الجمعة، 31 مارس 2017

القاضي عبد الوهاب المالكي

    القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون بن مالك بن طوق التغلبي البغدادي الفقيه المالكي، وهو من ذرية مالك بن طوق التغلبي صاحب الرحبة؛ كان فقيهاً أديباً شاعراً، صنف في مذهبه كتاب " التلقين " وهو مع صغر حجمه من خيار الكتب وأكثرها فائدة، وله كتاب " المعونة " و " شرح الرسالة " وغير ذلك عدة تصانيف.
    ذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " فقال (2) : سمع أبا عبد الله بن العسكري وعمر بن محمد بن سبنك (3) وأبا حفص ابن شاهين، وحدث بشيء يسير. كتبت عنه، وكان ثقة، ولم يلق من المالكيين أحداً أفقه منه، وكان حسن النظر جيد العبارة، وتولى القضاء ببادرايا وباكسايا، وخرج في آخر عمره إلى مصر فمات بها.
    وذكره ابن بسام في كتاب " الذخيرة " فقال (4) : كان بقية الناس، ولسان أصحاب القياس، وقد وجدت له شعراً معانيه أجلى من الصبح وألفاظه أحلى من الظفر بالنجح، ونبت به بغداد كعادة البلاد بذوي فضلها، وعلى حكم الأيام في محسني أهلها، فخلع أهلها، وودع ماءها وظلها، وحدثت أنه شيعه يوم فصل عنها من أكابرها وأصحاب محابرها جملة موفورة وطوائفكثير، وأنه قال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية، ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية، وفي ذلك يقول:
    سلام على بغداد في كل موطنٍ ... وحق لها مني سلامٌ مضاعف
    فوالله ما فارقتها عن قلىً لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف
    ولكنها ضاقت علي بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
    وكانت كخلٍ كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف واجتاز في طريقه بمعرة النعمان، وكان قاصداً مصر، وبالمعرة يومئذ أبو العلاء المعري فأضافه، وفي ذلك يقول من جملة أبيات  :
    والمالكي ابن نصرٍ زار في سفرٍ ... بلادنا  فحمدنا النأي والسفرا
    إذا تفقه أحيا  مالكاً جدلاً ... وينشر الملك الضليل إن شعرا
    ثم توجه إلى مصر فحمل لواءها، وملأ أرضها وسماءها، واستتبع سادتها وكبراءها، وتناهت إليه الغرائب، وانثالت في يديه الرغائب، فمات لأول ما وصلها من أكلة اشتهاها فأكلها، وزعموا أنه قال وهو يتقلب، ونفسه يتصعد ويتصوب: لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا.
    وله أشعار رائقة طريفة، فمن ذلك قوله:
    ونائمة قبلتها فتنبهت ... فقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد
    فقلت لها إني فديتك غاصبٌ ... وما حكموا في غاصبٍ بسوى الرد
    خذيها وكفي عن أثيمٍ ظلامةً ... وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد
    فقالت: قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد
    فباتت يميني وهي هميان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد
    فقالت: ألم أخبر بأنك زاهدٌ ... فقلت بلى ما زلت أزهد في الزهد ومن شعره أيضاً:
    بغداد دارٌ لأهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق
    ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحفٌ في بيت زنديق [وله:
    أهيم بذكر الشرق والغرب دائماً ... وما لي لا شرق البلاد ولا غرب
    ولكن أوطاناً نأت وأحبةً ... فعدت متى أذكر عهودهم أصب
    ولم أنس من ودعت بالشط سحرةً ... وقد غرد الحادون واشتغل الركب
    أليفان هذا سائرٌ نحو غربةٍ ... وهذا مقيمٌ سار من صدره القرب وله أيضاً:
    قطعت الأرض في شهري ربيعٍ ... إلى مصر وعدت إلى العراق
    وقال لي الحبيب وقد رآني ... مشوقاً للمضمرة العتاق
    ركبت على البراق فقلت كلا ... ولكني ركبت على اشتياقي
     وكان على خاطري أبيات لا أعرف لمن هي، ثم وجدتها في عدة مواضع للقاضي عبد الوهاب المذكور وهي:
    متى يصل العطاش إلى ارتواءٍ ... إذا استقت البحار من الركايا
    ومن يثني الأصاغر عن مرادٍ ... وقد جلس الأكابر في الزوايا
    وأن ترفع الوضعاء يوماً ... على الرفعاء من إحدى الرزايا
    إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا
     انفردت ر بما بين المعقفين.
     بعد هذا جاء في المطبوعة المصرية: وله أيضاً:
    حمدت إلهي إذ بليت بحبها ... وبي حول يغني عن النظر الشزر
    نظرت إليها والرقيب يخالني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
    وهذا البيتان لأبي حفص الشطرنجي في جارية حولاء، وسيذكرهما المؤلف في ترجمة محمد بن الحسن بن حمدون الكاتب، ولا ريب في أن المؤلف مدقق شديد التحري، فلعل هذه الزيادة هنا ليست من الأصل أو من الإضافات التي ألحقها.
    وذكر صاحب " الذخيرة " أنه ولي القضاء بمدينة اسعرد وقال غيره: كان قاضياً في بادرايا وباكسايا وهما بليدتان من أعمال العراق. وسئل عن مولده فقال: يوم الخميس السابع من شوال سنة اثنتين وستين وثلثمائة ببغداد. وتوفي ليلة الاثنين الرابعة عشرة من صفر سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة بمصر، وقيل: إنه توفي في شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى. ودفن في القرافة الصغرى وزرت قبره فيما بين قبة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وباب القرافة، بالقرب من ابن القاسم وأشهب، رحمهما الله تعالى.
    وكان أبوه من أعيان الشهود المعدلين ببغداد.
     وكان أخوه أبو الحسن محمد بن علي بن نصر أديباً فاضلاً صنف كتاب " المفاوضة " للملك العزيز جلال الدولة أبي منصور ابن أبي طاهر  بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، جمع فيه ما شاهده، وهو من الكتب الممتعة في ثلاثين كراسة، وله رسائل، ومولده ببغداد في إحدى الجماديين في سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة، وتوفي يوم الأحد لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بواسط وكان قد صعد إليها من البصرة فمات بها.
     وتوفي أبوهما أبو الحسن علي يوم السبت ثاني شهر رمضان المعظم إحدى وتسعين وثلثمائة رحمهم الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق