الأربعاء، 29 مارس 2017

الببغاء

    أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي الشاعر المعروف بالببغاء؛ ذكّره الثعالبي في " يتيمة الدهر "  وقال: هو من أهل نصيبين، وبالغ في الثناء عليه وذكر جملة من رسائله ونظمه وما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي، وأشياء يطول شرحها.
    [واتفق أن أبا الفرج قدم مرة بغداد وأبو إسحاق معتقل مدة طويلة ولم يصبر عنه وزاره في مجلسه ثم انصرف ولم يعاوده فكتب إليه أبو إسحاق:
    أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص
    مضى زمن تستام وصلي غالياً ... فأرخصته والبيع غالٍ ومرتخص
    وأنستني في مجلسي بزيارة ... شفت كبداً من صاحبٍ لك قد خلص
    ولكنها كانت كحسوة طائرٍ ... فواقاً كما يستفرص السارق الفرص
    وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي ... وأوجست خوفاً من تذكرك القفص
    كذا الكرز اللماح ينجو بنفسه ... إذا عاين الأشراك تنصب للقنص
    فحوشيت يا قسَّ الطيور بلاغةً ... إذا أنشد المنظوم أو درس القصص
    من المنسر الأشغى ومن حدة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصة المقص
    فهذي دواهي الطير وقيت شرها ... إذا الدهر من أحداثه جرع الغصص فأجابه أبو الفرج في الحال مع رسوله:
    أيا ماجداً [مذ يمم] المجد مانكص ... وبدر تمامٍ مذ تكامل ما نقص
    ستخلص من هذا السرار وأيما ... هلالٍ توارى بالسرار فما خلص
    برأفة تاج الملة الملك الذي ... [لسؤدده] في خطة المشتري حصص
    تقنصت بالألطاف شكري ولم أكن ... علمت بأن الحر بالبر يقتنص
    وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها ... بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص
    أتتني القوافي الزاهرات تجمل ال ... بدائع من مستحسن الجد والرخص
    فقابلت زهر الروض منها ولم أرد ... وأحرزت [در] البحر منها ولم أغص
    فإن كنت بالببغاء قدماً ملقباً ... فكم لقبٍ بالجور لا العدل مخترص
    وبعد فما أخشى تقنص جارحٍ ... وقلبك لي وكرٌ ورأيك لي قفص
    فانتهى الابتداء والجواب إلى عضد الدولة فأعجب بهما واستظرفهما، وكان ذلك أحد أسباب إطلاق أبي إسحاق من اعتقاله. ثم اتصلت بينهما المودة والكتابة.
    وحكى القاضي أبو علي التنوخي قال: دخل أبو الفرج عبد الواحد الببغاء على الوزير أبي نصر سأبور بن أردشير وقد نثرت عليه دنانير وجواهر، فأنشد بديهاً:
    نثروا الجواهر واللجين وليس لي ... شيءٌ عليه سوى المدائح أنثر
    بقصائدٍ كالدر إن هي أنشدت ... وثنا إذا ما فاح فهو العنبر
     ومن شعره:
    يا سادتي هذه روحي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
    قد كنت أطمع في روح الحياة لها ... فالآن إذ بنتم لم يبق لي طمع
    لا عذب الله روحي بالبقاء فما ... أظنها بعدكم بالعيش تنتفع 
    وله :
    خيالك منك أعرف بالغرام ... وأرأف بالمحب المستهام
    ولو يسطيع حين حظرت نومي ... علي لزار في غير المنام وله أيضاً:
    ومهفهفٍ لما اكتست وجناته ... خلع الملاحة طرزت بعذاره
    لما انتصرت على أليم جفائه ... بالقلب كان القلب من أنصاره
    كملت محاسن وجهه فكأنما اق ... تبس الهلال النور من أنواره
    وإذا ألح القلب في هجرانه ... قال الهوى لا بد منه فداره وله في التشبيه وقد أبدع فيه:
    وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلةً في الجلمد
    وكأن طرف الشمس مطروفٌ وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد وله في سعيد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان:
    لا غيث نعماه في الورى خلب ال ... برق ولا ورد جوده وشل
    جاد إلى أن لم يبق نائله ... مالاً ولم يبق للورى أمل وقد سبق نظير هذا المعنى في شعر أبي نصر ابن نباتة السعدي. وأكثر شعر أبي الفرج المذكور جيد ومقاصده فيه جميلة. وكان قد خدم سيف الدولة بن حمدان مدة، وبعد وفاته تنقل في البلاد.
    وتوفي يوم السبت سلخ شعبان سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وقال الخطيب في تاريخه: توفي في ليلة السبت لثلاث بقين من شعبان سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، والله أعلم، رحمه الله تعالى. وقال الثعالبي: وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي يقول عند صدوره من الحج ودخوله بغداد في سنة تسعين وثلثمائة: ورأيت بها أبا الفرج الببغاء شيخاً عالي السن متطاول الأمد، قد أخذت الأيام من جسمه وقوته ولم تأخذ من ظرفه وأدبه.
    والببغاء: بفتح الباء الأولى وتشديد الباء الثانية وفتح الغين المعجمة وبعدها ألف، وهو لقب وإنما لقب به لحسن فصاحته، وقيل: للثغة كانت في لسانه. ووجد بخط أبي الفتح ابن جني النحوي الففغاء، بفاءين، والله أعلم بالصواب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق