الجمعة، 30 نوفمبر 2018

موسى بن نصير

بو عبد الرحمن موسى بن نصير، اللخمي بالولاء، صاحب فتح الأندلس؛ كان من التابعين، رضي الله عنهم، وروى عن تميم الداري، رضي الله عنه،
وكان عاقلاً كريماً شجاعاً ورعاً تقياً لله تعالى، لم يهزم له جيش قط.
وكان والده نصير على حرس معاوية بن أبي سفيان، ومنزلته عنده مكينة. ولما خرج معاوية لقتال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لم يخرج معه، فقال له معاوية: ما منعك من الخروج معي ولي عندك يد لم تكافئني عليها فقال: لم يمكني أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكري، فقال: ومن هو قال: الله عزوجل، فقال: وكيف لا أم لك قال: وكيف لا أعلمك هذا، فأعض وأمص (1) ، قال: فأطرق معاوية ملياً، ثم قال: أستغفر الله، ورضي عنه.
وكان عبد الله بن مروان أخو عبد الملك بن مروان والياً على مصر وإفريقية، فبعث إليه ابن أخيه الوليد بن عبد الملك أيام خلافته يقول له: أرسل موسى بن نصير إلى إفريقية، وذلك في سنة تسع وثمانين للهجرة.
وقال الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس: إن موسى ابن نصير تولى إفريقية والمغرب سنة سبع وسبعين، فأرسله إليها، فلما قدمها ومعه جماعة من الجند، بلغه أن بأطراف البلاد جماعة خارجين عن الطاعة، فوجه ولده عبد الله، فأتاه بمائة ألف رأس من السبايا، ثم وجه ولده مروان إلى جهة أخرى فأتاه بمائة ألف رأس.
قال الليث بن سعد: فبلغ الخمس ستين ألف رأس، وقال أبو شبيب (2) الصدفي: لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير. ووجد أكثر مدن إفريقية خالية لاختلاف أيدي البربر عليها، وكانت البلاد (3) في قحط شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء، ومعه سائر الحيوانات، وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصراخ والضجيج، وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صلى وخطب بالناس، ولم يذكر الوليد بن عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين فقال: هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله عزوجل، فسقوا حتى رووا.
ثم خرج موسى غازياً، وتتبع البربر وقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وسبى سبياً عظيماً، وسار حتى انتهى إلى السوس الأدنى لا يدافعه أحد. فلما رأى بقية البربر ما نزل بهم استأمنوا وبذلوا له الطاعة فقبل منهم، وولى عليهم والياً، واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد البربري، ويقال إنه من الصدف، وترك عنده تسعة عشر ألف فارس من البربر بالأسلحة والعدد الكاملة، وكانوا قد أسموا وحسن إسلامهم، وترك موسى عندهم خلقاً يسيراً من العرب لتعليم القرآن وفرائض الإسلام، ورجع إلى إفريقية، ولم يبق بالبلاد من ينازعه من البربر ولا من الروم.
فلما استقرت له القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس في جيش من البربر ليس فيه من العرب إلا قدر يسير، فامتثل طارق أمره، وركب البحر (1) من سبتة إلى الجزيرة الخضراء من بر الأندلس، وصعد إلى جبل يعرف اليوم بجبل طارق لأنه نسب إليه لما حصل عليه، وكان صعوده إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين للهجرة في اثني عشر ألف فارس من البربر خلا اثني عشر رجلاً.
وذكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب وقت التعدية، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يمشون على الماء، حتى مروا به فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح؛ وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، ذكر ذلك ابن بشكوال - المقدم ذكره في حرف الخاء - في تاريخ الأندلس.
وكان صاحب طليطلة ومعظم بلاد الأندلس ملك يقال له لذريق (2) . ولما احتل (3) طارق بالجبل المذكور كتب إلى موسى بن نصير: إني فعلت ما أمرتني به، وسهل الله سبحانه وتعالى بالدخول. فلما وصل كتابه إلى نوسى بدم على تأخره، وعلم أنه إن فتح نسب الفتح إليه دونه، فأخذ في جمع العساكر، وولى على القيروان ولده عبد الله، وتبعه فلم يدركه إلا بعد الفتح. وكان لذريق المذكور قد قصد عدواً له، واستخلف في المملكة شخصاً يقال له تدمير، وإلى هذا الشخص تنتسب بلاد تدمير بالأندلس - وهي مرسية وما والاها، وهي خمس مواضع تسمى بهذا الاسم، واستولى الفرنج على مرسية سنة اثنتين وخمسين وستمائة (1) - فلما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه كتب تدمير إلى لذريق الملك إنه قد وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض، فلما بلغ ذلك لذريق رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس، ومعه العجل يحمل الأموال والمتاع، وهو على سريره بين دابتين عليه قبة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد.
فلما بلغ طارقاً دنوه قام في أصحابه فحمد الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة، ثم قال: أيها الناس، أين المفر والبحر من ورائكم والعدو أمامكم فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتم عدو كم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم، ولا أقوات (2) لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب برعبها منكم الجراءة عليكم، فافعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية (3) ، فقد ألقت إليكم مدينته المحصنة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت. وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة (4) ، ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس أبداً فيها بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي، وقد بلغكم نا أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عرباناً (1) ، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه معكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين. واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم (2) أمره ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكت قلب وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون.
فلما فرغ طارق من تحريض أصحابه على الصبر في قتال (3) لذريق وأصحابه وما وعدهم من النيل الجزيل، انبسطت نفوسهم وتحققت آمالهم وهبت ريح النصر عليهم وقالوا: قد قطعنا الآمال مما يخالف ما عزمت عليه، فاحضر إليه فأنا معك وبين يديك. فركب طارق وركبوا وقصدوا مناخ لذريق، وكان قد نزل بمتسع من الأرض، فلما تراءى الجمعان نزل طارق وأصحابه، فباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح.
فلما أصبح الفريقان تلببوا (4) وعبوا كتائبهم (5) وحمل لذريق على سريره، وقد رفع على رأسه رواق ديباج يظله، وهو مقبل (6) في غاية من (7) البنود والأعلام وبين يديه المقاتلة والسلاح، وأقبل طارق وأصحابه عليهم الزرد، ومن فوق رؤوسهم العمائم البيض وبأيديهم القسي العربية، وقد تقلدوا السيوف واعتقلوا الرماح، فلما نظر إليهم لذريق قال: أما والله إن هذه الصور التي رأينا ببيت الحكمة ببلدنا، فداخله منهم رعب.
ونتكلم هاهنا على بيت الحكمة ماهو، ثم نتكلم على حديث (1) هذه الواقعة:
وأصل خبر بيت احكمة أن اليونان - وهم الطائفة المشهورة بالحكمة - كانوا يسكنون ببلاد المشرق قبل عهد الإسكندر، فلما ظهرت الفرس واستولت على البلاد، وزاحمت اليونان على ما كان بأيديهم من الممالك، انتقل اليونان إلى جزيرة الأندلس، لكونها طرفاً في آخر العمارة، ولم يكن لها ذكر يوم ذاك، ولا ملكها أحد من الملوك المعتبرةن ولاكانت عامرة، وكان أول من عمر فيها واختطها أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام، فسميت باسمه، ولما عمرت الأرض بعد الطوفان كان صورة المعمور منها عندهم على شكل طائر رأسه المشرق والجنوب والشمال جناحاه، وما بينهما بطنه، والمغرب ذنبه، فكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخس أجزاء الطائر.
قلت (2) : وجرى في مجلس الحافظ أبي طاهر السفلي نادرة تصلح أن نذكرها هاهنا وهي أن أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن الجمش البلبيسي كان في مجلسه، وعبد العزيز الشريشي يقرأ حديث عمرو بن العاص: خلقت الدنيا على صورة طير ... الحديث المذكور؛ فقال الشريشي لأبي إسحاق يمازحه: اسمع يا أبا إسحاق، وشر ما في الطير ذنبه، فقال أبو إسحاق: هيهات ما عرفت أنت ما كان ذلك الطائر المشبه كان طاووساً، وما فيه أحسن من ذنبه.
وكانت اليونان لا ترى فناء الأمم بالحروب لما ترى فيه من الإضرار والاشتغال عن العلوم التي كان أمرها عندهم من أهم الأمور، فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس. فلما صاروا إليها أقبلوا على عمارتها، فشقوا الأنهار وبنوا المعاقل، وغرسوا (1) الجنات والكروم، وشيدوا الأمصار، وملؤوها حرثاً ونسلاً وبنياناً، فعظمت وطابت حتى قال قائلهم لما رأى بهجتها: إن الطائر الذي صورت العمارة على شكله، وكان المغرب ذنبه، كان طاوساً معظم جماله في ذنبه. فاغتبطوا بها أتم اغتباط واتخذوا دار الملك والحكمة بها مدينة (2) طليطلة لأنها وسط البلاد، وكان أهم الأمور عندهم تحصينها عمن يتصل به خبرها من الأمم، فنظروا فإذا ليس ثم من يحسدهم على أرغد العيش إلا أرباب الشظف والشقاء، وهم يوم ذاك طائفتان: العرب والبربر (3) ، فخافوهم على جزيرتهم المعمورة، فعزموا أن يتخذوا لدفع هذين الجنسين من الناس طلمساً، فرصدوا لذلك أرصاداً.
ولما كان البربر بالقرب منهم، وليس بينهم سوى تعدية البحر، ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع خارجة عن الأوضاع، وازدادوا منهم نفراً، وكثر تحذيرهم من مخالطتهم في نسب أو مجاورة، حتى انبث ذلك في طبائعهم، وصار بغضهم مركباً في غرائزهم، فلما علم البربر عداوة أهل الأندلس لهم وبغضهم، أبغضوهم وجسدوهم، فلا تجد أندلسياً إلا مبغضاً بربرياً ولا بربرياً إلا مبغضاً أندلسياً، إلا أن البربر أحوج إلى أهل الأندلس من أهل الأندلس إلى البربر، لكثرة وجود الأشياء بالأندلس وعدمها ببلاد البربر.
وكان بنواحي غرب جزيرة الأندلس ملك يوناني بجزيرة يقال لها قادس، وكانت له ابنة في غاية الجمال، فتسامع بها ملوك الأندلس، وكانت جزيرة الأندلس كثيرة الملوك، لكل بلدة أو بلدتين ملك تناصفاً منهم في ذلك، فخطبها كل واحد منهم (4) ، وكان أبوها يخشى من تزويجها لواحد منهم وإسخاط الباقين، فتحير في أمره، وأحضر ابنته المذكورة، وكانت الحكمة مركبة في طباع القوم ذكورهم وإناثهم (1) - ولذلك قيل إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض: على أدمغة اليونان وأيدي أهل الصين وألسنة العرب - فلما حضرت بين يديه قال لها: يا ينية، وإني قد أصبحت في حيرة من أمري، قالت: وما حيرك قال: قد خطبك جميع ملوك الأندلس، ومتى أرضيت واحداً أسخطت الباقين، فقالت: اجعل الأمر إلي تخلص من اللوم، قال: وما تصنعين قالت: أقترح لنفسي أمراً من فعله كنت زوجته، ومن عجز عنه لم يحسن به السخط قال: وما الذي تقترحين قالت: أقترح أن يكون ملكاً حكيماً، قال: نعم ما اخترتيه (2) لنفسك، وكتب في أجوبة الملوك الخطاب: إني جعلت الأمر إليها فاختارت من الأزواج الملك الحكيم. فلما وقفوا على الأجوبة سكت عنها كل من لم يكن حكيماً.
وكان في الملوك رجلان حكيمان، فكتب كل واحد منهما إليه: أنا الرجل الحكيم. فلما وقف على كتابيهما قال: يا بنية بقي الأمر على إشكاله، وهذان ملكان حكيمان، أيهما أرضيته أسخطت الأخر قالت: سأقترح على كل واحد منهما أمراً يأتي به، فأيهما سبق إلى الفراغ مما التمسته تزوجت به، قال: وما الذي تقترحين عليهما قالت: إننا ساكنون بهذه الجزيرة، ونحن محتاجون إلى رحى تدور بها، وإني مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذب الجاري إليها من ذلك البر، ومقترحة على الآخر أن يتخذ طلسماً يحصن (3) به جزيرة الأندلس من البربر، فاستظرف أبوها اقتراحها، وكتب إلى الملكين بما قالته ابنته، فأجابا إلى ذلك، وتقاسماه على ما اختارا، وشرع كل واحد في عمل ما ندب (4) إليه من ذلك.
فأما صاحب الرحى فإنه عمد إلى خرز عظام اتخذها من الحجارة، ونضد بعضها في بعض في البحر المالح الذي بين جزيرة الأندلس والبر الكبير في الموضع المعروف بزقاق سبتة، وسد الفروج التي بين الحجارة بما اقتضته حكمته، وأوصل تلك الحجارة من البر إلى الجزيرة، وآثارها باقية إلى اليوم في الزقاق الذي بين سبتة والجزيرة الخضراء، وأكثر أهل الأندلس يزعمون أن هذا أثر قنطرة كان الإسكندر قد عملها ليعبر عليها الناس من سبتة إلى الجزيرة، والله أعلم أي القولين أصح. فلما تم تنضيد الحجارة للملك الحكيم، جلب إليها الماء العذب من موضع عال في الجبل بالبر الكبير، وسلطه في ساقية محكمة البناء، وبنى بجزيرة الأندلس رحى على هذه الساقية.
وأما صاحب الطلسم فإنه أبطأ عمله بسب انتظار الرصد الموافق لعمله، غير أنه أعمل أمره وأحكمه، وابتنى بنياناً مربعاً من حجر أبيض على ساحل البحر في رمل حفر أساسه إلى أن جعله تحت الأرض بمقدار ارتفاعه فوق الأرض ليثبت، فلما انتهى البناء المربع إلى حيث اختار صور من النحاس الأحمر والحديد المصفى المخلوطين بأحكم الخلط صورة رجل بربري له لحية، وفي رأسه ذؤابة من شعر جعد قائم في رأسه لجعودتها، متأبط بصورة بصورة كساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى، بألطف (1) تصوير وأحكمه، في رجليه نعل، وهو قائم في رأس البناء على مستدق (2) بمقدار رجليه فقط، وهو شاهق في الهواء طوله نيف عن ستين ذراعاً أو سبعين، وهو محدد الأعلى إلى أن ينتهي إلى ما سعته قدر الذراع، وقد مد يده اليمنى بمفتاح قفل قابضاً عليه مشيراً إلى البحر كأنه يقول لاعبور. وكان من تأثير هذا الطلسم في البحر الذي تجاهله أنه لم ير قط ساكناً ولا كانت تجري فيه قط سفينة بربري (3) حتى سقط المفتاح من يده.
وكان الملكان العاملان للرحى والطلسم يتسابقان إلى التمام من عملهما إذ كان بالسبق يستحق التزويج، وكان صاحب الرحى قد فرغ لكنه يخفي أمره عن صاحب الطلسم حتى لا يعلم به فيبطل عمل الطلسم، وكان يود عمل الطلسم حتى يحظى بالمرأة والرحى والطلسم، فلما علم اليوم الذي فرغ صاحب الطلسم في آخره أجرى الماء بالجزيرة من أوله وأدار الرحى، واشتهر ذلك واتصل الخبر بصاحب الطلسم وهو في أعلاه يصقل وجهه، وكان الطلسم مذهباً، فلما تحقق أنه مسبوق ضعفت نفسه فسقط من أعلى البناء ميتاً، وحصل صاحب الرحى على الرحى والمرأة والطلسم.
وكان من تقدم من ملوك اليونان يخشى على جزيرة الأندلس من البربر للسب الذي قدمنا ذكره، فاتفقوا وعملوا الطلسمات (1) في أوقات اختاروا أرصادها، وأودعوا تلك الطلسمات تابوتاً من الرخام وتركوه في بيت بمدينة طليطلة، وركبوا على ذلك البيت باباً وأقفلوه، وتقدموا إلى كل من ملك منهم بعد صاحبه أن يلقي على ذلك الباب قفلاً، تأكيداً لحفظ ذلك البيت، فاستمر أمرهم على ذلك.
ولما كان (2) وقت انقراض دولة اليونان ودخول العرب والبربر إلى جزيرة الأندلس، وذلك بعد مضي سنة وعشرين ملكاً من ملوك اليونان من يوم عملهم الطلسمات بمدينة طليطلة، وكان الملك لذريق المذكور السابع والعشرين من ملوكهم، فلما جلس في ملكه قال لوزارئه وأهل الرأي من دولته: قد وقع في نفسي من أمر هذا البيت الذي عليه سنة وعشرون قفلاً شيء، وأريد أن أفتحه لأنظر ما فيه، فإنه لم يعمل عبثاً، فقالوا: أيها الملك، صدقت لم يعمل عبثاً ولا أقفل سدى، بل المصلحة أن تلقي عليه قفلاً كما فعل من تقدمك من الملوك، وكانوا آباءك وأجدادك ولم يهملوا هذا فلا تهمله وسر سيرهم، فقال: إن نفسي تنازعني إلى فتحه، ولا بد لي منه، فقالوا: إن كنت تظن فيه مالاً فقدره ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره، ولا تحدث علينا بفتحه حدثاً لا نعرف عاقبته، فأصر عل ذلك ، وكان رجلاً مهيباً فلم يقدروا على مراجعته، وأمر بفتح الأقفال، وكان على كل قفل مفتاحه معلقاً، فلما فتح الباب لم ير في البيت شيئاً إلا مائدة عظيمة من ذهب وفضة مكللة بالجواهر، وعليها مكتوب هذه مائدة سليمان بن داودعليهما السلام، ورأى في البيت ذلك التابوت، وعليه قفل ومفتاحه معلق، ففتحه فلم يجد فيه سوى رق، وفي جوانب التابوت صور فرسان مصورة بأصباغ محكمة التصوير على أشكال العرب، وعليهم الفراء وهم معممون على ذوائب جعد، ومن تحتهم الخيل العربية، وبأيديهم القسي العربية وهم متقلدون بالسيوف (1) المحلاة، معتقلون بالرماح (2) ، فأمر بنشر ذلك الرق، فإذا فيه: متى فتح هذا الباب وهذا التابوت المقفلان بالحكمة دخل القوم الذين صورهم في التابوت إلى جزيرة الأندلس، وذهب ملك اليونان من أيديهم، ودرست حكمتهم، فهذا هو بيت الحكمة المقدم ذكره؛ فلما سمع لذريق ما في الرق ندم على ما فعل، وتحقق انقراض دولتهم، فلم يلبث إلا قليلاً حتى سمع أن جيشاً وصل من المشرق جهزه ملك العرب يستفتح بلاد الأندلس؛ انتهى الكلام على بيت الحكمة.
ونعود الآن إلى تتمة حديث لذريق وجيش طارق بن زياد:
فلما رأى طارق لذريق قال لأصحابه: هذا طاغية القوم، فحمل وحمل أصحابه معه، فتفرقت المقاتلة من بين يدي لذريق، فخلص إليه طارق، وضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره، فلما رأى أصحابه مصرع ملكهم اقتحم الجيشان، وكان النصر للمسلمين، ولم تقف هزيمة اليونان على موضع، بل كانوا يسلمون بلداً بلداً ومعقلاً معقلاً.
فلما سمع بذلك موسى بن نصير المذكور أولاً عبر الجزيرة بمن معه، ولحق بمولاه طارق، فقال له: يا طارق، إنه لن يجازيك الزليد بن عبد الملك عى بلائك بأكثر من أن يبيحك جزيرة الأندلس، فاستبحه هنيئاً مريئاً، فقال طارق: أيها الأمير، والله لا أرجع عن قصدي هذا مالم أنته إلى البحر المحيط وأخوض فيه بفرسي، يعني البحر الشمالي الذي تحت بنات نعش، فلم يزل طارق يفتح وموسى معه إلى أن بلغ جليقية، وهي على ساحل البحر المحيط، ثم رجع.
قال الحميدي في " جذوة المقتبس ": إن موسى بن بصير نقم على طارق إذ غزا بغير إذنه، وسجنه وهم بقتله، ثم ورد عليه كتاب الوليد بإطلاقه فأطلقه، وخرج معه إلى الشام. وكان خروج موسى من الأندلس وافداً على الوليد يخبره بما فتح الله سبحانه وتعالى على يديه وما معه من الأموال في سنة أربع وتسعين للهجرة، وكان معه مائدة سليمان بن داود عليهما السلام التي وجدت في طليطلة على ما حكاه بعض المؤرخين، فقال: كانت مصنوعة من الذهب والفضة، وكان عليها طوق لؤلؤ وطوق ياقوت وطوق زمرد، وكانت عظيمة بحيث إنها حملت على بغل قوي فما سار قليلاً حتى تفسخت قوائمه، وكان معه تيجان الملوك الذين تقدموا من اليونان، وكلها مكللة بالجواهر، واستصحب ثلاثين ألف رأس من الرقيق.
ويقال إن الوليد كان قد نقم عليه أمراً، فلما وصل إليه وهو بدمشق أقامه في الشمس يوماً كاملاً في يوم صائف حتى خر مغيشاً عليه.
وقد أطلنا هذه الترجمة كثيراً لكن الكلام انتشر فلم يمكن قطعه، مع أني تركت الأكثر وأتيت بالمقصود.
وقال الليث بن سعد: إن موسى بن نصير حين فتح الأندلس كتب إلى الوليد ابن عبد الملك، إنها ليست الفتوح ولكنها الجنة (1) .
ولما وصل موسى إلى الشام ومات الوليد بن عيد الملك وقام من بعده سليمان أخوه، وحج في سنة سبع وتسعين للهجرة - وقيل سنة تسع وتسعين - حج معه موسى بن نصير، ومات في الطريق بوادي القرى، وقيل بمر الظهران، على اختلاف فيه. وكانت ولادته في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة تسع عشرة للهجرة، رحمه الله تعالى.

كمال الدين ابن يونس

أبو الفتح موسى بن أبي الفضل يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد، الملقب كمال الدين، الفقيه الشافعي؛ تفقه بالموصل على والده، ثم توجه إلى بغداد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وأقام بالمدرسة النظامية بشتغل على المعيد بها السديد السلماسي المقدم ذكره وكان المدرس بها يومئذ الشيخ رضي الدين أبو الخير أحمد بن اسماعيل بن يوسف بن محمد بن العباس القزويني، فقرأ الخلاف والأصول وبحث الأدب على الكمال أبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري المقدم ذكره فتميز ومهر، وكان قد قرأ أولاً على الشيخ أبي بكر يحيى بن سعدون القرطبي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وهو بالموصل ثم أصعد إلى الموصل وعكف على الاشتغال، ودرس بعد وفاة والده في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى في موضعه بالمسجد المعروف بالأمير زين الدين صاحب إربل، وهذا المسجد رأيته وهو على وضع المدرسة، ويعرف الآن بالمدرسة الكمالية لأنه نسب إلى كمال الدين المذكور لطول إقامته به.
ولما اشتهر فضله انثال عليه الفقهاء، وتبحر في جمع الفنون، وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد، وتفرد بعلم الرياضة، ولقد رأيته بالموصل في شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة، وترددت إليه دفعات (2) عديدة لما كان بينه وبين الوالد رحمه الله من المؤانسة والمودة الأكيدة، ولم يتفق لي الأخذ عنه لعدم الإقامة وسرعة الحركة إلى الشام، وكان الفقهاء يقولون: إنه يدري أربعة وعشرين فناً دراية متقنة، فمن ذلك المذهب وكان فيه أوحد الزمان، وكان جماعة من الطائفة الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم، ويحل لهم مسائل الجامع الكبير (1) أحسن حل مع ما هي عليه من الإشكال المشهور؛ وكان يتقن فني الخلاف العراقي والبخاري، وأصول الفقه وأصول الدين. ولما وصلت كتب فخر الدين الرازي إلى الموصل وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء لم يفهم أحد منهم اصطلاحة فيها سواه، وكذلك الإرشاد للعميدي لما وقف عليها حلها في ليلة واحدة وأقرأها على ما قالوه.
وكان يدري فن الحكمة: المنطق والطبيعي والإلهي، وكذلك الطب، ويعرف فنون الرياضة من اقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات (2) والمجسطي المجسطي لفظة يونانية معناها بالعربي الترتيب، ذكر ذلك الوكري (3) في كتابه وأنواع الحساب: المفتوح (4) منه والجبر والمقابلة والأرثماطيقي وطريق الخطأين (5) ، والموسيقى والمساحة، معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها، وبالجملة فلقد كان كما قال الشاعر:
وكان من العلوم بحيث يقضى ... له في كل فن بالجميع واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد؛ وكان يبحث في العربية والتصريف بحثاً تاماً مستوفًى، حتى إنه كان يقرىء كتاب سيبويه والإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي، والمفصل للزمخشري، وكان له في التفسير والحديث وأسماء الرجال وما يتعلق به يدٌ جيدة؛ وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم، والأشعار والمحاضرات، شيئاً كثيراً. وكان أهل الذمة يقرءون عليه التوراة والإنجيل، ويشرح لهما هذين الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله. وكان في كل فن من هذه الفنون كأنه يعرف سواه لقوته فيه. وبالجملة فإن مجموع ما كان يعلمه من الفنون لم يسمع عن أحد ممن تقدمه أنه قد جمعه.
ولقد جاءنا الشيخ أثير الدين المفضل بن عمر بن المفضل الأبهري، صاحب التعليقة في الخلاف والزيج والتصانيف المشهورة، من الموصل إلى إربل في سنة ست وعشرين وستمائة وقبلها في خمس وعشرين وستمائة، ونزل بدار الحديث، وكنت أشتغل عليه بشيء من الخلاف، فبينما أنا يوماً عنده إذ دخل عليه بعض فقهاء بغداد، وكان فاضلاً، فتجارياً في الحديث زماناً، وجرى ذكر الشيخ كمال الدين في أثناء الحديث، فقال له الأثير: لما حج الشيخ كمال الدين ودخل بغداد كنت هناك فقال: نعم، فقال: كيف كان إقبال الديوان العزيز عليه فقال ذلك الفقيه: ما أنصفوه على قدر استحقاقه، فقال الأثير: ما هذا إلا عجب، والله ما دخل إلى بغداد مثل الشيخ، فاستعظمت منه هذا الكلام، وقلت له: يا سيدنا كيف تقول كذا (1) فقال: يا ولدي ما دخل إلى بغداد مثل أبي حامد الغزالي، ووالله ما بينه وبين الشيخ نسبة.
وكان الأثير على جلالة قدره في العلوم يأخذ الكتاب ويجلس بين يديه يقرأ عليه، والناس يوم ذاك يشتغلون في تصانيف الأثير. ولقد شاهدت هذا بعيني، وهو يقرأ عليه كتاب " المجسطي " (2) .
ولقد حكى لي بعض الفقهاء أنه سأل الشيخ كمال الدين عن الأثير ومنزلته في العلوم فقال: ما أعلم، فقال: وكيف هذا يا مولانا. وهو في خدمتك منذ سنين عديدة، ويشتغل عليك فقال: لأني مهما (3) قلت له تلقاه بالقبول وقال: نعم يا مولانا، فما جاذبني في مبحث قط حتى أعلم حقيقة فضله، ولا شك أنه كان يعتمد هذا القدر مع الشيخ تأدباً، وكان معيداً عنده في المدرسة البدرية، وكان يقول: ما تركت بلادي وقصدت الموصل إلا للاشتغال على الشيخ. 
وكان شيخنا تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح المقدم ذكره (1) يبالغ في الثناء على فضائله وتعظيم شأنه وتوحده في العلوم؛ فذكره يوماً وسرع في وصفه على عادته، فقال له بعض الحاضرين: يا سيدنا، على من اشتغل ومن كان شيخه فقال: هذا الرجل خلقه الله تعالى عالماً إماماً في فنونه، لا يقال على من اشتغل ولا من شيخه، فإنه أكبر من هذا.
وحكى لي بعض الفقهاء بالموصل أن ابن الصلاح المذكور سأله أن يقرأ عليه شيئاً من المنطق سراً، فأجابه إلى ذلك، وتردد إليه مدة فلم يفتح عليه فيه بشيء فقال له: يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن، فقال له: ولم ذاك يا مولانا فقال: لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم فيك ولا يحصل لك من هذا الفن شيء؛ فقبل إشارته وترك قراءته (2) .
ومن يقف على هذه الترجمة فلا (3) ينسبني إلى المغالاة في حق الشيخ. ومن كان من أهل تلك البلاد وعرف ما كان عليه الشيخ، عرف أني ما أعرته وصفاً ونعوذ بالله من الغلو والتساهل في النقل.
ولقد ذكره أبو البركات المبارك بن المستوفي المقدم ذكره (4) في تاريخ إربل فقال: هو عالم مقدم، ضرب في كل علم، وهو في علم الأوائل: كالهندسة والمنطق وغيرهما ممن يشار إليه، حل اقليدس (5) والمجسطي على الشيخ شرف الدين المظفر بن محمد المظفر الطوسي الفارابي، يعني صاحب الاصطرلاب الخطي المعروف بالعصا.
ثم قال ابن المستوفي: وردت عليه مسائل من بغداد في مشكلات هذا العلم، فحلها واستصغرها، ونبه على براهينها، بعد أن احتقرها، وهو في الفقه والعلوم الإسلامية نسيج وحده، ودرس في عدة مدارس بالموصل، وتخرج عليه خلق كثير في كل فن.
ثم قال: أنشدنا لنفسه، وأنفذها إلى صاحب الموصل يشفع عنده:
لئن شرفت أرضٌ بمالك رقها ... فمملكة الدنيا بكم تتشرف (1)
بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ ... وسعيك مشكور وحكمك منصف
ومكنت في حفظ البسيطة مثل ما ... تمكن في أمصار فرعون يوسف قلت أنا: ولقد أنشدني هذه الأبيات عنه أحد أصحابنا بمدينة حلب، وكنت بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وبها رجل فاضل في علوم الرياضة، فأشكل عليه مواضع في مسائل الحساب والجبر والمقابلة والمساحة واقليدس، فكتب جميعها في درج وسيرها إلى الموصل، ثم بعد أشهر عاد جوابه، وقد كشف عن خفيها وأوضح غامضها وذكر ما يعجز الإنسان عن وصفه، ثم كتب في آخر الجواب: فليمهد العذر في التقصير في الأجوبة، فإن القريحة جامدة، والفطنة خامدة، قد استولى عليها كثرة النسيان، وشغلتها حوادث الزمان، وكثير مما استخرجناه وعرفناه نسيناه، بحيث صرنا كأنا ما عرفناه؛ وقال لي صاحب المسائل المذكورة: ما سمعت مثل هذا الكلام إلا للأوائل المتقنين (2) لهذه العلوم، ما هذا من كلام أبناء هذا الزمان.
وحكى لي الشيخ الفقيه الرياضي علم الدين قيصر بن أبي القاسم عبد الغني بن مسافر الحنفي المصري المعروف بتعاسيف، وكان إماماً في علوم الرياضة، قال (3) : لما أتقنت علوم الرياضة بالديار المصرية ودمشق، تاقت نفسي إلى الاجتماع بالشيخ كمال الدين لما كنت أسمعه من تفرده بهذه العلوم، فسافرت إلى الموصل قصد الاجتماع به، فلما حضرت في خدمته وجدته على حلية الحكماء المتقدمين، وكنت قد طالعت أخبارهم، فسلمت عليه وعرفته قصدي له للقراءة عليه، فقال لي: في أي العلوم تريد تشرع فقلت: في الموسيقى، فقال: مصلحة هو، فلي زمان ما قرأه أحد عليّ، فأنا أوثر مذاكرته، وتجديد العهد به، فشرعت فيه ثم في غيره حتى شققت عليه أكثر من أربعين كتاباً في مقدار ستة أشهر، وكنت عارفاً بهذا الفن، لكن كان غرضي الانتساب في القراءة إليه، وكان إذا لم أعرف المسألة أوضحها لي، وما كنت أجد من يقوم مقامه في ذلك (1) .
وقد أطلت الشرح في نشر علومه، ولعمري لقد اختصرت.
ولما توفي أخوه الشيخ عماد الدين محمد المقدم ذكره تولى الشيخ المدرسة العلائية موضع أخيه، ولما فتحت المدرسة القاهرية تولاها. ثم تولى المدرسة البدرية في ذي الحجة سنة عشرين وستمائة. وكان مواظباً على إلقاء الدروس والإفادة. وحضر في بعض الأيام دروسه جماعة من المدرسين أرباب الطيالس، وكان العماد أبو علي عمر بن عبد النور بن ماجوج (2) بن يوسف الصنهاجي اللزني النحوي البجائي حاضراً، فأنشد على البديهة قوله:
كمال كمال الدين للعلم والعلى ... فهيهات ساع في مساعيك يطمع
إذا اجتمع النظار في كل موطن ... فغاية كلٍ أن تقول ويسمعوا
فلا تحسبوهم من غناء (3) تطيلسوا ... ولكن حياء واعترافاً تقنعوا وللعماد المذكور فيه أيضاً:
تجر الموصل الأذيال فخراً ... على كل المنازل والرسوم
بدجلة والكمال، هما شفاء ... لهيمٍ أو لذي فهم سقيم
فذا بحرٌ تدفق وهو عذب ... وذا بحر ولكن من علوم وكان الشيخ سامحه الله تعالى يتهم في دينه لكون العلوم العقلية غالبة عليه، وكانت تعتريه غفلة في بعض الأحيان لاستيلاء الفكرة عليه بسبب هذه العلوم، فعمل فيه العماد المذكور:
أجدك أن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصلٍ لي وأصبح مؤنسي
وعاطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقة شعري أو كدين ابن يونس وقد خرجنا عن المقصود إلى ما لاحاجة بنا إليه.
وكانت ولادته يوم الخميس، خامس صفر إحدى وخمسين وخمسمائة، بالموصل. وتوفي بها رابع عشر شعبان سنة تسع وثلاثين وستمائة، ودفن في تربتهم المعروفة بهم عند تربة عناز (1) ، خارج باب العراق.
وقد سبق ذكر ولده شرف الدين أحمد في حرف الهمزة، وأخيه عماد الدين في حرف الميم، وسيأتي ذكر والده في حرف الياء إن شاء الله تعالى، رحمهم الله أجمعين.
ولما كنت أتردد إلى خدمته بالموصل أوقع الله في نفسي أنه إن رزقت ولداً ذكراً سميته باسمه، ثم سافرت في بقية السنة المذكورة إلى الشام وأقمت به عشر سنين، ثم سافرت إلى الديار المصرية في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وتقلبت الأحوال ثم حصل التأهل، فرزقني الله ولدي الأكبر في بكرة يوم السبت حادي عشر صفر سنة إحدى وخمسين وستمائة بالقاهرة المحروسة فسميته موسى (2) ، وعجبت من موافقته للشيخ في الولادة، في الشهر والسنة، فكان بين مولدهما سنة. وذكرت ذلك للشيخ الحافظ زكي الدين عبد العظيم المحدث فعجب من هذا الاتفاق، وجعل يكرر التعجب ويقول: والله إن هذا لشيء غريب (3) .
 وتوفي الشيخ رضي الدين القزويني (4) مدرس المدرسة النظامية، المذكور
في أول هذه الترجمة، في الثالث والعشرين من المحرم سنة تسعين وخمسمائة. وكانت ولادته في شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وخمسمائة بقزوين، وموته بها أيضاً.
ولولا خوف الإطالة لذكرت من مناقب الشيخ كمال الدين ما يستغرق الوصف. وقد تقدم الكلام على الصنهاجي.
وأما اللزني: فهو بفتح اللام وسكون الزاي وبعدها نون، هذه النسبة إلى لزنة، وهي قبيلة من البربر تسكن بالقرب من بجاية من عمل إفريقية. وتوفي علم تعاسيف (1) المذكور يوم الأحد ثالث عشر رجب من سنة تسع وأربعين وستمائة بدمشق، ودفن خارج باب شرقي، ثم نقل إلى باب الصغير. ومولده في سنة أربع وسبعين وخمسمائة بأصفون (2) ، من شرقي صعيد مصر، رحمه الله تعالى.

موسى الكاظم

أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، أحد الأئمة الاثني عشر، رضي الله عنهم أجمعين.
قال الخطيب في " تاريخ بغداد " (2) : " كان موسى يدعى العبد الصالح، من عبادته واجتهاده. روي أنه دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد سجدة في أول الليل، وسمع وهو يقول في سجوده: عظم الذنب عندي فليحسن العفو من عندك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة، فجعل يرددها حتى أصبح. وكان سخياً كريماً، وكان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار، وكان يصر الصرر ثلثمائة دينار ومائتي دينار، ثم يقسمها بالمدينة. وكان يسكن المدينة فأقدمه المهدي بغداد وحبسه، فرأى في النوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول (3) : يا محمد " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " محمد:22 قال الربيع: فأرسل إلي ليلاً، فراعني ذلك، فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية، كان أحسن الناس صوتاً، وقال: علي بموسى بن جعفر، فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جنبه وقال: يا أبا الحسن، إني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النوم يقرأ علي كذا، فتؤمنني أن تخرج علي أو على أحد من أولادي، فقال: والله
لا فعلت ذلك ولا هو من شأني، قال: صدقت، أعطه ثلاثة آلاف دينار، ورده إلى أهله إلى المدينة، قال الربيع: فأحكمت أمره ليلا فما أصبح إلا وهو في الطريق خوف العوائق.
وأقام بالمدينة إلى أيام هارون الرشيد، فقدم هارون منصرفاً من عمرة شهر رمضان سنة تسع وسبعين ومائة، فحمل موسى معه إلى بغداد وحبسه بها إلى أن توفي محبسه (1) . وذكر أيضاً أن هارون الرشيد حج فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم زائراً وحوله قريش ورؤساء القبائل، ومعه موسى بن جعفر، فقال: السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم، افتخاراً على من حوله، فقال موسى: السلام عليك يا أبت، فتغير وجه هارون الرشيد وقال: هذا هو الفخر يا أبا الحسن حقا؛ انتهى كلام الخطيب.
وقال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي في كتاب " مروج الذهب " (2) في أخبار هارون الرشيد: " إن عبد الله بن مالك الخزاعي كان على دار هارون الرشيد وشرطته، فقال: أتأني رسول الرشيد وقتاً ما جاءني فيه قط،، فانتزعني من موضعي ومنعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم فعرف الرشيد خبري، فأذن لي في الدخول عليه فدخلت فوجدته قاعداً على فراشه فسلمت عليه فسكت ساعة، فطار عقلي وتضاعف الجزع علي، ثم قال: يا عبد الله أتدري لما طلبتك في هذا الوقت قلت: لا والله ياأمير المؤمنين، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني ومعه حربة فقال: إن خليت عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة، فاذهب فخل عنه، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أطلق موسى بن جعفر ثلاثاً، قال: نعم امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قبلنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالإذن في ذلك لك، قال: فمضيت إلى الحبس لأخرجه، فلما رآني موسى وثب إلي قائماً وظن أني قد أمرت فيه بمكروه، فقلت: لا تخف، فقد أمرني بإطلاقك وأن أدفع لك ثلاثين ألف درهم، وهو يقول لك إن أحببت المقام قبلنا، فلك كل ما تحب، وإن أحببت الانصراف إلى المدينة فالأمر في ذلك مطلق لك، وأعطيته ثلاثين ألف درهم، وخليت سبيله وقلت له: لقد رأيت من أمرك عجباً، قال: إني أخبرك، بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا موسى، حبست مظلوماً فقل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس، فقلت: بأبي وأمي ما أقول قال: قل يا سامع كل صوت، ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسنى وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين، يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يحصى عدداً، فرج عني؛ فكان ما ترى ".
وله أخبار ونوادر كثيرة. وكانت ولادته يوم الثلاثاء قبل طلوع الفجر سنة تسع وعشرين ومائة، وقال الخطيب: سنة ثمان وعشرين بالمدينة؛ وتوفي لخمس بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة، وقيل سنة ست وثمانين ببغداد، وقيل إنه توفي مسموماً. وقال الخطيب: توفي في الحبس ودفن في مقابر الشونيزيين خارج القبة، وقبره هناك مشهور يزار، وعليه مشهد عظيم فيه قناديل الذهب والفضة وأنواع الآلات والفرش ما لا يحد، وهو في الجانب الغربي، وقد سبق ذكر أبيه وأجداده وجماعة من أحفاده، رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان الموكل به مدة حبسه السندي بن شاهك جد كشاجم الشاعر المشهور.

مؤرج السدوسي

أبو فيد مؤرج بن عمرو بن الحارث بن ثور بن حرملة بن علقمة بن عمرو بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة، السدوسي النحوي البصري؛ أخذ العربية عن الخليل بن أحمد، وروى الحديث عن شعبة بن الحجاج وأبي عمرو ابن العلاء وغيرهما، وكان يقول: قدمت من البادية ولا معرفة لي بالقياس في العربية، وإنما كانت معرفتي قريحة، وأول ما تعلمت القياس في حلقة أبي زيد الأنصاري بالبصرة.
ودخل الأخفش سعيد على محمد بن المهلب، فقال له محمد: من أين جئت فقال الأخفش: من عند القاضي يحيى بن أكثم، قال: فما جرى عنده قال: سألني عن الثقة المأمون المقدم من أصحاب الخليل بن أحمد من هو ومن الذي كان يوثق بعلمه فقلت: النضر بن شميل وسيبويه مؤرج السدوسي.
وكان الغالب على مؤرج المذكور اللغة والشعر، وله عدة تصانيف: منها كتاب الأنواء وهو كتاب حسن، وكتاب " غريب القرآن " وكتاب جماهير القبائل وكتاب المعاني وغير ذلك، واختصر نسب قريش في مجلد لطيف سماه " حذف نسب قريش (2) ".
وكان قد رحل مع المأمون من العراق إلى خراسان، وسكن مدينة مرو، وقدم نيسابور وأقام بها وكتب عنه مشايخها، وكان له شعر، فمن ذلك مما أنشده هارون بن علي بن يحيى المنجم في كتابه المسمى ب " البارع "، وهو:
روعت بالبين حتى ما أراع له ... وبالمصائب من أهلي وجيراني
لم يترك الدهر لي علقاً أضن به ... إلا اصطفاه بنأيٍ أو بهجران ثم قال ابن المنجم المذكور: وهذان البيتان من أملح ما قيل في معناهما، ومثلهما في معناهما لبعض المحدثين:
وفارقت حتى ما أروع من النوى ... وإن غاب جيران علي كرام
فقد جعلت نفسي على اليأس تنطوي ... وعيني على هجر الصديق (1) تنام ومن هاهنا أخذ ابن التعاويذي المقدم ذكره قوله:
وها أنا لا قلبي يراع لفائت ... فيأسى ولا يلهيه حظ فيفرح وهذا البيت من جملة قصيدة يذكر فيها توجعه لذهاب بصره، فمنها قوله مشيراً إلى زوجته (2) :
وباكية لم تشك فقداً ولا رمى ... بجيرتها الأدنين نأي مطوح
رمتها يد الأيام في ليث غابها ... بفادح خطبٍ والحوادث تفدح
رأت جللاً لا الصبر يجمل بالفتى ... على مثله يوماً، ولا الحزن يقبح
فلا غرو أن تبكي الدماء لكاسب ... لها كان يسعى في البلاد ويكدح
عزيز عليهما أن تراني جاثماً ... وما لي في الأرض البسيطة مسرح
وأن لا أقود العيش تنفح في البرى ... وجرد المذاكي في الأعنة تمرح
أظل حبيساً في قرارة منزل ... رهين أسى أمسى عليه وأصبح
مقامي منه مظلم الجو قاتم ... ومسعاي ضنك وهو صمحان أفيح
أقاد به قود الجنيبة مسمحاً ... وما كنت لولا غدرة الدهر أسمح
كأني ميت لا ضريح لجنبه ... وما كل ميت لا أبالك يضرح
وها أنا لا قلبي يراع لفائت ... فيأسى، ولا يلهيه خظ فيفرح
فلله نصل فل مني غراره ... وعود شباب عاد وهو مصوح
وسقياً لأيام ركبت بها الهوى ... جموحاً ومثلي في هوى الغيد يجمح
وماضي صبا قضيت منه لبانتي ... خلاساً وعين الدهر زرقاء تلمح
ليالي لي عند الغواني مكانة ... فألحاظها ترنو إلي وتطمح
وليلى بها أضعاف ما بي من الهوى ... أعرض بالشكوى لها فتصرح وهي طويلة طنانة يمدح بها الإمام الناصر لدين الله خليفة بغداد.
وقال المزرباني: وجدت بخط محمد بن العباس اليزيدي ما مثاله: أهدى أبو فيد مؤرج السدوسي إلى جدي محمد بن أبي كساء، فقال جدي فيه يمدحه:
سأشكر ما أولى ابن عمرو مؤرج ... وأمنحه حسن الثناء مع الود
أغر سدوسي نماه إلى العلى ... أب كان صباً بالمكارم والمجد
أتينا أبا فيد نؤمل سيبه ... ونقدح زنداً غير كابٍ ولا صلد
فأصدرنا بالري والبذل واللهى ... وما زال محمود المصادر والورد
كساني ولم أستكسه متبرعاً ... وذلك أهنى ما يكون من الرفد
كسانيه فضفاضاً إذا ما لبسته ... تروحت مختالاً وجرت عن القصد
كساء جمال إن أردت جمالة ... وثوب شتاء إن خشيت من البرد
ترى حبكاً فيه كأن اطرداها ... فرند حديث صقله سل من غمد
سأشكر ما عشت السدوسي بره ... وأوصي بشكرٍ للسدوسي من بعدي وأخبار مؤرج كثيرة.
وقال ابن النديم : وجدت بخط عبد الله بن المعتز: مؤرج بن عمرو السدوسي كان من أصحاب الخليل بن أحمد، توفي سنة خمس وتسعين ومائة، في اليوم الذي توفي فيه أبو نواس، وهذا يستقيم على قول من ذهب إلى أن أبا نواس توفي سنة خمس وتسعين ومائة، وقد سبق الخلاف فيه.
ورأيت في كتاب الأنوار في أوله ما مثاله، قال أبو علي إسماعيل بن يحيى بن المبارك اليزيدي: قرأنا هذا الكتاب على المؤرج بجرحان ثم قدمنا مع المأمون العراق، سنة أربع ومائتين، فخرج المؤرج إلى البصرة ثم مات بها رحمه الله تعالى. وهذا خلاف للأول، والله أعلم بالصواب. وأما المؤرج فلا خلاف أنه مات في هذه السنة. وقد ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف (1) وغيره. وفيد: بفتح الفاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، وهو في الأصل ورد الزعفران، وقيل هو الزعفران بعينه.
ومؤرج: بضم الميم وفتح الواو المهموزة وكسر الراء المشددة وبعدها جيم، وهو اسم فاعل من قولهم أرجت بين القوم إذا أغريت بينهم.
وقد تقدم الكلام على السدوسي في ترجمة قتادة في حرف القاف  .
وقيل: إن اسمه مرثد، ومؤرج لقب له، ومرثد: بفتح الميم والثاء المثلثة وراء ساكنة وفي الآخر دال مهملة، قال الجوهري في كتاب الصحاح  : يقال رثدت المتاع: نضدته ووضعت بعضه على بعض أو إلى جنب بعض، ثم قال بعد ذلك: تركت بني فلان مرتثدين ما تحملوا بعد، أي ناضدين متاعهم، قال ابن السكيت: ومنه اشتق مرثد، وهو اسم رجل، والمرثد اسم من أسماء الأسد (4) . وكان مؤرج يقول: اسمي وكنيتي غريبان، اسمي مؤرج، والعرب تقول أرجت بي القوم وأرشت (5) وأنا أبو فيد، والفيد: ورد الزعفران (6) ، ويقال: فاد الرجل يفيد فيداً، إذا مات، والله أعلم بالصواب.

الأربعاء، 28 نوفمبر 2018

الآمر بأحكام الله

أبو علي المنصور الملقب الآمر بأحكام الله بن المستعلي بن المستنصر بن الظاهر ابن الحاكم العبيدي المذكور قبله، وقد تقدم بقية نسبه، وسبق ذكر والده في الأحمدين في حرف الهمزة.
وبويع الآمر بالخلافة بالولاية يوم مات أبوه في التاريخ المذكور في ترجمته وقام بتدبير دولته الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش المذكور في حرف الشين وكان وزير والده، وقد ذكرنا في ترجمته طرفاً من الآمر المذكور، ولما اشتد الآمر وفطن لنفسه قتل الأفضل حسبما تقدم شرحه، واستوزر المأمون أبت عبيد الله بن أبي شجاع فاتك بن أبي الحسن مختار المعروف بابن فاتك البطائحي (2) ، فاستولى هذا الوزير عليه، وقبح سمعته وأساء السيرة، ولما كثر ذلك منه قبض عليه الآمر أيضاً ليلة السبت رابع شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة واستطفى جميع أمواله، ثم قتله في رجب سنة إحدى وعشرين، وصلب بظاهر القاهرة وقتل معه خمسةً من إخوته، أحدهم يقال له المؤتمن، وكان متكبراً متجبراً خارجاً عن طوره، وله أخبار مشهورة.
[ثم ظهر في مدة القبض على المأمون المصادرات على يد الراهب المسمى أبا شجاع بن قسا (3) ، فلم يبق أحد إلا وناله بمكروه من ضرب ونهب مال، وكان هذا الراهب الملعون في ابتداء حاله يخدم ولي الدولة أبا البركات ين يحيى بن أبي الليث ثم اتصل بالآمر وبذل في مصادرة قوم من النصارى مائة ألف دينار، فأطلق يده فيهم، وتسلسل الحال إلى أن عم البلاد جميع رؤساء مصر وقضاتها وكتابها
وشهودها وسوقتها إلى أن صادر رجلاً حمالاً فأخذ عشرين ديناراً ثمن جمل باعه لم يكن يملك سواه، وارتفع عنده إلى أن كان يستعمل بتنس ودمياط ملابس مخصوصة من الصوف الأبيض معلمة بالذهب، فكان يلبسها ويلبس فوقها الدماقس والديباج، وكان يتطيب من المسك بعدة من المثاقيل كل يوم، وكان يشم رائحة طيبه من مكان بعيد، وكان يركب الحمر بالسروج المحلاة بالذهب والفضة، ويدخل إلى دهليز القاعة المعروفة بلباس الخطباء بالجامع العتيق بمصر، فيجلس هناك ويستدعي الناس للمصادرة، وأقام كذلك مدة إلى أن قتل في سنة ثلاث وعشرين، على يد المقداد الوالي بمصر ثم صلب عند الجسر. ذكر أنه لما قبض على دار الراهب وجد فيها مكان فيه ثمانمائة طراحة جدد لم تستعمل قدرت إلى السقف، هذا نوع واحد فيها مكان قليل الاستعمال فكيف ما عداه من الديباج وأنواع المتاع الفاخر] (1) .
وكان الآمر سيء الرأي (2) جائر السيرة مستهتراً متظاهراً باللهو اللعب، وفي أيامه أخذ الفرنج مدينة عكا في شعبان سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وأخذوا طرابلس الشام بالسيف يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة، وكان أخذهم بالسيف (3) ، ونهبوا ما فيها، وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وحصل في أيديهم من أمتعها وذخائرها وكتب دار علمها وما كان في خزائن أربابها ما لايحد عدده ولا يحصى، وعوقب من بقي من أهلها، واستصفيت أموالهم، ثم وصلتها نجدة المصريين بعد فوات الأمر فيها، وفي هذه السنة ملكوا عرقة وكان نزولهم عليها أول شعبان من السنة المذكورة، وفيها ملكوا بانياس، وفيها جبيل بالأمان، وتسلموا قلعة تبنين يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وكان الوالي بها من جهة الأتابك ظهير الدين طغتكين المذكور في حرف التاء  في ترجمة تتش بن ألب أرسلان وكان يومئذ صاحب دمشق وما والاها. ولما ملكوا صور ضربوا السكة باسم الآمر المذكور مدة ثلاث سنين، ثم قطعوا ذلك، وأخذوا بيروت يوم الجمعة الحادي والعشرين من شوال سنة ثلاث وخمسمائة بالسيف، وأخذوا صيدا لعشر بقين من جمادى الآخرة (1) سنة أربع وخمسمائة.
وفي أيام الآمر أيضاً سنة أربع وخمسمائة، وقيل سنة إحدى عشرة، والله أعلم، قصد بردويل الافرنجي الديار المصرية ليأخذها، وانتهى إلى الفرما ودخلها وأحرقها وأحرق جامعها ومساجدها وأبواب البلد وقتل بها رجلاً مقعداً وابنته، فذبحها على صدره (2) ورحل عنها وهو مريض، فهلك في الطريق قبل وصوله إلى العريش، فشق أصحابه بطنه ورموا حشوته هناك، فهي ترجم إلى اليوم، ورحلوا بجثته فدفنوها بقمامة (3) . وسبخة بردويل التي في وسط الرمل على طريق الشام منسوبة إلى بردويل المذكور، والحجارة الملقاة هناك، والناس يقولون: هذا قبر بردويل وإنما هو هذه الحشوة، وكان بردويل صاحب البيت المقدس وعكا ويافا وعدة بلاد من ساحل الشام، وهو الذي أخذ هذه البلاد المذكور من المسلمين.
وفي هذه السنة أيضاً خرج المهدي محمد بن تومرت المقدم ذكره من مصر وصاحبها الآمر المذكور إلى بلاد المغرب في زي الفقهاء، وجرى له هناك ما سبق شرحه في ترجمته.
وكانت ولادة الآمر يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم وقيل ثاني المحرم سنة تسعين وأربعمائة بالقاهرة، وتولى وعمره خمس سنين. ولما انقضت أيامه خرج من القاهرة صبيحة يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة ونزل إلى مصر وعدى على الجسر إلى الجزيرة (4) التي قباله مصر، فكمن له قوم بالأسلحة وتواعدوا على مقتله في السكة التي يمر فيها إلى فرن هناك، فلما مر بهم وثبوا عليه فلعبوا عليه بأسيافهم، وكان قد جاوز الجسر وحده مع عدة قليلة من غلمانه وبطانته وخاصته وشيعته، فحمل في النيل في زورق ولم يمت، وأدخل القاهرة وهو حي، وجيء به إلى القصر من ليلته فمات ولم يعقب، وهو العاشر من أولاد المهدي عبيد الله القائم بسجلماسة المقدم ذكره 
وانتقل الأمر إلى ابن عمه الحافظ عبد المجيد المقدم ذكره رحمهم الله تعالى؛ وكان قبيح السيرة ظلم للناس وأخذ أموالهم وسفك دماءهم (2) ، وارتكب المحذورات، واستحسن القبائح المحظورات، فابتهج الناس بقتله، وكان شديد الأدمة جاحظ العينين، حسن الخط والمعرفة والعقل.
وأما المأمون ابن البطائحي الوزير المذكور فهو الذي بنى الجامع الأقمر بالقاهرة سنة خمس عشرة وخمسمائة، وكان الأفضل ابن أمير الجيوش قد شرع في عمارة جامع النيل بظاهر مصر عند الرصد المطل على بركة حبش في سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، ولم يكلمه، فأكمله بعده في مدة وزارته، والله أعلم بالصواب.

الحاكم العبيدي

أبو علي المنصور الملقب الحاكم بأمر الله بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم ابن المهدي صاحب مصر وقد تقدم ذكر أجداده وجماعة من أحفاده، وسيأتي ذكر أبيه في حرف النون إنشاء الله تعالى وكلهم كانوا يتسمون بالخلفاء.
وتولى الحاكم المذكور عهد أبيه في حياته، وذلك في شعبان سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة، ثم استقل بالأمر يوم وفاة والده على ما سيأتي في تاريخه إن شاء الله تعالى؛ وكان جواداً بالمال سفاكاً للدماء، قتل عدداً كثيراً من أماثل أهل دولته وغيرهم صبراً.
وكانت سيرته من أعجب السير، يخترع كل وقت أحكاماً يحمل الناس على العمل بها، منها أنه أمر الناس في سنة خمس وتسعين وثلثمائة بكتب سب الصحابة (1) رضوان الله عليهم في حيطان المساجد والقياسر والشوارع، وكتب إلى سائر عمال الديار (2) المصرية يأمرهم بالسب، ثم أمر بقطع ذلك ونهى عنه وعن فعله في سنة سبع وتسعين، ثم تقدم بعد ذلك بمدة يسيرة بضرب من يسب الصحابة وتأديبه ثم يشهره؛ ومنها أنه أمر بقتل الكلاب في سنة خمسة وتسعين وثلثمائة فلم ير كلب في الأسواق والأزقة والشوارع إلا قتل؛ ومنها أنه نهى عن بيع الفقاع والملوخيا وكبب الترمس المتخذة لها والجرجير والسمكة التي لا قشر لها، وأمر بالتشديد في ذلك والمبالغة في تأديب من يعترض لشيء منه، فظهر على جماعة أنهم باعوا أشياء منه، فضربوا بالسياط وطيف بهم، ثم ضربت أعناقهم، ومنها أنه في سنة اثنتين وأربعمائة نهى عن بيع الزبيب (3) قليلة وكثيرة على اختلاف أنواعه، ونهى التجار عن حمله إلى مصر، ثم جمع بعد ذلك منه جملة كثيرة وأحرق جميعها، ويقال إن مقدار النفقة التي غرموها على إحراقه كانت خمسمائة دينار (4) ، وفي هذه السنة منع من بيع العنب وأنفذ الشهود إلى الجيزة حتى قطعوا كثيراً من كرومها (5) ورموها في الأرض وداسوها بالبقر، وجمع ما كان في مخازنها من جرار العسل فكانت خمس آلاف جرة، وحملت إلى شاطىء النيل وكسرت وقلبت في بحر النيل؛ وفي هذه السنة أمر النصاري واليهود إلا الخيابرة يلبس العمائم السود، وأن يعمل النصارىفي أعناقهم الصلبان ما يكون طوله ذراعاً ووزنه خمسة أرطال. وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرامي الخشب على وزن صلبان النصارى، ولا يركبوا شيئاً من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب، ولا يستخدمون أحداً من المسلمين، ولا يركبون حماراً لمكار مسلم ولا سفينة نوتيها مسلم، وأن يكون في أعناق النصاري إذا دخلوا الحمام الصلبان، وفي أعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا عن المسلمين، ثم أفرد حمامات اليهود والنصارى والمسلمين (1) وحط على حمامات النصارى الصلبان، وعلى حمامات الهود القرامي، وذلك في سنة (2) ثمان وأربعمائة. وفيها أمر بهدم الكنيسة المعروفة بقمامة وجميع الكنائس بالديار المصرية، ووهب جميع ما فيها من الآلات وجميع ما لها من الأرباع والأحباس لجماعة من المسلمين، وتتابع إسلام جماعة من النصارى؛ وفي هذه السنة نهى عن تقبيل الأرض له وعن الدعاء له والصلاة عليه في الخطب والمكتبات (3) ، وأن يجعل عوض ذلك السلام على أمير المؤمنين (4) . وفي سنة أربع وأربعمائة أمر أن لا ينجم أحد ولا يتكلم عن صناعة النجوم، وأن ينفي المنجمون من البلاد (5) ، فحضر جميعهم إلى القاضي مالك بن سعيد الحاكم بمصر كان وعقد عليهم توبة (6) ، وأعفو من النفي وكذلك أصحاب الغناء. وفي شعبان من هذه السنة منع النساء من الخرزج إلى الطرقات ليلاً ونهاراً، ومنع الأساكفة من عمل الخفاف للنساء، ومحيت صورهن من الحمامات (7) ، ولم تزل النساء ممنوعات عن الخروج إلى أيام ولده الظاهر المقدم ذكره، وكانت مدة منعهن سبع سنين وسبعة أشهر، وفي شعبان سنة إحدى عشرة وأربعمائة تنصر جماعة ممن كان أسلم من النصارى، وأمر ببناء ما كان قد هدم من كنائسهم ورد ماكان في أحباسها، وبالجملة فهذه نبذة من أحواله، وإن كان شرحها يطول.
وكان أبو الحسن علي المعروف بابن يونس المنجم قد صنع له الزيج المشهور المعروف بالحاكمي، وهو زيج كبير مبسوط.
ونقلت من خط الحافظ أبي أحمد بن محمد السلفي، رحمه الله تعالى، أن الحاكم المذكور كان جالساً في مجلسه العام وهو حفل بأعيان دولته، فقرأبعض الحاضرين قوله تعالى " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون فيأنفسهم حرجا مماقضيت ويسلموا تسليما) " النساء:65 والقارىء في أثناء ذلك يشير إلى الحاكم، فلما فرغ من القراءة قرأ شخص آخر يعرف بابن المشجر وكان رجلاً صالحاً " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز " الحج:73 فلما أنهى (1) قراءته تغير وجه الحاكم، ثم أمر لابن المشجر المذكور بمائة دينار، ولم يطلق للآخر شيئاً؛ ثم إن بعض أصحاب المشجر قال له: أنت تعرف خلق الحاكم، وكثرة استحالاته، وما نأمن أن يحقد عليك، وأنه لا يؤاخذك في هذا الوقت ثم يؤاخذك بعد هذا فتتأذى معه، ومن المصلحة عندي أن تغيب عنه، فتجهز ابن المشجرللحج، وركب في البحر فغرق، فرآه صاحبه في النوم، فسأله عن حاله، فقال: ما أقصر الربان معنا أرسى بنا على باب الجنة، رحمه الله تعالى؛ وذلك ببركة جميل نيته (2) وحسن قصده.
[ومن أخبار المستطرفة التي تدخل في أبواب الفرج بعد الشدة ما حدث به الرؤساء أن ولي الدولة ابن خيران استحضره الحاكم ذات يوم وقال له: يا ولي الدولة، إني أريد أن أزوج مملوكي فلاناً على جاريتي فلانة بعد عتقهما وكذلك آخر لأخرى فخذ هاتين الشقتين واخطب فيهما خطبتين حسنتين وانسق الصداق والمهر بعد ذلك ما تقتضيه صانعة الوراق، وبكر إلينا من الفجر ولا تتأخر. فقبل ذلك من الحاكم بالسمع والطاعة وانصرف، ووصل إلى داره بمصر وأسهر نفسه واستنتج قريحته وجود فكرته وعمل ما أشار له في الكتابين ولم يزل في السهر إلى وقت السحر، فاستحثه الرسل فقام ليتوضأ ويتهيأ إليه فعثرت رجله في المحبرة فتطرطش الكتابين، فلطم وجهه ووقع مغشياً عليه وانقبض أهله، وعلم أنه مقتول، فوصى أهله الوصية التامة وركب وأخذ الكتابين في كمه مطويين، ولم يزل إلى أن دخل من باب القاهرة ووصل إلى القصر مغلساً، والرسل والحجاب منتظرون قدومه، وحين وصل أذن له في الدخول، فوجد الحاكم في الإيوان الكبير جالساً على سرير، وبين يديه طشطان وعليهما قوارتان (1) ، فلما رأى الحاكم قبل الأرض ووقف صامتاً فقال له: يا ولي الدولة اكشف هذين الطشطين، فكشف عنهما فإذا في كل منهما رأس رجل ورأس امرأة، فقال: هؤلاء اطلعنا منهم على قضية منحوسة وفساد لا ينبغي الصبر، عليه ففعلنا بهم ما فعلناه، وتلك الثوبان خذهما فصلهما لأهلك، امض لشأنك، فخرج من بين يديه مغشياً عليه، فأقام في الديوان إلى أن سكنت نفسه وهدأ روعه، وكتب إلى أهله رقعة يأمرهم فيها بالسكون والسكوت إلى أن يجتمع بهم] (2) .
والحاكم المذكور هو الذي بنى الجامع الكبير بالقاهرة، بعد أن كان قد شرع فيه والده العزيز بالله كما سيأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى وأكمله وأبده، وبنى جامع راشدة بظاهر مصر، وكان شروعه في عمارته يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وكان متولي بنائه الحافظ أبا محمد عبد الغني بن سعيد، والمصحح لمحرابه أبا الحسن علي بن يونس المنجم، وقد تقدم ذكرهما، وأنشأ عدة مساجد بالقرافة وغيرها، وحمل إلى الجوامع من المصاحف والآلات الفضية والستور والحصر السامان ما له قيمة طائلة.
وكان يفعل الشيء وينقضه.
[وخرج عليه في سنة خمس وتسعين وثلثمائة أبو ركوة الوليد بن هشام العثماني ولا تتأخر. فقبل ذلك من الحاكم بالسمع والطاعة وانصرف، ووصل إلى داره بمصر وأسهر نفسه واستنتج قريحته وجود فكرته وعمل ما أشار له في الكتابين ولم يزل في السهر إلى وقت السحر، فاستحثه الرسل فقام ليتوضأ ويتهيأ إليه فعثرت رجله في المحبرة فتطرطش الكتابين، فلطم وجهه ووقع مغشياً عليه وانقبض أهله، وعلم أنه مقتول، فوصى أهله الوصية التامة وركب وأخذ الكتابين في كمه مطويين، ولم يزل إلى أن دخل من باب القاهرة ووصل إلى القصر مغلساً، والرسل والحجاب منتظرون قدومه، وحين وصل أذن له في الدخول، فوجد الحاكم في الإيوان الكبير جالساً على سرير، وبين يديه طشطان وعليهما قوارتان (1) ، فلما رأى الحاكم قبل الأرض ووقف صامتاً فقال له: يا ولي الدولة اكشف هذين الطشطين، فكشف عنهما فإذا في كل منهما رأس رجل ورأس امرأة، فقال: هؤلاء اطلعنا منهم على قضية منحوسة وفساد لا ينبغي الصبر، عليه ففعلنا بهم ما فعلناه، وتلك الثوبان خذهما فصلهما لأهلك، امض لشأنك، فخرج من بين يديه مغشياً عليه، فأقام في الديوان إلى أن سكنت نفسه وهدأ روعه، وكتب إلى أهله رقعة يأمرهم فيها بالسكون والسكوت إلى أن يجتمع بهم] (2) .
والحاكم المذكور هو الذي بنى الجامع الكبير بالقاهرة، بعد أن كان قد شرع فيه والده العزيز بالله كما سيأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى وأكمله وأبده، وبنى جامع راشدة بظاهر مصر، وكان شروعه في عمارته يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وكان متولي بنائه الحافظ أبا محمد عبد الغني بن سعيد، والمصحح لمحرابه أبا الحسن علي بن يونس المنجم، وقد تقدم ذكرهما، وأنشأ عدة مساجد بالقرافة وغيرها، وحمل إلى الجوامع من المصاحف والآلات الفضية والستور والحصر السامان ما له قيمة طائلة.
وكان يفعل الشيء وينقضه.
[وخرج عليه في سنة خمس وتسعين وثلثمائة أبو ركوة الوليد بن هشام العثمانيولا تتأخر. فقبل ذلك من الحاكم بالسمع والطاعة وانصرف، ووصل إلى داره بمصر وأسهر نفسه واستنتج قريحته وجود فكرته وعمل ما أشار له في الكتابين ولم يزل في السهر إلى وقت السحر، فاستحثه الرسل فقام ليتوضأ ويتهيأ إليه فعثرت رجله في المحبرة فتطرطش الكتابين، فلطم وجهه ووقع مغشياً عليه وانقبض أهله، وعلم أنه مقتول، فوصى أهله الوصية التامة وركب وأخذ الكتابين في كمه مطويين، ولم يزل إلى أن دخل من باب القاهرة ووصل إلى القصر مغلساً، والرسل والحجاب منتظرون قدومه، وحين وصل أذن له في الدخول، فوجد الحاكم في الإيوان الكبير جالساً على سرير، وبين يديه طشطان وعليهما قوارتان (1) ، فلما رأى الحاكم قبل الأرض ووقف صامتاً فقال له: يا ولي الدولة اكشف هذين الطشطين، فكشف عنهما فإذا في كل منهما رأس رجل ورأس امرأة، فقال: هؤلاء اطلعنا منهم على قضية منحوسة وفساد لا ينبغي الصبر، عليه ففعلنا بهم ما فعلناه، وتلك الثوبان خذهما فصلهما لأهلك، امض لشأنك، فخرج من بين يديه مغشياً عليه، فأقام في الديوان إلى أن سكنت نفسه وهدأ روعه، وكتب إلى أهله رقعة يأمرهم فيها بالسكون والسكوت إلى أن يجتمع بهم] (2) .
والحاكم المذكور هو الذي بنى الجامع الكبير بالقاهرة، بعد أن كان قد شرع فيه والده العزيز بالله كما سيأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى وأكمله وأبده، وبنى جامع راشدة بظاهر مصر، وكان شروعه في عمارته يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وكان متولي بنائه الحافظ أبا محمد عبد الغني بن سعيد، والمصحح لمحرابه أبا الحسن علي بن يونس المنجم، وقد تقدم ذكرهما، وأنشأ عدة مساجد بالقرافة وغيرها، وحمل إلى الجوامع من المصاحف والآلات الفضية والستور والحصر السامان ما له قيمة طائلة.
وكان يفعل الشيء وينقضه.
[وخرج عليه في سنة خمس وتسعين وثلثمائة أبو ركوة الوليد بن هشام العثماني الأندلسي، وكان خروجه في نواحي برقة، ومال إليه خلق عظيم، وسير إليه الحاكم المذكور جيشاً كبيراً وانتصر عليهم وملك، ثم تكاثروا عليه وأمسكوه، ويقال إنه قتل من أصحابه مقدار سبعين ألفاً، وكان قبضهم إياه في سنة سبع وتسعين، وحمل إلى الحاكم فشهره وقتله، يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة، وحديثه مستوفى في تاريخ ابن الصابي (1) .
وكانت ولادته بالقاهرة ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلثمائة.
وكانت يحب الانفراد والركوب على بهيمة وحده، فاتفق أنه خرج ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوال سنة (2) إحدى عشرة وأربعمائة إلى ظاهر مصر، وطاف ليلته كلها وأصبح عند قبر الفقاعي، ثم توجه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع تسعة من العرب السويدين، ثم أعاد الركابي الآخر، وذكر هذا الركابي أنه خلفه عند القبر والمقصبة، وبقي الناس على رسمهم يخرجون يلتمسون رجوعه ومعهم دواب الموكب إلى يوم الخميس سلخ الشهر المذكور، ثم خرج يوم الأحد ثاني ذي القعدة مظفر صاحب المظلة وخطي الصقلبي ونسيم متولي الستر وابن بشتكين (3) التركي صاحب الرمح وجماعة من الأولياء الكتاميين والأتراك (4) ، فبلغوا دير القصير والموضع المعروف بسلوان (5) ، ثم أمعنوا في الدخول في الجبل فبينما هم كذلك إذ أبصروا حماره الأشهب الذي كان راكباً عليه المدعو بالقمر، وهو على قرنة الجبل (6) ، وقد ضربت يداه بسيف فأثر فيهما، وعليه سرجه ولجامه، فتتبعوا الأثر فإذا أثر الحمار في الأرض وأثر راجل خلفه وراجل قدامه، فلم يزالوا يقصون هذا الأُثر حتى انتهوا إلى البركة التي في شرقي حلوان، فنزل إليها بعض الرجالة فوجد فيها ثيابه، وهي سبع جباب (1) ، ووجدت مزررة لم تحل أزرارها، وفيها آثار السكاكين فأخذت وحملت إلى القصر (2) بالقاهرة، ولم يشك في قتله، مع أن جماعة من المغالين في حبهم السخيفي العقول يظنون حياته، وأنه لا بد أن سيظهر، ويحلفون بغيبة الحاكم وتلك خيالات هذيانية (3) ، ويقال إن أخته دست عليه من يقتله لأمر يطول شرحه، والله أعلم.
وابن المشجر: بضم الميم وفتح الشين المعجمة والجيم المشددة وبعدها راء.
وحلوان: بضم الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الواو وبعد الألف نون، وهي قرية مليحة كثيرة النزه فوق مصر بمقدار خمسة أميال، كان يسكنها عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي لما كان والياً بمصر نيابة عن أخيه عبد الملك أيام خلافته، وبها توفي، وبها ولد ولده عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه