الجمعة، 21 أبريل 2017

الملك الظاهر صاحب حلب

    أبو الفتح وأبو منصور غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، الملقب الملك (2) الظاهر غياث الدين صاحب حلب، كان ملكا مهيبا حازما متيقظا كثير الاطلاع على أحوال رعيته وأخبار الملوك، عالي الهمة حسن التدبير والسياسة باسط العدل محبا للعلماء مجيزا للشعراء، أعطاه والده مملكة حلب في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بعد أن كانت لعمه الملك العادل، فنزل عنها وتعوض غيرها، كما قد شهر.
    ويحكى عن سرعة إدراكه أشياء حسنة: منها أنه جلس يوما لعرض العسكر، وديوان الجيش بين يديه، فكان كلما حضر واحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه لينزلوه (3) ، حتى حضر واحد فسألوه (4) فقبل الأرض، فلم يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد، فاودوا سؤاله، فقال الملك الظاهر: اسمه غازي، وكان كذلك، وتأدب الجندي أن يذكر اسمه لما كان موافقا لاسم السلطان، وعرف هو مقصوده، وله من هذا الجنس شيء كثير لا حاجة إلى التطويل فيه.
    وكانت ولادته بالقاهرة في منتصف رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة، وهي السنة الثانية من استقلال أبيه بمملكة الديار المصرية. وتوفي بقلعة حلب، ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة وستمائة، ودفن بالقلعة، ثم بنى الطواشي شهاب الدين طغريل الخادم اتابك ولده الملك العزيز مدرسة تحت القلعة وعمر فيها تربة ونقله إليها، رحمه الله تعالى. والعجب أنه دخل حلب مالكا لها في الشهر بعينه واليوم من سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
    ورثاه شاعره الشرف راجح بن إسماعيل بن أبي القاسم الأسدي الحلي  ، وكنيته أبو الوفاء، بهذه القصيدة، ومدح ولديه السلطان الملك العزيز محمدا وأخاه الملك الصالح صاحب عين تاب، وما أقصر فيها، وهي:
    سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه ... بمن علقت أنيابه ومخالبه
    نشدتك عاتبع على نائباته ... وإن كان نائي السمع عمن يعاتبه
    لي الله كم أرمي بطرفي ضلالة ... إلى أفق مجد قد تهاوت كواكبه
    فما لي أرى الشهباء قد حال صبحها ... علي دجى لا تستنير غياهبه
    أحقا حمى الغازي الغياث بن يوسف ... أبيح وعادت خائبات مواكبه
    نعم كورت شمس المدائح وانطوت ... سماء العلا والنجح ضاقت مذاهبه
    فمن مخبري عن ذلك الطود هل وهت ... قواعده أم لان للخطب جانبه
    أجل ضعضعت بعد الثبات وزعزعت ... بريح المنايا العاصفات مناكبه
    وغيض ذاك البحر من بعد ما طمت ... وطمت لغيبان  البلاد غواربه
    فشلت يمين الخطب أي مهند ... برغم العلا سلت وفلت مضاربه
    لئن حبس الغيث الغياثي قطره ... فقد سحبت في كل قطر سحائبه
    فأنى يلذ العيش بعد ابن يوسف ... أبو أمل أكدت عليه مطالبه
    فلا أدركت نيل المنى طالباته ... ولا بركت في أرض يمن  ركائبه
    ولا انتجعت إلا معبس حقبة ... من الجدب لا تثني عليه حقائبه
    مضى من أقام الناس في ظل عدله ... وآمن من خطب تدب  عقاربه
    فكم من حمى صعب أباحت سيوفه ... ومن مستباح قد حمته كتائبه
    أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا ... أما فيكم من مخبر أين صاحبه
    فمن سائلي عن سائل الدمع لم جرى ... لعل فؤادي بالوجيب يجاوبه
    فكم من ندوب في قلوب نضيجة  ... بنار كروب أججتها نوادبه
    أيسلم لم تحطم صدور رماحه ... بذب ولم تثلم بضرب قواضبه
    ولا اصطدمت عند الحتوف  كماته ... ولا ازدحمت بين الصفوف جنائبه
    ولا سيم أخذ الثار يوم كريهة ... تشق مثار النقع فيها سلاهبه
    فيا ملبسي ثوبا من الحزن مسبلا ... أيحسن بي أن التسلي سالبه
    خدمتك، روض المجد تضفو ظلاله ... علي، وحوض الجود تصفو مشاربه
    وقد كنت تدنيني وترفع مجلسي ... لمفروض مدح ما تعداك واجبه
    فما بال إذني قد تمادى ولم يكن ... إذا جئت يثنيني عن الباب حاجبه
