الثلاثاء، 11 أبريل 2017

سيف الدولة بن حمدان

    سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان - وقد تقدم تتمة  نسبه في ترجمة أخيه ناصر الدولة الحسن
     في حرف الحاء فلا حاجة إلى إعادته؛ قال أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر "
    : كان بنو حمدان ملوكاً أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، ووساطة قلادتهم، وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء، ويقال: إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها؛ وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر شديد الاهتزاز له، وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي
     قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت.
    ومن محاسن شعر سيف الدولة في وصف قوس قزح وقد أبدع فيه كل 
    الإبداع، وقيل: إن هذه الأبيات لأبي الصقر القبيصي ، والأول ذكره الثعالبي في كتاب " اليتيمة " :
    وساقٍ صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض
    يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقض علينا ومنفض
    وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجو دكناً والحواشي على الأرض
    يطرزها قوس السحاب بأصفرٍ ... على أحمرٍ في أخضر تحت مبيض
    كأذيال خودٍ أقبلت في غلائل ... مصبغة، والبعض أقصر من بعض وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها للسوقة، والبيت الأخير أخذ معناه أبو علي الفرج بن محمد بن الأخوة المؤدب البغدادي، فقال في فرس أدهم محجل:
    لبس الصبح والدجنة بردي ... ن فأرخى برداً وقلص بردا وقيل إنها لعبد الصمد بن المعذل .
    وكانت له جارية من بنات ملوك الروم في غاية الجمال، فحسدها بقية الحظايا لقربها منه ومحلها من قلبه، وعزمنا على إيقاع مكروه بها من سم أو غيره، فبلغه الخبر وخاف عليها، فنقلها إلى بعض الحصون احتياطاً، وقال:
    راقبتني العيون فيك فأشفق ... ت ولم أخل قط من إشفاق
    ورأيت العدو يحسدني في ... ك مجداً يا أنفس الأعلاق
    فتمنيت أن تكوني بعيداً ... والذي بيننا من الود باق
    رب هجر يكون من خوف  هجر ... وفراقٍ يكون خوف فراق 
    ورأيت هذه الأبيات بعينها في ديوان عبد المحسن الصوري، والله أعلم لمن هي منهما.
    ومن شعره أيضاً:
    أقبله على جزعٍ ... كشرب الطائر الفزع
    رأى ماءً فأطعمه ... وخاف عواقب الطمع
    وصادف خلسة فدنا ... ولم يلتذ بالجرع ويحكى أن ابن عمه أبا فراس - المقدم ذكره في حرف الحاء (1) - كان يوماً بين يديه في نفر من ندمائه، فقال لهم سيف الدولة: أيكم يجيز قولي، وليس له إلا سيدي، يعني أبا فراس:
    لك جسمي تعله ... فدمي لم تحله فارتجل أبو فراس وقال:
    قال إن كنت مالكاً ... فلي الأمر كله فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج المدينة المعروف تغل ألفي دينار في كل سنة.
    ومن شعر سيف الدولة أيضاً قوله:
    تجنى علي الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبني ظلماً وفي شقه العتب
    إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنى له ذنباً وإن لم يكن ذنب
    وأعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلا جفاني حين كان لي القلب وأنشدني الفقير أيدمر الصوفي المسمى إبراهيم لنفسه دوبيت في معنى البيت الثالث: قوم نقضوا عهودنا بالشعب ... من غير جناية ولا من ذنب
    صدوا وتعتبوا وقد همت بهم ... هلا هجروا وكان قلبي قلبي ويحكى أن سيف الدولة كان يوماً بمجلسه والشعراء ينشدونه، فتقدم أعرأبي رث الهيئة وأنشد وهو بمدينة حلب:
    أنت علي وهذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب
    بهذه تفخر البلاد وبال ... أمير تزهى على الورى العرب
    وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب فقال سيف الدولة: أحسنت والله، وأمر له بمائتي دينار.
    وقال أبو القاسم عثمان بن محمد العراقي قاضي عين زربة : حضرت مجلس الأمير سيف الدولة بحلب، وقد وافاه القاضي أبو نصر محمد بن محمد النيسابوري، فطرح من كمه كيساً فارغاً ودرجاً فيه شعر استأذن في إنشاده، فأذن له، فأنشد قصيدة أولها:
    حباؤك معتادٌ وأمرك نافذ ... وعبدك محتاج إلى ألف درهم فلما فرغ من إنشاده ضحك سيف الدولة ضحكاً شديداً، وأمر له بألف درهم، فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه .
    وكان أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم المعروفان بالخالديين الشاعرين المشهورين ، وأبو بكر أكبرهما، قد وصلا إلى حضرة سيف الدولة ومدحاه، فانزلهما وقام بواجب حقهما، وبعث لهما مرة وصيفاً ووصيفة ومع كل واحد منهما
    بدرة وتخت ثياب من عمل مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة:
    لم يغد شكرك في الخلائق مطلقاً ... إلا ومالك في النوال حبيس
    خولتنا شمساً وبدراً أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس
    رشأ أتانا وهو حسناً يوسفٌ ... وغزالةٌ هي بهجةً بلقيس
    هذا ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس
    أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس
    وحبوتنا مما أجادت حوكه ... مصرٌ وزادت حسنه تنيس
    فغدا لنا من جودك المأكول وال ... مشروب والمنكوح والملبوس فقال له سيف الدولة: أحسنه إلا في لفظة " المنكوح " فليست مما يخاطب الملوك بها.
    وأخبار سيف الدولة كثيرة مع الشعراء، خصوصاً مع المتنبي والسري الرفاء والنامي والببغاء والوأواء وتلك الطبقة، وفي تعدادهم طول.
    وكانت ولادته يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلثمائة، وقيل سنة إحدى وثلثمائة. وتوفي يوم الجمعة ثالث ساعة، وقيل رابع ساعة، لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلثمائة بحلب، ونقل إلى ميافارقين، ودفن في تربة أمه، وهي داخل البلد، وكان مرضه عسر البول.
    وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً وعمله لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليها في لحده، فنفذت وصيته في ذلك.
    وملك حلب في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيد.
     ورأيت في " تاريخ حلب " أن أول من ولي حلب من بني حمدان الحسين بن سعيد  ، وهو أخو أبي فراس ابن حمدان، وأنه تسلمها في رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وكان شجاعاً موصوفاً، وفيه يقول ابن المنجم: وإذا رأوه مقبلاً قالوا ألا ... إن المنايا تحت راية ذاكا وتوفي يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة بالموصل، ودفن بالمسجد الذي بناه في الدير الأعلى، وكنت أظن أن دير سعيد الذي بظاهر الموصل منسوب إلى أبيه حتى رأيته في كتاب الديرة منسوباً إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان الأموي.
    وكان سيف الدولة قبل ذلك مالك واسط وتلك النواحي، وتقلبت به الأحوال وانتقل إلى الشام وملك دمشق أيضاً وكثيراً من بلاد الشام وبلاد الجزيرة، وغزواته مع الروم مشهورة، وللمتنبي في أكثر الوقائع قصائد، رحمه الله تعالى .
     وملك بعده ولده سعد الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة (2) ، وطالت مدته أيضاً في المملكة، ثم عرض له قولنج وأشفى منه على التلف، وفي اليوم الثالث من عافيته واقع جاريته، فلما فرغ منها سقط عنها وقد جف شقه الأيمن، فدخل عليه طبيبه، فأمر ان يسجر عنده الند والعنبر، فأفاق قليلاً، فقال له الطبيب: أرني مجسك، فناوله يده اليسرى، فقال: أريد اليمين، فقال: ما تركت لي اليمين يميناً، وكان قد حلف وغدر. وتوفي ليلة الأحد لخمس بقين من شهر رمضان من سنة إحدى وثمانين وثلثمائة وعمره أربعون سنة وستة أشهر وعشرة أيام.
     وتولى بعده ولده أبو الفضائل سعد، ولم أقف على تاريخ وفاته، وبموته انقرض ملك بني سيف الدولة.
    (130) وتوفي أبو علي ابن الأخوة (3) المذكور يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وخمسمائة، وكان شاعراً مجيداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق