الأربعاء، 31 مايو 2017

الملك العادل نور الدين

    أبو القاسم محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر، الملقب الملك العادل نور الدين، قد تقدم ذكر أبيه في حرف الزاي.
    ولما حاصر أبوه قلعة جعبر - حسبما تقدم ذكره في ترجمته - كان ولده نور الدين المذكور في خدمته، فلما قتل أبو سار نور الدين وفي خدمته صلاح الدين محمد بن أيوب اليغيساني وعساكر الشام إلى مدينة حلب (2) فملكها في ذلك التاريخ. وملك أخوه سيف الدين غازي - المذكور في حرف الغين - مدينة الموصل وما والاها من تلك النواحي.
    ثم إنه نزل على دمشق محاصراً لها وصاحبها يومئذ مجير الديم أبو سعيد أبق ابن جمال الدين محمد بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين طغتكين، وهو أتابك الملك دقاق بن تتش - المقدم ذكره في ترجمة تتش في حرف التاء - وكان نزوله عليها ثالث صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وملكها يوم الأحد تاسع الشهر المذكور، وعوض مجير الدين أبق عن دمشق حمص ثم أخذها منه وعوضه عنها بالس، فانتقل إليها وأقام بها مدة ثم قصد بغداد في أيام الإمام المقتفي.
    وكان أتابكه معين الدين أثر بن عبد الله عتيق جد أبيه ظهير الدين طغتكين الأتابك - المقدم ذكره في ترجمة تتش السلجوقي، وقد سبق ذكر ظهير الدين طغتكين الأتابك هناك أيضاً.
    ثم استوزر نور الدين محمود على بقية بلاد الشام من حماة  وبعلبك، وهو الذي بنى سورها، منبج ما وبين ذلك، وافتتح من بلاد الروم عدة حصون منها مرعش وبهسنا  وتلك الأطراف، وكان فتحه لمرعش في ذي القعدة من سنة ثمان وستين وخمسمائة ولبهسنا في ذي الحجة من السنة  ، وافتتح أيضاً من بلاد الفرنج حارم، وكان فتحها في أواخر شهر رمضان سنة تسع وخمسمائة، وفتح أعزاز وبانياس وغير ذلك ما تزيد عدته على خمسين حصناً.
    ثم سير الأمير أسد الدين شيركوه - المقدم ذكره - إلى مصر ثلاث دفعات، وملكها السلطان صلاح الدين في الدفعة الثالثة (3) نيابة عنه، وضرب باسمه السكة والخطبة، وهي قضية مشهورة فلا حاجة إلى الإطالة في شرحها (4) ، وسيأتي ذلك في ترجمة صلاح الدين إن شاء الله تعالى.
    وكان ملكاً عادلاً زاهداً عابداً ورعاً، متمسكاً (5) بالشريعة مائلاً إلى أهل الخير، مجاهداً في سبيل الله تعالى، كثير الصدقات، بنى المدارس بجميع بلاد الشام الكبار مثل دمشق وحلب وحماة وحمص وبعلبك ومنبج والرحبة، وقد تقدم ذلك في ترجمة الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون، وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري ورتب له ما يكفيه، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وجامع الرها وجامع منبج، وبيمارستان دمشق، ودار الحديث بها أيضاً، وله من المناقب والمآثر والمفاخر ما يستغرق الوصف.
    وكان بينه وبين أبي الحسن سنان بن سليمان  بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الفرقة الباطنية بالشام، وإليه تنسب الطائفة السنانية، مكاتبات ومحاورات بسبب المجاورة، فكتب إليه نور الدين في بعض الأزمنة كتاباً يتهدده فيه ويتوعده  لسبب اقتضى ذلك، فشق على سنان فكتب 
    جوابه أبياتاً ورسالة، وهما:
    ياذا الذي بقراع السيف هددنا  ... لا قام مصرع جنبي حين تصرعه
    قام الحمام إلى البازي يهدده ... واستيقظت لأسود البر أضبعه
    أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه وقفنا على تفاصيله (2) وجمله، وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فيالله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل، وبعوضة تعد في التماثيل، ولقد قالها من قبلك قوم آخرون، فدمرنا عليه وما كان لهم من ناصرين، أو للحق تدحضون، وللباطل تنصرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأما ما صدر من قولك في قطع رأسي، وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي، فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزل بالأعراض، كما أن الرواح لا تضمحل بالأمراض، كم بين قوي وضعيف، ودني وشريف وإن عدنا إلى الظاهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات، فنا أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " ما أوذي نبي ما أوذيت " ولقد علمتم ما جرى على عترته، وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال، والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغضوبون لا غاضبون، وإذا جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقاًً، ولقد علمتم ظاهر حالنا، وكيفية رجالنا، وما يتمنونه من الفوت، ويتقربون به إلى حياض الموت، " قل فتمنوا الموت إن كنتم صادقين، ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين " الجمعة 6 - 7 وفي أمثال العامة السائرة: أو للبط تهددون بالشط فهيئ للبلايا جلباباً، وتدرع للرزايا أثواباً، فلأظهرن عليك منك، ولأفتتنهم (3) فيك عنك، فتكون كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، وما ذلك على الله بعزيز.
    وهذه الرسالة نقلت من خط القاضي الفاضل على هذه الصورة، ورأيت في نسخة زيادة على هذا، وهي: فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد، إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، والله أعلم؛ ورأيت في بعض النسخ زيادة بيت في أول الأبيات الثلاثة، وهو:
    يا للرجال لأمر هال مفظعه (1) ... ما مر قط على سمعي توقعه وكتب سنان المذكور مرة أخرى إليه، وقد جرت بينهما وحشة:
    بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت ... بيوتك فيها واشمخر عمودها
    فأصبحت ترمينا بنبل بنا استوى ... مغارسها منا، وفينا حديدها وبالجملة فإن محاسن نور الدين كثيرة؛ وكانت ولادته يوم الأحد عند طلوع الشمس سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة؛ وتوفي يوم الأربعاء حادي عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة، بقلعة دمشق، بقلعة الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع. ودفن في بيت بالقلعة كان يلازم الجلوس فيه والمبيت أيضاً، ثم نقل إلى تربته بمدرسته التي أنشأها عند باب سوق الخواصين، وسمعت من جماعة من أهل دمشق يقولون: إن الدعاء عند قبره مستجاب، ولقد جربت ذلك فصح، رحمه الله تعالى.
    وذكر شيخنا عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأ ثير اجزري في تاريخه الكبير الذي سماه " الكامل " في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة  أن نور الدين المذكور نزل في البقيعة تحت حصن الكراد في السنة المذكورة محاصراً لحصن الأكراد، وعازماً على قصد طرابلس وهو في جميع عساكره، فاجتمع من الفرنج خلق كثير وكبسوهم في النهار والمسلمون في غفلة عنهم، فلم يتمكنوا من الاستعداد لهم وهربوا منهم، ونجا نور الدين بنفسه وهي وقعة مشهورة معروفة، ونزل على بحيرة قدس بالقرب من حمص، وبينه وبين الفرنج مقدار أربعة فراسخ، فسير إلى حلب وبقية البلاد وأحضروا الأموال الكثيرة وأنفقها ليقوى جيشه ثم يعود إليهم فيستوفي الثار، فقال له بعض أصحابه: إن في بلادك إدرارات وصدقات وصلات كثيرة على الفقهاء والصوفية والقراء، ولو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح، فغضب من ذلك غضباً شديداً وقال: إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا بسهام قد تصيب وتخطئ وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال فكيف يحل ان أعطيه غيرهم .
    وكان أسمر اللون طويل القامة حسن الصورة، ليس بوجهه شعر سوى ذقنه.
     وكان قد عهد بالملك إلى ولده الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وعمره يوم مات أبوه إحدى عشرة سنة، فقام بالأمر من بعده، وانتقل من دمشق إلى حلب ودخل قلعتها يوم الجمعة مستهل المحرم سنة سبعين وخمسمائة، وخرج السلطان صلاح الدين من مصر، وملك دمشق وغيرها من بلاد الشام، ولم يبق عليه سوى مدينة حلب، ولم يزل الصالح بها إلى أن توفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وذكروا أنه لم يبلغ عشرين سنة، والله أعلم. وكان مبدأ مرضه في تاسع شهر رجب من السنة المذكورة، وحدث له قولنج في مستهل جمادى الأولى، وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه لأنه كان محسناً محمود السيرة، ودفن في المقام الذي في القلعة، ثم نقل إلى رباطه المعروف به تحت القلعة، وهو مشهور هناك، رحمه الله تعالى.
     وتوفي مجير الدين أبق (2) المذكور في سنة أربع وستين وخمسمائة ببغداد، ودفن في داره، كذا وجدته في بعض المسودات التي بخطي، والله أعلم، ومولده يوم الجمعة ثامن شعبان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ببعلبك، والله تعالى أعلم.

مغيث الدين السلجوقي

    أبو القاسم محمود بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، الملقب مغيث الدين، أحد الملوك السلجوقية المشاهير، وقد تقدم ذكر والده وجماعة من أهل بيته وسيأتي ذكر جده وغيره منهم إن شاء الله تعالى، وتقدم طرف من خبره في ترجمة العزيز أبي نصر أحمد بن حامد الأصبهاني عن العماد الكاتب.
    تولى أبو القاسم المذكور السلطنة بعد وفاة والده، وخطب له بها بمدينة بغداد على جاري عادة الملوك السلجوقية، يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، في خلافة المستظهر بالله، وهو يومئذ في سن الحلم، وكان متوقداً ذكاء، قوي المعرفة بالعربية، حافظاً للأشعار والأمثال، عارفاً بالتواريخ والسير، شديد الميل إلى أهل العلم والخير، وكان حيص بيص الشاعر المقدم ذكره قد قصده من العراق ومدحه بقصيدته الدالية المشهورة التي أولها:
    ألق الحدائج ترع الضمر القود ... طال السرى وتشكت وخدك البيد
    يا ساري الليل لا جذب ولا فرق ... فالنبت أغيد والسلطان محمود
    قيل تألفت الأضداد خيفته ... فالمورد الضنك فيه الشاء والسيد
    وهي طويلة ومن غرر القصائد، وأجازه عليها جائزة سنية.
    وكان قد تزوج بنتي عمه السلطان سنجر، المقدم ذكره - حسبما شرحناه في ترجمة العزيز الأصبهاني، واحدة بعد الأخرى، وكانت السلطنة في أواخر أيامه قد ضعفت وقلت أموالها، حتى عجزوا عن إقامة وظيفة الفقاعي، فدفعوا له يوماً بعض صناديق الخزانة حتى باعها وصرف ثمنها في حاجته، وكان في آخر مدته قد دخل بغداد، ثم خرج منها، فمرض في الطريق واشتد به المرض، وتوفي يوم الخميس خامس عشر شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
    وذكر ابن الأزرق الفارقي في تاريخه أنه مات خامس عشر شوال سنة أربع وعشرين بباب أصبهان، ودفن بها. وولي السلطنة أخوه طغرلبك، ومات سنة سبع وعشرين، وتولى أخوه مسعود وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
    وابنه محمد شاه بن محمود بن محمد هو الذي حاصر بغداد ومعه زين الدين أبو الحسن علي بن بلتكين صاحب إربل في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، وقال شيخنا ابن الأثير في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة - قال ذلك في تاريخه الصغير المعروف بالأتابكي -: ومات محمد شاه المذكور في ذي الحجة سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وتاريخ وفاة زين الدين المذكور مذكور في ترجمة ولده مظفر الدين صاحب إربل في حرف الكاف؛ ومات محمد شاه بباب همذان، ومولده في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.

محمود بن سبكتكين

    أبو القاسم محمود بن ناصر الدولة أبي منصور سبكتكين، الملقب أولاً سيف الدولة، ثم لقبه الإمام القادر بالله لما سلطنه بعد موت أبيه " يمين الدولة وأمين الملة " واشتهر به.