    أرى الشمس أخفت يوم فقدك نورها ... فلا كان يوم كاسف الوجه شاحبه
    فكيف نبا سيف اعتزامك أو كبا ... جواد من الحزم الذي أنت راكبه
    فمن لليتامى يا غياث يغيثهم ... إذا الغيث لم ينقع صدى العام ساكبه
    ومن لملوك كنت ظلا عليهم ... ظليلا إذا ما الدهر نابت نوائبه
    أيا تاركي ألقى العدو مسالما ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبه
    سقت قبرك الغر الغوادي وجاده ... من الغيث سارية الملث وساربه 
    فإن يك نور من شهابك قد خبا ... فيا طالما جلى دجى الليل ثاقبه
    فقد لاح بالملك العزيز محمد ... صباح هدى كنا زمانا نراقبه
    فتى لم يفته من أبيه وجده ... إباء وجد غالبا من يغالبه
    ومن كان في المسعى أبوه دليله ... تدانى له الشأو الذي هو طاله
    وبالصالح استعلى صلاح رعية ... لها منه رعي ليس يقلع راتبه
    فحسب الورى من أحمد ومحمد ... مليكان من عاداهما ذل جانبه
    فما أحرزا علياء غازي بن يوسف ... وما ضيعا المجد الذي هو كاسبه
    فأفق الورى لولاهما كان أظلمت ... مشارقه من بعده ومغاربه
    سيحمي على رغم الليالي حماهما ... عوالي قنا تردى الأسود ثعالبه
    فكم من ملم جل موقع خطبه ... فساءت مباديه وسرت عواقبه
    فيا قمري سعد أطلا على الدجى ... فولى وما ألوى على الأرض  هاربه
    أيمكث في الشهباء عبد أبيكما ... ومادحه أم تستقل نجائبه
    فإن شئتما بعد الغياث أغثتما ... مصاب سهام فوقتها مصائبه
    كأن لم أقف أجلو التهاني أمامه ... وتضحك في وجه الأماني مواهبه
    فهنيتما ما نلتما وبقيتما ... لإعلاء ملك ساميات مراتبه
    وهذه القصيدة مع جودتها فيها مواضع مأخوذة من مرثية الفقيه عمارة اليمني للصالح بن رزيك، وبعضها مذكور في ترجمة الصالح، وكأنه قد نسج على منوالها، فإنها على وزنها وإن كان حرف الروي مختلفا، فقد استعمل هاء الوصل كما استعمله عمارة، والظاهر أنه كان قد وقف عليها فقصد مضاهاتها .
     وقام بالأمر ومملكة حلب من بعده: ولده الملك العزيز غياث الدين أبو المظفر محمد ابن الملك الظاهر، ومولده يوم الخميس خامس ذي الحجة سنة عشر وستمائة بقلعة حلب، وتوفي يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستمائة، وكنت بحلب في ذلك الوقت، وذفن بالقلعة.
     وترتب مكانه ولده الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف ابن الملك العزيز، واتسعت مملكته، فإنه ملك عدة بلاد من الجزيرة الفراتية لما كسر الخوارزمية، وكان مقدم جيشه الملك المنصور صاحب حمص، وذلك في أواخر سنة إحدى وأربعين أو أوائل سنة اثنتين وأربعين، ثم ملك دمشق والبلاد الشامية يوم الأحد سابع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة، ومولده بقلعة حلب في تاسع عشر رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة، وقصده التتر وملكوا الشام، فخرج من دمشق في صفر سنة ثمان وخمسين، وقتل في الثالث والعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين بالقرب من المراغة من أعمال أذربيجان على ما نقل الناقل، والله أعلم، وقصته مشهورة.
     وتوفي عمه الملك الصالح صلاح الدين أحمد ابن الملك الظاهر صاحب عين تاب في شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة، وكانت ولادته في صفر سنة ستمائة بحلب، ومات بعين تاب، رحمهم الله تعالى أجمعين. وإنما قدموا العزيز وهو الأصغر على أخيه الصالح لأن أمه صفية خاتون بنت الملك العادل بن أيوب، فقدموه في الملك لأجل جده وأخواله اولاد العادل، وأما الصالح فإن أمه جارية.
     وتوفي الشرف الحلي المذكور في ليلة السابع والعشرين من شعبان سنة سبع وعشرين وستمائة بدمشق، رحمه الله تعالى، ودفن بظاهرها في جوار مسجد النارنج شرقي مصلى العيد، ومولده في منتصف شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة بالحلة، وهو من مشاهير شعراء عصره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق