الاثنين، 27 فبراير 2017

أبو سلمة الخلال

أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال الهمداني مولى السبيع وزير أبي العباس السفاح أول خلفاء بني العباس؛ وأبو سلمة أول من وقع عليه اسم الوزير  ، وشهر بالوزارة في دولة بني العباس ولم يكن من قبله يعرف بهذا النعت، لا في دولة بني أمية ولا في غيرها من الدول. وكان السفاح يأنس به، لأنه كان ذا مفاكهة حسنة وممتعاً في حديثه، أديباً، عالماً بالسياسة والتدبير، وكان ذا يسار ويعالج الصرف بالكوفة، وأنفق أموالاً كثيرة في إقامة دولة بني العباس، وصار إلى خراسان في هذا المعنى، وأبو مسلم الخراساني يومئذ تابع له في هذا الأمر، وكان يدعو إلى بيعة إبراهيم الإمام أخي السفاح، فلما قتله مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية بحران وانقلبت الدعوة إلى السفاح، توهموا من أبي سلمة المذكور أنه مال إلى العلويين، فلما ولي السفاح واستوزره بقي في نفسه منه شيء، فيقال: إن السفاح سير إلى أبي مسلم وهو بخراسان يعرفه بفساد نية أبي سلمة ويحرضه على قتله، ويقال: إن أبا مسلم لم اطلع على ذلك كتب إلى السفاح وعرفه بحاله وحسن له قتله، فلم يفعل، وقال: هذا الرجل بذل ماله في خدمتنا ونصحنا، وقد صدرت منه هذه الزلة، فنحن نغتفرها له.
فلما رأى أبو مسلم امتناعه من ذلك سير جماعة كمنوا له ليلاً، وكانت عادته أن يسمر عند السفاح، فلما خرج من عنده وهو في مدينته بالأنبار ولم يكن معه أحد وثبوا عليه وخبطوه بأسيافهم، وأصبح الناس يقولون: قتلته الخوارج، وكان قتله بعد خلافة السفاح بأربعة أشهر، وولي السفاح الخلافة ليلة الجمعة ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ولما سمع السفاح بقتله أنشد:
إلى النار فليذهب ومن كان مثله ... على أي شيء فاتنا منه نأسف
وذكر في كتاب " أخبار الوزراء " أن قتله كان في رجب سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وكان أبو سلعة يقال له: وزير آل محمد، فلما قتل عمل في ذلك سليمان ابن المهاجر البجلي:
إن المساءة قد تسر وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا ولم يكن خلالاً، وإنما كان منزله بالكوفة في حارة الخلالين، فكان يجلس 
عندهم لقرب داره منهم، فسمي خلالاً  .
والهمداني - بفتح الهاء وسكون الميم وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون - وهذه النسبة إلى همدان، وهي قبيلة عظيمة باليمن.
والسبيع: يذكر في حرف العين عند ذكر أبي إسحاق السبيعي إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف أرباب اللغة في اشتقاق الوزارة على قولين: أحدهما أنها من الوزر - بكسر الواو - وهو الحمل، وكأن الوزير قد حمل عن السلطان الثقل، وهذا قول ابن قتيبة، والثاني: أنها من الوزر - بفتح الواو والزاي - وهو الجبل الذي يعتصم به لينجى به من الهلاك، وكذلك الوزير معناه الذي يعتمد عليه الخليفة أو السلطان ويلتجئ إلى رأيه، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، والله أعلم  .

حسان التنوخي

أبو ليلى حسان بن سنان بن أوفى بن عوف التنوخي وهو جد إسحاق بن البهلول؛ [سمع أنس بن مالك رضي الله عنه؛ روى عنه ابن ابنه إسحاق، وقال أبو حاتم محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول: قال جدي إسحاق عن جدي حسان]  قال: خرجت في وفد من أهل الأنبار إلى الحجاج إلى واسط نتظلم إليه من عامله علينا الرقيل، فدخلنا ديوانه فرأيت شيخاً والناس حوله يكتبون عنه، فسألت عنه فقيل لي: أنس بن مالك، فوقفت عليه فقال لي: من أين فقلت: من الأنبار، جئنا إلى الأمير نتظلم إليه، فقال لي: بارك الله فيك، فقلت: حدثني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعته يقول: مر بالمعروف وأنه عن المنكر ما استطعت؛ وأعجلني أصحابي فلم أسمع منه غير هذا الحديث؛ [قال أبو حاتم] وكان إسحاق (4) يقول: أرجو أن أكون ممن سبقت [فيه] دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: طوبى لمن رآني ولمن رأى من رآني. وكان من بركة دعاء أنس لحسان أنه عاش مائة سنة وعشرين سنة، وخرج من أولاده جماعة فقهاء وقضاة ورؤساء وصلحاء [وكتاب وزهاد؛ ولذ حسان سنة ستين من الهجرة] ، وتوفي سنة 180 رحمه الله تعالى [وكان أحياناً يكنى أبا العلاء] ولد بالأنبار على النصرانية وكانت دينه ودين آبائه [وكانت له حين أسلم ابنه بالغة فأقامت على النصرانية فلما حضرتها الوفاة أوصت لدير تنوخ بالأنبار] ؛ وكان حسان يتكلم ويقرأ ويكتب بالفارسية والسريانية والعربية ولحق الدولتين، فلما قلد أبو العباس السفاح ربيعة الرأي قضاء الأنبار، أتي بكتب مكتوبة بالفارسية فلم يحسن أن يقرأها، [فطلب رجلاً] ثقة ديناً يحسن قراءتها فدل على حسان بن سنان فجيء به فكان يقرأ له الكتب الفارسية، فلما اختبره رضي مذهبه واستكتبه على جميع أمره.

أبو عبد الله الشيعي

أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا المعروف بالشيعي القائم بدعوة عبيد الله المهدي جد ملوك مصر؛ وقصته في القيام بالغرب مشهورة، وله بذلك سيرة مسطورة، وسيأتي في حرف العين عند ذكر المهدي عبيد الله طرف من أخباره إن شاء الله تعالى.
وأبو عبد الله المذكور من أهل صنعاء اليمن، وكان من الرجال الدهاة الخبيرين بما يصنعون، فإنه دخل إفريقية وحيداً بلا مال ولا رجال، ولم يزل يسعى إلى أن ملكها، وهرب ملكها أبو مضر زيادة الله آخر ملوك بني الأغلب منه إلى بلاد المشرق وهلك هناك، وحديثه يطول.
ولما مهد القواعد للمهدي ووطد له البلاد وأقبل المهدي من المشرق، وعجز عن الوصول إلى أبي عبد الله المذكور، وتوجه إلى سجلماسة، وأحس به صاحبها اليسع آخر ملوك بني مدرار، فأمسكه واعتقله، ومضى إليه أبو عبد الله وأخرجه من الاعتقال وفوض إليه أمر المملكة - اجتمع به أخوه أبو العباس أحمد، وكان هو الأكبر، أعني أحمد، وندمه على ما فعل، وقال له: تكون أنت صاحب البلاد والمستقل بأمورها وتسلمها إلى غيرك وتبقى من جملة الأتباع، وكرر عليه القول، فندم أبو عبد الله على ما صنع واضمر الغدر، واستشعر منهما المهدي، فدس عليهما من قتلهما في ساعة واحدة، وذلك في منتصف جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين بمدينة رقادة بين القصرين، رحمهما الله تعالى.

والشيعي - بكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها عين مهملة - هذه النسبة إلى من يتولى شيعة الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
ورقادة - بفتح الراء وتشديد القاف وبعد الألف دال مهملة وبعد الدال هاء ساكنة - مدينة من أعمال القيروان من بلاد إفريقية  .
 وأما زيادة الله فقد ذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " فقال  : هو أبو مضر زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب ابن إبراهيم بن سالم بن عقال بن خفاجة، وهو زيادة الله الأصغر، آخر ملوك بني الأغلب بإفريقية، التميمي، وقال: قدم دمشق سنة اثنتين وثلثمائة مجتازاً إلى بغداد حين غلب على ملكه بإفريقية، ثم قال في آخر الترجمة: بلغني أن زيادة الله توفي بالرملة في سنة أربع وثلثمائة في جمادى الأولى منها، ودفن بالرملة، فساخ قبره فسقف عليه وترك مكانه، وهو من ولد الأغلب بن عمرو المازني البصري، وكان الرشيد ولى عمراً المغرب بعد أن مات إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فما زال بالمغرب إلى أن توفي وخلف ولده الأغلب ثم أولاده إلى أن صار الأمر إلى زيادة الله هذا. انتهى ما ذكره ابن عساكر.
وفي ترجمة أبي القاسم علي بن القطاع اللغوي هذا النسب، وبينهما اختلاف قليل، لكني نقلته على ما وجدته في الموضعين.
وقال غير ابن عساكر: توفي أبو مضر زيادة الله بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب بالرقة، وحمل تابوته إلى القدس الشريف، ودفن بها في سنة ست وتسعين ومائتين، وكانت مدة مملكته إلى أن خرج عن القيروان خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة عشر يوماً. وكان سبب خروجه من القيروان أن أبا عبد الله الشيعي المذكور لما هزم إبراهيم بن الأغلب  ، بلغ الخبر زيادة الله المذكور فشد 
أمواله وأخذ خواص حرمه وخرج من رقادة ليلاً، وبعد خروجه بويع إبراهيم بن الأغلب  . وكانت مملكة بني الأغلب مائتي سنة واثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وأربعة عشر يوماً، والشرح في ذلك يطول فاختصرته.

أبو الفوارس ابن الخازن

أبو الفوارس الحسين بن علي بن الحسين المعروف بابن الخازن الكاتب؛ كان فريد عصره في الكتابة، وكتب ما لم يكتبه أحد، فإنه كتب فيما كتب خمسمائة نسخة من كتاب الله العزيز ما بين ربعة وجامع، وله شعر حسن، فمن ذلك قوله:
عنت الدنيا لطالبها ... واستراح الزاهد الفطن
كل ملك نال زخرفتها ... حسبه مما حوى كفن
يقتني مالاً ويتركه ... في كلا الحالين مفتتن
أملي كوني على ثقة ... من لقاء الله مرتهن
أكره الدنيا وكيف بها ... والذي تسخو به وسن
لم تدم قبلي على أحد ... فلماذا الهم والحَزَن

 قال محمد بن أبي الفضل  الهمذاني المؤرخ في " ذيل تجاب الأمم " لمسكويه: توفيابن الخازن المذكور في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة فجأة، رحمه الله تعالى. وقال الشريف أبو العمر المبارك بن أحمد الأنصاري: توفي ليلة الثلاثاء، ودفن من الغد، وهو اليوم السادس والعشرون من الشهر المذكور.

الطغرائي

السيد فخر الكتاب أبو إسماعيل الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد الملقب مؤيد الدين الأصبهاني المنشئ المعروف بالطغرائي؛ كان غزير الفضل لطيف الطبع، فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر.
ذكره أبو سعد ابن السمعاني في نسبة المنشئ من كتاب " الأنساب "، وأثنى عليه، وأورد قطعة من شعره في صفة الشمعة، وذكر أنه قتل في سنة خمس عشرة وخمسمائة.
والطغرائي المذكور له ديوان شعر جيد، ومن محاسن شعره قصيدته المعروفة بلامية العجم، وكان عملها ببغداد في سنة خمس وخمسمائة يصف حاله ويشكو زمانه، وهي التي أولها  :
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل
[مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
ناء عن الأهل صفر الكف منفرد ... كالسيف عري متناه عن الخلل
فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي

    طال اغترابي حتى حن راحلتي ... ورحلها وقرى العسالة الذبل
    وضج من لغب نضوي وعج لما ... يلقى ركابي ولح الركب في عذلي
    أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلا قبلي
    والدهر يعكس آمالي ويقنعني ... من الغنيمة بعد الكد بالقفل
    وذي شطاط كصدر الرمح معتقل ... بمثله غير هياب ولا وكل
    حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بشدة البأس منه رقة الغزل
    طردت سرح الكرى عن ورد مقلته ... والليل أغرى سوام النوم بالمقل
    والركب ميل على اكوار من طرب ... صاح وآخر من خمر الهوى ثمل
    فقلت أدعوك للجلى لتنصرني ... وأنت تخذلني في الحادث الجلل
    تنام عيني وعين النجم ساهرة ... وتستحيل وصبغ الليل لم يحل
    فهل تعين على غي هممت به ... والغي يزجر أحياناً عن الفشل
    إني أريد طروق الحي من إضم ... وقد حماه رماة من بين ثعل
    يحمون بالبيض والسمر اللدان به ... سود الغدائر حمر الحلي والحلل
    فسر بنا في ذمام الليل معتسفاً ... فنفحة الطيب تهدينا إلى الحلل
    فالحب حيث العدا والأسد رابضة ... حول الكناس لها غاب من الأسل
    نؤم ناشئة بالجزع قد سقيت ... نصالها بمياه الغنج والكحل
    قد زاد طيب أحاديث الكرام بها ... ما بالكرائم من جبن ومن بخل
    تبيت نار الهوى منهن في كبد ... حرى ونار القرى منهم على قلل
    يقتلن أنضاء حب لا حراك بها ... وينحرون كرام الخيل والإبل
    يشفى لديغ العوالي في بيوتهم ... بنهلة من غدير الخمر والعسل
    لعل إلمامة بالجزع ثانية ... يدب منها نسيم البرء في عللي
    لا أكره الطعنة النجلاء قد شفعت ... برشقة من نبال الأعين النجل
    ولا أهاب الصفاح البيض تسعدني ... باللمح من خلل الأستار والكلل
    ولا أخل بغزلان تغازلني ... ولو دهتني أسود الغيل بالغيل
    حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل
    فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً ... في الأرض أو سلماً في الجو واعتزل
    ودع غمار العلا للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهن بالبلل
    رضى الذليل بخفض العيش مسكنة ... والعز تحت رسيم الأينق الذلل
    فادرأ بها في نحور البيد حافلة ... معارضات مثاني اللجم بالجدل
    إن العلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل
    لو أن في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل
    أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً ... والحظ عني بالجهال في شغل
    لعله إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عنهم أو تنبه لي
    أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
    لم أرض بالعيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل
    غالى بنفسي عرفاني بقيمتها ... فصنتها عن رخيص القدر مبتذل
    وعادة النصل أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل
    ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل
    تقدمتني أناس كان شوطهم ... وراء خطوي إذ أمشي على مهل
    هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل
    وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
    فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغني عن الحيل
    أعدى عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل
    وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شراً وكن منها على وجل
    غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول العمل
    وشان صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابق معوج بمعتدل
    إن كان ينجع شيء في ثباتهم ... على العهود فسبقُ السيف للعذَل
      يا وارداً سؤر عيش كله كدر ... أنفقت صفوك في أيامك الأول
      فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت يكفيك منه مصة الوشل
      ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... يحتاج فيه إلى الأنصار والحول
      ترجو البقاء بدار لا ثبات لها ... فهل سمعت بظل غير منتقل
      ويا خبيراً على الأسرار مطلعاً ... أصمت ففي الصمت منجاة من الزلل
      قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل ومن رقيق شعره قوله:
      يا قلب مالك والهوى من بعد ما ... طاب السلو وأقصر العشاق
      أو ما بدا لك في الإفاقة والألى ... نازعتهم كأس الغرام أفاقوا
      مرض النسيم وصح والداء الذي ... تشكوه لا يرجى له إفراق
      وهذا خفوق البرق والقلب الذي ... تطوى عليه أضالعي خفاق وله أيضاً:
      أجما البكا يا مقلتي فإننا ... على موعد للبين لا شك واقع
      إذا جمع العشاق موعدهم غداً ... فواخجلتا إن لم تعني مدامعي ومن شعره:
      ولا غرو إن أهديت من فيض بره ... إليه قليلاً ليس يعتده نزرا
      فإني رأيت الغيم يحمل ماءه ... من البحر غمراً ثم يهدي له قطرا ومن شعره:
      لا تحقرن الرأي وهو موافق ... حكم الصواب وإن بدا من ناقص
      فالدر وهو أجل شيء يقتنى ... ما حط رتبته هوان الغائص وله أيضاً:
      أخاك أخاك فهو أجل ذخر ... إذا نابتك نايبة الزمان
      وإن رابت إساءته فهبها ... لما فيه من الشيم الحسان
      تريد مهذباً لا غش فيه ... وهل عود يفوح بلا دخان ومن شعره:
      ما فلان: إلا كجيفة ميت ... والضرورات أحوجتنا إليه
      فمن اضطر غير باغ ولا عا ... د فلا إثم في الكتاب عليه وله من أبيات:
      لا غرو إن حزت المروءة والتقى ... والدين والدنيا لم تتصدع
      إن النواظر والقلوب صغيرة ... تحوي الكبيرة وليس بالمستبدع وله:
      جامل أخاك إذا استربت بوده ... وانظر به عقب الزمان يعاد
      فإن استمر على الفساد فخله ... فالعضو يقطع للفساد الزائد
       وذكره أبو المعالي الحظيري في كتاب " زينة الدهر " وذكر له مقاطيع، وذكره أبو البركات ابن المستوفي في " تاريخ إربل " وقال: إنه ولي الوزارة بمدينة إربل مدة، وذكر العماد الكاتب في كتاب " نصرة الفترة وعصرة الفطرة " - وهو تاريخ الدولة السلجوقية - أن الطغرائي المذكور كان ينعت بالأستاذ، وكان وزير السلطان مسعود بن محمد السلجوقي بالموصل، وأنه لما جرى المصاف بينه وبين أخيه السلطان محمود بالقرب من همذان وكانت النصرة لمحمود، فأول من أخذ الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود، فأخبر به وزير محمود، وهو الكمال نظام الدين أو طالب علي بن أحمد بن حرب السميرمي، فقال الشهاب أسعد - وكان طغرائياً في ذلك الوقت نيابة عن النصير الكاتب -: هذا الرجل ملحد، يعني الأستاذ، فقال وزير محمود: من يكن ملحداً يقتل، فقتل ظلماً.
      وقد كانوا خافوا منه، ولا قبل عليه لفضله، فاعتدوا قتله بهذه الحجة، وكانت هذه الواقعة سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقيل إنه قتل سنة أربع عشرة، وقيل ثماني عشرة، وقد جاوز ستين سنة، وفي شعره ما يدل على أنه بلغ سبعاً وخمسين سنة لأنه قال وقد جاءه مولود  :
      هذا الصغير الذي وافى على كبري ... أقر عيني ولكن زاد في فكري
      سبع وخمسون لو مرت على حجر ... لبان تأثيرها في صفحة الحجر
       والله تعالى أعلم بما عاش بعد ذلك، رحمه الله تعالى.
       وقتل الكمال السميرمي الوزير المذكور يوم الثلاثاء سلخ صفر سنة ست عشرة وخمسمائة في السوق ببغداد عند المدرسة النظامية، وقيل: قتله عبد أسود كان للطغرائي المذكور، لأنه قتل أستاذه.
      والطغرائي - بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وفتح الراء وبعدها الف مقصورة - هذه النسبة إلى من يكتب الطغري، وهي الطرة التي تكتب في أعلى الكتب فوق البسملة بالقلم الغليظ، ومضمونها نعوت الملك الذي صدر الكتاب عنه، وهي لفظة أعجمية.
      والسميرمي - بضم السين المهملة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء ثم ميم - هذه النسبة إلى سميرم، وهي بلدة بين أصبهان وشيراز، وهي آخر حدود أصبهان.

البارع الدباس

أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن محمد بن الحسين بن عبيد الله بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير الحارثي من بني الحارث ابن كعب بن عمرو الدباس البدري المنعوت بالبارع الشاعر المشهور الأديب النديم البغدادي؛ كان نحوياً لغوياً مقرئاً حسن المعرفة بصنوف الآداب، وأفاد خلقاً كثيراً، خصوصاً بإقراء القرآن الكريم.
وهو من بيت الوزارة، فإن جده القاسم كان وزير المعتضد [والمكتفي بعده] وهو الذي سم ابن الرومي الشاعر - كما سيأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى - وعبيد الله كان وزيراً أيضاً، وسليمان بن وهب الوزير تغني شهرته عن ذكره - وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى -.
والبارع المذكور من أرباب الفضائل، وله مصنفات حسان وتواليف غريبة، وديوان شعر جيد، وكان بينه وبين الشريف أبي يعلى ابن الهبارية مداعبات لطيفة، فإنهما كانا رفيقين ومتحدين في الصحبة، فاتفق أن البارع المذكور تعلق بخدمة بعض الأمراء، وحج، فلما عاد حضر الشريف إليه مراراً فلم يجده، فكتب إليه قصيدة طويلة دالية يعاتبه فيها إلى أنه تغير عليه بسبب الخدمة، وأولها:
يا ابن ودي وأين مني ابن ودي ... غيرت طرفه الرياسة بعدي 

ولولا ما أودعها من السخف والفحش لذكرتها  ، فكتب إليه البارع المذكور جوابها، وأطال فيها، وضمنها أيضاً شيئاً من الفحش، وأولها:
وصلت رقعة الشريف أبي يع ... لى فحلت محل لقياه عندي
فتلقيتها  بأهلاً وسهلاً ... ثم ألصقتها بطرفي وخدي
وفضضت الختام عنها فما ظن ... ك بالصاب إذ يشاب بشهد
بين حلو من العتاب ومر ... هو أولى به وهزل وجد
وتجن  علي من غير جرم ... بملام يكاد يحرق جلدي
يدعي أنني حجبت  وقد زا ... ر مراراً، حاشاه من قبح رد
ثم دع ذا، ما للرياسة والحج ... أبن لي من حل أنف وعقد
فبماذا علمت بالله أني ... قد تنكرت (5) أو تغير عهدي
من تراني: أعامل أم وزير ... لأمير أم عارض للجند
أنا إلا ذاك الخليع الذي تع ... رف أرضى ولو بجرة دردي
وإذا صح لي مليح فذاك ال ... يوم عيدي وصاحب الدست عبدي
أتراني لو كنت في النار مع ها ... مان أنساك في جنان الخلد

أو لو أني عصبت بالتاج أسلو ... ك ولو كنت عانياً في القد
أنا أضعاف ما عهدت على العه ... د وإن كنت لا تجازي بود ومنها:
أم لأني من سائر النا ... س بفرد بين الأكارم فرد
صان وجهي عن اللئام وأولا ... ني جميلاً منه إلى غير حد
فتعففت واقتنعت بتدفي ... ع زماني وقلت إني وحدي
لا لأني أنفت مع ذا من الكد ... ية، أين الكرام حتى أكدي ونقتصر من هذه القصيدة على هذه الأبيات، ففيها سخف لا يليق ذكره وغيره مما لا حاجة إليه.
ومن شعره أيضا (1) :
أفنيت ماء الوجه من طول ما ... أسأل من لا ماء في وجهه
أنهي إليه شرح حالي الذي ... يا ليتني مت ولم أنهه
فلم ينلني كرما رفده ... ولم أكد أسلم من جبهه
والموت من دهر نحاريره ... ممتدة الأيدي إلى بلهه [وأورد له الحظيري في كتاب " زينة الدهر " وذكر أنه نقلها من خطه وذكر أنه قال هذه القصيدة بمكة في سنة 472:
ذكر الأحباب والوطنا ... والهوى والإلف والسكنا
فبكى شجواً وحق له ... مدنف بالشوق حلف ضنى
أبعدت مرمى يد رجمت ... من خراسان به اليمنا
خلست من بين أضلعه ... بالنوى قلباً له ضمنا

من لمشتاق يميله ... ذات سجع ميلت فننا
كلما هاج الهديل به ... طرباً هاجت له شجنا
لم تعرض بالحنين بمن ... مسعد إلا وقال أنا
لك يا ورقاء أسوة من ... لم تذيقي جفنه الوسنا
بك أنسي مثل أنسك بي ... فتعالي نبد ما كمنا
نتشاكى ما نجن إذا ... نحت شجواً صحت واحزنا
غير أني منك أعدل إن ... عاد سري في الهوى علنا
أنا لا أنت البعيد هوى ... أنا لا أنت الغريب هنا
أنا فرد يا حمام وها ... أنت وألإلف القرين ثنا
أنصفونا يا بني حسن ... ليس هذا منكم حسنا
كم أحلت محرماتكم ... بالعيون النجل أنفسنا
نحن وفد الله عندكم ... ما لكم جيرانه ولنا
لم يجرنا منكم حرم ... من أتاه خائفاً أمنا]  وكانت ولادته في العاشر من صفر سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة ببغداد. وتوفي يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، وقيل الأولى، سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وكان قد عمي في آخر عمره، رحمه الله تعالى.
والدباس - بفتح الدال المهملة وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف سين مهملة - وهذا يقال لمن يعمل الدبس أو يبيعه.
والبدري - بفتح الباء الموحدة وسطون الدال المهملة وبعدها راء - هذه النسبة إلى البدرية، وهي محلة ببغداد المحروسة وكان البارع المذكور يسكنها فنسب إليها.


أبو علي الجياني

أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني  الأندلسي المحدث؛ كان إماماً في الحديث والأدب، وله كتاب مفيد سماه " تقييد المهمل " ضبط فيه كل لفظ يقع فيه اللبس من رجال الصحيحين، وما أقصر فيه، وهو في جزأين، وكان من جهابذه المحدثين، وكبار العلماء المسندين  ، وكان حسن الخط جيد الضبط، وكان له معرفة بالغريب والشعر والأنساب، وكان يجلس في جامع قرطبة ويسمع منه أعيانها، ولم أقف على شيء من أخباره حتى أذكر طرفاً منها.
وكانت ولادته في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وطلب الحديث سنة أربع وأربعين، وتوفي ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.
والجياني - بفتح الجيم وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى جيان، وهي مدينة كبيرة بالأندلس، وبأعمال الري قرية يقال لها جيان أيضاً.
والغساني: قد تقدم الكلام عليه.

ابن خالويه

أبو عبد الهل الحسين بن أحمد بن خالويه النحوي اللغوي؛ أصله من همذان ولكنه دخل بغداد وأدرك جلة العلماء بها مثل أبي بكر ابن الأنباري وابن مجاهد المقرئ وأبي عمر الزاهد وابن دريد، وقرأ على أبي سعيد السيرافي، وانتقل إلى الشام واستوطن حلب، وصار بها أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب، وكانت إليه الرحلة من الآفاق، وآل حمدان يكرمونه ويدرسون عليه ويقتبسون منه. وهو القائل: دخلت يوماً على سيف الدولة بن حمدان فلما مثلت بين يديه قال لي: اقعد، ولم يقل اجلس، فتبينت بذلك اعتلاقه بأهداب الأدب، واطلاعه على أسرار كلام العرب، وإنما قال ابن خالويه هذا لأن المختار عند أهل الأدب أن يقال للقائم: اقعد، وللنائم أو الساجد: اجلس، وعلله بعضهم بأن القعود هو الانتقال من العلو إلى السفل، ولهذا قيل لمن أصيب برجله مقعد، والجلوس هو الانتقال من السفل إلى العلو، ولهذا قيل لنجد: جلسا لارتفاعها، وقيل لمن أتاها: جالس، وقد جلس، ومنه قول مروان بن الحكم لما كان والياً بالمدينة يخاطب الفرزدق:
قل للفرزدق والسفاهة  كاسمها ... إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس

أي: اقصد الجلسا، وهي نجد. وهذا البيت من جملة أبيات ولها قصة طويلة، وهذا كله وإن جاء في غير موضعه لكن الكلام شجون.ولابن خالويه المذكور كتاب كبير  في الأدب سماه " كتاب ليس " وهو يدل على اطلاع عظيم، فإن مبنى الكتاب من أوله إلى آخره على أنه ليس في كلام العرب كذا وليس كذا، وله كتاب لطيف سماه " الآل " وذكر في أوله أن الآل ينقسم إلى خمسة وعشرين قسماً، وما أقصر فيه، وذكر فيه الأئمة الاثني عشر وتواريخ مواليدهم ووفياتهم وأمهاتهم، والذي دعاه إلى ذكرهم أنه قال في جملة أقسام الآل " وآل محمد بنو هاشم ". وله كتاب " الاشتقاق " وكتاب " الجمل " في النحو، وكتاب " القراءات " وكتاب " إعراب ثلاثين سورة من الكتاب العزيز " وكتاب " المقصور والممدود " وكتاب " المذكر والمؤنث " وكتاب " الألفات " (3) وكتاب " شرح المقصورة لابن دريد " وكتاب " الأسد "، وغير ذلك.
ولابن خالويه مع أبي الطيب المتنبي مجالس ومباحث عند سيف الدولة، ولولا خوف الإطالة لذكرت شيئاً منها.
وله شعر حسن، فمنه قوله على ما نقله الثعالبي في كتاب " اليتيمة "  :
إذا لم يكن صدر المجالس سيد ... فلا خير فيمن صدرته المجالس
وكم قائل: ما لي رأيتك راجلاً ... فقلت له: من أجل أنك فارس

وخالويه: بفتح الخاء الموحدة وبعد الألف لام مفتوحة وواو مفتوحة أيضاً وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة ثم هاء ساكنة.
وكانت وفاة ابن خالويه في سنة سبعين وثلثمائة بحلب، رحمه الله تعالى.

