الأحد، 30 أبريل 2017

أبو بكر ابن فورك

    الأستاذ أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك المتكلم الأصولي الأديب النحوي الواعظ الصبهاني؛ أقام بالعراق مدة يدرس العلم، ثم توجه إلى الري فسمعت به المبتدعة، فراسله أهل نيسابور والتمسوا منه التوجه إليهم، ففعل وورد نيسابور، فبنى له بها مدرسة ودارا، وأحيا الله تعالى به أنواعا من العلوم، ولما استوطنها وظهرت بركاته على جماعة المتفقهة وبلغت مصنفاته في أصول الفقه والدين ومعاني القرآن قريبا من مائة مصنف، دعي إلى مدينة غزنة وجرت له بها مناظرات كثيرة.
    ومن كلامه: شغل العيال نتيجته متابعة الشهوة بالحلال، فما ظنك بقضية شهوة الحرام
    وكان شديد الرد على أصحاب أبي عبد الله ابن كرام.
    ثم عاد إلى نيسابور فسم في الطريق فمات هناك ونقل إلى نيسابور ودفن بالحيرة، ومشهده بها ظاهر يزار ويستسقى به وتجاب الدعوة عنده، وكانت وفاته سنة ست وأربعمائة، رحمه الله تعالى. وقال أبو القاسم القشيري في الرسالة  سمعت أبا علي الدقاق يقول: دخلت على أبي بكر ابن فورك عائدا فلما رآني دمعت عيناه، فقلت له: إن الله سبحانه يعافيك ويشفيك، فقال لي: ترامي أخاف من الموت، إنما أخاف مما وراء الموت. وفورك: بضم الفاء وسكون الواو وفتح الراء وبعدها كاف، وهو اسم علم.
    والحيرة: بكسر الحاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعدها هاء ساكنة، وهي محلة كبيرة بنيسابور ينسب إليها جماعة من أهل العلم، وهي تلتبس بالحيرة التي بظاهر الكوفة.
    وغزنة: بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي وفتح النون بعدها هاء ساكنة، وهي مدينة عظيمة في أوائل الهند من جهة خراسان.

أبو الحسين البصري

أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المتكلم على مذهب المعتزلة؛ وهو أحد أئمتهم لأعلام المشار إليه في هذا الفن، كان جيد الكلام مليح العبارة غزير المادة، إمام وقته، وله التصانيف الفائقة في أصول الفقه، منه المعتمد وهو كتاب كبير، ومنه أخذ فخر الدين الرازي كتاب المحصول وله تصفح الأدلة في مجلدين، وغرر الأدلة في مجلد كبير، وشرح الأصول الخمسة وكتاب في الإمامة، وغير ذلك في أصول الدين، وانتفع الناس بكتبه  .
وسكن بغداد وتوفي بها يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، ودفن في مقبرة الشونيزي، وصلى عليه القاضي أبو عبد الله الصيمري.
ولفظة المتكلم تطلق على من يعرف علم الكلام، وهو أصول الدين، وإنما قيل له " علم الكلام " لأن أول خلاف وقع في الدين كان في كلام الله، عز وجل: أمخلوق هو أم غير مخلوق فتكلم الناس فيه، فسمي هذا النوع من العلم كلاما، اختص به وإن كانت العلوم جميعها تنشر بالكلام، هكذا قاله السمعاني .

أبو بكر الباقلاني

    القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القسم، المعروف بالباقلاني البصري المتكلم المشهور؛ كان على مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، ومؤيدا اعتقاده وناصرا طريقته، وسكن بغداد، وصنف التصانيف الكثيرة المشهورة في علم الكلام وغيره ، وكان في علمه أوحد زمانه وانتهت إليه الرياسة في مذهبه، وكان موصوفا بجوده الاستنباط وسرعة الجواب، وسمع الحديث؛ وكان كثير التطويل في المناظرة مشهورا بذلك عند الجماعة، وجرى يوما بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة، فأكثر القاضي أبو بكر المذكور فيها الكلام ووسع العبارة وزاد في الإسهاب، ثم التفت إلى الحاضرين وقال اشهدوا على أنه إن أعاد ما قلت لاغير لم أطالبه بالجواب، فقال الهاروني: اشهدوا علي أنه إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال.
    وتوفي القاضي أبو بكر المذكور آخر يوم السبت، ودفن يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد، رحمه الله تعالى، وصلى عليه ابنه الحسن، ودفنه في داره بدرب المجوس، ثم نقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب.
    ورثاه بعض شعراء عصره بقوله:
    انظر إلى جبل تمشي الرجال به ... وانظر إلى القبر مايحوي من الصلف
    وانظر إلى صارم الإسلام مغتمدا ... وانظر إلى درة الإسلام في الصدف
     والباقلاني: بفتح الباء الموحدة وبعد الألف قاف مكسورة ثم لام ألف وبعدها نون، هذه النسبة إلى الباقلي وبيعه، وفيه لغتان: من شدد اللام قصر الألف ومن خفتها مد الألف فقال: باقلاء، وهذه النسبة شاذة لأجل زيادة النون فيها، وهو نظير قولهم في النسبة إلى صنعاء صنعاني، وإلى بهراء: بهرانين وقد أنكر الحريري في كتاب درة الغواص  هذه النسبة وقال: من قصر الباقلي قال في النسبة إليه: باقلي، ومن مد قال في النسب إليه  : باقلاوي وباقلائي ولايقاس على صنعاء وبهراء، لأن ذلك شاذ لايعاج إليه، والسمعاني ما أنكر النسبة الأولى ، والله أعلم بالصواب.

أبو علي الجبائي

    أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن جمران بن أبان، مولى عثمان بن عفان، رضي الله عنه، المعروف بالجبائي أحد أئمة المعتزلة؛ كان إماما في علم الكلام، وأخذ هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشحام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره، وله في مذهب الاعتزاك مقالات مشهورة، وعنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري شيخ السنة علم الكلام، وله معه مناظرة روتها  العلماء، فيقال إن أبا الحسن  المذكور سأل أستاذه أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة: أحدهم كان مؤمنا برا تقيا، والثاني كان كافرا فاسقا شقيا، والثالث كان صغيرا، فماتوا فكيف حالهم فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة، فقال الأشعري:
    إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس مني، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة، فقال الجبائي: يقول الباري جل وعلا: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت وصرت مستحقا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك، فقال الأشعري: فلو قال الأخ الكافر: ياإله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني فقال الجبائي للأشعري: انك لمجنون فقال لا بل وقف حمار الشيخ في العقبة  فانقطع الجبائي وهذه المناظرة دالة على أن الله تعالى خص من شاء برحمته، وخص آخر بعذابه، وأن أفعاله غير معللة بشيء من الأغراض  .
    ثم وجدت في تفسير القرآن العظيم تصنيف الشيخ فخر الدين الرازي في سورة الأنعام: أن الأشعري لما فارق مجلس الأستاذ  الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما، فاتفق يوما أن الجبائي عقد مجلس التذكير، وحضر عنده عالم من الناس، فذهب الأشعري إلى ذلك المجلس، وجلس في بعض النواحي مختفيا عن الجبائي، وقال لبعض من حضره  من النساء: أنا أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ، ثم علمها سؤالا بعد سؤال، فلما انقطع الجبائي في الأخير رأى الأشعري، فعلم أن المسألة منه لا من العجوز.
    ورأيت في كتاب المسالك والممالك لابن حوقل في فصل خوزستان أن جبى مدينة ورستاق عريض مشتبك العمائر  بالنخل وقصب السكر وغيرهما. قال: ومنها أبو علي الجبائي الشيخ الجليل إمام المعتزلة ورئيس المتكلمين في عصره. 
    وكانت ولادة الجبائي في سنة خمس وثلاثين ومائتين. وتوفي في شعبان سنة ثلاث وثلثمائة، رحمه الله تعالى.
    وقد سبق ذكر ولده أبي هاشم عبد السلام، والكلام على الجبائي في حرف العين  .

أبو الهذيل العلاف

    أبو الهذيل محمد الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي، المعروف المتكلم؛ كان شيخ البصريين في الاعتزال، ومن أكبر علمائهم، وهو صاحب مقالات في مذهبهم ومجالس ومناظرات، وهو مولى عبد القيس  .
    وكان حسن الجدال قوي الحجة كثير الاستعمال للأدلة  والإلزامات. حكي أنه لقي صالح بن عبد القدوس، وقد مات له ولد وهو شديد الجزع عليه، فقال له أبو الهذيل: لاأعرف لجزعك عليه وجها، إذ كان الإنسان عندك
    كالزرع، قال صالح: ياأبا الهذيل، إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوكفقال له: كتاب الشكوك ما هو يا صالح قال: هو كتاب قد وضعته من قرأه يشك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، ويشك فيما لم يكن حتى يتوهم أنه قد كان، فقال له أبو الهذيل: فشك أنت في موت ابنك، واعمل على انه لم يمت، وإن كان قد مات، وشك أيضا في قراءته كتاب الشكوك وإن كان لم يقرأه.
    ولأبي الهذيل كتاب يعرف بميلاس وكان ميلاس رجلا مجوسيا فأسلم وكان سبب إسلامه أنه جمع بين أبي الهذيل المذكور وجماعة من التنويه، فقطعهم أبو الهذيل، فأسلم ميلاس عند ذلك.
    وكان  قد اجتمع عند يحيى بن خالد البرمكي جماعة من أرباب الكلام فسألهم عن حقيقة العشق، فتكلم كل واحد بشيء، وكان أبو الهذيل المذكور في جملتهم، فقال: أيها الوزير، العشق يختم على النواظر ويطبع على الأفئدة، مرتعة في الأجسسام ومشرعة في الأكباد، وصاحبه متصرف الظنون متفنن الأوهام، لايصفو له مرجو ولايسلم له موعود، تسرع إليه النوائب. وهو جرعة من نقيع الموت ونقعة من حياض الثكل، غير أنه من أريحية تكون في الطبع وطلاوة توجد في الشمائل، وصاحبه جواد لايصغي إلى داعية المنع ولا يصيخ لنازع العذل. وكان المتكلمون ثلاثة عشر شخصا، وأبو الهذيل ثالث من تكلم منهم، ولولا خوف الإطالة لذكرت كلام الجميع.
    ورأيت في بعض المجاميع أن أعرابية وصفت العشق  ، فقلت في صفته: خفي عن أن يرى وجل عن أن يخفى، فهو كامن ككمون النار في الحجر: إن قدحته أورى وإن تركته توارى، وإن لم يكن شعبة من الجنون فهو عصارة السحر.
    وكانت ولادة أبي الهذيل سنة إحدى - وقيل أربع، وقيل خمس - وثلاثين ومائة. وتوفي سنة خمس وثلاثين ومائتين بسر من رأى؛ وقال الخطيب البغدادي توفي سنة ست وعشرين، وقال المسعودي في كتاب مروج الذهب: إنه توفي سنة سبع وعشرين ومائتين، رحمه الله تعالى  ، وكان قد كف بصره وخرف في آخر عمره، إلا أنه كان لايذهب عليه شيء من الأصول، لكنه ضعف عن مناهضة المناظرين وحجاج المخالفين، وضعف خاطره.

الطرطوشي

    أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب القرشي الفهري الأندلسي الطرطوشي الفقيه المالكي الزاهد، المعروف بابن أبي رندقة؛ صحب أبا الوليد الباجي - المقدم ذكره  - بمدينة سرقسطة، وأخذ عنه مسائل الخلاف وسمع منه، وأجاز له  ،وقرأ الفرائض والحساب بوطنه، وقرأ الأدب على أبي محمد ابن حزم - المقدم ذكره - بمدينة إشبيلية، ورحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة وحج ودخل بغداد والبصرة، وتفقه على أبي بكر محمد بن أحمد الشاشي المعروف بالمستظهري الفقيه الشافعي - وقد تقدم ذكره - وعلى أبي أحمد  الجرجاني، وسكن الشام مدة ودرس بها.
    وكان إماما عالما كامل زاهدا ورعا دينا متواضعا متقشفا متقلالا من الدنيا راضيا منها باليسير، وكان يقول: إذا عرض لك أمران دنيا وأمر أخرى فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى، وكان كثيرا ما ينشد:
    إن لله عبادا فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
    فكروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي وطنا
    جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا 
    ولما دخل على الأفضل شاهنشاه ابن امير الجيوش - المقدم ذكره في حرف الشين  - بسط مئزرا كان معه  وجلس عليه، وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فوعظ الأفضل حتى بكى، وأنشد:
    يا ذا الذي طاعته قربة وحقه مفترض واجب
    إن الذي شرفت من أجله يزعم هذا أنه كاذب
    وأشار إلى النصراني، فأقام الأفضل من موضعه. وكان الأفضل قد أنزل الشيخ في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد  وكان يكرهه، فلما طال مقامه به ضجر وقال لخادمه: إلى متى نصبر اجمع لي المباح، فجمع له فأكله ثلاثة أيام، فلما كان عند صلاة المغرب قال لخادمه: رميته الساعة، فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل، وولي بعده المأمون بن البطائحي، فأكرم الشيخ إكراما كثيرا، وصنف له كتاب سراج الهدى وهو حسن في بابه.
    وله من التصانيف سراج الملوك وكتاب بر الوالدين وكتاب الفتن وغير ذلك (4) ، وله طريقة في الخلاف. ورأيت أشعارا منسوبة عليه: فمن ذلك وقد ذكرها الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في الترجمة التي جمعها للطرطوشي المذكور، وهي:
    إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بإنجازها مغرم
    فأرسل بأكمه خلابة ... به صمم أغطش أبكم
    ودع عنك كل رسول سوى ... رسول يقال له الدرهم
    وقد سبق في ترجمة أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي بيتان يشتملان على أكثر ألفاظ (5) هذه الإبيات، وهما:إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بها كلف مغرم
    فأرسل حكيما ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم
    [وقال الطرشوشي المذكور: كنت ليلة نائما في بيت المقدس، فبننا أنا في جنح الليل غذ سمعت صوتا حزينا ينشد:
    أخوف ونوم إن ذا لعجب ... ثكلتك من قلب فأنت كذوب
    أما وجلال الله لو كنت صادقا ... لما كان للاغماض منك نصيب
    قال: فأيقظ النوام وابكى العيون] .
    وكانت ولادة الطرشوشي المذكور سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريبا. وتوفي ثلث الليل الأخير من ليلة السبت لأربع بقين من جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة بثغر الإسكندرية، وصلى عليه ولده محمد، ودفن في مقبرة وعلة قريبا من البرج الجديد قبلي الباب الأخضر، رحمه الله تعالى؛ وذكر ابن بشكوال في كتاب الصلة أنه توفي في شعبان من السنة المذكورة.
    [قلت: هكذا وجدت تاريخ وفاة هذا الشيخ في مواضع كثيرة، ثم ظفرت بدمشق في أوائل سنة ثمانين وستمائة بمشيخة جمعت لشيخنا القاضي بهاء الدين يوسف المعروف بابن شداد - المذكور في حرف الياء - ذكر فيها شيوخه الذين سمع عليهم ثم ذكر بعدهم الشيوخ الذين أجازوه فذكر في جملتهم الشيخ أبا بكر الطرشوشي المذكور؛ ولاخلاف أن ابن شداد مولده في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، فكيف يجيزه الطرطوشي ووفاته في سنة عشرين وخمسمائة فقد توفي قبل مولد ابن شداد بتسع عشرة سنة، وكان يمكن أن يقال: ربما وقع الغلط من الذي جمع المشيخة، لكن هذه النسخة التي رأيتها قرئت عليه، وكتب خطه عليها بالسماء فما بقي الغلط منسوبا إلى جامع المشيخة، بل يحتاج هذا إلى التحقيق من جهة أخرى وقد نبهت عليه ليكتشف عن ذلك من يقف عليه، ولا ينسبني إلى الغلط في ذلك، والله أعلم بالصواب] . 
    والطرطوشي: بضم الطاءين المهملتين بينهما راء ساكنة وبعدها واو ساكنة ثم شين معجمة، هذه النسبة إلى طرطوشة  ، وهي مدينة في آخر بلاد المسلمين بالأندلس على ساحل البحر وهي شرق الأندلس.
    ورندقة: بفتح الراء وسكون النون وفتح الدال المهملة والقاف، وهي لفظة فرنجية، سألت بعض الفرنج عنها فقال: معناها رد تعال .
    وقد تقدم الكلام على وعلة في ترجمة الحافظ أبيطاهر أحمد بن محمد السلفي رحمه الله تعالى.

محمد بن داود الظاهري

    أبو بكر محمد بن داود بن علي بن خلف الأصبهاني المعروف بالظاهري؛ كان فقيها أديبا شاعرا ظريفا، وكان يناظر أبا العباس ابن سريج - وقد سبق خبره معه في ترجمته - ولما توفي أبوه في التاريخ المذكور في ترجمة جلس ولده أبو بكر المذكور في حلقته، وكان على مذهب والده، فاستصغروه، فدسوا أليه رجلا وقالوا له: سله عن حد السكر، فأتاه الرجل فسأله عن السكر: ما هو ومتى يكون الإنسان سكران. فقال: إذا عزبت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم؛ فاستحسن ذلك منه، وعلم موضعه من العلم، وصنف في عنفوان شبابه كتابه الذي سماه الزهرة وهو مجموع أدب فيه بكل غريبة ونادرة وشعر رائق.
    واجتمع يوما هو وأبو العباس ابن سريج في مجلس الوزير ابن الجراح فتناظرا في الإيلاء، فقال ابن سريج: أنت بقولك من كثرت لحظاته دامت حسراته أبصر منك في الإيلاء، فقال له أبو بكر: لئن قلت ذلك فإني أقول:
    أنزه  في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
    وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما
    وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي رده لتكلما
    رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فما إن أرى حبا صحيحا مسلما
    فقل له ابن سريج: وبم تفتخر علي ولو شئت أنا لقلت:
    ومساهر بالغنج من لحظاته ... قد بت أمنعه لذيذ سناته
    ضنا بحسن حديثه وعتابه ... وأكرر اللحظات في وجناته
    حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولي بخاتم ربه وبراته
    فال أبو بكر: يحفظ الوزير عليه ذلك حتى يقيم شاهدي عدل انه ولي بخاتم ربه، فقال أبو العباس ابن سريج: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك:
    أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما فضحك الوزير وقال: لقد جمعتما ظرفا ولطفا وفهما وعلما.
    ورأيت في بعض المجاميع هذه الأبيات منسوبة إليه:
    لكل امرئ ضيف يسر بقربه ... وما لي سوى الأحزان والهم من ضيف
    له مقلة ترمي القلوب بأسهم ... أشد من الضرب المدارك بالسيف 
    يقول خليلي: كيف صبرك بعدنا ... فقلت: وهل صبر فاسأل عن كيف
    وحكى أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا أنه حضر مجلس محمد المذكور قال: فجاءه رجل فوقف عليه ورفع له رقعة، فأخذها وتأملها طويلا وظن تلامذته أنها مسألة، ثم قلبها وكتب على ظهرها وردها إلى صاحبها، فنظرنا فإذا الرجل علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر المشهور، وإذا في الرقعة  :
    يا ابن داود يا فقيه العراق ... أفتنا في قواتل الأحداق
    هل عليهن في الجروح قصاص ... أم مباح لها دم العشاق 
    وإذا الجواب:
    كيف يفتنكم قتيل صريع ... بسهام الفراق والإشتياق
    وقتيل التلاق أحسن حالا ... عند داود من قتيل الفراق
    وكان عالما في الفقه وله تصانيف عديدة: منها كتاب الوصول إلى معرفة الأصول وكتاب الإنذار وكتاب الإعذار  وكتاب الإنتصار على محمد ابن جرير وعبد الله بن شرشي وعيسى بن إبراهيم الضرير وغير ذلك.
    وتوفي يوم الاثنين تاسع  شهر رمضان سنة سبع وتسعين ومائتين وعمره اثنان وأربعون سنة، وقيل كانت وفاته سنة ست وتسعين، والأول أصح وفي يوم وفاته توفي يوسف بن يعقوب القاضي، رحمهما الله تعالى.
    ويحكى أنه لما بلغت وفاته  ابن سريج كان يكتب شيئا فألقى الكراسة من يده وقال: مات من كنت أحث نفسي وأجهدها على الاشتغال لمناظرته ومقاومته.

العميدي

    أبو حامد محمد بن محمد بن محمد - وقيل أحمد - العميدي، الفقيه الحنفي المذهب السمرقندي، الملقب ركن  الدين؛ كان إماما في فن الخلاف، خصوصا الجست  ، وهو أول من أفرده بالتصنيف ومن تقدمه كان يمزجه بخلاف المتقدمين، وكان اشتغاله فيه على الشيخ رضي الدين النيسابوري، وهو أحد الأركان الأربعة، فإنه كان من جملة المشتغلين علي رضي  الدين أربعة أشخاص تميزروا وتبحروا  في هذا الفن، وكل واحد منهم ينعت بالركن، وهم: ركن الدين الطاوسي - وقد سبق ذكره - والعميدي المذكور، وركن الدين إمام زادا، وقد شذ عني من هو الرابع، وصنف العميدي في هذا الفن طريقة، وهي مشهورة بأيدي الفقهاء، وصنف الإرشاد واعتنى بشرحها  جماعة من أرباب هذا الشأن: منهم القاضي شمس الدين أبو العباس أحمد بن الخليل بن سعادة ابن جعفر بن عيسى الفقيه الشافعي الخوبي قاضي دمشق - كان - رحمه الله تعالى، والقاضي أوحد الدين الدوني قاضي منبج، ونجم الدين المرندي وبدر الدين المراغي [المعروف بالطويل]  وغيرهم، وصنف كتاب " النفائس " أيضا، 
    واختصره شمس الدين الخوبي المذكور، وسماه عرائس النفائس وصنف أشياء مستملحة على هذا الأسلوب. واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به من جملتهم: نظام الدين أحمد ابن الشيخ جمال الدين أبي المجاهد محمود بن أحمد بن عبد السيد ابن عثمان بن نصر بن عبد الملك البخاري التاجري (1) الحنفي المعروف بالحصيري صاحب الطريقة المشهورة وغيره.
    وكان [العميدي] كريم الأخلاق كثير التواضع طيب العاشرة. وتوفي ليلة الأربعاء تاسع جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة ببخارا، رحمه الله تعالى.
    ) وتوفي شمس الدين الخوبي  المذكور يوم السبت سابع شعبان سنة سبع وثلاثين وستمائة بمدينة دمشق، ودفن بسفح جبل قاسيون، ومولده في شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
     وتوفي أوحد  الدين بحلب عقيب أخذ التتر لقلعة حلب، وكان أخذ القلعة بعد أخذ البلد بتسعة وعشرين يوما، وأخذ البلد في عشر صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة، ومولد أوحد الدين سنة ست وثمانين وخمسمائة، رحمهم الله تعالى.
    والعميدي: بفتح العين المهملة وكسر الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة، ولا أعرف هذه النسبة إلى ماذا، ولاذكرها السمعاني.
    ) ونظام الدين الحصيري  قتله التتر بمدينة نيسابور عند أول خروجهم إلى البلاد، وذلك في سنة ست عشرة وستمائة، رحمه الله تعالى.
     وكان ولده من أعيان العلماء، اجتمعت به عدة دفوع بدمشق، وكان يدرس بالمدرسة النووية ولم يكن في عصره من يقاربه في مذهب الإمام أبي حنيفة؛ وبلغني أنه كان ينكر على والده نظام الدين المذكور تضييع فكره وذهنه، وكان من أشد ذهنا وإدراكا وهو عند ذلك شاب، وكان ابنه يقول عنه لاقتصاره على المذهب فقط: أبي شيخ كودون؛ ومولد الحصيري ببخارا سنة ست وأربعين وخمسمائة في رجب، وتوفي ليلة الأحد الثامن من صفر سنة ست وثلاثين وستمائة بدمشق، ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر، وكان يقول: كان أبي يعرف بالتاجري  ، وإنما ببخارا محلة يعمل فيها الحصر، وكنا نحن بها.

المعين الجاجرمي

أبو حامد بن إبراهيم بن أبي الفضل، السهلي الجاجرمي الفقيه الشافعي، الملقب معين الدين؛ كان إماما فاضلا متفننا (2) مبرزا، سكن نيسابور ودرس بها، وصنف في الفقه كتاب الكفاية وهو في غاية الإيجاز مع اشتماله على أكثر المسائل التي تقع في الفتاوى، وهو في مجلد واحد، وله كتاب إيضاح الوجيز أحسن فيه، وهو في مجلدين، وله طريقة مشهورة في الخلاف والقواعد المشهورة منسوبة إليه، واشتغل عليه الناس وانتفعوا به وبكتبه من بعده، خصوصا القواعد، فإن الناس أكبوا على الاشتغال بها. وتوفي بكرة نهار الجمعة حادي عشر رجب سنة ثلاث عشرة وستمائة بنيسابور، رحمه الله تعالى.
والجاجرمي: بفتح الجيمين بينهما ألف وسكون الراء وبعدها ميم، هذه النسبة إلى جاجرم، وهي بلدة بين نيسابور وجرجان، خرج منها جماعة من العلماء .

ورأيت بمدينة دمشق خطه على كتاب شرح فيه الأحاديث المسطورة في المهذب والألفاظ المشكلة، وقد سمعه عليه جماعة من الفقهاء بنيسابور في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وستمائة.

الشيخ عماد الدين بن يونس

    أبو حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد، الملقب عماد الدين، الفقيه الشافعي؛ كان إمام وقته في المذهب والأصول والخلاف، وكان له صيت عظيم في زمانه، وقصده الفقهاء من البلاد الشاسعة الاشتغال (2) ، وتخرج عليه خلق كثير صاروا كلهم أئمة مدرسين يشار إليهم، وكان مبدأ اشتغاله على أبيه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وذلك بالموصل، ثم توجه إلى بغداد وتفقه بالمدرسة النظامية على السديد محمد السلماسي - وقد تقدم ذكره (3) وكان معيدا بها، والمدرس يؤمئذ الشرف يوسف بن بندار الدمشقي (4) ، وسمع بها الحديث من أبي عبد الرحمن محمد بن محمد الكشميهني لما قدمها، ومن أبي حامد محمد بن أبي الربيع الغرناطي، وعاد إلى الموصل ودرس بها في عدة مدارس، وصنف كتبا في المذهب: منها كتاب المحيط في الجمع بين المهذب والوسيط وشرح الوجيز للغزالي، وصنف جدلا وعقيدة وتعليقه في الخلاف، لكنه لم يتمها، وكانت إليه الخطابة في الجامع المجاهدي مع التدريس في المدرسة النورية والعزية والزينية  والبقشية  والعلانية، وتقدم في دولة نور أرسلان شاه
    صاحب الموصل تقدما كثيرا، وتوجه عنه رسولا إلى بغداد غير مرة، وإلى الملك العادل، وناظر في ديوان الخلافة، واستدل في مسألة شراء الكافر للعبد المسلم، وذلك في سنة ست وتسعين وخمسمائة، وتولى القضاء بالموصل  يوم الخميس رابع شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ثم انفصل عنه بأبي الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله بت القاسم الشهرزوي الملقب ضياء الدين - المذكور في ترجمة عمة كمال الدين - في صفر سنة ثلاث وتسعين، وولي ضياء الدين المذكور يوم الأربعاء سابع عشر صفر المذكور، وانتهت إليه رياسة أصحاب الشافعي بالموصل.
    وكان شديد الورع والتقشف لايلبس الثوب الجديد حتى يغسله، ولا يمس القلم للكتابة إلا ويغسل (2) يده، وكان دمث الأخلاق لطيف الخلوة ملاطفا بحكايات وأشعار، وكان كثير المباطنة لنور الدين صاحب الموصل يرجع إليه في الفتاوى ويشاور في الأمور وله صنف العقيدة المذكورة ولم يزل معه حتى انتقل عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي، ولم يوجد في بيت أتابك مع كثرتهم شافعي سواه.
    ولما توفي نور الدين في سنة سبع وستمائة - كما تقدم - توجه إلى بغداد في الرسالة بسبب تقرير ولده الملك القاهر مسعود - وسيأتي ذكره في ترجمة جده مسعود إن شاء الله تعالى - فعاد وقد قضى الشغل ومعه الخلعة والتقليد، وتوفرت حرمته عند القاهر أكثر مما كانت عند أبيه، وكان مكمل الأدوات، غير أنه لم يرزق سعادة في تصانيفه، فإنها ليست على قدر فضائله.
    وكانت ولادته بقلعة إربل سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، في بيت صغير منها، ولما وصل إلى إربل في بعض رسائله دخل ذلك البيت وتمثل بالبيت المشهور، وهو:
    بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها 
    وتوفي يوم الخميس، تاسع عشر جمادى الآخرة، سنة ثمان وستمائة بالموصل، رحمه الله تعالى.
    وكان الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل، رحمه الله تعالى، يقول رأيت الشيخ عماد الدين في المنام بعد موته، فقلت له: أما مت فقال: بلى، ولكني محترم.
    وقد ذكره ابن الدبيثي في كتاب الذيل وذكره أبو البركات ابن المستوفي فيتاريخ إربل - وسيأتي ذكر أخيه الشيخ كمال الدين موسى إن شاء الله تعالى - وهم أهل بيت خرج منهم جماعة من الأفاضل.
     وحفيده تاج الدين أبو القاسم عبد الرحيم ابن الشيخ رضي الدين محمد ابن الشيخ عماد الدين أبي حامد المذكور اختصر كتاب الوجيز للغزالي اختصارا حسنا سماهالتعجيز في اختصار الوجيز واختصر كتاب المحصول في أصول الفقه، واختصر طريقة ركن الدين  الطاوسي في الخلاف، ومولده بالموصل في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ولما استولى التتر على الموصل كان بها، ثم انتقل إلى بغداد فدخلها في شهر رمضان سنة سبعين وستمائة، وتوفي بها في سنة إحدى وسبعين وستمائة  ، وكانت، وفاته في جمادى الأولى تقديرا من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

فخر الدين الرازي

    أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التيمي البكري الطبرستاني الأصل الرازي المولد، الملقب فخر الدين، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي، فريد عصره ونسيج وحده، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلم الأوائل، له التصانيف المفيدة في فنون عديدة منها تفسير القرآن الكريم جمع فيه كل غريب وغريبة، وهو كبير جدا لكنه لم يكمله، وشرح سورة الفاتحة في مجلد، ومنها في علم الكلام المطالب العالية ونهاية العقول وكتاب الأربعين والمحصل  وكتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان وكتاب المباحث العمادية في المطالب المعادية وكتاب تهذين الدلائل وعيون المسائل وكتاب إرشاد النظار إلى لطائف الأسرار وكتاب أجوبة المسائل التجارية وكتاب تحصيل الحق وكتاب الزبدة والمعالم، وغير ذلك، وفي أصول الفقه المحصول والمعالم، وفي الحكمة الملخص وشرح الإشارات لابن سينا وشرح عيون الحكمة وغير ذلك، وفي الطلسمات السر المكتوم  وشرح أسماء الله الحسنى ويقال: إن له شرح المفصل في النحو للزمخشري، وشرح الوجيز في الفقه للغزالي، وشرح سقط الزند للمعري، وله مختصر في الإعجاز، ومؤاخذات جيدة على النحاة، وله طريقة في الخلاف، وله في الطب شرح الكليات للقانون، وصنف في علم الفراسة، وله مصنف في مناقب الشافعي ، وكل كتبه ممتعة، وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين، وهو أو لمن اخترع هذا الترتيب في كتبه، وأتى فيها بما لم يسبق إليه.
    وكان له في الوعظ اليد البيضاء، ويعظ باللسانين العربي والهجمي، وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء، وكان يحضر مجلسه بمدينة هراة أرباب المذاهب والمقالات ويسألونه وهو يجيب كل سائل بأحسن إجابة، ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنة، وكان يلقب بهراة شيخ الإسلام.
    وكان مبدأ اشتغاله على والده إلى أن مات، ثم قصد الكمال السماني واشتغل عليه مدة، ثم عاد إلى الري واشتغل على المجد الجيلي، وهو أحد أصحاب محمد ابن يحيى، ولما طلب المجد الجيلي إلى مراغة ليدرس بها صحبه فخر الدين المذكور إليها، وقرأ عليه مدة طويلة علم الكلام والحكمة، ويقال إنه كان يحفظ الشامل لإمام الحرمين في علم الكلام، ثم قصد خوارزم وقد تمهر في العلوم فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى المذهب والاعتقاد، فأخرج من البلد، فقصد ما رواء النهر، فجرى له أيضا هناك ما جرى له في خوارزم، فعاد إلى الري، وكان بها طبيب حاذق له ثروة ونعمة، وكان للطبيب ابنتان، ولفخر الدين ابنان، فمرض الطبيب وأيقن بالموت فزوج ابنتيه لولدي فخر الدين، ومات الطبيب فاستولى فخر الدين على جميع أمواله، فمن ثم كانت له النعمة، ولازم الأسفار، وعامل شهاب الدين الغوري صاحب غزنة في جملة من المال، ثم مضى إليه لاستيفاء حقه منه فبالغ في إكرامه والإنعام عليه وحصل له من جهته مال طائل، وعاد إلى خراسان، واتصل بالسلطان محمد بن تكش المعروف بخوارزم شاه، وحظي عنده، ونال أسنى المراتب، ولم يبلغ أحد منزلته عنده، ومناقبه أكثر من أن تعد، وفضائله لا تحصى ولا تحد.
    وكان له مع هذه العلومشيء من النظم، فمن ذلك قوله:
    نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
    وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أنم جمعنا فيه قيل وقالوا
    ولم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
    وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال
    وكان العلماء يقصدونه من البلاد، وتشد إليه الرحال من الأقطار، وحكى شرف الدين بن عنين - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - أنه حضر درسه يوما وهو يلقي الدروس في مدرسته بخوارزم ودرسه حافل بالأفاضل واليوم شات وقد سقط ثلج كثير وخوارزم بردها شديد إلى غاية ما يكون  ، فسقطت بالقرب منه حمامة وقد طردها بعض الجوارح، فلما وقعت رجع عنها الجارح خوفا من الناس الحاضرين، فلم تقدر الحمامة على الطيران من خوفها وشدة البرد، فلما قام فخر الدين من الدرس وقف عليها ورق لها أخذها بيده، فأنشد ابن عنين في الحال:
    يا ابن الكرام المطمعين إذا شتوا ... في كل مسغبة وثلج خاشف
    العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيج الراعف
    من نبأ الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف
    وفدت عليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف
    ولو أنها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف
    جاءت سليمان الزمان بشكوها ... والموت يلمع من جناحي خاطف
    قرم لواه القوت حتى ظله ... بإزائه يجري بقلب واجف 
    ولابن عنين المذكور فيه قصيدة من جملتها:
    ماتت به بدع تمادى عمرها ... دهرا وكاد ظلامها لا ينجلي
    فعلا به الإسلام أرفع هضبة ... ورسا سواه في الحضيض الأسفل
    غلط امرؤ بأبي علي قاسه ... هيهات قصر عن مداه أبو علي
    لو أن رسطاليس يسمع لفظة ... من لفظه لعرته هزة أفكل
    ولحار بطليموس لو لاقاه من ... برهانه في كل شكل مشكل
    ولو أنهم جمعوا لديه تيقنوا ... أن الفضيلة لم تكن للأول
    وقال أبو عبد الله الحسين الواسطي: سمعت فخر الدين بهراة ينشد على المنبر عقيب كلام عاتب فيه أهل البلد:
    المرد ما دام حيا يستهان به ... ويعظم الرزء فيه حين يفتقد وذكر فخر الدين في كتابه الذي سماه تحصيل الحق أنه اشتغل في علم الأصول على والده ضياء الدين عمر، ووالده على أبي القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي، وهو على الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، وهو على الشيخ أبي الحسين الباهلي، وهو على شيخ السنة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وهو على أبي علي الجبائي أولا ثم رجع عن مذهبه ونصر مذهب أهل السنة والجماعة.
    وأما اشتغاله في المذهب فإنه اشتغل على والده، ووالده على أبي محمد الحسين ابن مسعود الفراء، البغوي، وهو على القاضي حسين المروزي ، وهو على القفال المروزي، وهو على أبي زيد المروزي، وهوعلى أبي إسحاق المروزي، وهو على أبي العباس بن سريج، وهو على أبي القاسم الأنماطي، وهو على أبي إبراهيم المزني، وهو على الإمام الشافعي، رضي الله عنه.
    وكانت ولادة فخر الدين في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين، وقيل ثلاث وأربعين وخمسمائة، بالري. وتوفي يوم الاثنين، وكان عيد الفطر، سنة ست وستمائة بمدينة هراة، ودفن آخر النهار في الجبل المصاقب لقرية مزداخان، رحمه الله تعالى، ورأيت له وصية أملاها في مرض موته على أحد تلاميذته تدل على حسن العقيدة.
    ومزداخان: بضم الميم وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وبعد الألف خاء معجمة مفتوحة وبعد الألف الثانية نون، وهي قرية بالقرب من هراة. وقد تقدم الكلام على هراة.

القاضي محيي الدين ابن الشهرزوري

    أبو حامد محمد بن القاضي كمال الدين بن الشهرزوري المذكور قبله، الملقب محيي الدين، وقد تقدم من ذكر رياسة أبيه وما كان عليه من علو المرتبة ما لا حاجة إلى إعادته. وكان القاضي محيي الدين قد دخل بغداد للاشتغال فتفقه على الشيخ أبي منصور بن الرزاز وتميز، ثم أصعد إلى الشام، وولي  قضاء دمشق نيابة عن والده، ثم انتقل إلى حلب وحكم بها نيابة عن أبيه أيضا في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وبه عزل ابن أبي جرادة المعروف بابن العديم، وقيل كان ذلك في شعبان سنة ست وخمسين، والله أعلم . وبعد وفاة والده تمكن عند الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين صاحب حلب غاية التمكن، وفوض إليه تدبير مملكة حلب في شعبان سنة ثلاث وسبعين، واستمر على ذلك، ثم وشى به أعداؤه وحساده إلى الصالح وجرت أسباب اقتضت أنه لزم بيته، ورأى المصلحة في مفارقة حلب والرجوع إلى بلد الموصل  فانتقل إليها، وتولى قضاءها ودرس بمدرسة والده وبالمدرسة النظامية بالموصل، وتمكن عند صاحب الموصل عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - واستولى على جميع الأمور، وتوجه من جهته رسولا إلى بغداد مرارا. وذكر بهاء الدين يوسف المعروف بابن شداد قاضي حلب في كتاب " ملجأ الحكام عند التباس الأحكام انه كان في خدمة القاضي محيي الدين عند توجهه إلى بغداد في إحدى الرسائل، وناهيك بمن يكون في خدمته مثل هذا الرجل - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
    وكان محيي الدين المذكور جوادا سريا، قيل إنه انعم في بعض رسائله إلى بغداد بعشرة آلاف دينار أميرية على الفقهاء والأدباء والشعراء والمحاويج، ويقال إنه في مدة حكمه بالموصل لم يعتقل غريما على دينارين فما دونهما، بل كان يوفيهما عنه ويخلي سبيله  ويحكى عنه مكارم كثيرة ورياسة ضخمة، وكان من النجباء عريقا في النجابة تام الرياسة، كريم الأخلاق رقيق الحاشية، له في الأدب مشاركة حسنة وله أشعار جيدة، فمن ذلك ما أنشدني له بعض الأصحاب في وصف جرادة  ، وهو تشبيه غريب:
    لها فخذ بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم
    حبتها أفاعي الرمل بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم
    ورأيت له في بعض المجاميع هذين البيتين، وهما في وصف نزول الثلج من  الغيم:
    ولما شاب رأس الدهر غيظا ... لما قاساه من فقد الكرام
    أقام يميط هذا الشيب عنه ... وينثر ما أماط على الأنام
    وكانت ولادته سنة عشر وخمسمائة تقريبا، وقال العماد الكاتب في الخريدة  : مولده سنة تسع عشرة، والله أعلم، وزاد في كتاب السيل في شعبان. وتوفي سحرة يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة، وقيل ثالث عشريه  ، هكذا ذكره العماد في السيل والأول ذكره ابن الدبيثي ، وذلك بالموصل، ودفن بداره بمحلة القلعة، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، رحمه الله تعالى. هكذا رأيته في بعض التواريخ، وذكر ابن الدبيثي في تاريخه انه نقل إلى تربة عملت له ظاهر البلد، والله أعلم، ثم حققت  ذلك فوجدته كما قال ابن الدبيثي، وتربته خارج باب الميدان بالقرب من تربة قضيب البان صاحب الكرامات، رحمه الله تعالى.
     وكان  لكمال الدين ابن آخر يقال له عماد الدين أحمد توجه رسولا إلى بغداد عن نور الدين في سنة تسع وستين وخمسمائة، ومدحه ابن التعاويذي بقصيدة يقول من جملتها  :
    وقالوا: رسول أعجزتنا صفاته ... فقلت: صدقتم هذه صفة الرسل

القاضي كمال الدين الشهرزوري

    أبو الفضل  محمد بن أبي محمد عبد الله بن أبي أحمد القاسم الشهرزوري الملقب كمال الدين الفقيه الشافعي - وقد سبق ذكر أبيه وجده في موضعهما  - تفقه كمال الدين ببغداد على أسعد الميهني، وقد سبق ذكره، وسمع الحديث من أبي البركات محمد بن محمد بن خميس الموصلي، وتولى القضاء بالموصل وبنى بها مدرسة للشافعية، ورباطا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يتردد في الرسائل منها إلى بغداد عن عماد الدين زنكي الأتابك - المقدم ذكره  - ولما قتل عماد الدين على قلعة جعبر، كما ذكرناه في ترجمته، كان كمال الدين المذكور حاضرا في العسكر هو وأخوه تاج الدين أبو طاهر يحيى والد القاضي ضياء الدين، فلما رجع العسكر إلى الموصل كانا في صحبته.
    ولما تولى سيف الدين غازي ولد عماد الدين - وقد تقدم ذكره أيضا - فوض الأمور كلها إلى القاضي كمال الدين وأخيه بالموصل وجميع مملكته، ثم إنه قبض عليهما في سنة اثنتين وأربعين واعتقلهما (5) بقلعة الموصل، وأحضر نجم الدين أبا علي الحسن بن بهاء الدين أبي الحسن علي وهو ابن عم كمال الدين، وكان قاضي الرحبة  وولاه القضاء بالموصل وديار ربيعة عوضا عن كمال الدين. ثم إن الخليفة المقتفي سير رسولا وشفع في كمال الدين وأخيه فأخرجا من الاعتقال، وقعدا في بيوتهما وعليهما الترسيم، وحبس بالقلعة جلال الدين أبو أحمد ولد كمال الدين وضياء الدين أبو الفضائل القاسم بن تاج الدين.
    ولما مات سيف الدين غازي في التاريخ المذكور في ترجمته رفع الترسيم عنهما، وحضرا إلى قطب الدين مودود بن زنكي - وقد تولى السلطنة بعد أخيه سيف الدين - وكان راكبا في ميدان الموصل، فلما قربا منه ترجلا وعليهما ثياب العزاء بغير طرحات، فلما وصلا إليه ترجل لهما أيضا، وعزياه عن اخيه وهنآه بالولاية، ثم ركبوا، ووقف كل واحد منهما على جانبه، ثم عادا إلى بيتهما بغير ترسيم، وصارا يركبان في الخدمة.
    ثم انتقل كمال الدين إلى خدمة نور الدين محمود صاحب الشام في سنة خمسين وخمسمائة، وأقام بدمشق مدة، ثم عزل زكي الدين عن الحكم، وتولاه كمال الدين في شهر صفر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، واستناب ولده وأولاد أخيه ببلاد الشام، وترقى إلى درجة الوزارة، وحكم في بلاد الشام الإسلامية في ذك الوقت، واستناب ولده القاضي محيي الدين في الحكم بمدينة حلب، ولم يكن شيء من أمور الدولة يخرج عنه، حتى الولاية وشد الديوان وغير ذلك، وذلك في أيام نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، وتوجه من جهته رسولا إلى الديوان في أيام المقتفي، وسيره المقتفي رسولا للإصلاح بين نور الدين المذكور وقلج ارسلان بن مسعود صاحب الروم. ولما مات نور الدين وملك صلاح الدين دمشق أقره على ما كان عليه.
    وكان فقيها أديبا شاعرا كاتبا ظريفا فكه المجالسة، يتكلم في الخلاف والأصولين كلاما حسنا، وكان شهما جسورا كثير الصدقة والمعروف، وقف أوقافا كثيرة بالموصل ونصيبين ودمشق، وكان عظيم الرياسة خبيرا بتدبير الملك،لم يكن في بيته مثله ولا نال أحد منهم ما ناله من المناصب مع كثرة رؤساء بيته، وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق.
    وله نظم جيد، فمن ذلك ما أنشدني له بعض أهل بيته وهو:
    ولقد أتيتك والنجوم رواصد  ... والفجر وهم في ضمير المشرق
    وركبت من  الأهوال كل عظيمة ... شوقا إليك لعلنا أن نلتقي
    وقال عماد الدين الكاتب الأصبهاني في الخريدة في ترجمة القاضي كمال المذكور: أنشدني لنفسه هذين البيتين في ثالث شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين، وقد تذكرت قول أبي يعلى ابن الهبارية الشريف في معنى الصبح وإبطائه:
    كم ليلة بت مطويا على حرق ... أشكو إلى النجم حتى كان يشكوني
    والصبح قد مطل الشرق العيون  به ... كأنه حاجة في كف  مسكين
    ثم قال: لو قال " تقضى لمسكين " لكان أحسن فإنها تمطل [بقضائها] ثم قال: وكلاهما أحسن وأجاد.
    وقيل: إنه كتب إلى ولده محيي وهو بحلب، وذكر في الخريدة انهما له:
    عندي كتائب أشواق أجهزها ... إلى جنابك إلا أنها كتب
    ولي أحاديث من نفسي أسر بها ... إذا ذكرتك إلا أنها كذب
    وقيل: إنه لما ضعف وكبر وقلت حركته  كان ينشد في كل وقت:
    يا رب لا تحيني إلى زمن ... أكون فيه كلا على أحد
    خذ بيدي قبل أن أقول لمن ... ألقاه عند القيام: خذ بيدي
    ولا أعلم هل هذان البيتان له أم لا، ثم وجدت هذين البيتين من جملة أبيات لأبي الحسن محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر الواسطي - وسيأتي ذكره وذكر البيتين إن شاء الله تعالى -.
    وكانت ولادته سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، بالموصل. وتوفي يوم الخميس سادس المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بدمشق، ودفن من الغد بجبل قاسيون رحمه الله تعالى، وكان عمره حين وتوفي ثمانين سنة وأشهرا، ورثاه ولده محيي الدين محمد، وأوصى بولاية ابن أخيه أبي الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله الملقب ضياء الدين، فأنفذ السلطان وصيته، وفوض القضاء بدمشق إلى ضياء الدين المذكور، فأقام به مدة، ثم عرف أن ميل السلطان إلى الشيخ شرف الدين ابن أبي عصرون - المقدم ذكره - فسأله الإقالة فأقيل وتولى شرف الدين.
     وكان القاضي  ضياء الدين أبو الفضائل القاسم بن القاضي تاج الدين أبي طاهر يحيى بن عبد الله المذكور قد سمع الحديث بالإسكندرية من الحافظ أبي طاهر السلفي، وروى عن عمارة اليمني الفقيه شيئا من شعره. وتولى القضاء بدمشق بعد عمه كمال الدين. ولما انفصل عن القضاء صار يتردد في الرسائل إلى بغداد، ولما مات السلطان صلاح الدين سيره ولده الملك الأفضل نور الدين علي صاحب دمشق رسولا إلى بغداد بهدايا وتحف، وصار له هناك منزلة ومكانة جيدة. ثم عاد إلى دمشق وتولى نظر الأوقاف بها، ثم فارق دمشق وقدم الموصل وتولى القضاء بعد الشيخ عماد الدين أبي حامد محمد بن يونس - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكانت ولاية ضياء الدين في صفر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، ثم فارق بغداد باختياره على القضاء يحكم ويتصرف كما كان، في شهر ذي الحجة سنة سبع وتسعين، ولم يجر هذا لأحد غيره، وعبر على الموصل ولم يدخلها، وانتهى إلى مدينة حماة فولاه الملك المنصور ناصر الدين محمد بن تقي 
    الدين عمر ملكها يومئذ القضاء بها فأقام إلى أن مات ضياء الدين بها في نصف رجب سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ونقل إلى دمشق ودفن بها، ومولده سنة أربع وخمسين وخمسمائة بالموصل، وقيل إن مولده في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين، والله أعلم، وله شعر فمن ذلك:
    فارقتكم ووصلت مصر فلم يقم ... أنس اللقاء بوحشة التوديع
    وسررت عند قدومها لولا الذي ... لكم من الأشواق بين ضلوعي
    ) وأما والده تاج الدين أبو طاهر يحيى فقد ذكره القاضي عماد الدين الكاتب الأصبهاني في كتاب الخريدة  فقال: هو أخو كمال الدين، وذكر [بعد] الثناء عليه، أنه توفي بالموصل في سنة ست وخمسين وخمسمائة، [قال] : وأنشدني ولده ضياء الدين أبياتا له على وزن بيت مهيار وهو:
    وعطل كؤوسك إلا الكبار ... تجد للصغار أناسا صغارا فقال:
    وسق الندامى عقيقة ... تضيء فتحسب في الليل نارا
    تدور المسرة مع كأسها ... وتتبعه حيثما الكاس سارا
    ولا عيب فيها سوى أنها ... متى عرست بحمى الغم سارا
    ستلقى ليالي الهموم الطوال ... فبادر ليالي السرور القاصرا
    قلت: وقد سبق في ترجمة عماد الدين زنكي [ذكر] عمهما القاضي بهاد الدين أبي الحسن علي بن القاسم والد نجم الدين الحسين قاضي الرحبة المذكور وتاريخ وفاته، والله أعلم.

نجم الدين الخبوشاني

    أبو البركات محمد بن الموفق بن سعيد بن علي بن الحسن بن عبد الله الخبوشاني، الملقب نجم الدين الفقيه الشافعي، كان فقيها فاضلا كثير الورع، تفقه على محمد ابن يحيى - المقدم ذكره - وكان يستحضر كتابه المحيط في شرح الوسيط على ما قيل، حتى نقل عنه أنه عدم الكتاب فأملاه من خاطره، وله كتاب تحقيق المحيط وهو كبير، رأيته في ستة عشر مجلدا. وقد تقدم ذكره في ترجمة العاضد عبد الله العبيدي صاحب مصر وما جرى له معه.
    ولما استقلالسلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى بملك الديار المصرية قربه وأكرمه، وكان يعتقد في علمه ودينه، ويقال إنه أشار عليه بعمارة المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فلما عمرها فوض تدريسها إليه، وعمرها في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وفي هذه السنة بني البيمارستان في القصر بالقاهرة. ورأيت جماعة من أصحابه وكانوا يصفون فضله ودينه وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا.
    وكانت ولادته في الثالث عشر  من رجب سنة عشر وخمسمائة، باستوى خبوشان، وتوفي يوم الأربعاء ثاني عشر ذي القعدة سنة سبع وثمانين وخمسمائة، بالمدرسة المذكورة، ودفن في قبة تحت رجلي الإمام الشافعي، وبينهما شباك، رحمها الله تعالى.
    والخبوشاني: بضم الخاء المعجمة والباء الموحدة وفتح الشين المعجمة وبعد الأف نون، هذه النسبة إلى خبوشان، وهي بليدة بناحية نيسابور.
    وأستوى: بضم الهمزة وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة من فوقها أو ضمها، ناحية  كثيرة القرى من أعمال نيسابور.

الجمعة، 28 أبريل 2017

حفدة

    أبو منصور محمد بن أسعد بن محمد بن الحسين بن القاسم العطاري الطوسي الأصل، المعروف بحفدة، الملقب عمدة الدين، الفقيه الشافعي النيسابوري، كان فقيها فاضلا واعظا فصيحا أصوليا، تفقه بمرو على أبي بكر محمد بن منصور السمعاني والد الحافظ المشهور، ثم انتقل إلى مروالروذ، واشتغل على القاضي حسين بن مسعود الفراء المعروف بالبغوي صاحب شرح السنة والتهذيب - وقد سبق ذكره  - ثم انتقل إلى بخارا واشتغل بها على البرهان عبد العزيز ابن عمر بن مارة الحنفي، ثم عاد إلى مرو وعقد له بها مجلس التذكير، وأقام بها مدة، ثم في فتنة الغز - وكانت فتنة الغز  - وكانت فتنة الغز سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، كما ذكرته في ترجمة الفقيه محمد بن يحيى - خرج) إلى العراق ومنها إلى أذربيجان والجزيرة ومنها إلى الموصل، واجتمع الناس عليه بسبب الوعظ، وسمعوا منه الحديث، ومن أماليه:
    مثل الشافعي في العلماء ... مثل الشمس في نجوم السماء
    قل لمن قاسه بغير نظير ... أيقاس الضياء بالظلماء 
    وأنشد يوما على الكرسي من جملة أبيات: 
    تحية صوب المزن يقرؤها الرعد ... على منزل كانت تحل به هند
    نأت فأعرناها القلوب صبابة ... وعارية العشاق ليس لها رد
    وكانت مجالسه في الوعظ من أحسن المجالس. وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بمدينة تبريز، وقيل إنه توفي في رجب سنة ثلاث وسبعين، رحمه الله تعالى، والله أعلم بالصواب.
    وحفدة: بفتح الحاء المهملة والفاء والدال المهملة، ولا أعلم لم سمي بهذا الاسم مع كثرة كشفي عنه.
    وتبريز: بكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الباء الموحدة وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها زاي، وهي من أكببر مدن أذربيجان.

السديد السلماسي

السديد محمد بن هبة الله بن عبد الله السلماسي الفقيه الشافعي، كان إماما في عصره، تولى الإعادة بالمدرسة النظامية ببغداد، وأتقن عدة فنون، وهو الذي شهر طريقة الشريف بالعراق، قيل إنه كان يذكر طريقة الشريف والوسيط للغزالي والمستصفى من غير مراجعة كتاب. قصده الناس من البلاد، واشتغلوا عليه وانتفعوا به، وخرجوا علماء مدرسين مصنفين، ومن جملتهم الشيخان الإمامان: عماد الدين محمد، وكمال الدين موسى ولدا يونس - وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى - والشيخ شرف الدين أبو المظفر محمد بن علوان بن مهاجر، وغيرهم من الأفاضل. وكان مسددا في الفتيا، وتوفي ببغداد في شعبان سنة أربع وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
والسلماسي: بفتح السين المهملة واللام والميم وبعد الألف سين ثانية، هذه النسبة إلى سلماس، وهي مدينة من بلاد أذربيجان، خرج منها جماعة مشاهير.

