي، وأجاب عن الأسرار التي جمعها، وله تفسير القرآن العزيز، وهو كتاب نفيس، وجمع في الحديث ألف حديث عن مائة شيخ، وتكلم عليها فأحسن، وله وعظ مشهور بالجودة، وكانت ولادته في سنة ست وعشرين وأربعمائة في ذي الحجة، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة بمرو، رحمه الله تعالى.
    وفي بيتهم جماعة كثيرة علماء رؤساء.
    والسمعاني: بفتح السين المهملة وسكون الميم وفتح العين المهملة وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى سمعان، وهو بطن من تميم، وسمعت بعض العلماء يقول: يجوز بكسر السين أيضاً.
     وكان لأبي سعد عبد الكريم ولد يقال له أبو المظفر عبد الرحيم بكر به والده في سماع الحديث وطاف به في بلاد خراسان وما وراء النهر وأسمعه الحديث وحصل له النسخ وجمع له معجماً لمشايخه في ثمانية عشر جزءاً، وعوالي في مجلدين ضخمين، وشغله بالفقه والأدب والحديث حتى حصل من كل واحد طرفاً صالحاً، وحدث بالكثير ورحل إليه الطلاب، وكان محترماً ببلاده، ومولده في ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وخمسمائة بنيسابور، وتوفي بمرو ما بين سنة أربع عشرة وستمائة، رحمه الله تعالى.

أبو القاسم القشيري

    أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري الفقيه الشافعي؛ كان علامة في الفقه والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر والكتابة وعلم التصوف، جمع بين الشريعة والحقيقة، أصله من ناحية أستوا من العرب الذين قدموا خراسان، توفي أبوه وهو صغير، وقرأ الأدب في صباه، وكانت له قرية مثقلة الخراج بنواحي أستوا فرى من الرأي أن يحضر إلى نيسابور يتعلم طرفاً من الحساب ليتولى الاستيفاء ويحمي قريته من الخراج، فحضر نيسابور على هذا العزم، فاتفق حضوره مجلس الشيخ أبي علي الحسن بن علي النيسابوري المعروف بالدقاق، وكان إمام وقته، فلما سمع كلامه أعجبه ووقع في قلبه فرجع عن ذلك العزم، وسلك طريق الإرادة، فقبله الدقاق وأقبل عليه، وتفرس فيه النجابة فجذبه بهمته وأشار عليه بالاشتغال بالعلم، فخرج إلى درس أبي بكر محمد بن أبي بكر الطوسي، وشرع في الفقه حتى فرغ من تعليقه، ثم اختلف إلى الأستاذ أبي بكر ابن الإسفرايني، وقعد يسمع درسه أياماً فقال الأستاذ: هذا العلم لا يحصل بالسماع ولابد من الضبط بالكتابة، فأعاد عليه جميع ما سمعه تلك الأيام، فعجب منه وعرف محله فأكرمه وقال له: ما تحتاج إلى درس بل يكفيك أن تطالع مصنفاتي فقعد وجمع بين طريقته وطريقة ابن فورك، ثم نظر في كتب القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني وهو مع ذلك يحضر مجلس أبي علي الدقاق، وزوجه ابنته مع كثرة أقاربها.
    وبعد وفاة أبي علي سلك مسلك المجاهدة والتجريد وأخذ في التصنيف، فصنف التفسير الكبير قبل سنة عشر وأربعمائة، وسماه " التيسير في علم التفسير " وهو من أجود التفاسير، وصنف الرسالة " في رجال الطريقة "، وخرج إلى الحج في رفقة فيها الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين وأحمد بن الحسين البيهقي وجماعة من المشاهير، فسمع معهم الحديث ببغداد والحجاز.
    وكان له في الفروسية واستعمال السلاح يد بيضاء، وأما مجالس الوعظ والتذكير فهو إمامها، وعقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. وذكره أبي الحسن علي الباخرزي في كتاب " دمية القصر " وبالغ في الثناء عليه، وقال في حقه: لو قرع الصخر بصوت تحذيره لذاب ولو ربط إبليس في مجلسه لتاب.
    وذكره الخطيب في تاريخه وقال: قدم علينا - يعني إلى بغداد - في سنة 
    ثمان وأربعين وأربعمائة وحدث ببغداد وكتبنا عنه، وكان ثقة وكان يقص وكان حسن الوعظ مليح الإشارة، وكان يعرف الأصول على مذهب الأشعري والفروع على مذهب الشافعي. وذكره عبد الغافر الفارسي في تاريخه . وقال أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي: أنشدنا عبد الكريم بن هوازن القشيري لنفسه:
    سقى الله وقتاً كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك
    أقمنا زماناً والعيون قريرة ... وأصبحت يوماً والجفون سوافك
    وقال أبو الفتح محمد بن محمد بن علي الواعظ الفراوي: وكان أبو القاسم القشيري كثيراً ما ينشد لبعضهم وهو ذو القرنين ابن حمدان المقدم ذكره في حرف الذال:
    لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت كيف تكرر التوديعا
    أيقنت أن من الدموع محدثاً ... وعلمت أن من الحديث دموعا
    ولد في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وثلثمائة؛ وتوفي صبيحة يوم الأحد قبل طلوع الشمس سادس عشر ربيع الآخر سنة خمس وستين وأربعمائة بمدينة نيسابور، ودفن بالمدرسة تحت شيخه أبي علي الدقاق، رحمه الله تعالى، ورأيت في كتابه المسمى بالرسالة بيتين أعجباني، فأحببت ذكرهما :
    ومن كان في طول الهوى ذاق سلوةً ... فإني من ليلى لها غير ذائق
    وأكثر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كخطفة بارق وكان ولده أبو نصر عبد الرحيم إماماً كبيراً أشبه أباه في علومه ومجالسه، ثم واظب دروس إمام الحرمين أبي المعالي حتى حصل طريقته في المذهب والخلاف ثم خرج للحج فوصل إلى بغداد وعقد بها مجلس وعظ، وحصل له قبول عظيم وحضر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مجلسه وأطبق علماء بغداد على أنهم لم يروا مثله، وكان يعظ في المدرسة النظامية ورباط شيخ الشيوخ، وجرى له مع الحنابلة خصام بسبب الاعتقاد لأنه تعصب للأشاعرة وانتهى الأمر إلى فتنة قتل فيها جماعة من الفريقين، وركب أحد أولاد نظام الملك حتى سكنها، وبلغ الخبر نظام الملك وهو بأصبهان، فسير إليه وإستدعاه فلما حضر عنده زاد في إكرامه ثم جهزه إلى نيسابور فلما وصلها لازم الدرس والوعظ إلى أن قارب انتهاء أمره فأصابه ضعف في أعضائه وأقام كذلك مقدار شهر، ثم توفي ضحوة نهار الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وخمسمائة بنيسابور، ودفن في المشهد المعروف بهم، رحمه الله تعالى.
    وكان يحفظ من الشعر والحكايات شيئاً كثيراً، ورأيت له في بعض المجاميع هذه الأبيات، وذكرها السمعاني في " الذيل " أيضاً:
    القلب نحوك نازع ... والدهر فيك منازع
    جرت القضية بالنوى ... ما للقضية وازع
    الله يعلم أنني ... لفراق وجهك جازع 
    وتوفي شيخه أبو علي الدقاق المذكور في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
    والقشيري: بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء، هذه النسبة إلى قشير بن كعب، وهي قبيلة كبيرة.
    وأستوا: بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم التاء المثناة من فوقها أو فتحها وبعدها واو ثم ألف، وهي ناحية بنيسابور كثيرة القرى خرج منها جماعة من العلماء.

أبو النجيب السهروردي

    أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله بن محمد بن عمويه، واسمه عبد الله، بن سعد بن الحسين بن القاسم بن علقمة بن النضر بن معاذ بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، الملقب ضياء الدين السهروردي. وقال محب الدين بن النجار في " تاريخ بغداد ": نقلت نسب الشيخ أبي النجيب من خطه وهو: عبد القاهر بن عبد الله بن محمد بن عمويه، واسمه عبد الله، بن سعد بن الحسين بن القاسم بن النضر بن سعد بن النضر عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وإذا كان بخطه هكذا فهو أصح.
    كان شيخ وقته بالعراق، وولد بسهرورد سنة تسعين وأربعمائة تقريباً، وقدم بغداد وتفقه بالمدرسة النظامية على أسعد الميهني - المقدم ذكره - وغيره، ثم سلك طريق الصوفية وحبب إليه الانقطاع والعزلة فانقطع عن الناس مدة مديدة، وأقبل على الاشتغال بالعمل لله تعالى وبذل الجهد في ذلك، ثم رجع ودعا جماعة إلى الله تعالى وكان يعظ ويذكر، فرجع بسببه خلق كثير إلى الله تعالى. وبنى رباطاً على الشط من الجانب الغربي ببغداد وسكنه جماعة من أصحابه الصالحين، ثم ندب إلى التدريس بالمدرسة النظامية فأجاب ودرس بها مدة، وظهرت بركته على تلامذته وكانت ولايته في السابع والعشرين من المحرم سنة خمس وأربعين وخمسمائة، وصرف عنها في رجب سنة سبع وأربعين. وروى عنه الحافظ أبو سعد السمعاني وذكره في كتابه.
    وقدم الموصل مجتازاً إلى الشام لزيارة البيت المقدس في سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وعقد بها مجلس الوعظ بالجامع العتيق، ثم توجه إلى الشام فوصل إلى دمشق، ولم تتفق له الزيارة لانفساخ الهدنة بين المسلمين والفرنج، خذلهم الله تعالى، فأكرم الملك العادل نور الدين محمود صاحب الشام مورده، وأقام بدمشق مدة يسيرة وعقد بها مجلس الوعظ وعاد إلى بغداد، وتوفي بها يوم الجمعة وقت العصر سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ودفن بكرة الغد في رباطه. وكان مولده تقديراً سنة تسعين وأربعمائة، كذا ذكره ابن أخيه شهاب الدين في مشيخته.
    وهو عم شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي، وسيأتي اسمه، رحمهما الله تعالى.
    وعمويه: بفتح العين المهملة وتشديد الميم المضمومة وسكون الواو وفتح الياء المثناة من تحتها.
    وسهرورد: بضم السين المهملة وسكون الهاء وفتح الراء والواو وسكون الراء الثانية وفي آخرها دال مهملة، وهي بليدة عند زنجان من عراق العجم.

أبو منصور البغدادي

الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن محمد البغدادي الفقيه الشافعي الأصولي الأديب؛ كان ماهراً في فنون عديدة خصوصاً علم الحساب، فإنه كان متقناً له وله فيه تواليف نافعة، منها كتاب " التكملة "، وكان عارفاً بالفرائض والنحو، وله أشعار ، وذكره الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في " سياق تاريخ نيسابور "  ، وقال: " ورد مع أبيه نيسابور، وكان ذا مال وثروة وأنفقه على أهل العلم والحديث ولم يكتسب بعلمه مالاً، وصنف في العلوم وأربى على أقرانه في الفنون ودرس في سبعة عشر فناً، وكان قد تفقه على أبي إسحاق الإسفرايني وجلس بعده للإملاء في مكانه بمسجد عقيل فأملى سنين، واختلف إليه الأئمة فقرأوا عليه، مثل ناصر المروزي وزين الإسلام القشيري وغيرهما ".
وتوفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة بمدينة إسفراين، ودفن إلى جانب شيخه الأستاذ أبي إسحاق، رحمهما الله تعالى.

الببغاء

    أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي الشاعر المعروف بالببغاء؛ ذكّره الثعالبي في " يتيمة الدهر "  وقال: هو من أهل نصيبين، وبالغ في الثناء عليه وذكر جملة من رسائله ونظمه وما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي، وأشياء يطول شرحها.
    [واتفق أن أبا الفرج قدم مرة بغداد وأبو إسحاق معتقل مدة طويلة ولم يصبر عنه وزاره في مجلسه ثم انصرف ولم يعاوده فكتب إليه أبو إسحاق:
    أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص
    مضى زمن تستام وصلي غالياً ... فأرخصته والبيع غالٍ ومرتخص
    وأنستني في مجلسي بزيارة ... شفت كبداً من صاحبٍ لك قد خلص
    ولكنها كانت كحسوة طائرٍ ... فواقاً كما يستفرص السارق الفرص
    وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي ... وأوجست خوفاً من تذكرك القفص
    كذا الكرز اللماح ينجو بنفسه ... إذا عاين الأشراك تنصب للقنص
    فحوشيت يا قسَّ الطيور بلاغةً ... إذا أنشد المنظوم أو درس القصص
    من المنسر الأشغى ومن حدة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصة المقص
    فهذي دواهي الطير وقيت شرها ... إذا الدهر من أحداثه جرع الغصص فأجابه أبو الفرج في الحال مع رسوله:
    أيا ماجداً [مذ يمم] المجد مانكص ... وبدر تمامٍ مذ تكامل ما نقص
    ستخلص من هذا السرار وأيما ... هلالٍ توارى بالسرار فما خلص
    برأفة تاج الملة الملك الذي ... [لسؤدده] في خطة المشتري حصص
    تقنصت بالألطاف شكري ولم أكن ... علمت بأن الحر بالبر يقتنص
    وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها ... بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص
    أتتني القوافي الزاهرات تجمل ال ... بدائع من مستحسن الجد والرخص
    فقابلت زهر الروض منها ولم أرد ... وأحرزت [در] البحر منها ولم أغص
    فإن كنت بالببغاء قدماً ملقباً ... فكم لقبٍ بالجور لا العدل مخترص
    وبعد فما أخشى تقنص جارحٍ ... وقلبك لي وكرٌ ورأيك لي قفص
    فانتهى الابتداء والجواب إلى عضد الدولة فأعجب بهما واستظرفهما، وكان ذلك أحد أسباب إطلاق أبي إسحاق من اعتقاله. ثم اتصلت بينهما المودة والكتابة.
    وحكى القاضي أبو علي التنوخي قال: دخل أبو الفرج عبد الواحد الببغاء على الوزير أبي نصر سأبور بن أردشير وقد نثرت عليه دنانير وجواهر، فأنشد بديهاً:
    نثروا الجواهر واللجين وليس لي ... شيءٌ عليه سوى المدائح أنثر
    بقصائدٍ كالدر إن هي أنشدت ... وثنا إذا ما فاح فهو العنبر
     ومن شعره:
    يا سادتي هذه روحي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
    قد كنت أطمع في روح الحياة لها ... فالآن إذ بنتم لم يبق لي طمع
    لا عذب الله روحي بالبقاء فما ... أظنها بعدكم بالعيش تنتفع 
    وله :
    خيالك منك أعرف بالغرام ... وأرأف بالمحب المستهام
    ولو يسطيع حين حظرت نومي ... علي لزار في غير المنام وله أيضاً:
    ومهفهفٍ لما اكتست وجناته ... خلع الملاحة طرزت بعذاره
    لما انتصرت على أليم جفائه ... بالقلب كان القلب من أنصاره
    كملت محاسن وجهه فكأنما اق ... تبس الهلال النور من أنواره
    وإذا ألح القلب في هجرانه ... قال الهوى لا بد منه فداره وله في التشبيه وقد أبدع فيه:
    وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلةً في الجلمد
    وكأن طرف الشمس مطروفٌ وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد وله في سعيد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان:
    لا غيث نعماه في الورى خلب ال ... برق ولا ورد جوده وشل
    جاد إلى أن لم يبق نائله ... مالاً ولم يبق للورى أمل وقد سبق نظير هذا المعنى في شعر أبي نصر ابن نباتة السعدي. وأكثر شعر أبي الفرج المذكور جيد ومقاصده فيه جميلة. وكان قد خدم سيف الدولة بن حمدان مدة، وبعد وفاته تنقل في البلاد.
    وتوفي يوم السبت سلخ شعبان سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وقال الخطيب في تاريخه: توفي في ليلة السبت لثلاث بقين من شعبان سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، والله أعلم، رحمه الله تعالى. وقال الثعالبي: وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي يقول عند صدوره من الحج ودخوله بغداد في سنة تسعين وثلثمائة: ورأيت بها أبا الفرج الببغاء شيخاً عالي السن متطاول الأمد، قد أخذت الأيام من جسمه وقوته ولم تأخذ من ظرفه وأدبه.
    والببغاء: بفتح الباء الأولى وتشديد الباء الثانية وفتح الغين المعجمة وبعدها ألف، وهو لقب وإنما لقب به لحسن فصاحته، وقيل: للثغة كانت في لسانه. ووجد بخط أبي الفتح ابن جني النحوي الففغاء، بفاءين، والله أعلم بالصواب.

أبو المحاسن الروياني

    أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الروياني الفقيه الشافعي؛ من رؤوس الأفاضل في أيامه مذهباً وأصولاً وخلافاً، سمع أبا الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي بميافارقين ومن أبي عبد الله محمد بن بيان بن محمد الكازروني  وتفقه عليه على مذهب الشافعي، وروى عنه زاهر بن طاهر الشحامي وغيره.
    وكان له الجاه العظيم والحرمة الوافرة في تلك الديار، وكان الوزير نظام الملك كثير التعظيم له لكمال فضله. رحل إلى بخارى وأقام بها مدة ودخل غزنة ونيسابور، ولقي الفضلاء، وحضر مجلس ناصر المروزي وعلق عنه وسمع الحديث، وبنى بآمل طبرستان مدرسةً، ثم انتقل إلى الري ودرّس بها، وقدم أصبهان وأملى بجامعها، وصنف الكتب المفيدة: منها " بحر المذهب "  وهو من أطول كتب الشافعيين وكتاب " مناصيص الإمام الشافعي " وكتاب " الكافي " وكتاب " حلية المؤمن " وصنف في الأصول والخلاف، ونقل عنه أنه كان يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري.
    وذكره القاضي أبو محمد عبد الله بن يوسف الحافظ في " طبقات أئمة الشافعية "  فقال: أبو المحاسن الروياني باقرة  العصر إمام في الفقه، وذكره الحافظ أبو زكرياء يحيى بن منده، وروى الحديث عن خلق كثير في بلاد متفرقة. وكانت ولادته في ذي الحجة سنة خمس عشرة وأربعمائة، وقال الحافظ أبو طاهر السلفي:
    بلغنا أن أبا المحاسن الروياني أملى بمدينة آمل، وقتل بعد فراغه من الإملاء بسبب التعصب في الدين، في المحرم سنة اثنتين وخمس مائة.
    وذكر معمر  بن عبد الواحد بن فاخر في الوفيات التي خرجها للحافظ أبي سعد ابن السمعاني أن أبا المحاسن المذكور قتل بآمل في جامعها يوم الجمعة الحادي عشر من المحرم من السنة المذكورة، قتله الملاحدة، والله أعلم، رحمه الله تعالى.
    والروياني: بضم الراء وسكون الواو وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى رويان، وهي مدينة بنواحي طبرستان خرج منها جماعة من العلماء؛ وآمل مدينة هنالك وقد سبق ذكرها.

ابن بابك

    أبو القاسم عبد الصمد بن منصور بن الحسن بابك الشاعر المشهور؛ أحد الشعراء المجيدين المكثرين، رأيت ديوانه في ثلاث مجلدات، وله أسلوب رائق في نظم الشعر، وجاب البلاد، ولقي الرؤساء، ومدحهم، وأجزلوا جائزته [ولما قدم على الصاحب بن عباد قال له: أنت بابك الشاعر فقال: أنا ابن بابك، فاستحسن قوله وأجازه وأجزل صلته .
    ومن شعره قوله:
    وأغيد معسول الشمائل زارني ... على فرقٍ والنجم حيران طالع
    فلما جلا صبغ الدجى قلت حاجبٌ ... من الصبح أو قرنٌ من الشمس لامع
    إلى أن دنا والسحر رائد طرفه ... كما ريع ظبيٌ بالصريمة راتع
    فنازعته الصهباء والليل دامسٌ  ... رقيق حواشي البرد والنسر واقع
    عقار عليها من دم الصب نفضةٌ ... ومن عبرات المستهان فواقع
    تدير إذا شجت عيوناً كأنها ... عيون العذارى شق عنها البراقع
    معودة غضب العقول كأنما ... لها عند ألباب الرجال ودائع
    فبتنا وظل الوصل دانٍ  وسرنا ... مصون ومكتوم الصبابة ذائع
    إلى أن سلا عن ورده فارط القطا ... ولاذت بأطراف الغصون السواجع
    فولى أسير السكر يكبو لسانه ... فتنطق عنه بالوداع الأصابع
    وله :
    يا صاحبي امزجا كأس المدام لنا ... كيما يضيء لنا من نورها الغسق
    خمراً إذا ما نديمي هم يشربها ... أخشى عليه من اللألاء يحترق
    لو رام يحلف أن الشمس ما غربت ... في فيه كذبه في وجهه الشفق وله من قصيد بيتٌ من في غاية الرقة وهو:
    ومر بي النسيم فرق حتى ... كأني قد شكوت إليه ما بي
    وكانت وفاته في سنة عشر وأربعمائة ببغداد، رحمه الله تعالى.
    وبابك: بفتح الباءين الموحدتين بينهما ألف وفي الأخير كاف.

عبد الصمد بن علي الهاشمي

    أبو محمد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي؛ ذكر الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " شذور العقود " أنه كانت فيه عجائب، مها أنه ولد في سنة أربع ومائة، وولد أخوه محمد بن علي والد السفاح والمنصور في سنة ستين للهجرة، فبينهما في المولد أربع وأربعون سنة، وتوفي في سنة ست وعشرين ومائة، وتوفي عبد الصمد المذكور في سنة خمس وثمانين ومائة، فكان بينهما في الوفاة تسع وخمسون سنة، ومنها أنه حج يزيد بن معاوية في سنة خمسين للهجرة وحج عبد الصمد بالناس سنة وخمسين ومائة، وهما في النسب إلى عبد مناف سواء، لأن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فبين يزيد وعبد مناف خمسة أجداد، وبين عبد الصمد وعبد مناف خمسة، لأن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ومنها أنه أدرك السفاح والمنصور وهما ابنا أخيه، ثم أدرك المهدي بن المنصور وهو عم أبيه، ثم أدرك الهادي وهو عم جده، ثم أدرك الرشيد وفي أيامه مات. وقال يوما للرشيد: يا أمير المؤمنين، هذا مجلس فيه أمير المؤمنين وعم أمير المؤمنين وعم عم أمير المؤمنين وعم عم عمه، وذلك أن سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد، والعباس عم سليمان، وعبد الصمد عم العباس . ومنها أنه مات بأسنانه التي ولد بها، ولم يثغر، وكانت قطعة واحدة من أسفل.وذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن عبد الصمد المذكور ولد في رجب سنة ست ومائة، ومات في جمادى الآخرة سنة خمس وسبعين ومائة. وقال غيره: كانت وفاته ببغداد، وقال غيره: ولد في سنة تسع، وقيل في سنة خمس بالحميمة من أرض البلقاء، والله أعلم.
    وأمه كبيرة التي يقول فيها عبيد الله بن قيس الرقيات الشاعر المشهور قصيدته التي أولها :
    عاد له من كبيرة الطرب ... وعمي في أخر عمره.
    يقال: ثغر الصبي يثغر فهو مثغور، إذا سقطت أسنانه، وإذا نبتت قيل قد اثغر، واتغر، بالثاء والتاء مع التشديد فيهما - وسيأتي ذكر والده وأخيه إن شاء الله تعالى -.

ابن مغلس الأندلسي

    أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن مغلس القيسي الأندلسي؛ كان من أهل العلم باللغة والعربية مشاراً إليه فيهما، رحل من الأندلس وسكن مصر واستوطنها، وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد بن الحسن الربعي صاحب كتاب " الفصوص " - وقد سبق ذكره في حرف الصاد - وعلى أبي يعقوب
    يوسف بن يعقوب النجيرمي بمصر، ودخل بغداد واستفاد وأفاد، وله شعر حسن، فمن ذلك قوله:
    مريض الجفون بلا علةٍ ... ولكن قلبي به ممرض
    أعان السهاد على مقلتي ... بفيض الدموع فما تغمض
    وما زار شوقاً ولكن أتى ... يعرض لي أنه معرض
    وله أشعار كثيرة، وكانت بينه وبين أبي الطاهر إسماعيل بن خلف صاحب كتاب " العنوان " معارضات في قصائد  هي موجودة في ديوانيهما، ولولا خوف الإطالة لأتيت بشيء منها.
    وتوفي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وأربعمائة، بمصر، وصلى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي صاحب التفسير في مصلى الصدفي، ودفن عند بني إسحاق، رحمهم الله أجمعين.
    ومغلس: بضم الميم وفح الغين المعجمة وتشديد اللام وكسرها وبعدها سين مهملة.

ابن نباتة الشاعر

    أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد بن نباتة بن حميد بن نباتة بن الحجاج بن مطر بن خالد بن عمرو بن رزاح بن رياح بن سعد بن ثجير بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر، التميمي السعدي، وبقية النسب معروف؛ كان شاعراً مجيداً، جمع بين حسن السبك وجودة المعنى، طاف البلاد ومدح الملوك والوزراء والرؤساء، وله في سيف الدولة بن حمدان غر القصائد ونخب المدائح، وكان قد أعطاه فرساً أدهم أغر محجلاً فكتب إليه:
    يا أيها الملك الذي أخلاقه ... من خلقه ورواؤه من رائه
    قد جاءنا الطرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه
    أولايةً وليتنا فبعثته ... رمحاً سبيب العرف عقد لوائه
    نحتل منه على أغر محجل ... ماء الدياجي قطرةٌ من مائه
    فكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
    متمهلاً والبرق من أسمائه ... متبرقعاً والحسن من أكفائه
    ما كانت النيران يكمن حرها ... ولو كان للنيران بعض ذكائه
    لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
    لا يكمل الطرف المحاسن كلها ... حتى يكون الطرف من أسرائه
    وهذا المعنى الذي وقع له في صفة الغرة والتحجيل في غاية الإبداع، وما أظنه سبق إليه. وله في سيف الدولة أيضاً قصيدة لامية طويلة ومن جملة أبياتها قوله:
    قد جدت لي باللها حتى ضجرت بها ... وكدت من ضجري أثني على البخل
    إن كنت ترغب في أخذ النوال لنا ... فاخلق لنا رغبة أو لا فلا تنل
    لم يبقٍ جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
    وهذا المعنى فيه إلمام بقول البحتري ، أعني البيت الأول:
    إني هجرتك إذ هجرتك وحشةً ... لا العود يذهبها ولا الإبداء
    أخجلتني  بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء
    وقطعتني بالجود حتى إنني ... متخوفٌ أن لا يكون لقاء
    صلةٌ غدت في الناس وهي قطيعة ... عجب وبر راح وهو جفاء
    وفي معناه أيضا قول دعبل بن علي الخزاعي المقدم ذكره يمدح المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي أمير مصر  :
    زمني بمطلب سقيت زمانا ... ما كنت إلا روضةً وجنانا
    كل الندى إلا ندا ك تكلفٌ ... لم أرض بعدك كائناً من كانا
    أصلحتني بالبر بل أفسدتني ... وتركتني أتسخط الإحسانا وهو معنى مطروق تداولته الشعراء، وأكثرت استعماله، فمنهم من يستوفيه ومنهم من يقصر فيه، وكتب به علي بن جبلة المعروف بالعكوك - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - إلى أبي دلف العجلي في أبيات رائية، ولولا خوف الإطالة لذكرتها، وما ألطف قول أبي العلاء المعري فيه:
    لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر
    رجعنا إلى ذكر أبي نصر المذكور:
    ومعظم شعره جيد، وله ديوان كبير، وكان قد وصل إلى مدينة الري، وامتدح أبا الفضل محمد بن العميد وجرى بينهما مفاوضة يأتي شرحها في ترجمته إن شاء الله تعالى.
    وكانت ولادته في سنة سبع وعشرين وثلثمائة، وتوفي يوم الأحد بعد طلوع الشمس ثالث شوال سنة خمس وأربعمائة ببغداد، ودفن قبل الظهر في مقبرة الخيزران من الجانب الشرقي، رحمه الله تعالى.
    ونباتة: بضم النون كما تقدم في جد الخطيب ابن نباتة.
    وثجير: بضم الثاء المثلثة وفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها راء.
    وبقيت الأسماء معروفة (2) .
    قال أبو غالب محمد بن أحمد بن سهل: دخلت على أبي الحسن محمد بن علي بن نصر البغدادي صاحب الرسائل وصاحب كتاب " المفاوضة " - قلت: وهو أخو القاضي عبد الوهاب المالكي، وسيأتي ذكرهما في ترجمة عبد الوهاب إن شاء الله تعالى - قال: وكان في مرض موته بواسط، فقعدت عنده قليلاً ثم قمت لأنه كان به قيام، فأنشدني بيت أبي نصر عبد العزيز وهو:
    متع لحاظك من خلٍ تودعه ... فما إخالك بعد اليوم بالوادي
    ثم قال لي أبو الحسن المذكور: عدت أبا نصر ابن نباتة في اليوم الذي توفي فيه فأنشدني هذا البيت، وودعته وانصرفت، فأخبرت في طريقي أنه توفي، قال الشيخ أبو غالب: وفي تلك الليلة توفي أبو الحسن المذكور، وقد ذكرت تاريخ ذلك في ترجمة عبد الوهاب [المالكي] 
    وقال أبو علي محمد بن وشاح بن عبد الله: سمعت أبا نصر ابن نباتة يقول: كنت يوما قائلاً في دهليزي، فدق عليه الباب، فقلت: من فقال: رجلٌ من أهل المشرق، فقلت: ما حاجتك فقال: أنت القائل:
    ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والداء واحد فقلت: نعم، فقال: أرويه عنك فقلت: نعم، فمضى، فلما كان أخر النهار دق عليه الباب، فقلت: من قال رجل من أهل تاهرت من الغرب، ما حاجتك فقال: أنت القائل:
    ومن لم يمت بالسيف ما بغيره ... وتنوعت الأسباب والداء واحد
    فقلت: نعم، فقال: أرويه عنك فقلت: نعم، وعجبت  كيف وصل إلى الشرق والغرب.

أبو القاسم الداركي

    أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز الداركي، الفقيه الشافعي؛ كان أبوه محدث أصبهان في وقته، وكان أبو القاسم من كبار فقهاء  الشافعيين، نزل نيسابور سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة ودرس الفقه بها سنين، ثم انتقل إلى بغداد وسكنها إلى حين وفاته، وأخذ الفقه عن أبي إسحاق المروزي، وعليه تفقه الشيخ أبو حامد الإسفرايني بعد موت أبي الحسن ابن المرزبان، وأخذ عنه عامة شيوخ بغداد وغيرهم من أهل الآفاق. وكان يدرس ببغداد في مسجد دعلج بن أحمد بدرب أبي خلف من قطيعة الربيع، وله حلقة في الجامع للفتوى والنظر، وانتهى التدريس إليه ببغداد وانتفع به خلق كثير. وله في المذهب وجوه جيده دالة على متانة علمه، وكان يتهم بالاعتزال، وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني يقول: ما رأيت أحداً أفقه من الداركي، وأخذ الحديث عن جده لأمه الحسن بن محمد الداركي. وكان إذا جاءته مسألة تفكر طويلاً ثم يفتي فيها، وربما أفتى على خلاف مذهب الإمامين الشافعي وأبي حنيفة، رضي الله عنهما، فيقال له في ذلك، فيقول: ويحكم، حدث فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، والأخذ بالحديث أولى من الأخذ بقول الإمامين.
    وتوفي ببغداد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وسبعين وثلثمائة، عن نيف وسبعين سنة، رحمه الله تعالى، وقيل: إنه توفي في ذي القعدة، والأول أصح. وكان ثقة أميناً.
    والداركي: بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مفتوحة وبعدها كاف، قال السمعاني : هذه النسبة إلى دارك، وظني أنها من قرى أصبهان، وقال: هو عبد العزيز بن الحسن بن أحمد الداركي، والله أعلم بالصواب