الوزير المغربي

أبو القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن محمد بن يوسف بن بحر بن بهرام ابن المرزبان بن ماهان بن باذان بن ساسان بن الحرون بن بلاش بن جاماس ابن فيروز بن يزدجر بن بهرام جور المعروف بالوزير المغربي؛ ورأي جماعة من أهل الأدب يقولون: إن أبا علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي الذي مدحه المتنبي بقصيدته التي أولها:
أمن ازديارك في الدجى الرقباء ... إذ حيث كنت من الظلام ضياء

 خاله، ثم إني كشفت عنه فوجدت المذكور خال أبيه، وأما هو فأمه بنت محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني، ذكره في " أدب الخواص ". وكانت وفاة الأوارجي المذكور في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثلثمائة  .
والوزير أبو القاسم المغربي المذكور هو صاحب الديوان: الشعر والنثر، وله " مختصر إصلاح المنطق "  وكتاب " الإيناس "، وهو مع صغر حجمه كثير الفائدة ويدل على كثرة اطلاعه، وكتاب " أدب الخواص " وكتاب " المأثور في ملح الخدور " وغير ذلك.

    وجدت في بعض المجاميع ما صورته: وجد بخط والد الوزير المعروف بالمغربي على ظهر " مختصر إصلاح المنطق " الذي اختصره ولده الوزير ما مثاله: " ولد - سلمه الله تعالى، وبلغه مبالغ الصالحين - أول وقت طلوع الفجر من ليلة صباحها يوم الأحد الثالث عشر من ذي الحجة سنة سبعين وثلثمائة، واستظهر القرآن العزيز وعدة من الكتب المجردة في النحو واللغة ونحو خمسة عشر ألف بيت من مختار الشعر القديم، ونظم الشعر وتصرف في النثر وبلغ من الخط إلى ما يقصر عن نظراؤه، ومن حساب المولد والجبر والمقابلة إلى ما يستقل بدونه (1) الكاتب، وذلك كله قبل استكماله أربع عشرة سنة. واختصر هذا الكتاب، فتناهى في اختصاره وأوفى على جميع فوائده حتى لم يفته شيء من ألفاظه، وغير من أبوابه ما أوجب التدبير تغييره للحاجة إلى الاختصار، وجمع كل نوع إلى ما يليق به. ثم ذكرت له نظمه بعد اختصاره فابتدأ به، وعمل منه عدة أوراق في ليلة، وكان جميع ذلك قبل استكماله سبع عشرة سنة، وأرغب إلى الله سبحانه في بقائه ودوام سلامته ". انتهى كلام والده.
    ومن شعر الوزير المذكور  :
    أقول لها والعيس تحدج للسرى ... أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر
    سأنفق ريعان الشبيبة آنفاً ... على طلب العلياء أو طلب الأجر
    أليس من الخسران  أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري 
    ومن شعره أيضاً:
    أرى الناس في الدنيا كراع تنكرت ... مراعيه حتى ليس فيهن مرتع
    فماء بلا مرعى ومرعى بغير ما ... وحيث ترى ماء ومرعى فمسبع 
    وله في غلام حسن الوجه حلق شعره:
    حلقوا شعره ليكسوه قبحا ... غيرة منهم عليه وشحا
    كان صبحاً عليه ليل بهيم ... فمحوا ليله وابقوه صبحا 
    ومن شعره أيضاً:
    إني أبثك عن حدي ... ثي والحديث له شجون
    غيرت موضع مرقدي ... ليلاً ففارقني السكون
    قل لي فأول ليلة ... في القبر كيف ترى أكون
     ولما ولد للوزرير المذكور ولده أبو يحيى عبد الحميد كتب إليه أبو عبد الله محمد بن أحمد صاحب ديوان الجيش بمصر أبياتاً منها:
    قد أطلع الفأل منه معنى ... يدركه العالم الذكي
    رأيت جد الفتى علياً ... فقلت جد الفتى علي
    وكان الوزير المذكور من الدهاة العارفين [وكان خبيث الباطن، إذا دخل عليه الفقيه سأله عن النحو وإذا دخل عليه النحوي سأله عن الفقه والفرائض] .
    ولما قتل الحاكم صاحب مصر أباه وعمه وأخويه، وهرب الوزير وصل إلى الرملة، واجتمع بصاحبها المتغلب عليها حسان  بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي وبنيه وبني عمه، وأفسد نياتهم على الحاكم صاحب مصر المذكور  .
    ثم توجه إلى الحجاز، وأطمع صاحب مكة في الحاكم ومملكة الديار المصرية، وعمل في ذلك عملاً قلق الحاكم بسببه وخاف على ملكه، وقصته في ذلك طويلة إلى أن  أرضى الحاكم بني الجراح ببذل الأموال لهم، واستمالهم إليه.
    وكان صاحب مكة - وهو أبو الفتح الحسن بن جعفر العلوي - قد استدعوه ووصل إليهم وبايعوه بالخلافة ولقبوه بالرشيد بتدبير أبي القاسم المذكور، فلم يزل الحاكم يعمل الحيل حتى استمال بني الجراح إليه، وانتقض أمر أبي الفتوح وهرب إلى مكة.
    وقصد الوزير أبو القاسم العراق هارباً من الحاكم ومفارقاً لبني الجراح، وقصد فخر الملك أبا غالب ابن خلف الوزير، ورفع خبره إلى الإمام القادر بالله فاتهمه أنه ورد لإفساد الدولة العباسية، وراسل فخر الملك في إبعاده، فاعتذر عنه فخر الملك وقام في أمره. واتفق انحدار فخر الملك من بغداد إلى واسط، فأخذ أبا القاسم في جملته، وأقام معه بواسط على جملة من الرعاية، إلى أن توفي فخر الملك مقتولاً، وشرع الوزير أبو القاسم في استعطاف قلب الإمام القادر بالله 
    والتنصل مما نبذل به، حتى صلح له بعض الصلاح، وعاد إلى بغداد وأقام قليلاً، ثم أصعد إلى الموصل.
    واتفق موت أبي الحسن ابن أبي الوزير كاتب معتمد الدولة أبي المنيع قرواش أمير بني عقيل، فتقلد كتابته موضعه، ثم شرع أبو القاسم يسعى في وزارة الملك مشرف الدولة البويهي، ولم يزل يعمل السعي إلى أن قبض على الوزير مؤيد الملك أبي علي، فكوتب الوزير أبو القاسم بالحضور من الموصل إلى الحضرة، وقلد الوزارة من غير خلع ولا لقب ولا مفارقة الدراعة، وأقام كذلك حتى جرى من الأحوال ما أوجب مفارقة مشرف الدولة بغداد، فخرج معه منها وقصدا أبا سنان غريب بن محمد بن مقن ونزلا عليه وأقاما بأوانا. وبينا هو على ذلك إذ عرض له إشقاق من مخدومه مشرف الدولة دعاه إلى مفارقته، فانتقل بعد ذلك إلى أبي المنيع قرواش بالموصل، وأقام عنده، ثم تجدد من سوء رأي الإمام القادر فيه ما ألجأته الضرورة بسبب ما كوتب به قرواش وغريب في معناه إلى مفارقته والإبعاد عنه، وقصد أبا نصر ابن مروان بميافارقين وأقام عنده على سبيل الضيافة إلى أن توفي، وقيل: إنه لما توجه إلى ديار بكر وزر لسلطانها أحمد بن مروان المقدم ذكره، فأقام عنده إلى أن توفي في ثالث عشر شهر رمضان  سنة ثماني عشرة وأربعمائة، وقيل: ثمان وعشرين، والأول أصح، وكانت وفاته بميافارقين، وحمل إلى الكوفة بوصية منه، وله في ذلك حديث يطول شرحه، ودفن بها في تربة مجاورة لمشهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأوصى أن يكتب على قبره  :
    كنت في سفرة الغواية والجه ... ل مقيماً (3) فحان مني قدوم
    تبت من كل مأثم فعسى يم ... حى بهذا الحديث ذاك القديم
    بعد خمس وأربعين، لقد ما ... طلت، إلا أن الغريم كريم
    وكان قتل أبيه وعمه وأخويه في الثالث من ذي القعدة سنة أربعمائة، رحمهم الله تعالى.
    ورأيت في بغض المجاميع أنه لم يكن مغربياً، وإنما أحد أجداده، وهو أبو الحسن علي بن محمد كانت له ولاية في الجانب الغربي ببغداد، وكان يقال له: المغربي، فأطلق عليهم هذه النسبة، ولقد رأيت خلقاً كثيراً يقولون هذه المقالة، ثم بعد ذلك نظرت في كتابه الذي سماه " أدب الخواص " فوجدت في أوله " وقد قال المتنبي: وإخواننا المغاربة يسمونه المتنبه، فأحسنوا ":
    أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم
     فهذا يدل على أنه مغربي حقيقة لا كما قالوه، والله أعلم. ثم أعاد هذا القول بعينه لما ذكر النابغة الجعدي وشعره وأنشد عنده قول المتنبي:
    وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه ... ولو أن ما في الوجه منه حراب
     ونقلت نسبه المذكور في الأول من خط أبي القاسم علي بن منجب بن سليمان المعروف بابن الصيرفي المصري صاحب الرسائل، وذكر أنه منقول من خط الوزير المذكور، والله أعلم بصحته.

ابن الحجاج الشاعر

أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحجاج؛ الكاتب الشاعر المشهور ذو المجون والخلاعة والسخف في شعره، كان فرد زمانه في فنه، فإنه لم يسبق إلى تلك الطريقة، مع عذوبة الألفاظ وسلامة شعره من التكلف، ومدح الملوك والأمراء والوزراء والرؤساء، وديوانه كبير، أكثر ما يوجد في عشر مجلدات، والغالب عليه الهزل، وله في الجد أيضاً أشياء حسنة.
وتولى حسبة بغداد وأقام بها مدة، ويقال: إنه عزل بأبي سعيد 
الإصطخري الفقيه الشافعي، وله في عزله أبيات مشهورة لا حاجة إلى إثباتها ها هنا.
ويقال: إنه في الشعر في درجة امرئ القيس، وإنه لم يكن بينهما مثلهما لأن كل واحد منهما مخترع طريقة.
وقد أفرد أبو الحسن الموسوي المعروف بالرضي من شعره في المديح والغزل وغيرهما ما جانب السخف، وكان شعراً متخيراً حسناً جيداً ومن جيد شعره وجده هذه الأبيات:
يا صاحبي استيقظا من رقدة ... تزري على عقل اللبيب الأكيس
هذي المجرة والنجوم كأنها ... نهر تدفق في حديقة نرجس
وأرى الصبا قد غلست بنسيمها ... فعلام شرب الراح غير مغلس
قوما اسقياني قهوة رومية ... من عهد قيصر دنها لم يمس
صرفا تضيف إذا تسلط حكمها ... موت العقول إلى حياة الأنفس 
وأورد له أيضاً:
نمت بسري في الهوى أدمعي ... ودلت الواشي على موضعي
يا معشر العشاق إن كنتم ... مثلي وفي حالي فموتوا معي وأورد له أيضاً:
يا من إليها من ظلمها الهرب ... ردي فؤادي فقل ما يجب
ردي حياتي إن كنت منصفة ... ثم إليك الرضا أو الغضب
طلبت قلبي فلم أفتك به ... سبحان من لا يفوته الطلب
 ومن شعره:
قال قوم لزمت حضرة حمد ... وتجنبت سائر الرؤساء
قلت ما قاله الذي أحرز المع ... نى قديماً قبلي من الشعراء
" يسقط الطير حيث يلتقط الحب ... وتغشى منازل الكرماء " 
وهذا البيت الثالث لبشار بن برد، وقد ضمنه شعره.
[وأورد له أيضاً في الورد:
جنى في البستان لي وردة ... أحسن من إنجازه وعدي
وقال والوردة في كفه ... من قدح أذكى من الند
اشرب هنيئاً لك يا عاشقي ... ريقي من كفي على خدي ودعي ابن الحجاج إلى دعوة وتأخر عنه الطعام قليلاً فقال:
يا ذاهباً في داره جائياً ... بغير معنى وبلا فائدة
قد جن أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائدة]  [ومثل هذا ما ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني " قال: دعانا أبو محمد ابن الشاب يوماً ودعا جحظة البرمكي وأطال حبس الطعام جداً، وجاع جحظة فأخذ دواة وقرطاساً وكتب:
ما لي وللشاب وأولاده ... لا قدس الوالد والوالده
قد حفظوا القرآن واستعملوا ... ما فيه إلا سورة المائدة
ورمى بها إلي فقرأتها ودفعتها إلى ابن الشاب فقرأها ووثب مسرعاً وقدم الطعام وأكلنا وانصرفنا وقطعة جحظة بعد ذلك، فكان يجهد جهده في أن يجيبه فلا يفعل، فإذا عاتبناه قال: حتى يحفظ تلك السورة .
وكانت وفاة ابن الحجاج يوم الثلاثاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وثلثمائة بالنيل، وحمل إلى بغداد، رحمه الله تعالى، ودفن عند مشهد موسى بن جعفر، رضي الله عنه. وأوصى أن يدفن عند رجليه، وأن يكتب على قبره " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ".
وكان من كبار الشعراء الشيعة، ورآه  بعد موته بعض أصحابه في المنام، فسأله عن حاله، فأنشد:
أفسد سوء مذهبي ... في الشعر حسن مذهبي
وحملي الجد على ... ظهر حصان اللعب
لم يرض مولاي علي ... سبي لأصحاب النبي
وقال لي ويحك يا ... أحمق لم لم تتب
من سب قوم من رجا ... آلاءهم لم يخب
رمت الرضا جهلاً بما ... أصلاك نار اللهب]  ورثاه الشريف الرضي بقصيدة من جملتها  :
نعوه على حسن ظني به ... فلله ماذا نعي الناعيان
رضيع ولاء له شعبة ... من القلب مثل رضيع اللبان
وما كنت أحسب أن الزمان ... يفل مضارب ذاك اللسان
بكيتك للشرد السائرات ... تعنق ألفاظها بالمعاني
ليبك الزمان طويلاً عليك ... فقد كنت خفة روح الزمان والنيل - بكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام - وهي بلدة على الفرات بين بغداد والكوفة خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم، والأصل 
فيه نهر حفرة الحجاد بن يوسف في هذا المكان ومخرجه من الفرات وسماه باسم نيل مصر، وعليه قرى كثيرة.

الجمعة، 24 فبراير 2017

الخليع الشاعر

أبو علي الحسين بن الضحاك بن ياسر الشاعر البصري المعروف بالخليع، مولى لولد سلمان بن ربيعة الباهلي الصحابي رضي الله عنه، وأصله من خراسان؛ وهو شاعر ماجن مطبوع حسن الافتنان في ضروب الشعر وأنواعه، واتصل في مجالسه الخلفاء إلى ما لم يتصل إليه إلا إسحاق بن إبراهيم النديم الموصلي، فإنه قاربه في ذلك أو ساواه، وأول من صحب منهم الأمين محمد بن هارون الرشيد، وكان اتصاله به في سنة ثمان وتسعين ومائة وهي السنة التي قتل فيها الأمين، ولم يزل مع الخلفاء بعده إلى أيام المستعين، [ما عدا المأمون، فإنه لم يدخل عليه ولم يختلط به وذلك لأنه رثى الأمين فقال:
هلا بقيت لسد فاقتنا ... أبداً وكان لغيرك التلف
وقد كان فيك لمن مضى خلف ... فاليوم أعوز بعدك الخلف فلما ورد المأمون بغداد أمر أن يكتب من يصلح لمنادمته من أهل الأدب فأثبت له قوم وذكر فيهم الحسين بن الضحاك فقال: أليس القائل: وكان لغيرك التلف والله لا أرى وجهه على الطريق؛ فلم يحظ في أيام المأمون بشيء]  .
[وقد كان وقت خدمته للمتوكل ضعف كبراً فكتب إليه يستعفيه من الخدمة بأبيات :
أسلفت أسلافك من خدمتي ... في مدتي إحدى وستينا
وكنت ابن عشرين وخمس وقد ... وفيت بضعاً وثمانينا
إني لمعروف بضعف القوى ... وإن تجلدت أحايينا
فإن تحملت على كبرتي ... خدمة أبناء الثلاثينا
هدت قواي ووهت أعظمي ... وصرت في العلة عزونا
وعزون هذا كان نديماً للمعتصم ثم للمتوكل .
وهو في الطبقة الأولى من الشعراء المجيدية وبينه وبين أبي نواس ماجريات لطيفة ووقائع حلوة. وسمي بالخليع لكثرة مجونه وخلاعته. ذكره ابن المنجم في كتابه " البارع " وأبو الفرج الأصبهاني في " الأغاني " وكل منهما أورد طرفاً من محاسن شعره، فمن ذلك قوله :
صل بخدي تلق عجيبا ... من معان يحار فيها الضمير
فبخديك للربيع رياض ... وبخدي للدموع غدير وله أيضاً:
أيا من طرفه سحر ... ويا من ريقه خمر
تجاسرت فكاشفت ... ك لما غلب الصبر
وما أحسن في مثل ... ك أن ينتهك الستر
فإن عنفني الناس ... ففي وجهك لي عذر وله:
لا وحبيك لا أصا ... فح بالدمع مدمعا
من بكى شجوه استرا ... ح وإن كان موجعا
كبدي في يهواك أس ... قم من أن تقطعا
لم تدع صورة الضنى ... في السقم موضعا وذكر في كتاب " الأغاني " أن هذه الأبيات أوردها أبو العباس ثعلب النحوي - المقدم ذكره - للخليع المذكور وقال: ما بقي من يحسن أن يقول مثل هذا.
وله:
إذا خنتم بالغيب عهدي فمالكم  ... تدلون إدلال المقيم على العهد
صلوا وافعلوا فعل المدل بوصله ... وإلا فصدوا وافعلوا فعل ذي الصد 
وله من قصيدة:
سقى الله عصراً لم أبت فيه ليلة ... من الدهر إلا من حبيب على وعد
وذكر أبو عبد الله ابن حمدون عن الحسين بن الضحاك قال: كان يألفني 
فتى من أهل الشام عجيب الخلقة والشكل غليظ جلف جاف، فكنت أحتمل ذلك منه وكان حظي التعجبن منه، وكان يأتيني بكتب عشقية له ما رأيت كتبا أحلى منها ولا أظرف ولا أشكل من معانيها، ويسألني أن أجيب عنها فأجهد نفسي في الجوابات وأصرف عنايتي إليها على علمي أن الشامي بجهله لا يميز بين الخطإ والصواب، ولا يفرق بين الابتداء والجواب، فلما طال ذلك علي حسدته وتنبهت على إفساد حاله عندها فسألته عن اسمها فقال: بصبص، فكتبت إليها عنه في جواب كتاب منها كان جاءني به:
أرقصني حبك يا بصبص ... والحب يا سيدتي يرقص
أرمصت أجفاني لطول البكا ... فما لأجفانك لا ترمص
أوحشني وجهك كذاك الذي ... كأنه من حسنه عصعص
قال: فجاءني بعد ذلك فقال: يا أبا علي ما كان ذنبي إليك وما أردت بما صنعت بي فقلت له: وما ذاك عافاك الله فقال: ما هو إلا أن وصل إليها ذلك الكتاب حتى بعثت إلي: إني مشتاقة إليك والكتاب لا ينوب عن الرؤية، فتعالى إلى الروشن الذي بالقرب من بابنا، فقف بحياله حتى أراك؛ فتزينت بأحسن ما قدرت عليه وصرت إلى الموضع، فبينا أنا واقف أنتظر مكلماً لي أو مشيراً إلي وإذا شيء قد صب علي فملأني من فرقي إلى قدمي فأفسد ثيابي وسرجي وصبرني وجميع ما علي ودابتي في نهاية السواد والنتن والقذر، وإذا هو ماء قد خلط ببول وسواد وسرجين، وانصرفت بخزى وكان ما مر بي من الصبيان وسائر من مررت به من الطنز والضحك والصياح أعظم مما جرى علي ولحقني من أهلي ومن منزلي، وشر من ذلك وأعظم من كل ما ذكرت أن رسلها انقطعت عني جملة، قال: فجعلت أعتذر إليه وأقول: إن الآفة أنها لم تفهم الشعر لجودته، وأنا أحمد الله على ما ناله وأسر بالشماتة به .
[حدث محمد بن جعفر بن قدامة عن محمد بن عبد الملك قال: كنا في مجلس 
ومعنا الحسين بن الضحاك ونحن على شراب وعندنا مغنية فعبث الخليع بالمغنية وجمشها فصاحت بالحسين واستخفت به، فأنشأ الخليع يقول (1) :
لها في خدها عكن ... وثلثا وجهها ذقن
وأسنان كريش البط ... بين أصولها عفن قال: فضحكنا وبكت المغنية حتى قلنا إنها عميت وما انتفعنا بها بقية يومنا؛ وشاع هذان البيتان فكسدت من أجلهما، وكانت إذا حضرت في مجلس أنشدوا البيتين فتجن؛ ثم إنها هربت من سر من رأى فما عرفنا لها بعد ذلك خبراً.
حدث الصولي عن أحمد بن حمدون قال: أمر المتوكل بأن ينادمه الحسين بن الضحاك ويلازمه فلم يطق ذلك لكبر سنه، فقيل له: هو يطيق الذهاب إلى القرى والمواخير فيشرب فيها ويعجز عن خدمتك، فبلغه ذلك؛ قال ابن حمدون: فدفع إلي أبياتاً فأوصلتها إلى المتوكل وهي قوله (2) :
أما في ثمانين وفيتها ... عذير وإن أنا لم أعتذر
فكيف وقد جزتها صاعداً ... مع الصاعدين بتسع أخر
وقد رفع الله أقلامه ... عن ابن ثمانين دون البشر
سوى من أصر على فتنة ... وألحد في دينه أو كفر
وإني لمن أسراء الإله ... في الأرض نصب صروف القدر
فإن يقض لي عملاً صالحاً ... أناب وإن يقض سوءاً غفر
وقد بسط الله لي عذره ... فمن ذا يلوم إذا ما عذر
وما للحسود وأشياعه ... وكذب بالوحي إلا حجر  قال ابن حمدون: فلما أوصلتها شفعتها بكلام أعتذر وأقول: لو أطاق خدمة 
أمير المؤمنين لكان أسعد بها، فقال المتوكل: صدقت، خذ له عشرة آلاف درهم فاحملها إليه، فأخذتها وحملتها  .
حدث أبو العيناء قال: حج الحسين بن الضحاك فمر في منصرفه على موضع يعرف بالقريتين، وإذا جارية كأنها القمر في ليلة التم تتطلع من تحت ثيابها وتنظر إلى حرها ثم تضربه بيدها وهي تقول: ما أضيعني وأضيعك، فأنشأ الحسين يقول (2) :
مررت بالقريتين منصرفاً ... من حيث يقضي ذوو الهوى النسكا
إذا فتاة كأنها قمر ... للتم لما توسط الفلكا
واضعة كفها على حرها ... تقول واضيعتي وضيعتكا
 قال: فلما سمعت قوله ضحكت وغطت وجهها وقالت: وافضيحتاه وقد سمعت ما قلت!
وقال الحسين بن الضحاك: كنت جالساً في داري في يوم شات وقد أفطر المأمون وأمر الناس بالإفطار فجاءتني رقعة الحسن بن رجاء يقول فيها  :
هززتك للصبوح وقد نهاني ... أمير المؤمنين عن الصيام
وعندي من قيان الكرخ عشر ... يطيب بها مصافحة المدام
ومن أمثالهن إذا انتشينا ... ترانا نجتني ثمر الحرام
فكن أنت الجواب فليس شيء ... أحب إلي من حذف الكلام
 فوردت رقعته وقد أرسل إلى محمد بن الحارث غلاماً له نظيف الوجه ومعه ثلاثة غلمان حسان، ومعه رقعة منشورة قد ختم أسفلها مثل المناشير في في ثلاث من بني الروم إلى دار حسين ... فاسخص الكهل إلى مولاك يا قرة عيني ... أره العنف إن استعصى وطالبه بدين ... ودع اللفظ وكلمه بغمز الحاجبين ... واحذر الرجعة من وجهك في خفي حنين ... قال: فمضيت مع غلمان محمد بن الحارث وتركت الحسن .
وكانت وفاته سنة خمسين ومائتين وقد قارب مائة سنة، رحمه الله تعالى. وقال الخطيب في " تاريخ بغداد "، يقال: إنه ولد في سنة اثنتين وستين ومائة.

ابن سينا


الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المشهور؛ كان أبوه من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى، وكان من العمال الكفاة، وتولى العمل بقرية من ضياع بخارى يقال لها خرميثنا (2) من أمهات قراها، وولد الرئيس أبو علي وكذلك أخوه بها، واسم أمه ستارة (3) وهي من قرية يقال لها أفشنة بالقرب من خرميثنا. [ولما ولد أبو علي كان الطالع السرطان درجة شرف المشتري والقمر على شرف درجته والزهرة على درجة شرفها وسهم السعادة في تسع من السرطان وسهم الغيب في أول السرطان مع سهيل والشعرى اليمانية] (4) . ثم انتقلوا إلى بخارى، وتنقل الرئيس بعد ذلك في البلاد، واشتغل بالعلوم وحصل الفنون، [ولما بلغ (5) عشر سنين من عمره كان قد أتقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة، ثم توجه 
نحوهم الحكيم أبو عبد الله الناتلي (1) ، فأنزله أبو الرئيس أبي علي عنده، فابتدأ أبو علي يقرأ عليه كتاب إيساغوجي واحكم عليه علم المنطق وإقليدس والمجسطي وفاقه أضعافاً كثيرة، حتى أوضح له منها رموزاً وفهمه إشكالات لم يكن للناتلي يد بها، وكان مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد، يقرأ ويبحث ويناظر، ولما توجه الناتلي نحو خوارزم شاه مأمون بن محمد اشتغل أبو علي بتحصيل العلوم كالطبيعي والإلهي وغير ذلك، ونظر في النصوص والشروح وفتح الله عليه أبواب العلوم، ثم رغب بعد ذلك في علم الطب وتأمل الكتب المصنفة فيه، وعالج تأدباً لا تكسباً، وعلمه حتى فاق فيه الأوائل والأواخر في أقل مدة وأصبح فيه عديم القرين فقيد المثل، واختلف إليه فضلاء هذا الفن وكبراؤه يقرؤون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، وسنه إذ ذاك نحو ست عشرة سنة. وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها ولا اشتغل في النهار بسوى المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضأ وقصد المسجد الجامع، وصلى ودعا الله عز وجل أن يسهلها عليه ويفتح مغلقها له.
وذكر عند الأمير نوح بن نصر الساماني (2) صاحب خراسان في مرض مرضه فأحضره وعالجه حتى برئ، واتصل به وقرب منه، ودخل إلى دار كتبه وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها مما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه فضلاً عن معرفته، فظفر أبو علي فيها يكتب من علم الأوائل وغيرها وحصل نخب فوائدها واطلع على أكثر علومها، واتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة، فتفرد أبو علي بما حصله من علومها، وكان يقال: إن أبا علي توصل إلى إحراقها لينفرد بمعرفة ما حصله منها وينسبه إلى نفسه.
ولم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها التي عاناها، وتوفي أبوه وسن أبي علي اثنتان وعشرون سنة، وكان يتصرف 
هو ووالده في الأحوال ويتقلدان للسلطان الأعمال.
ولما اضطربت أمور الدولة السامانية خرج أبو علي من بخارى إلى كركانج، وهي قصبة خوارزم، واختلف إلى خوارزم شاه علي بن مأمون بن محمد، وكان أبو علي على زي الفقهاء ويلبس الطيلسان، فقرروا له في كل شهر ما يقوم به، ثم انتقل إلى نسا وأبيورد وطوس وغيرها من البلاد، وكان يقصد حضرة الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير في أثناء هذه الحال، فلما أخذ قابوس وحبس في بعض القلاع حتى مات - كما سيأتي شرحه في ترجمته في حرف القاف من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى - ذهب أبو علي إلى دهستان ومرض بها مرضاً صعباً، وعاد إلى جرجان، وصنف بها الكتاب الأوسط - ولهذا يقال له " الأوسط الجرجاني " - واتصل به الفقيه أبو عبيد الجوزجاني، واسمه عبد الواحد، ثم انتقل إلى الري واتصل بالدولة، ثم إلى قزوين ثم إلى همذان، وتولى الوزارة لشمس الدولة، ثم تشوش العسكر عليه، فأغاروا على داره ونهبوها وقبضوا عليه وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أطلق فتوارى، ثم مرض شمس الدولة بالقولنج فأحضره لمداواته واعتذر إليه وأعاده وزيراً، ثم مات شمس الدولة وتولى تاج الدولة فلم يستوزره، فتوجه إلى أصبهان وبها علاء الدولة أبو جعفر ابن كاكويه، فأحسن إليه.
وكان أبو علي قوي المزاج، وتغلب عليه قوة الجماع حتى أنهكته ملازمته وأضعفته ولم يكن يداوي مزاجه، وعرض له قولنج، فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات فقرح بعض أمعائه وظهر له سحج، واتفق سفره مع علاء الدولة، فحصل له الصرع الحادث عقيب القولنج، فأمر باتخاذ دانقين من كرفس في جملة ما يحقن به، فجعل الطبيب الذي يعالجه فيه خمسة دراهم منه، فازداد السحج به من حدة الكرفس فطرح بعض غلمانه في بعض أدويته شيئاً كبيراً من الأفيون، وكان سببه أن غلمانه خانوه في شيء، فخافوا عاقبة أمره عند برئه؛ وكان مذ حصل له الألم يتحامل ويجلس مرة بعد أخرى ولا يحتمي ويجامع، فكان يمرض أسبوعاً ويصلح أسبوعاً، ثم قصد علاء الدولة همذان من أصبهان ومعه الرئيس أبو علي، فحصل له القولنج في الطريق ووصل إلى همذان وقد 
ضعف جداً وأشرفت قوته على السقوط، فأهمل المداواة وقال: المدبر الذي في بدني قد عجز عن تدبيره فلا تنفعني المعالجة، ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم مات في التاريخ الذي يأتي في آخر ترجمته إن شاء الله تعالى] (1) .
وكان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه، وصنف كتاب " الشفاء " في الحكمة، و " النجاة " و " الإشارات " و " القانون " وغير ذلك مما يقارب مائة مصنف ما بين مطول ومختصر ورسالة في فنون شتى، وله رسائل بديعة: منها رسالة " حي بن يقظان " ورسالة " سلامان وابسال " ورسالة " الطير " وغيرها، وانتفع الناس بكتبه، وهو أحد فلاسفة المسلمين.
وله شعر، فمن ذلك قوله في النفس:
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت فلم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما ألفت فلما واصلت ... ألف مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهوداً بالحمى ... ومنازلاً بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخضع
تبكي وقد نسيت عهوداً بالحمى ... بمدامع تهمي ولما تقلع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كل من لم يرفع
وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع
فهبوطها إذ كان ضربة لازم (2) ... لتكون سامعة لما لم تسمع
فلأي شيء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحكمه ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع
إذ عاقها الشرك الكثيف فصدها ... قفص عن الأوج الفسيح الأربع
فكأنها برق تألق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع ومن المنسوب إليه أيضاً، ولا أتحققه، قوله:
اجعل غذاءك كل يوم مرة ... واحذر طعاماً قل هضم طعام
واحفظ منيك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يراق في الأرحام وينسب إليه البيتان اللذان ذكرهما الشهرستان في أول كتاب " نهاية الأقدام " وهما  :
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم [ومن شعره أيضاً:
هذب النفس بالعلوم لترقى ... فترى الكل فهي للكل بيت
إنما النفس كالزجاجة والعل ... م سراج وحكمة الله زيت
فهي إن أشرقت فإنك حي ... وهي إن أظلمت فإنك ميت وفضائله كثيرة ومشهورة.
وكانت ولادته في سنة سبعين وثلثمائة في شهر صفر، وتوفي بهمذان يوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ودفن بها. وحكى شيخنا عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير في تاريخه الكبير  أنه توفي بأصبهان، والأول أشهر، رحمه الله تعالى.

الحلاج

أبو مغيث  الحسين بن منصور الحلاج الزاهد المشهور؛ هو من أهل البيضاء وهي بلدة بفارس، ونشأ بواسط والعراق، وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره، والناس في أمره مختلفون: فمنهم من يبالغ في تعظيمه، ومنهم من يكفر. ورأيت في كتاب " مشكاة الأنوار " تأليف أبي حامد الغزالي فصلاً طويلاً في حاله، وقد اعتذر عن الألفاظ التي كانت تصدر عنه مثل قوله " أنا الحق " وقوله " ما في الجبة إلا الله " وهذه الإطلاقات التي ينبو السمع عنها وعن ذكرها وحملها كلها على محامل حسنة، وأولها، وقال: هذا من فرط المحبة وشدة الوجد، وجعل هذا مثل قول القائل  :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
 وكان ابتداء حاله على ما ذكره عز الدين ابن الأثير في تاريخه أنه كان يظهر الزهد والتصوف والكرامات ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ويمد يده إلى الهواء ويعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب: قل هو الله أحد، ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما يأكلون وما يصنعون في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائر الناس، فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول؛ وبالجملة فإن الناس اختلفوا فيه اختلافهم في المسيح عليه السلام، فمن قائل إنه حل فيه جزء إلهي ويدعي فيه الربوبية، ومن قائل إنه ولي الله تعالى وأن الذي يظهر منه من جملة كرامات الصالحين، ومن قائل أنه ممخرق ومستغش وشاعر كذاب ومتكهن والجن تطيعه فتأتيه بالفاكهة بغير أوانها.
وكان قدم من خراسان إلى العراق وسار إلى مكة فأقام بها سنة في الحجر لا يستظل تحت سقف شتاء ولا صيفاً، وكان يصوم الدهر فإذا جاء العشاء أحضر له الخادم كوز ماء وقرصاً فيشربه ويعض من القرص ثلاث عضات من جوانبه ويترك الباقي ولا يأكل شيئاً آخر النهار. وكان شيخ الصوفية بمكة عبد الله المغربي يأخذ أصحابه إلى زيارة الحلاج فلم يجده في الحجر وقيل قد صعد إلى جبل أبي قبيس، فصعد إليه فرآه على صخرة حافياً مكشوف الرأس والعرق يجري منه إلى الأرض، فاخذ أصحابه وعاد ولم يكلمه وقال: هذا يتصبر ويتقوى على قضاء الله وسوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته؛ وعاد الحسين إلى بغداد. انتهى كلام ابن الأثير 
[وكان في سنة 299 ادعى للناس أنه إله وأنه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف من الناس، وانتشر له في الحاشية ذكر عظيم، ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية، فبعث به المقتدر إلى عيسى ليناظره، فأحضر مجلسه وخاطبه خطاباً فيه غلظة، فحكي انه تقدم إليه وقال له فيما بينه وبينه: قف من حيث انتهيت ولا تزد علي شيئاً وإلا خسفت الأرض من تحتك، وكلاماً في هذا المعنى، فتهيب عيسى مناظرته واستعفى منها فنقل في سنة 309 إلى حامد بن العباس الوزير، فحدث غلام لحامد كان موكلاً بالحلاج قال: دخلت عليه يوماً ومعي الطبق الذي عادتي أن أقدمه إليه كل يوم، فوجدته قد ملأ البيت بنفسه وهو من سقفه إلى أرضه وجوانبه ليس فيه موضع، فهالني ما رأيت منه ورميت الطبق من يدي وهربت؛ وحم هذا الغلام من هول ما رأى وبقي مدة محموماً، فكذبه حامد وشتمه وقال: ابعد عني؛ وكان دخوله إلى بغداد مشهراً على جمل وحبس في دار المقتدر، وأفتى العلماء بإباحة دمه.
وكان الحلاج قد أنفذ أحد أصحابه إلى بلد من بلدان الجبل ووافقه على حيلة يعملها، فخرج الرجل فأقام عندهم سنتين يظهر النسك والعبادة وقراءة القرآن والصوم، فغلب على البلد حتى إذا تمكن أظهر أنه عمي فكان يقاد إلى مسجده ويتعامى في كل أحد شهوراً، ثم أظهر أنه زمن فكان يحبو ويحمل إلى المسجد النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول أنه يطرق هذا البلد عبد صالح مجاب الدعوة تكون عافيتك على يديه ودعائه، فاطلبوا لي كل من يجتاز من الفقراء أو من الصوفية لعل الله تعالى أن يفرج عني، فتعلقت النفوس لورود العبد الصالح، ومضى الجل الذي بينه وبين الحلاج فقدم البلد ولبس الثياب الصوف الرقاق وتفرد في الجامع فقال الأعمى: احملوني إليه، فلما حصل عنده وعلم أنه الحلاج قال له: يا عبد الله رأيت في النوم كذا وكذا فادع الله تعالى لي، فقال: ومن أنا وما تحكي ثم دعا له ومسح يده عليه فقام مبصراً صحيحاً، فانقلب البلد وكثر الناس على الحلاج، فتركهم وخرج من البلد وأقام المتعافي المبرأ مما فيه شهوراً ثم قال لهم: إن من حق الله عندي ورده جوارحي علي أن أنفرد بالعبادة انفراداً أكثر من هذا، وان يكون مقامي في الغز، وقد عملت على الخروج إلى طرسوس، فمن كانت له حاجة يحملها، فأخرج هذا ألف درهم وقال: اغز بهذه عني، واخرج هذا مائة دينار وقال: اخرج بها غزاة من هناك، وأعطاه كل أحد شيئاً فاجتمع له ألوف دنانير ودراهم، فلحق بالحلاج وقاسمه عليها.
وكان قد جرى منه كلام في مجلس حامد وزير المقتدر بحضرة القاضي أبي عمر وقد قرئ عليه رقعة بخطه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه أفرد في داره شيئاً لا يلحقه نجاسة ولا يدخله أحد ومنع من يطرقه فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله طوافه بالبيت الحرام، فإذا انقضى ذلك وقضى من المناسك ما يقضي بمكة مثله جمع ثلاثين يتيماً وعمل لهم ما يمكنه من الطعام وأحضرهم إلى ذلك البيت وقدم إليهم ذلك الطعام وتولى خدمتهم بنفسه، فإذا أكلوا وغسلوا أيديهم كسا كل واحد منهم قميصاً ودفع إليه سبة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك قام له قيام الحج، فلما فرغ منها التفت إليه أبو عمر القاضي وقال له: من أين لك هذا قال: من كتاب " الإخلاص " للحسن البصري، فقال له أبو عمر: كذبت يا حلاج، اللهم قد سمعنا كتاب " الإخلاص " للحسن بمكة وليس فيه شيء مما ذكرت الخ.
ومن الشعر المنسوب إليه على اصطلاحهم وإشاراتهم قوله  :
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت، ولا ... لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
وقوله أيضاً على هذا الاصطلاح  :
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء 
وغير ذلك مما يجري هذا المجرى وينبني على هذا الأسلوب.
وقال أبو بكر ابن ثواية القصري: سمعت الحسين بن منصور وهو على الخشبة يقول:
طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرا
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرا والبيت الذي قبل قوله:
لا كنت إن كنت أدري ... ...
أرسلت تسأل عني كيف كنت وما ... لاقيت بعدك من هم ومن حزن وقيل: إن بعضهم كتب إلى أبي القاسم سمنون بن حمزة الزاهد يسأله عن حاله، فكتب إليه هذين البيتين، والله أعلم.
وبالجملة فحديثه طويل وقصته مشهورة والله يتولى السرائر.
وكان جده مجوسياً وصحب هو أبا القاسم الجنيد ومن في طبقته، وأفتى أكثر علماء عصرة بإباحة دمه.
ويقال: إن أبا العباس ابن سريج كان إذا سئل عنه يقول: هذا رجل خفي عني حاله، وما أقول فيه شيئاً  . وكان قد جرى منه كلام في مجلس حامد بن العباس وزير الإمام المقتدر بحضرة القاضي أبي عمر، فأفتى بحل دمه وكتب خطه بذلك وكتب معه من حضر المجلس من الفقهاء، فقال لهم الحلاج: ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي بما يبيحه  ، وأنا اعتقادي الإسلام ومذهبي السنة وتفضيل الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين وبقية العشرة من 
الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، ولي كتب في السنة موجودة في الوراقين فالله الله في دمي، ولم ينزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم إلى أن استكملوا ما احتاجوا إليه ونهضوا من المجلس، وحمل الحلاج إلى السجن.
وكتب الوزير إلى المقتدر يخبره بما جرى في المجلس وسير الفتوى، فعاد جواب المقتدر بأن القضاة إذا كانوا قد أفتوا بقتله فليسلم إلى صاحب الشرطة، وليتقدم إليه بضربه ألف سوط، فإن مات من الضرب وإلا ضربه ألف سوط أخرى؛ ثم تضرب عنقه، فسلمه الوزير إلى الشرطي وقال له ما رسم به المقتدر، وقال: إن لم يتلف بالضرب فتقطع يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم تحز رقبته وتحرق جثته، وإن خدعك وقال لك: أنا أجري الفرات ودجلة ذهباً وفضة، فلا تقبل ذلك منه ولا ترفع العقوبة عنه، فتسلمه الشرطي ليلاً، وأصبح يوم الثلاثاء لسبع بقين، وقيل لست بقين من ذي القعدة  ، سنة تسع وثلثمائة، فأخرجه عند باب الطاق، واجتمع من العامة خلق كثير لا يحصى عددهم، وضربه الجلاد ألف سوط، ولم يتأوه بل قال للشرطي لما بلغ ستمائة: ادع بي إليك، فإن لك عندي نصيحة تعدل فتح قسطنطينية  ، فقال له: قد قيل لي عنك إنك تقول هذا واكثر منه وليس إلى أن أرفع الضرب عنك سبيل، فلما فرغ ضربه قطع أطرافه الأربعة، ثم حز رأسه وأحرق جثته، ولما صارت رماداً ألقاها في دجلة، ونصب الرأس ببغداد على الجسر، وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوماً.
واتفق أن زادت دجلة في تلك السنة زيادة وافرة، فادعى أصحابه أن ذلك بسبب إلقاء رماده فيها. وادعى بعض أصحابه أنه لم يقتل، وإنما ألقى شبهه على عدو له.
[وادعى بعضهم أنه رآه في ذلك اليوم بعد الذي عاينوه من الحال التي جرت عليه وهو راكب على حمار في طريق النهروان وقال لهم: لعلكم مثل هؤلاء النفر الذين ظنوا أني هو المضروب والمقتول؛ ومن شعره المنسوب إليه:
متى سهرت عيني لغيرك أو بكت ... فلا بلغت ما أملت وتمنت
وإن أضمرت نفسي سواك فلا رعت ... بأرض المنى من وجنتيك وجنت] (1) وشرح حاله فيه طول، وفيما ذكرناه كفاية.
والحلاج: بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام وبعدها ألف ثم جيم. وإنما لقب بذلك لأنه جلس على حانوت حلاج واستقضاه شغلاً، فقال الحلاج: أنا مشتغل بالحلج، فقال له: امض في شغلي حتى أحلج عنك، فمضى الحلاج وتركه، فلما عاد رأى قطنه جميعه محلوجاً. [وقيل إنه كان يتكلم قبل أن ينسب إليه على الأسرار ويخبر عنها، فسمي بذلك حلاج الأسرار] .
والبيضاء: بفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الضاد المعجمة وبعدها همزة ممدودة (2) .
قلت: وبعد الفراغ من هذه الترجمة، وجدت في كتاب " الشامل " في أصول الدين، تصنيف الشيخ العلامة إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد الجويني رحمهما الله تعالى - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فصلاً ينبغي ذكره ههنا والتنبيه على الوهم الذي وقع فيه، فإنه قال، وقد ذكر طائفة من الأثبات الثقات: إن هؤلاء الثلاثة تواصوا على قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة، واستعطاف القلوب واستمالتها، وارتاد كل واحد منهم قطراً: أما الجنابي فأكناف الأحساء، وابن المقفع توغل في أطراف بلاد الترك، وارتاد الحلاج قطر بغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن درك الأمنية لبعد أهل العراق عن الانخداع؛ هذا آخر كلام إمام الحرمين، رحمه الله.
قلتك وهذا كلام لا يستقيم عند أرباب التواريخ، لعدم اجتماع الثلاثة المذكورين في وقت واحد: أما الحلاج والجنابي فيمكن اجتماعهما لأنهما كانا في عصر واحد، ولكن لا أعلم هل اجتمعا أم لا. والمراد بالجنابي هو أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام القرمطي، رئيس القرامطة 
وحديثهم وحروبهم وخروجهم على الخلفاء والملوك مشهور فلا حاجة إلى الإطالة بشرحه في هذا المكان، بل إن يسر الله تعالى تحرير التاريخ الكبير، فسأذكر فيه حديثهم مستوفى، إن شاء الله تعالى.
وبعد أن جرى ذكرهم، فينبغي أن نذكر منه فصلاً مختصراً ههنا، حتى لا يخلو هذا الكتاب من حديثهم، فأقول:
إن شيخنا عز الدين أبا الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير ذكر في تاريخه الكبير الذي سماه " الكامل " أول أمرهم، وأطال الحديث فيه، وشرح في كل سنة ما كان يجري لهم فيها، فاخترت ههنا شيئاً من ذلك طلباً للإيجاز.
وأول ما شرع فيه في سنة ثمان وسبعين ومائتين، فقال (1) : في هذه السنة تحرك قوم بسواد الكوفة يعرفون بالقرامطة، ثم بسط القول في ابتداء أمرهم، وحاصله: أن رجلاً أظهر العبادة والزهد والتقشف، وكان يسف الخوص ويأكل من كسبه وكان يدعو الناس إلى إمام من أهل البيت، رضي الله عنهم؛ وأقام على ذلك مدة، فاستجاب له خلق كثير، وجرت له أحوال أوجبت له حسن الاعتقاد فيه، وانتشر ذكرهم بسواد الكوفة.
 ثم قال شيخنا ابن الأثير بعد هذا في سنة ست وثمانين ومائتين (2) : وفي هذه السنة ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد الجنابي بالبحرين، واجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة وقوي أمره، فقتل من حوله من أهل تلك القرى. وكان أبو سعيد المذكور يبيع للناس الطعام، ويحسب لهم بيعهم، ثم عظم أمرهم وقربوا من نواحي البصرة، فجهز إليهم الخليفة المعتضد بالله جيشاً يقاتلهم مقدمة العباس بن عمرو الغنوي، فتواقعوا وقعة شديدة، وانهزم أصحاب العباس واسر العباس، وكان ذلك في آخر شعبان سنة سبع وثمانين فيما بين البصرة والبحرين. وقتل أبو سعيد الأسري وأحرقهم، واستبقى 
العباس ثم أطلقه بعد أيام وقال له: امض إلى صاحبك وعرفه ما رأيت، فدخل بغداد في شهر رمضان من السنة، وحضر بين يدي المعتضد فخلع عليه.
ثم إن القرامطة دخلوا بلاد الشام في سنة تسع وثمانين ومائتين، وجرت بين الطائفتين وقعات يطول شرحها.
ثم قتل أبو سعيد المذكور في سنة إحدى وثلثمائة (1) ، قتله خادم له في الحمام وقام مقامه ولده أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد، ولما قتل أبو سعيد كان قد استولى على هجر والقطيف والطائف وسائر بلاد البحرين.
 وفي سنة إحدى عشرة وثلثمائة (2) في شهر ربيع الآخر منها، قصد أبو طاهر وعسكره البصرة وملكوها بغير قتال، بل صعدوا إليها ليلاً بسلالم الشعر، فلما حصلوا بها واحسوا بهم ثاروا إليهم فقتلوا متولي البلاد ووضعوا السيف في الناس فهربوا منهم، وأقام أبو طاهر سبعة عشر يوماً يحمل منها الأموال، ثم عاد إلى بلده، ولم يزالوا يعيشون في البلاد ويكثرون فيها الفساد من القتل والسبي والنهب والحريق إلى سنة سبع عشرة وثلثمائة، فحج الناس فيها، وسلموا في طريقهم.
ثم وافاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية، فنهبوا أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه؛ وقلع الحجر الأسود وأنفذه إلى هجر، فخرج إليه أمير مكة في جماعة من الأشراف فقاتلوه فقتلهم أجمعين وقلع باب الكعبة، واصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام من غير كفن ولا غسل ولا صلاة على أحد منهم. وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهيب دور أهل مكة، فلما بلغ ذلك المهدي عبيد الله صاحب إفريقية - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - كتب إليه ينكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة، ويقول له: حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا الكفر واسم الإلحاد بما قد فعلت، فإن لم 
ترد على أهل مكة وعلى الحجاج وغيرهم ما قد أخذت منهم، وترد الحجر الأسود إلى مكانه وترد كسوة الكعبة، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة. فلما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر، واستعاد ما أمكنه من أموال أهل مكة فرده. ثم ذكر شيخنا ابن الأثير في سنة تسع وثلاثين وثلثمائة أن القرامطة ردوا الحجر إلى مكة وقالوا: أخذناه بأمر وأعدناه بأمر. وكان بجكم التركي أمير بغداد والعراق قد بذل لهم في رده خمسين ألف دينار فلم يردوه، وردوه الآن. وقال غير شيخنا: إنهم ردوه إلى مكانه من الكعبة المعظمة لخمس خلون من ذي القعدة، وقيل من ذي الحجة من السنة، في خلافة المطيع لله، وإنه لما أخذوه تفسخ تحته ثلاثة جمال قوية من ثقله، وحملوه لما أعادوه على جمل واحد ضعيف فوصل به سالماً.
قلت: وهذا الذي ذكره شيخنا - من كتاب المهدي إلى القرمطي في معنى الحجر، وأنه رده لذلك - لا يستقيم، لأن المهدي توفي سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة، وكان رد الحجر في سنة تسع وثلاثين، فقد ردوه بعد موته بسبع عشرة سنة، والله أعلم.
ثم قال شيخنا عقيب هذا: ولما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة، وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة.
قلت: وقد ذكر غير شيخنا أن الذي رده هو ابن سنبر، وكان من خواص أبي سعيد.
ثم ذكر شيخنا في سنة ستين وثلثمائة  أن القرامطة وصلوا إلى دمشق فملكوها وقتلوا جعفر بن فلاح نائب المصريين - وقد سبق في ترجمة جعفر المذكور طرف من خبر هذه القضية - ثم بلغ عسكر القرامطة إلى عين شمس، وهي على باب القاهرة، وظهروا عليهم، ثم انتصر أهل مصر عليهم فرجعوا عنهم.
قلت: وعلى الجملة فالذي فعلوه في الإسلام لم يفعله أحد قبلهم ولا بعدهم من  
المسلمين، وقد ملكوا كثيراً من بلاد العراق والحجاز وبلاد الشرق والشام إلى باب مصر، ولما أخذوا الحجر تركوه عندهم في هجر، وقتل أبو طاهر المذكور في سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة.
والقرمطي: بكسر القاف وسكون الراء وكسر الميم وبعدها طاء مهملة؛ والقرمطة في اللغة تقارب الشيء بعضه من بعض، يقال: خط مقرمط، ومشي مقرمط، إذا كان كذلك. وكان أبو سعيد المذكور قصيراً مجتمع الخلق أسمر كريه المنظر، فلذلك قيل له قرمطي. وقد ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني فصلاً طويلاً من أحوالهم في كتاب " كشف أسرار الباطنية ".
وأما الجنابي: فإنه بفتح الجيم وتشديد النون وبعد الألف باء موحدة، وهذه النسبة إلى جنابة، وهي بلدة من أعمال فارس متصلة بالبحرين عند سيراف، والقرامطة منها، فنسبوا إليها.
والأحساء - بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وبعدها سين مهملة ثم همزة ممدودة - وهي كورة في تلك الناحية، فيها بلاد كثيرة منها جنابة المذكورة وهجر والقطيف - وهي بفتح القاف وكسر الطاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها فاء - وغير ذلك من البلاد؛ والأحساء: جمع حسي - بكسر الحاء وسكون السين المهملة - والحسي: ماء تنشفه الأرض من الرمل، فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر العرب عنه الرمل فتستخرجه. ولما كانت هذه الأرض كثيرة الأحساء سميت بهذا الاسم، وصار علماً عليها لا تعرف إلا به.
وأما البحرين فقد قال الجوهري في كتاب " الصحاح ": البحرين بلد، والنسبة إليه بحراني، وقال الأزهري: إنما ثنوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر الأعظم عشرة فراسخ، وقدرت البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يغيض ماؤها، وهو راكد زعاق، وهذه النواحي كلها بلاد العرب، وهي وراء البصرة تتصل بأطراف الحجاز وهي على ساحل البحر المتصل باليمن والهند، بالقرب من جزيرة قيس ابن عميرة وهي التي تسميها العامة كيش، وهي في وسط البحر بين عمان وبلاد فارس، وفي تلك الناحية أيضاً رامهرمز وغيرها من البلاد، والله أعلم.

وأما ابن المقفع فهو عبد الله ابن المقفع الكاتب المشهور بالبلاغة، صاحب الرسائل البديعة، وهو من أهل فارس، وكان مجوسياً فأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور الخليفتين الأولين من خلفاء بني العباس، ثم كتب له واختص به. ومن كلامه " شربت من الخطب ريا، ولم أضبط لها رويا، فغاضت ثم فاضت، فلا هي هي نظاما، وليست غيرها كلاما ". وقال الهيثم ابن عدي: جاء ابن المقفع إلى عيسى بن علي فقال له: قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك، فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر؛ ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام فقال: أكره أن أبيت على غير دين، فلما أصبح أسلم على يده.
وكان ابن المقفع مع فضله يتهم بالزندقة، فحكى الجاحظ أن ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم؛ قال بعضهم: فكيف نسي الجاحظ نفسه وكان المهدي بن المنصور الخليفة يقول: ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع؛ وقال الأصمعي: صنف ابن المقفع المصنفات الحسان منها " الدرة اليتيمة " التي لم يصنف في فنها مثلها؛ وقال الأصمعي: قيل لابن المقفع: من أدبك فقال: نفسي، إذا رأيت من غيري حسناً أتيته وإن رأيت قبيحاً أبيته. واجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد صاحب العروض، فلما افترقا قيل للخليل: كيف رايته فقال: علمه أكثر من عقله، وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل فقال: عقله أكثر من علمه. ويقال: إن ابن 
    المقفع هو الذي وضع كتاب " كليلة ودمنة "، وقيل: إنه لم يضعه وإنما كان باللغة الفارسية فعربه ونقله إلى العربية، وإن الكلام الذي في أول هذا الكتاب من كلامه. وكان ابن المقفع يعبث بسفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة أمير البصرة وينال من أمه ولا يسميه إلا بابن المغتلمة، وكثر ذلك منه، فقدم سليمان وعيسى ابنا علي البصرة - وهما عما المنصور - ليكتبا أماناً لأخيهما عبد الله بن علي من المصور، وكان عبد الله المذكور قد خرج على ابن أخيه المنصور وطلب الخلافة لنفسه، فأرسل إليه المنصور جيشاً مقدمه أبو مسلم الخراساني، فانتصر أبو مسلم عليه. وهرب عبد الله بن علي إلى أخويه سليمان وعيسى، واستتر عندهما خوفاً على نفسه من المنصور، فتوسطا له عند المنصور ليرضى عنه، ولا يؤاخذه بما جرى منه، فقبل شفاعتهما، واتفقوا على أن يكتب له أمان من المنصور، وهذه الواقعة مشهورة في كتب التواريخ. وقد أتيت منها في هذا المكان بما تدعو الحاجة إليه لينبني الكلام بعضه على بعض. فلما أتيا البصرة قالا لعبد الله ابن المقفع: اكتبه أنت وبالغ في التأكيد كي لا يقتله المنصور. وقد ذكرت أن ابن المقفع كان كاتباً لعيسى بن علي، فكتب ابن المقفع الأمان وشدد فيه حتى قال في جملة فصوله: " ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله بن علي، فتساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته ".
    وكان ابن المقفع يتنوق في الشروط فلما وقف عليه المنصور عظم ذلك عليه، وقال: من كتب هذا فقالوا له: رجل يقال له عبد الله ابن المقفع يكتب لأعمامك، فكتب إلى سفيان متولي البصرة المقدم ذكره يأمره بقتله، وكان سفيان شديد الحنق عليه للسبب الذي تقدم ذكره، فاستأذن ابن المقفع يوماً على سفيان، فأخر إذنه حتى خرج من كان عنده، ثم أذن له فدخل، فعدل به إلى حجرة فقتل فيها.
    وقال المدائني: لما دخل ابن المقفع على سفيان، قال له: أتذكر ما كنت تقول في أمي فقال: أنشدك الله أيها الأمير في نفسي، فقال: أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد، وأمر بتنور فسجر، ثم أمر بابن المقفع
    فقطعت أطرافه عضواً عضواً، وهو يلقيها في التنور، وهو ينظر، حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق عليه التنور، وقال: ليس علي في المثلة بك حرج لأنك زنديق وقد أفسدت الناس.
    وسأل سليمان وعيسى عنه فقيل: إنه دخل دار سفيان سليماً ولم يخرج منها، فخاصماه إلى المنصور، وأحضراه إليه مقيداً، وحضر الشهود الذين شاهدوه وقد دخل داره ولم يخرج، فأقاموا الشهادة عند المنصور، فقال لهم المنصور: أنا أنظر في هذا الأمر، ثم قال لهم: أرأيتم إن قتلت سفيان به ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت - وأشار إلى باب خلفه - وخاطبكم ما تروني صانعاً بكم أأقتلكم بسفيان! فرجعوا كلهم عن الشهادة، وأضرب عيسى وسليمان عن ذكره، وعلموا أن قتله كان برضا المنصور. ويقال: إنه عاش ستاً وثلاثين سنة.
    وذكر الهيثم بن عدي أن ابن المقفع كان يستخف بسفيان كثيراً، وكان أنف سفيان كبيراً، فكان إذا دخل عليه قال: السلام عليكما، يعني نفسه وأنفه؛ وقال له يوماً: ما تقول في شخص مات وخلف زوجاً وزوجة يسخر به على رؤوس الناس، وقال سفيان يوماً: ما ندمت على سكوت قط، فقال له ابن المقفع: الخرس زين لك فكيف تندم عليه! وكان سفيان يقول: والله لأقطعنه إرباً إرباً وعينه تنظر، وعزم على أن يغتاله، فجاءه كتاب المنصور بقتله فقتله.
    وقال البلادري: لما قدم عيسى بن علي البصرة في أمر أخيه عبد الله بن علي قال لابن المقفع: اذهب إلى سفيان في أمر كذا وكذا، فقال: ابعث إليه غيري، فإني أخاف منه، فقال: اذهب فأنت في أماني، فذهب إليه ففعل به ما ذكرناه، وقيل: إنه ألقاه في بئر المخرج وردم عليه الحجارة، وقيل أدخله حماماً وأغلق عليه بابه فاختنق.
    قلت: ذكر صاحبنا شمس الدين أبو المظفر يوسف الواعظ سبط الشيخ جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي الواعظ المشهور في تاريخه الكبير الذي سماه " مرآة الزمان " أخبار ابن المقفع وما جرى له وقتله في سنة خمس وأربعين ومائة، ومن عادته أن يذكر كل واقعة في السنة التي كانت فيها، فيدل على أن قتله كان في 
    السنة المذكورة، وفي كلام عمر بن شبه في كتاب " أخبار البصرة " ما يدل على أن ذلك كان في سنة اثنتين وأربعين ومائة أو ثلاث وأربعين.
    ولا خلاف في أن سليمان بن علي المقدم ذكره مات في سنة اثنتين وأربعين ومائة، وقد ذكرنا أنه قام مع أخيه عيسى بن علي في طلب ثأر ابن المقفع، فيدل أيضاً على أنه قتل في هذه السنة، والله أعلم.
    وابن المقفع له شعر، وهو مذكور في كتاب " الحماسة "، وسيأتي في ترجمة أبي عمرو ابن العلاء المقرئ له مرثية فيه. وقد قيل: إنها لولده محمد بن عبد الله ابن المقفع على ما ذكرته هناك من الخلاف، فلينظر فيه (1) . وكيفما كان، فإن تاريخ قتله لم يكن بعد سنة خمس وأربعين ومائة وإنما كان فيها أو فيما قبلها، وإذا كان كذلك، فكيف يتصور أن يجتمع بالحلاج والجنابي - كما ذكره إمام الحرمين رحمه الله تعالى - ومن ها هنا حصل الغلط، وايضاً فإن ابن المقفع لم يفارق العراق، فكيف يقول: إنه توغل في بلاد الترك، وإنما كان مقيماً بالبصرة ويتردد في بلاد العراق، ولم تكن بغداد موجودة في زمنه، فإن المنصور أنشأها في مدة خلافته: فاختطها في سنة أربعين ومائة، واستتم بناءها ونزلها في سنة ست وأربعين، وفي سنة تسع وأربعين تم جميع بنائها، وهي بغداد القديمة التي كانت بالجانب الغربي على دجلة، وهي بين الفرات ودجلة كما جاء في الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تنشأ مدينة في هذا المكان، وهذا الحديث هو الذي ذكره الخطيب أبو بكر البغدادي في أول تاريخه الكبير وقد غاب عني الآن لفظه فلهذا لم أذكره. وبغداد في هذا الزمان هي الجديدة التي في الجانب الشرقي وفيها دور الخلفاء، وهي قاعدة الملك في هذا الوقت، وكان السفاح وأخوه المنصور قد نزلا بالكوفة، ثم بنى السفاح بليدة عن الأنبار سماها الهاشمية، فانتقلا إليها، ثم انتقلا إلى الأنبار، وبها مت السفاح وقبره ظاهر بها، وأقام المنصور على ذلك إلى أن بنى بغداد فانتقل إليها.
    والمقفع - بضم الميم وفتح القاف وتشديد الفاء وفتحها وبعدها عين مهملة - واسمه داوديه، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي في أيام ولايته العراق وبلاد فارس قد ولاه خراج فارس فمد يده وأخذ الأموال، فعذبه فتقفعت يده فقيل له المقفع، وقيل: بل ولاه خالد بن عبد الله القسري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وعذبه يوسف بن عمر الثقفي الآتي ذكره لما تولى العراق بعد خالد، والله أعلم أي ذلك كان.
    وقال ابن مكي في كتاب " تثقيف اللسان " ويقولون: ابن المقفع والصواب ابن المقفع - بكسر الفاء - لأن أباه كان يعمل القفاع ويبيعها.
    قلت: والقفاع بكسر القاف جمع قفعة بفتح القاف، وهي شيء يعمل من الخوص شبيه الزبيل لكنه بغير عروة، والقول الأول هو المشهور بين العلماء، وهو فتح الفاء.
    قلت: ولما وقفت على كلام إمام الحرمين - رحمه الله تعالى - ولم يمكن أن يكون ابن المقفع أحد الثلاثة المذكورين قلت: لعله أراد المقنع الخراساني الذي ادعى الربوبية، وأظهر القمر - كما شرحته في ترجمته بعد هذا في حرف العين - فإن اسمه عطاء، ويكون الناسخ قد حرف كلام إمام الحرمين فأراد أن يكتب المقنع فكتب المقفع فإنه يقرب منه في الخط. فيكون الغلط والتحريف من الناسخ لا من الإمام، ثم أفكرت في أنه لا يستقيم أيضاً، لأن المقنع الخراساني قتل نفسه بالسم في سنة ثلاث وستين ومائة - كما ذكرناه في ترجمته - فما أدرك الحلاج والجنابي أيضاً.
     وإذا أردنا تصحيح هذا القول وأن ثلاثة اجتمعوا واتفقوا على الصورة التي ذكرها إمام الحرمين فما يمكن أن يكون الثالث إلا ابن الشلمغاني، فإنه كان في عصر الحلاج والجنابي، وأموره كلها مبنية على التمويهات، وقد ذكره جماعة من أرباب التاريخ، فقال شيخنا عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير في سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة فصلاً طويلاً اختصرته  ، وهو: وفي هذه 
السنة قتل أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن ابي العزاقر، وسبب ذلك أنه أحدث مذهباً غالياً في التشيع والتناسخ وحلول الإلهية فيه، إلى غير ذلك مما يحكيه، وأظهر ذلك من فعله أبو القاسم الحسين بن روح الذي تسميه الأمامية " الباب " فطلب ابن الشلمغاني فاستتر وهرب إلى الموصل وأقام سنين، ثم انحدر إلى بغداد وظهر عنه أنه يدعي الربوبية، وقيل: إنه تبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الذي وزر للمقتدر بالله وابنا بسطام وإبراهيم بن أحمد بن أبي عون وغيرهم، وطلبوا في أيام وزارة ابن مقلة للمقتدر فلم يوجدوا، فلما كان في شوال سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة ظهر ابن الشلمغاني، فقبض عليه ابن مقلة وحبسه وكبس داره، فوجد فيها رقاعاً وكتباً ممن يدعي أنه على مذهبه يخاطبونه بما لا يخاطب به البشر بعضهم بعضاً، فعرضت على ابن الشلمغاني فأقر أنها خطوطهم وأنكر مذهبه، واظهر الإسلام، وتبرأ مما يقال فيه. وأحضر ابن أبي عون وابن عبدوس معه عند الخليفة، فأمر بصفعه فامتنعا، فلما أكرها مد ابن عبدوس يده فصفعه، وأما ابن أبي عون فإنه مد يده إلى لحيته ورأسه، وارتعدت يده وقبل لحية ابن الشلمغاني ورأسه وقال: إلهي وسيدي ورازقي، فقال له الخليفة الراضي بالله: قد زعمت أنك لا تدعي الإلهية فما هذا فقال: وما علي من قول ابن أبي عون والله يعلم أنني ما قلت له إنني إله قط، فقال ابن عبدوس: إنه لم يدع إلهية، إنما ادعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر، ثم أحضروا مرات ومعهم الفقهاء والقضاة، وفي آخر الأمر أفتى الفقهاء بإباحة دمه، فأحرق بالنار في ذي القعدة من سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة.
 وذكره محب الدين بن النجار في " تاريخ بغداد " في ترجمة ابن أبي عون المذكور وقال: إن ابن أبي عون ضربت عنقه بعد أن ضرب بالسياط ضرباً مبرحاً لمتابعته ابن الشلمغاني، وصلب ثم أحرق بالنار، وذلك في يوم الثلاثاء لليلة خلت من ذي القعدة من السنة المذكورة.
قلت: وابن أبي عون هو صاحب التصانيف المليحة منها " التشبيهات " و " الأجوبة المسكتة " وغير ذلك، وكان من أعيان الكتاب.
والشلمغاني - بفتح الشين المعجمة وسكون اللام وبعدها ميم ثم غين معجمة وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى شلمغان، وهي قرية بنواحي واسط، وقد ذكره السمعاني في كتاب " الأنساب " أيضاً، والله أعلم.

ابن خميس الكعبي

أبو عبد الله  الحسين بن نصر بن محمد بن الحسين بن القاسم بن خميس بن عامر المعروف بابن خميس الكعبي الموصلي الجهني الملقب تاج الإسلام مجد الدين الفقيه الشافعي؛ أخذ الفقه عن أبي حامد الغزالي ببغداد وعن غيره، وولي القضاء برحبة مالك بن طوق، ثم رجع إلى الموصل وسكنها، وصنف كتباً كثيرة، منها " مناقب الأبرار "  على أسلوب رسالة القشيري، ومنها " مناسك الحج " و " أخبار المنامات ".
ذكره الحافظ أبو سعد السمعاني في تاريخه، وأثنى عليه.
وكان يروي عن أبي إسحاق إبراهيم بن عثمان الكلبي الغزي الشاعر - المقدم ذكره - في وزير عميد الدولة ابن جهير، قوله:
من آلة الدست لم يؤت الوزير ... ....... (البيتين)  وخميس جدة الأعلى.
وتوفي في شهر ربيع الاخر سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ، رحمه الله تعالى.
والجهني - بضم الجيم وفتح الهاء وبعدها نون - هذه النسبة إلى جهينة، وهي قرية قريبة من الموصل تجاور القرية التي فيها العين المعروفة بعين القيارة

الوني الحاسب

أبو عبد الله الحسين بن محمد الوني الفرضي الحاسب؛ كان إماماً في الفرائض وله فيها تصانيف كبيرة مليحة أجاد فيها، وسمع الحديث من أصحاب أبي علي الصفار وغيرهم، وسمع منه أبو حكيم عبد الله بن إبراهيم الخبري صاحب " التخليص " في الحساب والخطيب التبريزي وغيرهما، وهو شيخ الخبري في علم الحساب والفرائض، وانتفع به وبكتبه خلق كثير.
وتوفي شهيداً ببغداد في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة في فتنة البساسيري المقدم ذكره.
والوني - بفتح الواو وتشديد النون - هذه النسبة إلى ون، وهي قرية من أعمال قهستان أظنه منها.

الحليمي

أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الفقيه الشافعي المعروف بالحليمي الجرجاني؛ ولد بجرجان  سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، وحمل إلى بخاري، وكتب الحديث عن أبي بكر محمد بن أحمد بن حبيب وغيره، وتفقه على أبي بكر الأودني  وأبي بكر القفال، ثم صار إماماً معظماً مرجوعاً إليه بما وراء النهر، وله في المذهب وجوه حسنة، وحدث بنيسابور وروى عنه الحافظ الحاكم وغيره.
وتوفي في جمادى الأولى - وقيل في شهر ربيع الأول - سنة ثلاث وأربعمائة، رحمه الله تعالى، ونسبته إلى جده حليم المذكور.

الفراء البغوي

أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد، المعروف بالفراء، البغوي الملقب ظهير الدين  الفقيه الشافعي المحدث المفسر؛ كان بحراً في العلوم، وأخذ الفقيه عن القاضي حسين بن محمد - كما تقدم في ترجمته - وصف في تفسير كلام الله تعالى، وأوضح المشكلات من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الحديث ودرس، وكان لا يلقي الدرس إلا على الطهارة، وصنف كتباً كثيرة، منها كتاب " التهذيب " في الفقه، وكتاب " شرح السنة " في الحديث، و " معالم التنزيل " في تفسير القرآن الكريم، وكتاب " المصابيح " و " الجمع بين الصحيحين " وغير ذلك.
توفي في شوال سنة عشر وخمسمائة  بمروروذ، ودفن عند شيخه القاضي حسين بمقبرة الطالقان، وقبره مشهور هنالك، رحمه الله تعالى.
ورأيت في كتاب " الفوائد السفرية " التي جمعها الشيخ الحافظ زكي الدين

أبو علي السنجي

أبو علي الحسين بن شعيب بن محمد السنجي الفقيه الشافعي؛ أحد الأئمة المتقنين  ، أخذ الفقه بخراسان عن أبي بكر عبد الله القفال المروزي هو والقاضي حسين الذي تقدم ذكره والشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وشرح الفروع التي لأبي بكر ابن الحداد المصري  شرحاً لم يقاربه فيه أحد، مع كثرة شروحها، فإن القفال شيخه شرحها، والقاضي أبو الطيب الطبري شرحها، وغيرهما، وشرح أيضاً كتاب " التلخيص "  لأبي العباس ابن القاض شرحاً كبيراً، وهو قليل الوجود، وله كتاب " المجموع " وقد نقل منه أبو حامد الغزالي في كتاب " الوسيط " وهو أول من جمع بين طريقتي العراق وخراسان، وكان فقيه أهل مرو في عصره.
وكان يقال في عصره: الأئمة بخراسان ثلاثة: مكثر محقق ومقل محقق ومكثر غير محقق، فالمكثر المحقق أبو علي السنجي والمقل المحقق أبو محمد الجويني 
والمكثر غير المحقق ناصر المروزي  .
وكانت وفاته في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.
والسنجي - بكسر السين المهملة وسكون النون وبعدها جيم - نسبة إلى سنج، وهي قرية كبيرة من قرى مرو.