محي الدين بن زكي الدين

    أبو المعالي محمد بن أبي الحسن علي بن محمد [أبي المعالي مجد الدين] بن يحيى [أبي الفضل زكي الدين]  بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن القاسم بن عبد الرحمن بن أبان بن [أمير المؤمنين] عثمان بن عفان، رضي الله عنه، القرشي ، الملقب محيي الدين، المعروف بابن زكي الدين، الدمشقي الفقيه الشافعي، كان ذا فضائل عديدة من الفقه والأدب وغيرهما، وله النظم المليح والخطب والرسائل، وتولى القضاء بدمشق في شهر ربيع الأول، سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، يوم الأربعاء العشرين من الشهر المذكور، هكذا وجدته بخط القاضي الفاضل: وكذلك أبوه [زكي الدين] وجده [مجد الدين، وجد أبيه زكي الدين أيضا وهو أول من ولي من بينهم] وولداه [زكي الدين أبو العباس الطاهر ومحيي الدين] كانوا قضاتها. وكانت له عند السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، المنزلة العالية ، والمكانة المكينة. ولما فتح السلطان المذكور مدينة حلب  ، يوم السبت ثامن عشر صفر، سنة تسع وسبعين وخمسمائة، أنشده القاضي محيي الين المذكور قصيدة بائية، أجاد فيها كل الإجادة، وكان من جملتها بيت هو متداول بين الناس، وهو:
    وفتحك القعلة الشهباء في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب
    فكان كما قال، فإن القدس فتحت لثلاث بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وقيل لمحيي الدين: من أين لك هذا فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) . ولما وقفت أنا على هذا البيت وهذه الحكاية لم أزل أتطلب تفسير ابن برجان حتى وجدته على هذه الصورة، لكن كان هذا الفصل مكتوبا في الحاشية بخط غير الأصل ، ولا أدري هل كان من أصل الكتاب أم هو ملحق به ، وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراج ذلك حتى حرره من قوله بضع سنين.
    ولما ملك السلطان صلاح الدين حلب، فوض الحكم والقضاء بها [في ثالث عشر ربيع الآخر من السنة]  إلى القاضي محيي الدين المذكور، فاستناب بها زين الدين بنا أبا الفضل بن البانياسي  .
    ولما فتح السلطان القدس الشريف تطاول إلى الخطابة يوم الجمعة كل واحد من العلماء الذين كانوا في خدمته حاضرين، وجهز كل واحد منهم خطبة بليغة، طمعا في أن يكون هو الذي يعين لذلك، فخرج المرسوم إلى القاضي محيي الدين ان يخطب هو، وحضر السلطان وأعيان دولته، وذلك في أول جمعة صليت بالقدس بعد الفتح، فلما رقي المنبر استفتح بسورة الفاتحة، وقرأها إلى آخرها، ثم قال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) ، ثم قرأ أول سورة الأنعام: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور) ، ثم قرأ من سورة سبحان: (وقل الحمد لله 
    الذي لم يتخذ ولدا) ، ثم قرأ أول الكهف: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) ، الآيات الثلاث، ثم قرأ من النمل: (وقل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) ، ثم قرأ من سورة سبأ: (الحمد لله الذي له ما في السموات) ، ثم قرأ من سورة فاطر: (الحمد لله فاطر السموات والأرض) ، وكان قصده أن يذكر جميع تحميدات القرآن الكريم، ثم شرع في الخطبة، فقال: الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكفار (1) بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره، وتطهير بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره  ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشك، وداحض  الشرك، وراحض الإفك، الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأٌقصى، وعرج به منه إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
    أيها الناس، أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة، من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبا من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بني عليه وشيد بنيانه بالتمجيد  ، فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن  أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، ومدفن الرسل ومهبط الوحي، ومنزل به ينزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد [الأقصى]  الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وروحه عيسى الذي كرمه برسالته وشرفه بنبوته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) ، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيدا (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون) ، (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) إلى آخر الآيات من المائدة، وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد  الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والواقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوحات العمرية، والجيوش العثماني، والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية، والملاحم اليرموكية، والمنازلات الخيبرية  ، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السناء، وتبلجت  بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقر به عينا الأنبياء والمرسلون، فماذا  عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله، وأن تكون التهاني لأهل الخضراء، أكثر من التهاني لأهل الغبراء، أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه، ونص عليه في محكم خطابه، فقال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) ، أليس هو البيت الذي عظمته الملل، وأثنت عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل أليس هو البيت الذي أمسك الله تعالى لأجله الشمس على يوشع أن تغرب، وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب الله عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وقد فضلت على العالمين، ووفقكم لما خذل فيه أمم كانت قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنودا لأهويتكم جنده، وشكر لكم الملائكة المنزلون، على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتمجيد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث، والاعتقاد الفاجر الخبيث، فالآن تستغفر لكم أملاك السموات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات، فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم، بتقوى الله التي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها  نجا وعصم، واحذروا من اتباع الهوى، ومواقعة الردى، ورجوع القهقرى، والنكول عن العدا، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه إذ جعلكم من خير عباده، وإياكم أن يستزلكم الشيطان، وأن يتداخلكم الطغيان، فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وخيولكم الجياد، وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم، فاحذروا عباد الله - بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل، والمنح الجزيل، وخصكم بنصره المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين - أن تقترفوا كبيرا من مناهيه، وأن تأتوا عظيما من معاصيه، فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، وكالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، والجهاد الجهاد فهو من أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، احفظوا الله يحفظكم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حسم الداء، وقلع شأفة الأعداء، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام يا للثارات  الإسلامية والملة المحمدية، الله أكبر، فتح الله ونصر، غلب الله وقهر، أذل الله من كفر، واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، وغنيمة فحوزوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها، وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) ، أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) ، إن أشرف مقال يقال في مقام، وأنفذ سهام تمرق عن قسي الكلام، وأمضى قول تحل به الأفهام، كلام الواحد الفرد العزيز العلام، قال الله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم) ، وقرأ أول الحشر، ثم قال: آمركم وإياي بما أمر به من حسن الطاعة فأطيعوه، وأنهاكم وإياي عما نهاكم عنه من قبح المعصية فلا تعصوه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه.
    ثم خطب الخطبة الثانية على عادة الخطباء مختصرة ثم دعا للإمام الناصر خليفة العصر. ثم قال: اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذاب عن حرمك الممانع، السيد الأجل، الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقاطع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب، محيي دولة أمير المؤمنين، اللهم عم بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه، اللهم أبق للإسلام مهجته، ووق للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس بعد أن ظنت الظنون، وابتلي المؤمنون، فافتح كما فتحت على يديه داني الأرض وقاصيها، وملكه صياصي الكفر ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها، اللهم اشكر عن محمد صلى الله عليه وسلم سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار، وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار. اللهم ثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم. اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام، وتتخلد على مر الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار اليقين، وأجب دعاءه في قوله " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " - الأحقاف: 15 - ثم دعا بما جرت به العادة.
    وكانت ولادته سنة خمسين وخمسمائة بدمشق، وتوفي في سابع شعبان سنة ثمان وتسعين وخمسمائةبدمشق ودفن من يومه بسفح جبل قاسيون، رحمه الله تعالى.
     وكان والده أبو الحسن علي الملقب زكي الدين على القضاء بدمشق. وكان كثير الخير والدين، فاستعفى عن القضاء فأعفي، فخرج إلى مكة حاجا، وعاد إلى بغداد في صفر سنة ثلاث وستين وخمسمائة فأقام بها، وكان عالي الطبقة في سماع الحديث، سمع خلقا كثيرا، وحدث ببغداد مدة إقامته، وسمع عليه الناس، ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الخميس الثامن والعشرين من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة، وصلي عليه بجامع القصر، ودفن بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنهم أجمعين  .
     وأما ابن برجان المذكور ، فهو: أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن اللخمي، كان عبدا صالحا، وله تفسير القرآن 
    العظيم، وأكثر كلامه فيه على طريق أرباب الأحوال والمقامات، وتوفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة بمدينة مراكش، رحمه الله تعالى.
    وبرجان: بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وبعدها جيم وبعد الألف نون.

ابن الخل

    أبو الحسن محمد بن المبارك، وكنيته أبو البقاء، ابن محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن الخل، الفقيه الشافعي البغدادي، تفقه على أبي بكر محمد بن احمد الشاشي المعروف بالمستظهري - المقدم ذكره - وبرع في العلم، وكان يجلس في مسجده الذي بالرحبة شرقي بغداد لا يخرج عنه إلا بقدر الحاجة يفتي ويدرس، وكان قد تفرد بالفتوى بالمسألة السريجية ببغداد وصنف كتابا سماه توجيه التنبيه على صورة الشرح لكنه مختصر، وهو أول من شرح التنبيه، لكن ليس فيه طائل، وله كتاب في أصول الفقه. وسمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن أبي طلحة النعالي  وأبي عبد الله الحسين البسري  وغيرهما. وروى عنه الحافظ أبو سعد السمعاني وغيره. وسمعت بعض الفقهاء ينقل عنه أنه كان يكتب خطا جيدا منسوبا وأن الناس كانوا يحتالون على أخذ خطه في الفتاوى من غير حاجة إليها بل لأجل الخط لا غير، فكثرت عليه الفتاوى وضيقت عليه أوقاته، ففهم ذلك منهم، فصار يكسر القلم ويكتب جواب الفتوى به، فأقصروا عنه. [وقيل إن صاحب الخط المليح هو أخوه، والله أعلم]  .
    وتوفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة بغداد ونقل إلى الكوفة ودفن بها، رحمه الله تعالى.
     وكان أخوه أبو الحسين أحمد بن المبارك فقيها فاضلا وشاعرا ماهرا، 
    ذكره العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة وأثنى عليه، وأورد له مقاطيع شعر ودوبيت، فمن ذلك أبيات في بعض الوعاظ وهي:
    ومن الشقاوة أنهم ركنوا إلى ... نزغات ذاك الأحمق التمتام
    شيخ يبهرج دينه بنفاقه ... ونفاقه منهم على أقوام
    وإذا رأى الكرسي تاه بأنفه ... أي أن هذا موضعي ومقامي
    ويدق صدرا ما انطوى إلا على ... غل يواريه بكف عظام
    ويقول أيش أقول من حصر به ... لا لازدحام عبارة وكلام 
    [وله دوبيت:
    هذا ولهي وكم كتمت الولها ... صونا لوداد من هوى النفس لها
    يا آخر محنتي ويا أولها ... آيات غرامي فيك من أولها وله أيضا:
    ساروا وأقام في فؤادي الكمد ... لم يلق كما لقيت منهم احد
    شوق وجوى ونار وجد تقد ... مالي جلد، ضعفت ما لي جلد 
    وله أيضا:
    ما ضر حداة عيسهم لو رفقوا ... لم يبق غداة بينهم لي رمق
    قلب قلق وأدمع تستبق ... أو هي جلدي من الفراق الفرق]
     وكانت ولادته سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وتوفي سنة اثنتين - أو ثلاث - وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.

البروي

    أبو منصور محمد بن محمد بن محمد بن سعد بن عبد الله البروي الفقيه الشافعي، أجد الأئمة المشار إليهم بالتقدم في الفقه والنظر وعلم الكلام والوعظ، وكان حلو  العبارة ذا فصاحة وبراعة، تفقه على الفقيه محمد بن يحيى المذكور قبله، وكان من أكبر أصحابه، وصنف في الخلاف تعليقة جيدة، وهي مشهورة، وله جدل مليح مشهور سماه المقترح في المصطلح وأكثر اشتغال الفقهاء به، وقد شرحه الفقيه تقي الدين أبو الفتح مظفر بن عبد الله المصري المعروف بالمقترح شرحا مستوفى  وعرف به، واشتهر باسمه لكونه كان يحفظه فلا يقال له إلا التقي المقترح .
    ودخل البروي بغداد سنة سبع وستين وخمسمائة فصادف قبولا وافرا من العام والخاص، وتولى المدرسة البهائية قريبا من النظامية وكان يذكر بها كل يوم عدة دروس، ويحضر عنده الخلق الكثير، وله حلقة المناظرة بجامع القصر، ويحضر عنده المدرسون والأعيان، وكان يجلس للوعظ بالمدرسة النظامية، ومدرسها يومئذ أبو نصر أحمد بن عبد الله الشاشي، وكان يظهر عليه من الحركات ما يدل على رغبته في تدريس النظامية، وكان ينشد في أثناء مجلسه مشيرا إلى موضع التدريس أبيات المتنبي، وهي أوائل قصيد  :
    بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا ... وجدت بي وبدمعي في مغانيكا
    فعم صباحا لقد هيجت لي شجنا ... وارد تحيتنا إنا محيوكا
    بأي حكم زمان صرت متخذا ... ريم الفلا بدلا من ريم أهليكا
    فكان الناس يفهمون منه ذلك، وكان أهلا له، ووعد به فأدركته المنية، وكانت ولادته يوم الثلاثاء خامس عشر ذي القعدة سنة سبع عشرة وخمسمائة بطوس، وتوفي يوم الخميس بين الصلاتين  سادس عشر رمضان سنة سبع وستين وخمسمائة ببغداد، وصلي عليه يوم الجمعة بجامع القصر الخليفة المستضيء بأمر الله ودفن في ذلك النهار في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي بباب أبرز، رحمهما الله تعالى.
    وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق أن أبا منصور البروي المذكور قدم دمشق في سنة خمس وستين وخمسمائة ونزل في رباط السميساطي، وقرئ عليه شيء من أماليه.
    والبروي: بفتح الباء الموحدة والراء وبعدها واو  ، لا أعلم هذه النسبة إلى أي شيء هي، ولا ذكرها السمعاني، وغالب ظني أنها من نواحي طوس، والله أعلم.

محمد بن يحيى

    أبو سعد محمد بن يحيى بن أبي منصور النيسابوري، الملقب محيي الدين، الفقيه الشافعي، أستاذ المتأخرين وأوحدهم علما وزهدا، تفقه على حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وأبي المظفر أحمد بن محمد الخوافي - المقدم ذكره (2) - وبرع في الفقه وصنف فيه وفي الخلاف، وانتهت إليه رياسة الفقهاء بنيسابور، ورحل إليه الناس من البلاد، واستفاد منه خلق كثير صار أكثرهم سادة وأصحاب طرق في الخلاف، وصنف كتاب المحيط في شرح الوسيط والانتصاف في مسائل الخلاف وغير ذلك من الكتب.
    ذكره الحافظ عبد الغافر الفارسي في سياق تاريخ نيسابور وأثنى عليه، وقال: كان له حظ في التذكير، واستمداد من سائر العلوم، وكان يدرس بنظامية نيسابور، ثم درس بمدينة هراة في المدسة النظامية، ومن جملة مسموعاته ما سمعه من الشيخ أبي حامد أحمد بن علي بن محمد بن عبدوس بقراءة الإمام أبي نصر عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الكريم القشيري، في سنة ست وتسعين وأربعمائة، وحضر بعض فضلاء عصرة درسه وسمع فوائده، وحسن إلقائه، فأنشده:
    رفات الدين والإسلام يحيا ... بمحيي الدين مولانا ابن يحيى
    كأن الله رب العرش يلقي ... عليه حين يلقي الدرس وحيا
    ورأيت في بعض المجاميع بيتين منسوبين إليه، ثم وجدت في ترجمة الشيخ شهاب الدين أبي الفتح محمد بن محمود بن محمد الطوسي الفقيه الشافعي نزيل مصر، قال: وأنشدني الإمام أبو سعد محمد بن يحيى النيسابوري لنفسه  وهما:
    وقالوا يصير الشعر في الماء حية ... إذا الشمس لاقته فما خلته صدقا
    فلما ثوى صدغاه في ماء وجهه ... وقد لسعا قلبي تيقنته حقا
    وكانت ولادته سنة ست وسبعين وأربعمائة بطريثيث. وتوفي شهيدا في شهر رمضان، سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، قتلته الغز لما استولوا على نيسابور في وقعتهم مع السلطان سنجر السلجوقس - كما تقدم ذكره في ترجمته  - أخذته ودست في فيه التراب حتى مات. وحكى ابن الأزرق الفارقي في تاريخه أن ذلك كان في سنة ثلاث وخمسين، والأول أصح. ولما مات رثاه جماعة من العلماء، من جملتهم أبو الحسن علي بن أبي القاسم البيهقي، قال فيه:
    يا سافكا دم عالم متبحر ... قد طار في أقصى الممالك صيته
    تالله قل لي يا ظلوم ولا تخف ... من كان محيي الدين كيف تميته 
    رحمه الله تعالى.
     وتوفي شهاب الدين الطوسي المذكور، في العشرين من ذي القعدة سنة ست وتسعين وخمسمائة بمصر [ودفن بالقرافة، ومولده سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، وكان مدرسا بمدرسة منازل العز بمصر، وقدم إلى مصر من مكة سنة تسع وسبعين وخمسمائة ونزل خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة]  .
    وطريثيث: بضم الطاء المهملة وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر الثاء المثلثة وسكون الياء المثناة الثانية وبعدها ثاء مثلثة، وهي ناحية كبيرة من نواحي نيسابور، خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم.

أبو نصر الأرغياني

    أبو نصر محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله الأرغياني الفقيه الشافعي، قدم من بلده إلى نيسابور واشتغل على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني وبرع في الفقه، وكان إماما مفننا ورعا كثير العبادة. وسمع الحديث من أبي الحسن علي ابن أحمد الواحدي صاحب التفاسير، وروى عنه في تفسير قوله تعالى: (إني لأجد ريح يوسف) ، أن ريح الصبا استاذنت ربها عز وجل أن تأتي بريح يوسف على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام قبل أن يأتيه البشير بالقميص، فأذن لها فأتته بذلك، فلذلك يستروح  كل محزون بريح الصبا، وهي من ناحية المشرق: إذا هبت على الأبدان نعمتها ولينتها، وهيجت الأشواق إلى الأوطان والأحباب، وأنشد:
    أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
    فان الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم تجلت همومها
     وكانت ولادته في سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وتوفي ليلة الرابع والعشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بنيسابور، ودفن بظاهرها بموضع يقال له الحيرة على الطريق، رحمه الله تعالى.
    والفتاوى المستخرجة من كتاب نهاية المطلب المنسوبة إلى الأرغياني أشك فيها: هل هي له أم لأبي الفتح سهل بن علي الأرغياني - المقدم ذكره  - فإني بعيد العهد بالوقوف عليها، وذكرت في ترجمة أبي الفتح أنها له، ثم حصل  لي الشك، والله أعلم.
    وقد تقدم الكلام على نسبة الأرغياني في ترجمة أبي الفتح المذكور.
    ثم إني ظفرت بالفتاوى المذكورة، فوجدتها لأبي نصر المذكور، لا لأبي الفتح.

المستظهري

    أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي الأصل الفارقي المولد، المعروف بالمستظهري، الملقب فخر الإسلام الفقيه الشافعي، كان فقيه وقته، تفقه أولا بميافارقين على أبي عبد الله محمد بن بيان الكازروني، وعلى القاضي أبي منصور الطوسي صاحب أبي محمد الجويني إلى أن عزل عن قضاء ميافارقين، ثم رحل أبو بكر إلى بغداد، ولازم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، ثم رحل أبو بكر إلى بغداد، وقرأ عليه وأعاد عنده، وقرأ كتاب الشامل في الفقه على مصنفه أبي نصر ابن الصباغ، رحمه الله تعالى، ودخل نيسابور صحبة الشيخ أبي إسحاق، وتكلم في مسألة بين يدي إمام الحرمين فأحسن فيها، وعاد إلى بغداد. وذكره الحافظ عبد الغافر الفارسي في سياق تاريخ نيسابور وتعين في الفقه بالعراق بعد أستاذه أبي إسحاق، وانتهت إليه رياسة الطائفة الشافعية. وصنف تصانيف حسنة، من ذلك كتاب حلية العلماء في المذهب، وذكر فيه مذهب الشافعي، ثم ضم إلى كل مسألة اختلاف الأئمة فيها، وجمع من ذلك شيئا كثيرا وسماه المستظهري لأنه صنفه للإمام المستظهر بالله، وصنف أيضا في الخلاف.
    وتولى التدريس بالمدرسة النظامية بمدينة بغداد، سنة  أربع وخمسمائة إلى حين وفاته، وكان قد وليها قبله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأبو نصر ابن الصباغ صاحب الشامل وأبو سعد المتولي صاحب تتمة الإبانة وأبو حامد الغزالي - وقد سبق ذكر ذلك في ترجمة كل واحد منهم - فلما انقرضوا تولاها هو. وحكى لي بعض المشايخ من علماء المذهب أنه يوم ذكر الدرس، وضع منديله على عينيه وبكى كثيرا، وهو جالس على السدة التي جرت عادة المدرسين بالجلوس عليها وكان ينشد  :
    خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن العناء تفردي بالسؤدد
    وجعل يردد هذا البيت ويبكي، وهذا إنصاف منه واعتراف لمن تقدمه بالفضل والرجحان عليه، وهذا البيت من جملة أبيات في الحماسة . ومدحه تلميذه أبو المجد حمدان بن كثير البالسي  بقصيدة يقول فيها:
    يا كعبة الفضل افتنا لم لم يجب ... شرعا على قصادك الإحرام
    ولما تضمخ زائريك بطيب ما ... تلقيه وهو على الحجيج حرام
    وقد سبق في مرثية أبي العلاء المعري مثل هذا المعنى.
    وكانت ولادته في المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة بميافارقين. وتوفي في يوم السبت خامس عشري شوال سنة سبع وخمسمائة ببغداد، ودفن في مقبرة باب أبرز  ، مع شيخه أبي إسحاق في قبر واحد، وقيل دفن إلى جانبه، رحمهما الله تعالى.

الغزالي

    أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، الملقب حجة الإسلام زين الدين الطوسي الفقيه الشافعي، لم يكن للطائفة الشافعية في آخر عصره مثله، اشتغل في مبدأ أمره بطوس على أحمد الراذكاني، ثم قدم نيسابور واختلف إلى دروس إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وجد في الاشتغال حتى تخرج في مدة قريبة، وصار من الأعيان المشار إليهم في زمن أستاذه، وصنف في ذلك الوقت، وكان أستاذه يتبجح به، ولم يزل ملازما له إلى أن توفي  في التاريخ المذكور في ترجمته، فخرج من نيسابور إلى العسكر، ولقي الوزير نظام الملك فأكرمه وعظمه وبالغ في الإقبال عليه، وكان بحضرة الوزير جماعة من الأفاضل، فجرى بينهم الجدال والمناظرة في عدة مجالس، فظهر عليهم واشتهر اسمه وسارت بذكره الركبان.
    ثم فوض إليه الوزير تدريس مدرسته النظامية بمدينة بغداد، فجاءها وباشر إلقاء الدروس بها، وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وأعجب به أهل العراق وارتفعت عندهم منزلته، ثم ترك جميع ما كان عليه في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وسلك طريق الزهد والانقطاع وقصد الحج [وناب عنه أخوه أحمد في التدريس]  فلما رجع توجه إلى الشام فأقام بمدينة دمشق مدة يذكر الدروس في زاوية الجامع في الجانب الغربي منه، وانتقل منها إلى البيت المقدس، واجتهد في العبادة وزيارة المشاهد والمواضع المعظمة، ثم قصد مصر وأقام بالإسكندرية مدة، ويقال إنه قصد منها الركوب في البحر إلى بلاد المغرب على عزم الاجتماع بالأمير يوسف بن تاشفين صاحب مراكش، - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - فبينا هو كذلك بلغه نعي يوسف بن تاشفين المذكور، فصرف عزمه عن تلك الناحية.
    ثم عاد إلى وطنه بطوس واشتغل بنفسه وصنف الكتب المفيدة في عدة فنون منها ما هو أشهرها كتاب " الوسيط " و " البسيط " و " الوجيز " و " الخلاصة " في الفقه، ومنها " إحياء علوم الدين " وهو من أنفس الكتب وأجملها  ، وله في أصول الفقه " المستصفى " فرغ من تصنيفه في سادس المحرم سنة ثلاث وخمسمائة ، وله المنحول والمنتحل في علم الجدل وله تهافت الفلاسفة ومحك النظر ومعيار العلم والمقاصد والمضنون به على غير أهله والمقصد الأقصى  في شرح أسماء الله الحسنى ومشكاة الأنوار والمنقذ من الضلال وحقيقة القولين وكتبه كثيرة وكلها نافعة.
    ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها بالمدرسة النظامية، فأجاب إلى ذلك بعد تكرار المعاودات، ثم ترك ذلك وعاد إلى بيته في وطنه، واتخذ خانقاه للصوفية ومدرسة للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزع أوقاته على وظائف الخير: من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب والقعود للتدريس، إلى أن انتقل إلى ربه. ويروى له شعر، فمن ذلك ما نسبه إليه الحافظ أبو سعد السمعاني في الذيل وهو قوله:
    حلت عقارب صدغه في خده ... قمرا فجل بها عن التشبيه
    ولقد عهدناه يحل ببرجها ... فمن العجائب كيف حلت فيه
     ورأيت هذين البيتين في موضع آخر لغيره والله أعلم. ونسب إليه العماد الأصبهاني في " الخريدة " (3) هذين البيتين، وهما:
    هبني صبوت كما ترون بزعمكم ... وحظيت منه بلثم خد أزهر
    إني اعتزلت فلا تلوموا إنه ... أضحى يقابلني بوجه أشعر (ي) ونسب إليه البيتين اللذين قبلهما.
    وكانت ولادته سنة خمسين وأربعمائة، وقيل سنة إحدى وخمسين بالطابران  ، وتوفي يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة بالطابران ، ورثاه الأديب أبو المظفر محمد الأبيوردي الشاعر المشهور - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - بأبيات فائية من جملتها:
    مضى وأعظم مفقود فجعت به ... من لا نظير له في الناس يخلفه
     وتمثل الإمام إسماعيل الحاكمي بعد وفاته بقول أبي تمام من جملة قصيدة مشهورة:
    عجبت لصبري بعده وهو ميت ... وكنت امرءا أبكي دما وهو غائب
    على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
    ودفن بظاهر الطابران، وهي قصبة طوس، رحمه الله تعالى.
    وقد تقدم الكلام على الطوسي والغزالي في ترجمة أخيه أحمد الزاهد الواعظ المذكور في حرف الهمزة ، والطابران، بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وراء مهملة وبعد الألف الثانية نون، وهي إحدى بلدتي طوس، كما تقدم ترجمة أحمد أيضا.

الخضري

    أبو عبد الله محمد بن أحمد الخضري المروزي الفقيه الشافعي، إمام مرو ومقدم الفقهاء الشافعية، صحب أبا بكر الفارسي، وكان من أعيان تلامذة أبو بكر القفال الشاشي  ، وأقام بمرو ناشرا فقه الشافعي، وكان يضرب به المثل في قوة الحفظ وقلة النسيان، وله في المذهب وجوه غريبة نقلها الخراسانيون عنه، وروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه صحح دلالة الصبي على القبلة، قال الخضري: معناه أن يدل على قبلة تشاهد في الجامع، فأما في موضع الاجتهاد فلا يقبل.
    وذكر أبو الفتوح العجلي في أول كتاب النكاح من كتاب شرح مشكلات الوجيز والوسيط أن الشيخ أبا عبد الله الخضري سئل عن قلامة ظفر المرأة: هل يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها، فأطرق الشيخ طويلا ساكتا، وكانت ابنة الشيخ أبي علي الشبوي تحته، فقالت له: لم تتفكر وقد سمعت أبي يقول في جواب هذه المسألة: إن كانت من قلامة أظفار اليدين جاز النظر إليها وإن كانت من أظفار الرجلين لم يجز، وإنما كان ذلك لأن يدها ليست بعورة، بخلاف ظهر القدم، ففرح الخضري  وقال: لو لم أستفد من اتصالي بأهل العلم إلا هذه المسألة لكانت كافية، انتهى كلام العجلي.
    قلت أنا: هذا التفصيل بين اليدين والرجلين فيه نظر، فإن أصحابنا قالوا: اليدان ليستا بعورة في الصلاة، أما بالنسبة إلى نظر الأجنبي فما نعرف بينهما فرقاً، فلينظر. وكانت له معرفة بالحديث أيضا وكان ثقة. وتوفي في عشر الثمانين والثلثمائة، رحمه الله تعالى.
    والخضري: بكسر الخاء المعجمة وسكون الضاد المعجمة وبعدها راء، هذه النسبة إلى بعض لأجداده، واسمه الخضر، هذا عند من يكسر الخاء ويسكن الضاد من الخضر، وهي إحدى اللغتين، فأما من يقول الخضر - بفتح الخاء وكسر الضاد - فقياسه أن يقال الخضري - بفتح الضاد - كما قالوا في النسبة إلى نمرة نمري، وهو باب مطرد لا يخرج عنه شيء.
    والشبوي: بفتح الشين المعجمة وتشديد الباء الموحدة وضمها وسكون الواو، هذه النشبة إلى شبويه، وهو اسم بعض أجداد الشيخ أبي علي المذكور وكان فقيها فاضلا من أهل مرو  ، رحمه الله تعالى.

أبو عاصم العبادي

القاضي أبو عاصم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عباد، العبادي الهروي الفقيه الشافعي، تفقه بهراة على القاضي أبي منصور الأزدي، وبنيسابور على القاضي أبي عمر البسطامي، وصار إماما متقنا دقيق النظر. تنقل في البلاد ولقي خلقا كثيرا من المشايخ وأخذ عنهم، وصنف كتبا نافعة: منها أدب القضاء والمبسوط والهادي إلى مذهب العلماء وكتاب الرد على السمعاني  وله كتاب لطيف في طبقات الفقهاء ، وعنه أخذ أبو سعد الهروي صاحب كتاب الأشراف في أدب القضاء وغوامض الحكومات وسمع الحديث ورواه. وتوفي في شوال سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكانت ولادته في سنة خمس وسبعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى.
والعبادي: بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف دال مهملة، هذه النسبة إلى جده عباد المذكور. وقد تقدم الكلام على الهروي.

المسعودي الفقيه

    أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مسعود بن أحمد ، المسعودي الفقيه الشافعي، إمام فاضل مبرز ورع من أهل مرو، تفقه على أبي بكر القفال المرزوي وشرح مختصر المزني وأحسن فيه، وروى قليلا من الحديث عن أستاذه القفال، وحكى عنه الغزالي في كتاب الوسيط في الأيمان في الباب الثالث فيما يقع به الحنث مسألة لطيفة فقال: فرع - لو حلف لا يأكل بيضا، ثم انتهى إلى رجل فقال: والله لآكلن ما في كمك، فإذا هو بيض، فقد سئل القفال عن
    هذه المسألة وهو على الكرسي فلم يحضره الجواب، فقال المسعودي تلميذه: يتخذ منه الناطف ويأكله، فيكون قد أكل ما في كمه ولم يأكل البيض، فاستحسن ذلك منه، وهذه الحيلة من لطائف الحيل. وتوفي المسعودي المذكور سنة نيف وعشرين وأربعمائة بمرو، رحمه الله تعالى، ونسبته إلى جده مسعود.

القضاعي

    أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حكمون بن إبراهيم بن محمد بن مسلم القضاعي الفقيه الشافعي، صاحب كتاب " الشهاب "، ذكره الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " وقال: روى عنه أبو عبد الله الحميدي، وتولى القضاء بمصر نيابة  من جهة المصريين، وتوجه منهم رسولا إلى جهة الروم، وله عدة تصانيف: منها كتاب الشهاب وكتاب " مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأخباره " وكتاب " الإنباء عن الأنبياء " و " تواريخ الخلفاء " وله كتاب " خطط مصر ".
    وذكره الأمير أبو نصر ابن ماكولا في كتاب " الإكمال " وقال: كان مفننا في عدة علوم. وتوفي بمصر ليلة الخميس السادس عشر  من ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وصلي عليه يوم الجمعة بعد العصر في مصلى النجار. وقد تقدم ذكره في ترجمة الظاهر بن الحاكم العبيدي  صاحب مصر، وأنه كان يعلم عن وزيره الأقطع الجرجرائي.
    وذكر السمعاني في كتاب " الذيل " في ترجمة الخطيب أبي بكر أحمد بن علي ابن ثابت الحافظ صاحب " تاريخ بغداد " أنه حج سنة خمس وأربعين وأربعمائة وحج تلك السنة أبو عبد الله القضاعي المذكور، وسمع الخطيب منه، رحمه الله تعالى.
    والقضاعي: بضم القاف وفتح الضاد المعجمة وبعد الألف عين مهملة، هذه النسبة إلى قضاعة، ويقال: هم ابن معد بن عدنان، ويقال: هو من حمير، وهو الأكثر والأًح، واسمه عمرو بن مالك، وينسب إليه قبائل كثيرة، منها كلب وبلي وجهينة وعذرة وغيرهم .
     والنجار صاحب المصلى هو: عمران بن موسى النجار مولى غافق، وقيل إن النجار المذكور هو أبو الطيب محمد بن جعفر البغدادي النجار، ويعرف بغندر، وتوفي سنة ثمان وخمسين وثلثمائة قبل دخول القائد جوهر مصر، رحمه الله تعالى.

أبو بكر الفارسي

أبو بكر محمد بن أحمد بن علي بن شاهويه الفارسي الفقيه الشافعي، ذكره الحاكم أبو عبد الله في " تاريخ نيسابور " وقال: أقام بنيسابور زمانا، ثم خرج إلى بخارا ثم انصرف إلى نيسابور، ورجع إلى بلاد فارس فولي القضاء بها، ثم رجع إلى نيسابور وحدث بها. وتوفي في سنة اثنتين وستين وثلثمائة بنيسابور، رحمه الله تعالى. وله في المذهب وجوه بعيدة تفرد بها، ولم نرها منقولة عن غيره، ولم أعلم عمن أخذ الفقه  .
وشاهويه: بالشين المعجمة وبعد الألف هاء مفتوحة ثم واو مفتوحة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة، وهو اسم عجمي مركب، فالشاه الملك، وأما ويه فقد قال الجوهري في كتاب " الصحاح ": سيبويه ونحوه من الأسماء اسم بني مع صوت فجعلا اسما واحدا.
وأما فارس فإنها كورة عظيمة قصبتها شيراز، وشهرتها تغني عن ضبطها.

أبو بكر الأودني

    أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن نصر بن ورقاء الأودني الفقيه الشافعي، إمام أصحاب الشافعي في عصره، ذكره الحاكم أبو عبد الله بن البيع النيسابوري في " تاريخ نيسابور " وقال: حج ثم انصرف وأقام بنيسابور عندنا مدة وكان من أزهد الفقهاء وأبكاهم على تقصيره. وتوفي في شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين وثلثمائة ببخارا، ودفن بكلاباذ رحمه الله تعالى.
    والأودني: بضم الهمزة وسكون الواو وفتح الدال المهملة وبعدها نون، هذه النسبة إلى أودنة، وهي قرية من قرى بخارا، هكذا قاله السمعاني، والفقهاء يحرفونه فيقولون الأودي وسمعت بعض مشايخنا في زمن الاشتغال بالعلم يقول: هو " الأودني "  بفتح الهمزة والله أعلم. [ثم وجدت في كتاب أبي بكر الحازمي الذي سماه ما اتفق لفظه وافترق مسماه ما يدل على أنه بفتح الهمزة، فإنه جعله مع أردن ونظائره مما أوله بفتح الهمزة، ثم قال: وأما أودن - بعد الهمزة واو ساكنة ثم دال مهملة وآخره نون - فقرية من قرى بخارا، وعادته في هذا الكتاب أنه إذا ذكر مكانا على مثل هذه الصورة ثم ذكر بعده مثله تركه على حاله، وإن اختلف في الحركة ذكر وجه المخالفة، ولم يذكر ها هنا ضمة الهمزة، فدل على أنه مثل الأول] .
    وله وجوه في المذهب، وذكره صاحب " الوسيط "  في مواضع عديدة.
    وكلاباذ: بفتح الكاف وبعد اللام ألف باء موحدة مفتوحة وبعد الألف ذال معجمة، وهي محلة ببخارا.
     وإليها ينسب الحافظ المتقن أبو نصر أحمد بن محمد بن الحسن بن الحسين ابن علي بن رستم الكلاباذي أحد أئمة الحديث وكان ثقة، وتوفي لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، ومولده سنة ستين وأربعمائة  رحمه الله تعالى. قلت: هكذا ذكره الحافظ أبو سعيد ابن السمعاني في تاريخ وفاة الكلاباذي ومولده وهو غلط، فإنه أخر تاريخ المولد عن تاريخ الوفاة، وكشفته من جهات عديدة فلم أجد من ذكره، فتركته على حاله، والظاهر أن الأمر بالعكس، والله أعلم.

أبو زيد المروزي

    أبو زيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد، المرزوي الفاشاني الفقيه الشافعي، كان من الأئمة الأجلاء، حسن النظر مشهورا بالزهد حافظا للمذهب، وله فيه وجوه غريبة. أخذ الفقه عن أبي إسحاق المرزوي، وأخذ عنه أبو بكر القفال المرزوي، ودخل بغداد وحدث بها، وسمع منه الحافظ أبو الحسن الدارقطني ومحمد بن أحمد بن القاسم المحاملي، ثم خرج إلى مكة فجاور بها سبع سنين، وحدث هناك بصحيح البخاري عن محمد بن يوسف الفربري، قال الخطيب: وأبو زيد أجل من روى هذا الكتاب. وقال أبو بكر البزار : عادلت الفقيه أبا زيد من نيسابور إلى مكة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه، يعني خطيئة. وقال أحمد  بن محمد الحاتمي الفقيه: سمعت أبا زيد المروزي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأنا بمكة، وكأنه يقول لجبريل عليه السلام: يا روح الله اصحبه إلى وطنه  .
    وكان في أول أمره فقيرا لا يقدر على شيء فكان يعبر الشتاء بلا جبة مع شدة البرد في تلك البلاد، فإذا قيل له في ذلك يقول: بي علة تمنعني من لبس المحشو، يعني به الفقر. وكان لا يشتهي أن يطلع أحدا على باطن حاله، ثم أقبلت عليه الدنيا في آخر عمره وقد أسن وتساقطت أسنانه فكان لا يتمكن من المضغ وبطلت منه حاسة الجماع فكان يقول مخاطبا للنعمة: لا بارك الله فيك! أقبلت حين لا ناب ولا نصاب.
    وقد أذكرتني هذه الحكاية أبياتا لبعض الفضلاء وقد أثرى وصارت له نعمة وهو في عشر الثمانين، وهي:
    ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا ... ملكته بعد أن جاوزت سبعينا
    تطيف بي من بني الأتراك أغزلة ... مثل الغصون على كثبان يبرينا
    وخرد من بنات الروم رائعة ... يحكين بالحسن حور الجنة العينا
    يغمزنني بأساريع منعمة ... تكاد تنقض من أطرافها لينا
    يردن إحياء ميت لا حراك به ... فكيف يحيين ميتا صار مدفونا
    قالوا أنينك طول الليل يقلقنا ... فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
    وتوفي يوم الخميس ثالث عشر رجب سنة إحدى وسبعين  وثلثمائة بمرو، رحمه الله تعالى، وقد تقدم الكلام على نسبة المرزوي والفاشاني فلا حاجة إلى الإعادة.

أبو بكر النيسابوري

أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، كان فقيها عالما مطلعا، ذكره الشيخ أبو إسحاق في " طبقات الفقهاء "  وقال: صنف في اختلاف العلماء كتبا لم يصنف أحد مثلها، واحتاج إلى كتبه الموافق والمخالف، ولا أعلم عمن أخذ الفقيه، وتوفي بمكة سنة تسع أو عشر وثلثمائة  ، رحمه الله تعالى، ومن كتبه المشهورة في اختلاف العلماء " كتاب الاشراف " وهو كتاب كبير يدل على كثرة وقوفه على مذاهب الأئمة، وهم من أحسن الكتب وأنفعها وأمتعها، وله كتاب " المبسوط " أكبر من " الاشراف "، وهو في اختلاف العلماء ونقل مذاهبهم أيضا، وله كتاب " الإجماع " وهو صغير.

أبو الطيب ابن سلمة

    أبو الطيب محمد بن المفضل بن سلمة بن عاصم الضبي البغدادي الفقيه الشافعي، كان  من كبار الفقهاء ومتقدميهم، أخذ الفقه عن أبي العباس ابن شريج، وكان موصوفا بفرط الذكاء، ولهذا كان أبو العباس يقبل عليه كل الإقبال ويميل إلى تعليمه غاية الميل، وصنف كتبا عديدة، وتوفي في المحرم سنة ثمان ثلثمائة، وهو غض الشباب، رحمه الله تعالى، وله في المذهب وجوه حسنة.
    وسلمة: بفتح السين المهملة واللام والميم.
     وأبوه أبو طالب المفضل بن سلمة بن عاصم الضبي  اللغوي صاحب التصانيف المشهورة في فنون الأدب ومعاني القرآن، وكان كوفي المذهب مليح الخط، لقي ابن الأعرابي وغيره من العلماء، واستدرك على الخليل في كتاب العين وخطأه، وعمل في ذلك كتابا، وله من التصانيف كتاب البارع في علم اللغة وكتاب الفاخر وكتاب العود والملاهي وكتاب جلاد الشبه وكتاب الطيف وكتاب " ضياء القلوب في معاني القرآن " نيف وعشرون جزءا، وكتاب " الاشتقاق " وكتاب " الزرع والنبات " وكتاب " خلق الإنسان " وكتاب ما يحتاج إليه الكاتب وكتاب المقصور والممدود وكتاب " المدخل إلى علم النحو "  وروى عنه أبو بكر الصولي وزعم أنه سمع عنه في سنة تسعين ومائتين.
     وجده سلمة بن عاصم  صاحب الفراء وروايته، وهم أهل بيت كلهم علماء نبلاء مشاهير، رحمهم الله تعالى.
    وكان المفضل المذكور متصلا بالوزير إسماعيل بن بلبل فقيل له  : إن ابن الرومي الشاعر - المقدم ذكره  - قد هجاه، فشق ذلك على الوزير  ، وحرم ابن الرومي عطاياه، فعمل ابن الرومي في المفضل أبياتا وهي  :
    لو تلففت في كساء الكسائي ... وتفريت فروة الفراء
    وتخللت بالخليل وأضحى ... سيبويه لديك رهن سباء
    وتكونت من سواد أبي الأسود ... شخصا يكنى أبا السوداء
    لأبى الله أن يعدك أهل العلم ... إلا من جملة الأغبياء

أبو سهل الصعلوكي

    أبو سهل محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن هارون بن موسى بن عيسى بن إبراهيم بن بشر الحنفي العجلي المعروف بالصعلوكي، الأصبهاني أصلا ومولدا النيسابوري دارا، الفقيه الشافعي المفسر المتكلم الأديب النحوي الشاعر العروضي الكاتب، ذكره الحاكم أبو عبد الله في تاريخه فقال: حبر زمانه، وفقيه أصحابه وأقرانه، صحب أبا إسحاق المرزوي وتفقه عليه وتبحر في العلوم، ثم خرج إلى العراق ودخل البصرة ودرس بها سنين، إلى أن استدعي إلى أصبهان فاقام بها سنين، فلما نعي إليه عمه أبو الطيب خرج مستخفيا فورد نيسابور سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، وجلس لمأتم عمه ثلاثة أيام، وكان الشيخ أبو بكر ابن إسحاق يحضر كل يوم فيقعد معه، وكذلك كل رئيس وقاض ومفت من الفريقين، فلما فرغ من العزاء عقدوا له مجلس النظر، ولم يبق موافق ولا مخالف إلا أقربفضله وتقدمه، وحضره المشايخ مرة بعد أخرى يسألونه أن ينقل من خلفهم وراءه بأصبهان، فأجاب إلى ذلك، ودرس وأفتى، وعنه أخذ فقهاء نيسابور. وكان الصاحب ابن عباد يقول: أبو سهل الصعلوكي لا نرى مثله ولا يرى مثل نفسه. وسئل أبو الوليد عن أبي بكر القفال والصعلوكي فقال: ومن يقدر يكون مثل الصعلوكي
    وكانت ولادته سنة ست وتسعين ومائتين، وسمع الحديث سنة خمس وثلثمائة، وحضر مجلس أبي علي الثقفي للتفقه  سنة ثلاث عشرة. وتوفي في آخر سنة تسع وستين وثلثمائة بنيسابور، وحملت جنازته إلى ميدان الحسين، فقدم السلطانولده أبا الطيب للصلاة عليه فصلى، ودفن في المسجد الذي كان يدرس فيه، رحمه الله تعالى، وقد تقدم ذكر ابنه  في حرف السين والكلام على الصعلوكي.

أبو عبد الله الختن

أبو عبد الله محمد بن الحسن بن إبراهيم الأستراباذي، وقيل الجرجاني، المعروف بالختن، الفقيه الشافعي، كان فقيها فاضلا ورعا مشهورا في عصره، وله وجوه حسنة في المذهب، وكان مقدما في الأدب ومعانيالقرآن والقراءات، ومن العلماء المبرزين في النظر والجدل. سمع أبا نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي وأقرانه ببلده، وورد نيسابور سنة سبع وثلاثين وثلثمائة فأقام بها إلى آخر سنة تسع، ثم دخل أصبهان فسمع مسند أبي داود من عبد الله بن جعفر، ودخل العراق وكتب بعد الأربعين وأكثر، وكان كثير السماع والرحلة، وشرح كتاب التلخيص لأبي العباس ابن القاص، وتوفي بجرجان يوم عيد الأضحى سنة ست وثمانين وثلثمائة، وهو ابن خمس وسبعين سنة، رحمه الله تعالى.
وقد تقدم الكلام على الأستراباذي والجرجاني، والختن: بفتح الخاء المعجمة والتاء المثناة من فوقها وبعدها نون، وإنما قيل له ذلك لأنه كان ختن الفقيه أبي بكر الإسماعيلي.

الخميس، 27 أبريل 2017

القفال الشاشي

    أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل، القفال الشاشي الفقيه الشافعي، إمام عصره بلا مدافعة، كان فقيها محدثا أصوليا لغويا شاعرا، لم يكن بما وراء النهر للشافعيين مثله في وقته، رحل إلى خراسان والعراق والحجاز والشام والثغور، وسار ذكره في البلاد، وأخذ الفقه عن ابن سريج، وله مصنفات كثيرة، وهو أول من صنف الجدل الحسن من الفقهاء، وله كتاب في أصول الفقه، وله شرح الرسالة، وعنه انتشر مذهب  الشافعي في بلاده، وروى عن محمد بن جرير الطبري وأقرانه، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله وأبو عبد الله ابن منده وأبو عبد الرحمن السلمي وجماعة كثيرة. وهو والد القاسم صاحب كتاب التقريب الذي ينقل عنه في النهاية والوسيط والبسيط. وقد ذكره الغزالي في الباب الثاني من كتاب الرهن، لكنه قال: أبو القاسم، وهو غط، وصوابه: القاسم. وقال العجلي في شرح مشكلات الوجيز والوسيط في الباب الثالث من كتاب التيمم: إن صاحب التقريب هو أبو بكر القفال، وقيل إنه ابنه القاسم، ثم قال: فلهذا يقال: صاحب التقريب على الإبهام.
    قلت: ورأيت في شوال سنة خمس وستين وستمائة، في خزانة الكتب بالمدرسة العادلية بدمشق المحروسة كتاب التقريب في ست مجلدات، وهي من حساب عشر مجلدات، وكتب عليه بأنه تصنيف أبي الحسن القاسم ابن أبي بكر القفال الشاشي، وقد كانت النسخة المذكورة للشيخ قطب الدين مسعود النيسابوري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وعليها خطه بأنه وقفها  ، وهذا التقريب غير التقريب الذي لسليم الرازي، فإني رأيت خلقا كثيرا من الفقهاء يعتقدونه هو، فلهذا نبهت عليه، والتقريب الذي لابن القفال قليل الوجود، والذي لسليم موجود بأيدي الناس، وهذا التقريب هو الذي تخرج به فقهاء خراسان.
    وقد وقع الاختلاف في وفاة القفال المذكور، فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء  : توفي في سنة ست وثلاثين وثلثمائة، وقال الحاكم أبو عبد الله المعروف بابن البيع النيسابوري: إنه توفي بالشاش، في ذي الحجة سنة خمس وستين وثلثمائة، وقال: كتبت عنه وكتب عني، ووافقه على هذا ابن السمعاني في كتاب الأنساب وزاد فقال: وكانت ولادته في سنة إحدى وتسعين ومائتين، وقال أعني ابن السمعاني في كتاب الذيل: إنه توفي سنة ست وستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى، وكذا قاله في كتاب الأنساب أيضا في ترجمة الشاشي، والقول الأول قاله  في ترجمة القفال، والله أعلم بالصواب.
    والشاشي: نسبة إلى الشاش - بشينين معجمتين بينهما ألف - وهي مدينة وراء نهر سيحون، خرج منها جماعة من العلماء، وهذا القفال غير القفال المروزي - وقد سبق ذكر ذلك في العبادلة  - وهو متاخر عن هذا.

أبو بكر الصيرفي

أبو بكر محمد بن عبد الله، المعروف بالصيرفي، الفقيه الشافعي البغدادي، كان من جملة الفقهاء، أخذ الفقه عن أبي العباس بن سريج، واشتهر بالحذق في النظر والقياس وعلوم الأصول، وله في أصول الفقه كتاب لم يسبق إلى مثله. حكى أبو بكر القفال في كتابه الذي صنفه في الأصول أن أبا بكر الصيرفي كان أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي، وهو أول من انتدب من أصحابنا للشروع في علم الشروط، وصنف فيه كتابا أحسن فيه كل الإحسان. وتوفي يوم الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين وثلثمائة، رحمه الله تعالى.
والصيرفي: بفتح الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعدها فاء، هذه النسبة مشهورة لمن  يصرف الدنانير والدراهم، وإنما قصدت بذكرها ضبطها وتقييدها، فقد رأيت كثيرا من الناس ينطقون بكسر الصاد والراء.

ابن الحداد المصري

    أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الكناني، المعروف بابن الحداد، الفقيه الشافعي المصري، صاحب كتاب الفروع في المذهب وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة، دقق في مسائله غاية التدقيق، واعتنى بشرحه جماعة من الأئمة الكبار: شرحه القفال المروزي شرحا متوسطا ليس بالكبير، وشرحه القاضي أبو الطيب الطبري في مجلد كبير، وشرحه الشيخ أبو علي السنجي شرحا تاما مستوفى أطال فيه، وهو أحسن الشروح.
    وكان ابن الحداد المذكور قد أخذ الفقه عن أبي إسحاق المروزي، وقال صاحبنا عماد الدين بن باطيش في كتابه الذي وضعه على المهذب وفي طبقات الفقهاء: إنه من اعيان أصحاب إبراهيم المزني، وقد وهم فيه، فإن ابن الحداد ولد في السنة التي توفي فيها المزني. وقال القضاعي في كتاب خطط مصر إنه ولد في اليوم الذي مات فيه المزني رحمه الله تعالى، فكيف يمكن أن يكون من أصحابه وإنما نبهت على ذلك لئلا يظن ظان أن هذا غلط، وذلك الصواب، ونسب إليه أيضا الأبيات الذالية التي ذكرتها في ترجمة ظافر الحداد الإسكندري، وقد سبق الكلام عليها في ترجمة ظافر  .
    وكان ابن الحداد فقيها محققا  غواصا على المعاني، تولى القضاء بمصر والتدريس وكانت الملوك والرعايا تكرمه وتعظمه  وتقصده في الفتاوى والحوادث، وكان يقال في زمنه: عجائب الدنيا ثلاث: غضب الجلاد، ونظافة السماد، والرد على ابن الحداد. وكانت ولادته لست بقين من شهر رمضان، سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وأربعين وثلثمائة، وقال السمعاني: سنة أربع وأربعين، والله أعلم بالصواب. وحدث عن أبي عبد الرحمن النسائي وغيره رحمهم الله أجمعين، وذكر القضاعي في كتاب خطط مصر ان ابن الحداد المذكور توفي عند منصرفه من الحج، سنة أربع وأربعين وثلثمائة بمنية  حرب على باب مدينة مصر، وقيل في موضع القاهرة.
    وكان متصرفا في علوم كثيرة من علوم القرآن الكريم والفقه والحديث والشعر وأيام العرب والنحو واللغة وغير ذلك، ولم يكن في زمانه مثله، وكان محببا إلى الخاص والعام، وحضر جنازته الأمير أبو القاسم أنوجور ابن الإخشيد وكافور وجماعة من اهل البلد، وله تسع وسبعون سنة وأربعة أشهر ويومان (2) ، رحمه الله تعالى (3) .
    والحداد: بفتح الحاء المهملة وتشديد الدال ثم دال بعد ألف، وكان أحد أجداده يعمل الحديد ويبيعه فنسب إليه.

الترمذي

    أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر، الترمذي الفقيه الشافعي، لم يكن للفقهاء الشافعية في وقته أرأس منه ولا أورع ولا أكثر تقلا، وكان يسكن بغداد، وحدث بها عن يحيى بن بكير المصري ويوسف بن عدي وكثير بن يحيى وغيرهم. وروى عنه أحمد بن كامل القاضي وعبد الباقي بن قانع وغيرهما. وكان ثقة من أهل العلم والفضل والزهد في الدنيا. قال أبو الطيب أحمد بن عثمان السمسار والد أبي حفص عمر بن شاهين: حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا فالنزول كيف يبقى فوقه علو فقال أبو جعفر: النزول معقول والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
    وكان من التقلل في المطعم على حالة عظيمة فقرا وورعا وصبرا على الفقر، أخبر محمد بن موسى بن حماد أنه أخبره أنه تقوت في سبعة عشر يوما خمس حبات، أو قال ثلاث  حبات، قال: قلت: كيف عملت فقال: لم يكن عندي غيرها فاشتريت بها لفتا، فكنت آكل كل يوم واحدة. وذكر أبو إسحاق الزجاج النحوي أنه كان يجرى عليه في كل شهر أربعة دراهم، وكان لا يسأل أحدا شيئا.
    وكان يقول: تفقهت على مذهب أبي حنيفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة عام حججت فقلت: يا رسول الله، قد تفقهت بقول أبي حنيفة، أفآخذ به قال: لا، فقلت: آخذ بقول مالك بن أنس فقال:خذ منه ما وافق سنتي، قلت: فآخذ بقول الشافعي فقال: ما هو بقوله، إلا أنه أخذ بسنتي ورد على من خالفها، قال: فخرجت في أثر هذه الرؤيا إلى مصر، وكتبت كتب الشافعي. وقال الدارقطني: هو ثقة مأمون ناسك، وكان يقول: كتبت الحديث تسعا وعشرين سنة. وكانت ولادته في ذي الحجة سنة مائتين، وقيل سنة عشر ومائتين. وتوفي لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين، ولم يغير سيبه، وكان قد اختلط في آخر عمره اختلاطا عظيما، رحمه الله تعالى.
    وقال السمعاني في نسبة الترمذي  : هذه النسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له جيحون، والناس مختلفون في كيفية هذه النسبة: بعضهم يقول بفتح التاء ثالث الحروف، وبعضهم يقول بضمها، وبعضهم يقول بكسرها، والمتداول على لسان أهل تلك المدينة بفتح التاء وكسر الميم، والذي كنا نعرفه قديما كسر التاء والميم جميعا، والذي يقوله المتنوقون (2) وأهل المعرفة (3) بضم التاء والميم، وكل واحد يقول معنى لما يدعيه، هذا كله كلام السمعاني، والله أعلم بالصواب. وسألت من رآها: هل هي في ناحية خوارزم أم في ناحية ما وراء النهر فقال: بل هي في حساب ما وراء النهر في ذلك الجانب.

محمد بن عبد الحكم

    أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين [ابن ليث بن رافع]  المصري الفقيه الشافعي، سمع من ابن وهب وأشهب من أصحاب الإمام مالك، فلما قدم الإمام الشافعي، رضي الله عنه، مصر صحبه وتفقه به، وحمل في المحنة إلى بغداد إلى القاضي أحمد بن أبي دواد الإيادي - المقدم ذكره  - فلم يجب إلى ما طلب منه فرد إلى مصر، وانتهت إليه الرياسة بمصر.
    وكانت ولادته سنة اثنتين وثمانين ومائة. وتوفي يوم الأربعاء لليلة خلت من ذي القعدة، وقيل منتصفه، سنة ثمان وستين ومائتين، وقبره فيما يذكر مع قبر أبيه وأخيه عبد الرحمن - وقد سبق ذكر ذلك  - وهما إلى جانب الإمام الشافعي، وقال ابن قانع: توفي سنة تسع وستين بمصر، رحمه الله تعالى.
    روى عنه أبو عبد الرحمن النسائي في سننة. وقال المزني: كنا نأتي الشافعي نسمع منه، فنجلس على باب داره، ويأتي محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فيصعد إليه  ويطيل المكث، وربما تغدى معه ثم نزل  ، فيقرأ علينا الشافعي، فإذا فرغ من قراءته قرب إلى محمد دابته فركبها، وأتبعه الشافعي بصره، فإذا غاب شخصه قال: وددت لو أن لي ولدا مثله وعلي ألف دينار لا أجد لها قضاء.
    وحكي عن محمد المذكور أنه قال: كنت اتردد إلى الشافعي، فاجتمع قوم من أصحابنا إلى أبي، وكان على مذهب الإمام مالك - وقد سبق ذكره في العبادلة  - فقالوا: يا أبا محمد، إن محمدا ينقطع إلى هذا الرجل ويتردد إليه فيرى الناس أن هذا رغبة عن مذهب أصحابه، فجعل أبي يلاطفهم ويقول: هو حدث ويحب النظر في اختلاف أقاويل الناس ومعرفة ذلك، ويقول لي في السر: يا بني، الزم هذا الرجل، فإنك لو جاوزت هذا البلد فتكلمت في مسألة فقلت فيها: قال أشهب، لقيل لك: من أشهب قال: فلزمت الشافعي، وما زال كلام والدي في قلبي حتى خرجت إلى العراق فكلمني القاضي بحضرة جلسائه في مسألة فقلت فيها: قال أشهب عن مالك فقال: ومن أشهب وأقبل على جلسائه فقال لبعضهم كالمنكر: ما أعرف أشهب ولا أبلق. وأخباره كثيرة .
    وذكره القضاعي في كتاب خطط مصر قال: ومحمد هذا هو الذي أحضره أحمد بن طولون في الليل إلى حيث سقايته بالمعافر لما توقف الناس عن شرب مائها والوضوء به، فشرب منه وتوضأ، فأعجب ذلك ابن طولون، وصرفه لوقته ووجه إليه بصلة، والناس يقولون: إنه المزني، وليس بصحيح، والله أعلم.