ديك الجن

    أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن زيد بن تميم الكلبي الملقب ديك الجن، الشاعر المشهور؛ وذكر ابن الجراح في كتاب " الورقة " أنه مولى لطيء، والله أعلم؛ أصله من أهل سلمية، ومولده بمدينة حمص، وتميم أول من أسلم من أجداده على يد حبيب بن مسلمة الفهري، أخذ محارباً، وكان يفخر على العرب ويقول: ما لهم فضل علينا، أسلمنا كما أسلموا. وهو من شعراء الدولة العباسية، ولم يفارق الشام ولا رحل إلى العراق ولا إلى غيره منتجعاً بشعر، ولا متصدياً لأحد، وكان يتشيع تشيعاً حسناً، وله مراثٍ في الحسين، رضي الله عنه. وكان ماجناً خليعاً عاكفاً على القصف واللهو متلافاً لما ورثه، وشعره في غاية الجودة.
    حدث عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قال: كنت جالساً عند ديك الجن، فدخل عليه حدث فأنشده شعراً عمله، فأخرج ديك الجن من تحت مصلاه درجاً كبيراً فيه كثير من شعره فسلمه إليه وقال: يا فتى تكسب بهذا واستعن به على قولك. فلما خرج سألته عنه فقال: هذا فتى من أهل جاسم، 
    يذكر أنه من طيء، يكنى أبا تمام، واسمه حبيب بن أوس، وفيه أدب وذكاء وله قريحة وطبع، قال: وعُمِّر الملقب ديك الجن إلى أن مات أبو تمام ورثاه.
    ومولد ديك الجن سنة إحدى وستين ومائة وعاش بضعاً وسبعين سنة، وتوفي في أيام المتوكل سنة خمس أو ست وثلاثين ومائتين.
    ولما اجتاز أبو نواس بحمص قاصداً مصر لامتداح الخصيب بن عبد الحميد سمع ديك الجن بوصوله، فاستخفى منه خوفاً أن يظهر لأبي نواس أنه قاصر بالنسبة إليه، فقصده أبو نواس في داره وهو بها، فطرق الباب واستأذن عليه، فقالت الجارية: ليس هو ها هنا؛ فعرف مقصده فقال لها: قولي له اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك:
    موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها فلما سمع ديك الجن ذلك خرج إليه واجتمع به وأضافه. وهذا البيت من جملة أبيات وهي :
    بها غير معذولٍ  فداو خمارها ... وصل بحبالات  الغبوق ابتكارها
    ونل من عظيم الوزر كل عظيمةً ... إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها
    وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغرٍ ... ولا تسق إلا خمرها وعقارها
    فقام يكاد الكأس يحرق كفه ... من الشمس أو من وجنتيه استعارها
    ظللنا بأيدينا نتعتع روحها ... فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها
    موردةً من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
    وذكر الجهشياري في كتاب " أخبار الوزراء "  أن حبيب بن عبد الله بن رغبان المذكور في هذا النسب كان كاتباُ في أيام الخليفة المنصور، وكان يتقلد الاعطاء، وكان موجوداً في سنة ثلاث وأربعين ومائة، وأن ديك الجن الشاعر من ولده، وإليه ينسب مسجد ابن رغبان بمدينة السلام، وأنه مولى حبيب ابن مسلمة الفهري.
     قلت: وحبيب بن مسلمة كان من خواص معاوية، وله معه في وقعة صفين آثار شكرها له، ولما استقر الأمر لمعاوية سير حبيباً في بعض مهامه، فلقيه الحسن بن علي، رضي الله عنهما، وهو خارج فقال له: يا حبيب، رب مسيرٍ لك في غير طاعة الله، فقال له حبيب: أما إلى أبيك فلا، فقال له الحسن: بلى والله، ولقد طاوعت معاوية على دنياه، وسارعت في هواه، فلئن قام بك في دنياك فقد قعد بك في دينك، فليتك إذ أسأت الفعل أحسنت القول، فتكون كما قال الله تعالى " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً " " التوبة: 102 " ولكنك كما قال الله تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " " المطففين: 14 ". وكنية حبيب هذا أبو عبد الرحمن، ولاه معاوية أرمينية فمات بها سنة اثنتين وأربعين للهجرة ولم يبلغ خمسين سنة.
    وكانت لديك الجن جارية يهواها اسمها دنيا، فاتهمها بغلامه الوصيف فقتلها ثم ندم على ذلك فأكثر من التغزل فيها، فمن ذلك قوله :
    يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الردى بيديها
    رويت من دمها الثرى ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها
    مكنت سيفي من مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها
    فوحق نعليها وما وطئ الحصى ... شيء أعز علي من نعليها
    ما كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها
    لكن بخلت على سواي بحبها ... وأنفت من نظر الغلام إليها 
    جاءت تزور فراشي بعد ما قبرت ... فظلت ألثم نحراً زانه الجيد
    وقلت قرة عيني قد بعثت لنا ... فكيف ذا وطريق القبر مسدود
    قالت هناك عظامي فيه مودعةً ... تعيث فيها بنات الأرض والدود
    وهذه الروح قد جاءتك زائرةً ... هذي زيارة من في القبر ملحود
    وله فيها، وقيل أن هذه الأبيات لها في ولدها منه، واسمه رغبان :
    بأبي نبذتك بالعراء المقفر ... وسترت وجهك بالتراب الأعفر
    بأبي بذلتك بعد صونٍ للبلى ... ورجعت عنك صبرت أو لم أصبر
    لو كنت أقدر أن أرى أثر البلى ... لتركت وجهك ضاحياً لم يقبر
    [ويروى أن المتهم بالجارية غلام كان يهواه فقتله أيضاً، وصنع فيه أبياتاً وهي :
    أشفقت أن يرد الزمان بغدره ... أو أبتلى بعد الوصال بهجره
    فقتلته وله علي كرامةٌ ... ملء الحشا وله الفؤاد بأسره
    قمرٌ أنا استخرجته من دجنه ... لبليتي ورفعته من خدره
    عهدي به ميتاً كأحسن نائمٍ ... والحزن ينحر في مقلتي في نحره
    لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحي منه بكى له في قبره
    غصصٌ تكاد تفيظ منها نفسه ... ويكاد يخرج قلبه من صدره 
    فصنعت أخت الغلام:
    يا ويح ديك الجن يا تباً له ... مما تضمن صدره من غدره
    قتل الذي يهوى وعمر بعده ... يا رب لا تمدد له في عمره وقد ذكر أبو بكر الخرائطي في كتاب " اعتلال القلوب "  حديثه وشعره وله كل معنى حسن، رحمه الله تعالى.
    ورغبان: بفتح الراء وسكون الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون.
    وقد تقدم الكلام على سلمية في ترجمة المهدي عبيد الله. وحمص: مدينة مشهورة.

أبو هاشم الجبائي

    أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي محمد الجبائي بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، المتكلم المشهور العالم ابن العالم؛ كان هو وأبوه من كبار المعتزلة، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال، وكتب الكلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما، وكان له ولد يسمى أبا علي، وكان عامياً لا يعرف شيئاً، فدخل يوماً على الصاحب بن عباد، فظنه عالماً فأكرمه ورفع مرتبته، ثم سأله عن مسألة فقال: لا أعرف نصف العلم، فقال له الصاحب: صدقت يا ولدي، إلا أن أباك تقدم بالنصف الآخر .
    وكانت ولادة أبي هاشم المذكور سنة سبع وأربعين ومائتين. وتوفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وعشرين وثلثمائة ببغداد، ودفن في مقابر البستان من الجانب الشرقي، وفي ذلك اليوم توفي أبو بكر محمد بن دريد اللغوي المشهور - وسيأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى - رضي الله عنهم أجمعين.
    وحمران: بضم الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الراء وبعد الألف نون.
    وأبان: بفتح الهمزة والباء الموحدة وبعد الألف نون.
    والجبائي: بضم الجيم وتشديد الباء الموحدة، هذه النسبة إلى قرية من قرى البصرة خرج منها جماعة من العلماء، هكذا قاله السمعاني في كتاب " الأنساب "  ،وقال ياقوت الحموي في كتابه " المشترك " : إنها كورة وبلدة ذات قرى وعمارات من نواحي خوزستان ، والله أعلم.

الثلاثاء، 28 مارس 2017

سحنون

    أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن حبيب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي الملقب سحنون (2) الفقيه المالكي، قرأ على ابن القاسم وابن وهب وأشهب ثم انتهت الرياسة في العلم بالمغرب إليه، وكان يقول قبح الله الفقر، أدركنا مالكاً وقرأنا على ابن القاسم. كان أصله من الشام من مدينة حمص قدم به أبوه مع جند أهل حمص وولي القضاء بالقيروان وعلى قوله المعول بالمغرب. وصنف كتاب " المدونة " في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وأخذها عن ابن القاسم وكان أول من شرع في تصنيف " المدونة " أسد بن الفرات الفقيه المالكي بعد رجوعه من العراق وأصلها أسئلة سأل عنها ابن القاسم فأجابه عنها، وجاء بها أسد إلى القيروان وكتبها عنه سحنون، وكانت تسمى " الأسدية " ثم رحل بها سحنون إلى ابن القاسم في سنة ثمان وثمانين ومائة فعرضها عليه وأصلح فيها مسائل ورجع بها إلى القيروان في سنة إحدى وتسعين ومائة، وهي في التأليف على ما جمعه أسد ابن الفرات أولاً غير مرتبة المسائل ولا مرسمة التراجم، فرتب سحنون أكثرها وبوبه على ترتيب التصانيف واحتج لبعض مسائلها بالآثار من روايته من موطإ ابن وهب وغيره، وبقيت منها بقية لم يتمم فيها سحنون هذا العمل المذكور، ذكر هذا كله القاضي عياض وغيره.
    وذكر لي بعض الفقهاء المالكية أن الشيخ جمال الدين أبا عمرو المعروف بابن الحاجب الفقيه المالكي النحوي - الآتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى واسمه عثمان - قال: إن أسد بن الفرات الفقيه المالكي جاء من الغرب إلى مصر وقرأ على ابن القاسم وأخذ عنه " المدونه " وكانت مسودة وعاد بها إلى بلاده فحضر إليه سحنون وطلبها منه لينقلها فبخل عليه بها فرحل سحنون إلى ابن القاسم وأخذ عنه " المدونة " وقد حررها ابن القاسم فدخل بها إلى الغرب وعلى يده كتاب ابن القاسم إلى أسد بن الفرات يقول فيه: تقابل نسختك بنسخة سحنون فالذي تتفق عليه النسختان يثبت والذي يقع فيه الاختلاف فالرجوع إلى نسخة سحنون، وتمحى نسخة ابن الفرات فهذه هي الصحيحة فلما وقف ابن الفرات على كتاب ابن القاسم عزم على العمل به، فقال له أصحابه: إن عملت هذا صار كتاب سحنون هو الأصل وبطل كتابك، وتكون أنت قد أخذته عن سحنون، فلم يعمل بكتاب ابن القاسم، فلما بلغ
    ابن القاسم الخبر قال: اللهم لا تنفع أحداً بابن الفرات ولا بكتابه، فهجره الناس لذلك، وهو الآن مهجور، وعلى كتاب سحنون يعتمد أهل القيروان .
    وحصل له من الأصحاب والتلامذة ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك مثله وعنه انتشر علم مالك بالمغرب. وكانت ولادته أول ليلة من شهر رمضان سنة ستين ومائة، وتوفي في يوم الثلاثاء لتسع خلون من رجب سنة أربعين ومائتين، رحمه الله تعالى.
    وسحنون: بفتح السين المهملة وضمها وسكون الحاء المهملة وضم النون وبعد الواو نون ثانية، وفي فتح السين وضمها كلام من جهة العربية يطول شرحه وليس هذا موضعه، وقد صنف فيه أبو محمد ابن السيد البطليوسي جزءاً وقفت عليه، وقد استوفى الكلام فيه كما ينبغي وهو مجيد في كل ما يصنعه، وقد تقدم ترجمته (2) . ولقب سحنون باسم طائر حديد بالمغرب يسمونه سحنوناً لحدة ذهنه وذكائه، ذكر ذلك أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم القيرواني في كتاب " طبقات من كان بإفربقيه من العلماء " , والله أعلم.
     وأما أسد بن الفرات فإنه أرسله زيادة الله بن الأغلب في جيش إلى جزيرة صقلية، ونزلوا على مدينة سرقوسة، ولم يزالوا محاصرين لها إلى أن مات ابن الفرات في رجب سنة ثلاث عشرة ومائتين، ودفن بمدينة بلرم من الجزيرة أيضاً، والله أعلم.

الأصمعي

    أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مظهر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، المعروف بالأصمعي الباهلي، وإنما قيل له الباهلي وليس في نسبه اسم باهلة لأن باهلة اسم امرأة مالك بن أعصر، وقيل إن باهلة ابن أعصر.
    كان الأصمعي المذكور صاحب لغة ونحو، وإماماً في الأخبار والنوادر والملح والغرائب، سمع شعبة بن الحجاج والحمادين ومسعر بن كدام وغيرهم، وروى عنه عبد الرحمن ابن أخيه عبد الله وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو حاتم 
    السجستاني وأبو الفضل الرياشي وغيرهم، وهو من أهل البصرة، وقدم بغداد في أيام هارون الرشيد.
    قيل لأبي نواس: قد أحضر أبو عبيدة والأصمعي إلى الرشيد، فقال: أما أبو عبيدة فإنهم إن أمكنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل يطربهم بنغماته.
    وقال عمر بن شبة: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة. وقال إسحاق الموصلي: لم أر الأصمعي يدعي شيئاً من العلم فيكون أحد أعلم به منه.
    [وحكى محمد بن هبيرة قال : قال الأصمعي للكسائي وهما عند الرشيد: ما معنى قول الراعي :
    قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ... ودعا فلم أر مثله مخذولا قال الكسائي: كان محرماً بالحج، قال الأصمعي: ما أراد عدي بن زيد بقوله  :
    قتلوا كسرى بليلٍ محرماً ... فتولى لم يمتع بكفن هل كان محرماً بالحج وأي إحرامٍ لكسرى فقال الرشيد للكسائي: إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي. قال الأصمعي: قوله " محرماً " في حرمة الإسلام ومن ثم قتل مسلماً محرماً، أي لم يحل في نفسه شيئاً يوجب القتل؛ وقوله " محرماً " في كسرى يعني حرمة العهد الذي كان في عنق أصحابه. وقال
    الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي، رضي الله عنه، يقول: ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي. وقال أبو أحمد العسكري: لقد حرص المأمون على الأصمعي وهو بالبصرة أن يصير إليه فلم يفعل واحتج بضعفه وكبره، فكان المأمون يجمع المشكل من المسائل ويسيرها إليه ليجيب عنها.
    وقال الأصمعي: حضرت أنا وأبوعبيدة معمر بن المثنى عند الفضل بن الربيع فقال لي: كم كتابك في الخيل فقلت: جلد واحد، فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون مجلدة ، فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضواً عضواً منه وسمه، فقال: لست بيطاراً، وإنما هذا شيء أخذته عن العرب ، فقال لي: قم يا أصمعي وافعل ذلك، فقمت وأمسكت ناصيته وشرعت أذكر عضواً عضواً وأضع يدي عليه وأنشد ما قالت العرب فيه، إلى أن فرغت منه، فقال: خذه، فأخذته، وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبته إليه. وقد روي من طريق أخرى أن ذلك كان عند هارون الرشيد، وأن الأصمعي لما فرغ من كلامه في أعضاء الفرس قال الرشيد لأبي عبيدة: ما تقول فيما قال قال: أصاب في بعض وأخطأ في بعض، فالذي أصاب فيه مني تعلمه، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به.
    وكن شديد الإحتراز في تفسير الكتاب والسنة، فإذا سئل عن شيء منهما يقول: العرب تقول معنى هذا كذا، ولا أعلم المراد منه في الكتاب والسنة أي شيء هو.
    وأخباره ونوادره كثيرة، [حدث محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: دخلت على الرشيد هارون ومجلسه حافل، فقال: يا أصمعي، ما أغفلك عنا وأجفاك لحضرتنا! قلت: والله يا أمير المؤمنين 
    ما لاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، قال: فأمرني بالجلوس، فجلست وسكت عني، فلما تفرق الناس إلا أقلهم نهضت للقيام، فأشار إلي أن اجلس فجلست حتى خلا المجلس ولم يبق غيري ومن بين يديه من الغلمان، فقال: يا أبا سعيد، ما معنى قولك ما لاقتني بلاد بعدك  قلت: ما أمسكتني يا أمير المؤمنين، وأنشدت قول الشاعر:
    كفاك كف ما تليق درهما ... جوداً، وأخرى تعط بالسيف دما أي: ما تمسك درهماً، فقال: أحسنت، وهكذا فكن، وقرنا في الملا، وعلمنا في الخلا، فإنه يقبح بالسلطان أن لا يكون عالماً، إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم إذ لم أجب، وإما أن أجيب بغير الجواب فيعلم من حولي أني لم أفهم ما قلت، قال الأصمعي: فعلمني أكثر مما علمته.
    وحكى المبرد أيضاً قال: مازح الرشيد أم جعفر فقال لها: كيف أصبحت يا أم نهر فاغتمت لذلك ولم تفهم معناه، فأنفذت إلى الأصمعي تسأله عن ذلك، فقال: الجعفر النهر الصغير، وإنما ذهب إلى هذا، فطابت نفسها (2) .
    وقال أبو بكر النحوي: لما قدم الحسن بن سهل العراق قال: أحب أن أجمع قوماً من أهل الأدب، فأحضر أبا عبيده والأصمعي ونصر بن علي الجهضمي، وحضرت معهم فابتدأ الحسن فنظر في رقاعٍ بين يديه للناس في حاجاتهم، فوقع عليها، فكانت خمسين رقعة ثم أمر فدفعت إلى الخازن، ثم أقبل علينا فقال: قد فعلنا خيراً، ونظرنا في بعض ما نرجو نفعه من أمور الناس والرعية، فنأخذ الآن في ما نحتاج إليه، فأفضنا في ذكر الحفاظ، فذكرنا الزهري وقتادة ومررنا، فالتفت أبو عبيدة فقال: ما الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى وبالحضرة ها هنا من يقول ما قرأ كتاباً قط فاحتاج إلى أن يعود فيه ولا دخل قلبه شيء فخرج عنه فالتفت الأصمعي وقال: إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير، والأمر في ذلك على ما حكى، وأنا أقرب إليك، قد نظر الأمير فيما نظر فيه من الرقاع، وأنا أعيد ما فيها وما وقع به على الأمير على رقعة رقعة، قال: فأمر وأحضرت الرقاع، فقال الأصمعي: سأل صاحب الرقعة الأولى كذا، واسمه كذا، فوقع له بكذا، والرقعة الثانية والثالثة حتى مر في نيف وأربعين رقعة، فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل، أبق على نفسك من العين، فكف الأصمعي.
    وحكي عن عباس بن الفرج قال: ركب الأصمعي حماراً دميماً، فقيل له: بعد براذين الخلفاء تركب هذا فقال متمثلاً:
    ولما أبت إلا انصراماً لودها ... وتكديرها الشرب الذي كان صافياً
    شربنا برنقٍ من هواها مكدرٍ ... وليس يعاف الرنق من كان صادياً
     هذا وأملك ديني أحب إلي من ذاك مع فقده.
    وقال الأصمعي: ذكرت يوماً للرشيد نهم سليمان بن عبد الملك، وقلت: إنه كان يجلس ويحضر بين يديه الخراف المشوية وهي كما أخرجت من تنانيرها، فيريد أخذ كلاها فتمنعه الحرارة، فيجعل يده على طرف جبهته ويدخلها في جوف الخروف فيأخذ كلاه، فقال لي: قاتلك الله ما أعلمك بأخبارهم! اعلم أنه عرضت علي ذخائر بني أمية، فنظرت إلى ثياب مذهبة ثمينة وأكمامها ودكة  بالدهن، فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني بالحديث، ثم قال: علي بثياب سليمان، فأتي بها، فنظر إلى تلك الآثار فيها ظاهرة فكساني منها حلة، وكان الأصمعي ربما خرج فيها أحياناً فيقول: هذه جبة سليمان التي كسانيها الرشيد.
    وحكي عنه قال: رأيت بعض الأعراب يفلي ثيابه، فيقتل البراغيث ويدع القمل فقلت: يا إعرأبي، ولم تصنع هذا فقال: أقتل الفرسان ثم أعطف على الرجالة .
    وكان جده علي بن أصمع سرق بسفوان فأتوا به علي بن أبي طالب
    رضي الله عنه، فقال: جيئوني بمن يشهد أنه أخرجها من الرحل، قال ك فشهد عليه بذلك عنده، فأمر به فقطع من أشاجعه، فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا قطعته من زنده، فقال: يا سبحان الله، كيف يتوكأ كيف يصلي كيف يأكل فلما قدم الحجاج بن يوسف البصرة أتاه علي بن أصمع فقال: أيها الأمير، إن أبوي عقاني فسمياني علياً، فسمني أنت، فقال: ما أحسن ما توسلت به، قد وليتك سمك البارجاه، وأجريت لك في كل يوم دانقين فلوساً، ووالله لئن تعديتهما لأقطعن ما أبقاه علي من يدك.
    وكانت ولادة الأصمعي سنة اثنتين، وقيل ثلاث وعشرين ومائة. وتوفي في صفر سنة ست عشرة، وقيل أربع عشرة وقيل خمس عشرة وقيل سبع عشرة ومائتين بالبصرة، وقيل بمرو، رحمه الله تعالى.
    وقال الخطيب أبو بكر: بلغني أن الأصمعي عاش ثمانياً وثمانين سنة. ومولد أبيه قريب سنة ثلاث وثمانين للهجرة، ولم أقف على تاريخ وفاته، رحمه الله تعالى.
    وقريب: بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها باء موحدة، وهو لقب له قال المرزباني وأبو سعيد السيرافي: اسمه عاصم وكنيته أبو بكر وغلب عليه لقبه. والأصمعي: نسبة إلى جده أصمع.
    ومظهر: بضم الميم وفتح الظاء المعجمة وتشديد الهاء وكسرها وبعدها راء.
    وأعيا: بفتح الهمزة وسكون العين المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها.
    وباهلة: قد تقدم الكلام عليها في أول الترجمة، وهي بالباء الموحدة وكسر الهاء وفتح اللام.
    وسفوان: بفتح السين المهملة والفاء والواو وبعد الألف نون وهو اسم موضع عند البصرة ومن قصد البحرين من البصرة يخرج إلى سفوان ثم إلى كاظمة ومنها يتوجه إلى هجر، وهي مدينة البحرين.
    والبارجاه: موضع بالبصرة. قال أبو العيناء: كنا في جنازة الأصمعي، فجذبني أبو قلابة حبيش بن عبد الرحمن الجرمي وقيل حبيش بن منقذ، قاله المرزباني فيه " المعجم "، الشاعر فأنشدني لنفسه:
    لعن الله أعظماً حملوها ... نحو دار البلى على خشباتِ
    أعظماً تبغض النبي وأهل ال ... بيت والطيبين والطيبات
    قال: وجذبني أبو العالية الشامي وأنشدني واسم أبي العاليه الحسن بن مالك:
    لا در در بنات الأرض إذ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا
    عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... في الناس منه ولا من علمه خلفاً
     قال: فعجبت من اختلافهما فيه.
    وللأصمعي من التصانيف كتاب " خلق الإنسان " وكتاب " الأجناس " وكتاب " الأنواء " وكتاب " الهمز " وكتاب " المقصور والمدود " وكتاب " الفرق " وكتاب " الصفات " وكتاب " الأبواب " وكتاب " الميسر والقداح " وكتاب " خلق الفرس " وكتاب " الخيل " وكتاب " الإبل " وكتاب " الشاء " وكتاب " الأخبية "  وكتاب " الوحوش " وكتاب " فعل وأفعل " وكتاب " الأمثال " وكتاب " الأضداد " وكتاب " الألفاظ " وكتاب " السلاح " وكتاب " اللغات " وكتاب " مياه العرب " وكتاب " النوادر " وكتاب " أصول الكلام " وكتاب " القلب والإبدال " وكتاب " جزيرة العرب " وكتاب " الاشتقاق " وكتاب " معاني الشعر " وكتاب " المصادر " وكتاب " الأراجيز " وكتاب " النخلة " وكتاب " النبات " وكتاب " ما اتفق لفظه واختلف معناه " وكتاب " غريب الحديث " وكتاب " نوادر الاعراب " وغير ذلك.

الثعالبي

    أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري؛ قال ابن بسام صاحب " الذخيرة " في حقه: " كان في وقته راعي تلعات العلم، وجامع أشتات النثر والنظم، رأس المؤلفين في زمانه، وإما م المصنفين بحكم قرانه، سار ذكره سير المثل، وضربت إليه آباط الإبل، وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب، وتواليفه أشهر مواضع وأبهر مطالع وأكثر راوٍ لها وجامع، من أن يستوفيها حد أو وصف، أو يوفيها حقوقها نظم أو رصف "، وذكر له طرفاً من النثر وأورد شيئاً من نظمه فمن ذلك ما كتبه إلى الأمير أبي الفضل الميكالي:
    لك في المفاخر معجزاتٌ جمةٌ ... أيداً لغيرك في الورى لم تجمع
    بحران: بحر في البلاغة شانه ... شعر الوليد (2) وحسن لفظ الأصمعي
    [وترسل الصابي يزين علوه ... خط ابن مقلة ذو المحل الأرفع] (3)
    كالنور أو كالسحر أو كالبدر أو ... كالوشي في بردٍ عليه موشع
    شكراً فكم من فقرة لك كالغنى ... وافى الكريم بعيد فقر مدقع
    وإذا تفتق نور شعرك ناضراً ... فالحسن بين مرصع ومصرع
    أرجلت فرسان الكلام ورضت أف ... راس البديع وأنت أمجد مبدع 
    ونقشت في فص الزمان بدائعاً ... تزري بآثار الربيع الممرع 
    ومنها في وصف فرس أهداه إليه ممدوحه:
    يا واهب الطرف الجواد كأنما ... قد أنعلوه بالرياح الأربع
    لا شيء أسرع منه إلا خاطري ... في وصف نائلك اللطيف الموقع
    ولو انني أنصفت في إكرامه ... لجلال مهديه الكريم الألمعي
    أقضمته حب الفؤاد محبة ... وجعلت مربطه سواد المدمع
    وخلعت ثم قطعت غير مضيع ... برد الشباب لجله والبرقع]
    ومن شعره :
    لما بعثت فلم توجب مطالعتي ... وأمعنت نار شوقي في تلهبها
    ولم أجد حيلةً تبقي على رمقي ... قبلت عيني رسولي إذ رآك بها [وكتب إلى أبي نصر بن سهل ابن المرزبان يحاجيه:
    حاجيت شمس العلم في ذا العصر ... نديم مولانا الأمير نصر
    ما حاجةٌ لأهل كل مصر ... في كل ما دار وكل قطر ليست ترى إلا بعيد العصر ... فكتب إليه جوابه:
    يا بحر آدابٍ بغير جزر ... وحظه في العلم غير نزر
    حزرت ما قلت وكان حزري ... أن الذي عنيت دهن البزر يعصره ذو قوةٍ وأزر] (3) ...
    وله من التواليف " يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر " وهو أكبر كتبه وأحسنها وأجمعها، وفيها يقول أبو الفتوح نصر الله قلاقس الإسكندري الشاعر المشهور - وسيأتي ذكره أن شاء الله تعالى -:
    أبيات أشعار اليتيمه ... أبكار أفكار قديمه
    ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سميت اليتيمه وله أيضاً كتاب " فقه اللغة " و " سحر البلاغة وسر البراعة " و " من غاب عنهم المطرب " و " مؤنس الوحيد " وشيء كثير جمع فيها أشعار الناس ورسائلهم وأخبارهم وأحوالهم وفيها دلالة على كثرة اطلاعه. وله أشعار كثيرة. وكانت ولادته سنة خمسين وثلثمائة وتوفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة رحمه الله تعالى.
    والثعالبي: بفتح الثاء المثلثه والعين المهملة وبعد الألف باء مكسورة وبعدها لام موحدة هذه النسبة إلى خياطة جلود الثعالب وعملها، قيل له ذلك لأنه كان فراء.

ابن هشام صاحب السيرة

أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري؛ قال أبو القاسم السهيلي عنه في كتاب " الروض الأنف " - شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم -: إنه مشهور بحمل العلم، متقدم في علم النسب والنحو، وهو من مصر وأصله من البصرة، وله كتاب في أنساب حمير وملوكها، وكتاب في شرح ما وقع في أشعار السير من الغريب فيما ذكر لي. وتوفي بمصر في سنة ثلاث عشرة ومائتين، رحمه الله تعالى.
قلت وهذا ابن هشام هو الذي جمع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من " المغازي والسير " لابن إسحاق وهذبها لخصها وشرحها السهيلي المذكور، وهي الموجودة بأيدي الناس المعروفة بسيرة ابن هشام. وقال أبو سعيد عبد الحمن بن أحمد ين يونس صاحب " تاريخ مصر " المقدم ذكره في تاريخه الذي جعله للغرباء القادمين على مصر: إن عبد الملك المذكور توفي لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ثماني عشرة ومائتين بمصر، والله أعلم بالصواب، وقال: إنه ذهلي.
والحميري قد تقدم الكلام عليه.
والمعافري: بفتح الميم والعين المهملة وبعد الألف فاء مكسورة ثم راء، هذه النسبة إلى المعافر بن يعفر (2) قبيل كبير (3) ينسب إليه بشر كثير عامتهم بمصر.

إمام الحرمين الجويني

    أبو المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي يعقوب يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، ، الفقيه الشافعي الملقب ضياء الدين، المعروف بإمام الحرمين؛ أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمع على إمامته المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأصول والفروع والأدب وغير ذلك، وقد تقدم ذكر والده في العبادلة ، ورزق من التوسع في العبارة ما لم يعهد من غيره، وكان يذكر دروساً يقع كل واحد منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها، وتفقه في صباه على والده أبي محمد، وكان يعجب بطبعه وتحصيله وجودة قريحته وما يظهر عليه من مخايل الإقبال، فأتى على جميع مصنفات والده وتصرف فيها، حتى زاد عليه في التحقيق والتدقيق. ولما توفي والده قعد مكانه للتدريس، وإذا فرغ منه مضى إلى الأستاذ أبي القاسم الإسكافي الإسفرايني بمدرسة البيهقي حتى حصل عليه علم الأصول، ثم سافر إلى بغداد ولقي بها جماعة من العلماء، ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة أربع سنين، وبالمدينة، يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب، فلهذا قيل له إمام الحرمين، ثم عاد إلى نيسابور في أوائل ولاية السلطان ألب أرسلان السلجوقي، والوزير يومئذ نظام الملك، فبنى له المدرسة النظامية بمدينة نيسابور، وتولى الخطابة بها، وكان يجلس للوعظ والمناظرة، وظهرت تصانيفه، وحضر دروسه الأكابر من الأئمة وانتهت إليه رياسة الأصحاب، وفوض إليه أمور الأوقاف، وبقي على ذلك قريباً من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، مسلم له المحراب والمنبر والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة.
    وصنف في كل فن: منها كتاب " نهاية المطلب في دراية المذهب "  الذي ما صنف في الإسلام مثله، قال أبو جعفر الحافظ: سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لإمام الحرمين: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، أنت اليوم إمام الأئمة. وسمع الحديث من جماعة كبيرة من علمائه، وله إجازة من الحافظ أبي نعيم الأصبهاني صاحب " حلية الأولياء ". ومن تصانيفه " الشامل " في أصول الدين، و " البرهان " في أصول الفقه، و " تلخيص التقريب " و " الإرشاد "  و " العقيدة النظامية " و " مدارك العقول " لم يتمه، وكتاب " تلخيص نهاية المطلب " لم يتمه، و " غياث الأمم في الإمامة " و " مغيث الخلق في اختيار الأحق " و " غنية المسترشدين " في الخلاف وغير ذلك من الكتب. وكان إذا شرع في علوم الصوفية وشرح الأحوال أبكى الحاضرين، ولم يزل على طريقة حميدة مرضية من أول عمره إلى آخره.
    أخبرني بعض المشايخ أنه وقف على جلية أمره في بعض الكتب، وأن والده الشيخ أبا محمد، رحمه الله تعالى، كان في أول أمره ينسخ بالأجرة، فاجتمع له من كسب يده شيء اشترى به جارية موصوفة بالخير والصلاح، ولم يزل يطمعها من كسب يده أيضاً إلى أن حملت بإمام الحرمين، وهو مستمر على تربيتها بكسب الحل، فلما وضعته أوصاها أن لا تمكن أحداً من إرضاعه، فاتفق أنه دخل عليها يوماً وهي متألمة والصغير يبكي، وقد أخذته امرأة من جيرانهم وشاغلته بثديها فرضع منه قليلاً، فلما رآه شق عليه وأخذه إليه ونكس رأسه ومسح على بطنه وأدخل إصبعه في فيه ولم يزل يفعل به ذلك حتى قاء جميع ما شربه، وهو يقول: يسهل علي أن يموت ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمه. ويحكى عن إمام الحرمين أنه كان تلحقه بعض الأحيان (3) فترةٌ في مجلس المناظرة فيقول: هذا من بقايا تلك الرضعة.
    ومولده في ثامن عشر المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة، ولما مرض حمل إلى قرية من أعمال نيسابور، يقال لها بشتنقان  موصوفة باعتدال الهواء وخفة الماء، فمات بها ليلة الأربعاء وقت العشاء الآخرة الخامس والعشرين من شهر  ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ونقل إلى نيسابور تلك الليلة ودفن من الغد في داره، ثم نقل بعد سنين  إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب 
    أبيه ، رحمهما الله تعالى، وصلى عليه ولده أبو القاسم، فأغلقت الأسواق يوم موته وكسر منبره في الجامع وقعد الناس لعزائه وأكثروا فيه المراثي.
    ومما رثي به:
    قلوب العالمين على المقالي ... وأيام الورى شبه الليالي
    أيثمر غصن أهل العلم يوماً ... وقد مات الإمام أبو المعالي
    وكانت تلامذته يومئذٍ قريباً من أربعمائة واحد، فكسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا على ذلك عاماً كاملاً.

ابن الماجشون

    أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، واسمه ميمون، وقيل دينار، القرشي التيمي المنكدري مولاهم، المدني الأعمى الفقيه المالكي؛ تفقه على الإمام مالك، رضي الله عنه، وعلى والده عبد العزيز وغيرهما. وقيل إنه عمي في آخر عمره، وكان مولعاً بسماع الغناء، قال أحمد بن حنبل: قدم علينا ومعه من يغنيه. وحدث وكان من الفصحاء، روي أنه كان إذا ذاكره الإمام الشافعي رضي الله عنه لم يعرف الناس كثيراً مما يقولان، لأن الشافعي تأدب بهذيل في البادية وعبد الملك تأدب في خؤولته من كلب بالبادية. وقال يحيى بن أحمد بن المعذل: كلما تذكرت أن التراب يأكل لسان عبد الملك صغرت الدنيا في عيني. وسئل أحمد بن المعذل فقيل له: أين لسانك من لسان أستاذك عبد الملك فقال: كان لسان عبد الملك إذا تعايا أحيى من لساني إذا تحايا.
    ومات عبد الملك المذكور سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقال أبو عمر ابن عبد البر: توفي سنة اثنتي عشرة، وقيل سنة أربع عشرة ومائتين، رحمه الله تعالى.
    والماجشون: بفتح الميم وبعد الألف جيم مكسورة ثم شين معجمة مضمومة وبعد الواو نون، وهو المورد  ، ويقال: الأبيض الأحمر ، وهو لقب أبييوسف يعقوب بن أبي سلمة المذكور، وهو عم والد عبد الملك المذكور، لقبته بذلك سكينة بنت الحسين بن علي، رضي الله عنهم، وجرى هذا اللقب على أهل بيته من بنيه وبني أخيه، وقيل إن أصلهم من أصبهان، فكان إذا سلم بعضهم على بعض قال: شوني، شوني، فسمي الماجشون، حكاه الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني، وقال أبو داود: كان عبد الملك الماجشون لا يعقل الحديث، قال ابن البرقي: دعاني رجل أن أمضي إليه، فجئناه فإذا هو لا يدري الحديث أيش هو، وذكره محمد بن سعد في " الطبقات الكبرى "  وقال: كان له فقه ورواية  .
    والمنكدري: منسوب إلى المنكدر بن عبد الله بن هدير القرشي التيمي والد محمد وأبي بكر وعمر بني المنكدر، وقد استوفى ابن قتيبة حديثهم في كتاب " المعارف " في ترجمة محمد بن المنكدر.