القاضي حسين

أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد المرورودي الفقيه الشافعي المعروف بالقاضي صاحب التعليقة في الفقه؛ كان إماماً كبيراً صاحب وجوه غريبة في المذهب، وكلما قال إمام الحرمين في كتاب " نهاية المطلب " والغزالي في " الوسيط والبسيط ": " وقال القاضي " فهو المراد بالذكر لا سواه. أخذ الفقه عن أبي بكر القفال المروزي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في العبادلة - وصنف في الأصول والفروع والخلاف، ولم يزل يحكم بين الناس ويدرس ويفتي، وأخذ عنه الفقه جماعة من الأعيان، منهم أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي صاحب كتاب " التهذيب " وكتاب " شرح السنة " وغيرهما.
وتوفي في سنة اثنتين وستين وأربعمائة بمروروذ، رحمه الله تعالى.
وقد تقدم الكلام على مروروذ في حرف الهمزة.

ابن خيران

أبو علي الحسين بن صالح بن خيران الفقيه الشافعي؛ كان من جلة الفقهاء المتورعين وأفاضل الشيوخ، وعرض عليه القضاء ببغداد في خلافة المقتدر فلم يفعل، فوكل الوزير أبو الحسن علي بن عيسى بداره مترسماً، فخوطب في ذلك فقال: إنما قصدت ذلك ليقال كان في زماننا من وكل بداره ليتقلد القضاء فلم يفعل، وكان يعاتب أبا العباس ابن سريج على توليته، ويقول: هذا الأمر لم يكن فينا، وإنما كان في أصحاب أبي حنيفة، رضي الله عنه.
[ومثل هذا: دعا عثمان رضي الله عنه عبد الله بن عمر فقال: اذهب، كن قاضياً. قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين قال: لا، اذهب كن قاضياً، قال: لا تعجل يا أمير المؤمنين، ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من عاذ بالله فقد عاذ بمعاذ " قال: بلى، قال: فإني أعوذ بالله أن أكون قاضياً، قال: وما يمنعك من ذلك وأبوك كان يقضي بين الناس قال: يمنعني قول النبي 
صلى الله عليه وسلم ": من كان قاضياً بين المسلمين فقضى بجهل فهو في النار، ومن كان قاضياً بحق أو بعدل سأل أن ينفلت كفافاً، فما أرجو من القضاء بعد هذا.
وكانت وفاته يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة عشرين وثلثمائة، قاله أبو العلاء ابن العسكري، وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: توفي في حدود سنة عشر وثلثمائة، وصوبه الحافظ أبو بكر الخطيب في ذلك، وقال: وهم أبو العلاء العسكري  ، رحمه الله تعالى.
وخيران: بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعد الألف نون.

الكرابيسي صاحب الشافعي

أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي البغدادي؛ صاحب الإمام الشافعي، رضي الله عنهما، وأشهرهم بانتياب مجلسه وأحفظهم لمذهبه، وله تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه. وكان متكلماً عارفاً بالحديث، وصنف أيضاً في الجرح والتعديل وغيره، وأخذ عنه الفقه خلق كثير.
وتوفي سنة خمس وأربعين، وقيل: سنة ثمان وأربعين ومائتين، وهو أشبه بالصواب، رحمه الله تعالى.
والكرابيسي - بفتح الكاف والراء وبعد الألف باء موحدة مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها سين مهملة - هذه النسبة إلى الكرابيس، وهي الثياب الغليظة، واحدها كرباس - بكسر الكاف - وهو لفظ فارسي  عرب وكان أبو علي المذكور يبيعها فنسب إليها.

فخر الكتاب الجويني

أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الملقب فخر الكتاب الجويني الأصل البغدادي الكاتب المشهور؛ كتب كثيراً، ونسخ كتباً توجد في أيدي الناس بأوفر الأثمان لجودة خطها ورغبتهم فيه، وذكره العماد الكاتب في " الخريدة " وبالغ في الثناء عليه، وقال: كان من ندماء أتابك زنكي بالشام، وأقام بعده عند ولده نور الدين محمود في ظل الإكرام، ثم سافر إلى مصر في أيام ابن رزيك، وتوطن بها إلى هذه الأيام، وليس بمصر الآن من يكتب مثله، وأورد له مقطوع  شعر كتبه إلى القاضي الفاضل، ولولا أنه طويل لذكرته.
وتوفي سنة أربع وثمانين، وقيل: ست وثمانين وخمسمائة، بالقاهرة، رحمه الله تعالى  .

الخميس، 23 فبراير 2017

الوزير نظام الملك

أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الملقب نظام الملك قوام الدين الطوسي؛ ذكر السمعاني، في كتاب " الأنساب " في ترجمة الراذ كان، أنها بليدة صغيرة بنواحي طوس، قيل إن نظام الملك كان في نواحيها ( ، وكان من أولاد الدهاقين، واشتغل بالحديث والفقه، ثم اتصل بخدمة علي بن شاذان المعتمد عليه بمدينة بلخ - وكان يكتب له - فكان يصادره في كل سنة، فهرس منه وقصد داود بن ميكائيل بن سلجوق، والد السلطان ألب أرسلان فظهر له منه النصح والمحبة، فسلمه إلى ولده ألب أرسلان وقال له: اتخذه والداً ولا تخالفه فيما يشير به، فلما ملك ألب أرسلان - كما سيأتي في موضعه من حرف الميم إن شاء الله تعالى - دبر أمره فأحسن التدبير، وبقي في خدمته عشر سنين، فلما مات ألب أرسلان وازدحم أولاده على الملك وطد المملكة لولده ملك شاه فصار الأمر كله لنظام الملك، وليس للسلطان إلا التخت والصيد، وأقام على هذا عشرين سنة.
ودخل على الإمام المقتدى بالله، فأذن له في الجلوس بين يديه، وقال له: يا حسن، رضي الله عنك برضاء أمير المؤمنين عنك.
وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والصوفية، وكان كثير الإنعام على الصوفية، وسئل عن سبب ذلك فقال: أتاني صوفي وأنا في خدمة بعض الأمراء فوعظني وقال: اخدم من تنفعك خدمته ولا تشتغل بمن تأكله الكلاب غداً، فلم أعلم 
معنى قوله، فشرب ذلك الأمير من الغد [إلى الليل] وكانت له كلاب كالسباع تفترس الغرباء بالليل، فغلبه السكر فخرج وحده فلم تعرفه الكلاب فمزقته، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك، فأنا أخدم الصوفية لعلي أظفر بمثل ذلك.
وكان إذا سمع الأذان أمسك عن جميع ما هو فيه. وكان إذا قدم عليه إمام الحرمين أبو المعالي وأبو القاسم القشيري [ويروى له أيضاً - أعني نظام الملك -:
تقوس بعد طول العمر ظهري ... وداستني الليالي أي دوس
فأمشي والعصا تمشي أمامي ... كأن قوامها وتر بقوس] (1) وكانت ولادة نظام الملك يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة بنوقان، إحدى مدينتي طوس، وتوجه صحبة ملك شاه إلى أصبهان، فلما كانت ليلة السبت عاشر شهر رمضان سنة خمس وثمانين وأربعمائة أفطر وركب في محفته (2) ، فلما بلغ إلى قرية قريبة من نهاوند يقال لها سحنة (3) ، قال: هذا الموضع قتل فيه خلق كثير من الصحابة زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم أجمعين، فطوبى لمن كان معهم، فاعترضه في تلك الليلة صبي ديلمي على هيئة الصوفية معه قصة، فدعا له وسأله تناولها، فمد يده ليأخذها فضربه بسكين في فؤاده، فحمل إلى مضربه فمات، وقتل القاتل في الحال بعد أن هرب، فعثر في طنب خيمة فوقع، وركب السلطان إلى معسكره، فسكنهم وعزاهم، وحمل إلى أصبهان ودفن بها.
وقيل: إن السلطان دس عليه من قتله فإنه سئم طول حياته، واستكثر ما بيده من الاقطاعات، ولم يعش السلطان بعده سوى خمس وثلاثين يوماً، فرحمه الله تعالى لقد كان من حسنات الدهر.
ورثاه شبل الدولة أبو الهيجاء مقاتل بن عطية بن مقاتل البكري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكان ختنه فإن نظام الملك زوجه ابنته - فقال  :
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... نفيسة صاغها الرحمن من شرف
عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف
 
احب الرسالة بالغ في إكرامهما وأجلسهما في مسنده. وبنى المدارس والربط والمساجد في البلاد  ، وهو أول من أنشأ المدارس فأقتدى به الناس. وشرع في عمارة مدرسته ببغداد سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وفي سنة تسع وخمسين جمع الناس على طبقاتهم ليدرس بها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، فلم يحضر، فذكر الدرس أبو نصر ابن الصباغ، صاحب " الشامل "، عشرين يوماً، ثم جلس الشيخ أبو إسحاق بعد ذلك. وهذا الفصل قد استقصيته في ترجمة أبي نصر عبد السيد بن الصباغ صاحب " الشامل " فلينظر هناك. وكان الشيخ أبو إسحاق إذا حضر وقت الصلاة خرج منها وصلى في بعض المساجد، وكان يقول: بلغني أن أكثر آلاتها غصب .
وسمع نظام الملك الحديث وأسمعه، وكان يقول: إني لأعلم أني لست أهلاً لذلك، ولكني أريد أربط  نفسي في قطار  النقلة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروى له من الشعر قوله:
بعد الثمانين ليس قوه ... قد ذهبت شره الصبوه
كأنني والعصا بكفي ... موسى ولكن بلا نبوه
وقيل: إن هذين البيتين لأبي الحسن محمد بن أبي الصقر الواسطي - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -.
وقد قيل: إنه قتل بسبب تاج الملك أبي الغنائم المرزبان بن خسروفيروز المعروف بابن دارست ، فإنه كان عدو نظام الملك، وكان كبير المنزلة عند مخدومه ملك شاه، فلما قتل رتبه موضعه في الوزارة، ثم إن غلمان نظام الملك وثبوا عليه فقتلوه وقطعوه إرباً إرباً في ليلة الثلاثاء ثاني عشر المحرم من سنة ست وثمانين وأربعمائة، وعمره سبع وأربعون سنة، وهو الذي بنى على قبر الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى.

الوزير المهلبي

أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي المهلبي الوزير؛ كان وزير معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه الديلمي - المقدم ذكره في حرف الهمزة - تولى وزارته يوم الاثنين لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة. وكان من ارتفاع القدر واتساع الصدر وعلو الهمة وفيض الكف على ما هو مشهور به، وكان غاية في الأدب والمحبة لأهله. وكان قبل اتصاله بمعز الدولة في شدة عظيمة من الضرورة والضائقة، وكان قد سافر مرة ولقي في سفره مشقة صعبة واشتهى اللحم فلم يقدر عليه فقال ارتجالاً :
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد ... وددت لو أنني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس  حر ... تصدق بالوفاة على أخيه

 وكان معه رفيق يقال له: ابو عبد الله الصوفي، وقيل أبو الحسين العسقلاني، فلما سمع الأبيات اشترى له بدرهم لحماً وطبخه وأطعمه، وتفارقا. وتنقلت بالمهلبي الأحوال، وتولى الوزارة ببغداد لمعز الدولة المذكور، وضاقت الحال برفيقه في السفر الذي اشترى له اللحم  ، وبلغه وزارة المهلبي فقصده وكتب إليه:
ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقالة مذكر  ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لنضك عيش  ... " ألا موت يباع فأشتريه "
فلما وقف عليه تذكره وهزته أريحية الكرم، فأمر له في الحال بسبعمائة درهم ووقع في رقعته  (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) ثم دعا به فخلع عليه وقلده عملاً يرتفق به.
ولما ولي المهلبي الوزارة بعد تلك الإضاقة عمل:
رق الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرقي
فأنالني ما أرتجيه ... وحاد عما (5) أتقى
فلأطفحن عما أتا ... هـ  من الذنوب السبق
حتى جنايته بما ... صنع المشيب بمفرقي وله أيضاً  :
قال لي من أحب والبين قد ج ... د وفي مهجتي لهيب الحريق
ما الذي في الطريق تصنع بعدي ... قلت أبكي عليك طول الطريق
ومن المنسوب إليه في وقت الإضاقة من الشعر ما كتبه إلى بعض الرؤساء،
وقيل إنهما لأبي نواس:
ولو أني استزدتك فوق ما بي ... من البلوى لأعوزك المزيد
ولو عرضت على الموتى حياة ... بعيش مثل عيشي لم يريدوا
وقال أبو إسحاق الصابئ صاحب الرسائل: كنت يوماً عند الوزير المهلبي فأخذ ورقة وكتب، فقلت بديها  :
له يد برعت جوداً بنائلها ... ومنطق دره في الطرس ينتثر
فحاتم كامن في بطن راحته ... وفي أناملها سحبان مستتر
وكان لمعز الدولة  مملوك تركي في غاية الجمال، يدعى تكين الجامدار، وكان شديد المحبة له، فبعث سرية لمحاربة بعض بني حمدان وجعل المملوك  المذكور مقدم الجيش، وكان الوزير المهلبي يستحسنه ويرى أنه من أهل الهوى لا مدد الوغى، فعمل فيه:
طفل يرق الماء في ... وجناته ويرف عوده
ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره ... سيفاً ومنطقة تؤوده
جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده 
وكذا كان، فإنه ما أنجح في تلك الحركة، وكانت الكرة عليهم.
ومن شعره النادر في الرقة قوله  :
تصارمت الأجفان لما صرمتني ... فما نلتقي إلا على عبرة تجري
ومحاسن الوزير المهلبي كثيرة.
وكانت ولادته ليلة الثلاثاء لأربع بقين من المحرم سنة إحدى وتسعين ومائتين بالبصرة. وتوفي يوم السبت لثلاث بقين من شعبان  سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة في طريق واسط، وحمل إلى بغداد، فوصل إليها ليلة الأربعاء لخمس خلون من شهر رمضان من السنة المذكورة، ودفن في مقابر قريش في مقبرة النوبختية، رحمه الله تعالى.
والمهلبي - بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام المفتوحة وبعدها باء موحدة - هذه النسبة إلى المهلب المذكور أولاً، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ولما مات الوزير المذكور رثاه أبو عبد الله الحسين بن الحجاج الشاعر المشهور  - وسيأتي ذكره - بقوله:
يا معشر الشعراء دعوة موجع ... لا يرتجى فرج السلو لديه
عزوا القوافي بالوزير فإنها ... تبكي دماً بعد الدموع عليه
مات الذي أمسى الثناء وراءه ... والعفو عفو الله  بين يديه
هدم الزمان بموته الحصن الذي ... كنا نفر من الزمان إليه
فليعلمن بنو بويه أنه ... فجعت به أيام آل بويه