    وكان والده سبكتكين قد ورد مدينة بخارى في أيام نوح بن منصور أحد ملوك السامانية (2) المذكورين في ترجمة أبي بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب، وكان وروده في صحبة أبي إسحاق ابن البتكين، وهو حاجبه وعليه مدار أموره، فعرفه أركان تلك الدولة بالشهامة والصرامة، وتوسموا فيه الإرتفاع إلى اليفاع. ولما خرج أبو إسحاق المذكور إلى غزنة والياً عليها وساداً مسداً أبيه انصرف الأمير سبكتكين بانصارفه على جملته (3) في زعامة رجاله ومراعاة ما وراء بابه، فلم يلبث أبو إسحاق بعد موافاتها أن قضى نحبه، ولم يبق من ذوي قرابته من يصلح لمكانته واحتاج الناس إلى من يتولى أمورهم، فاختلفوا فيمن يصلح لذلك، ثم وقع اتفاقهم واجتمعت كلمتهم على تأمير الأمير سبكتكين، فبايعوه على ذلك، وانقادوا لحكمه.
    فلما تمكن واستحكم شرع في الغزاة والإغارة على أطراف الهند، فافتتح قلاعاً كثيرة منها، وجرت بينه وبين الهنود وعظم جريدته، وعمرت أرض خزانته (4) ، وأشفقت النفوس من هيبته. وكان من جملة فتوحاته ناحية بست، وكان من جملة ما استفاده (1) من صفاياها أبو الفتح بن محمد البستي الشاعر المقدم ذكره، فإنه كان كاتباً لملك الناحية المذكورة، واسمه بابي نور (2) ، فلما تعلق بخدمته اعتمد عليه في أموره، وأسر إليه بأحواله، وشرح ذلك يطول.
    وآخر الأمر أن الأمير سبكتكين كان قد وصل إلى مدينة بلخ من طوس فمرض بها، واشتاق إلى غزنة فخرج إليها في تلك الحال، فمات في الطريق قبل وصوله، وذلك في شعبان سنة سبع وثمانين وثلثمائة، ونقل تابوته إلى غزنة، ورثاه جماعة من شعراء عصره منهم كاتبه أبو الفتح الببستي المذكور بقوله:
    قلت إذ مات ناصر الدين والدو ... لة حياه ربه بالكرامة
    وتداعيت جموعه بافتراق: ... هكذا هكذا تكون القيامة! واجتاز بعض الأفاضل بداره بعد موته وقد تشعثت، فأنشد:
    عليك سلام الله من منزل قفر ... فقد هجت لي شوقاً قديماً وما تدري
    عهدتك مذ شهر جديداً ولم أخل ... صروف الردى تبلي مغاتيك في شهر وكان الأمير المذكور قد جعل ولي عهده من بعده ولده إسماعيل، واستخلفه على الأعمال وأوصى إليه بأمر أولاده وعياله، وجمع وجوه حجابه وقواده على طاعته ومتابعته، وجلس على سرير السلطنة، وتحكم واعتبر بيوت الأموال، وكان أخوه السلطان محمود بخراسان مقيماً بمدينة بلخ وإسماعيل بغزنة، فلما بلغه نعي أبيه كتب إلى أخيه إسماعيل ولاطفه في القول وقال له: إن أبي لم يستخلفك دوني إلا لكونك كنت عنده وأنا كنت بعيداً عنه، ولو أوقف المر على حضوري لفاتت مقاصده (3) ، ومن المصلحة أن نتقاسم الأموال بالميراث وتكون أنت مكانك بغزنة وأنا بخراسان، وندبر الأمور زنتفق على المصالح كيلا يطمع فينا عدو، ومتى ظهر للناس اخلافنا قلت حرمتنا (4) ، فأبى إسماعيل من موافقته على ذلك وكان فيه لين ورخاوة، فطمع فيه الجند وتشغبوا عليه وطالبوه بالأموال فاستنفد في مرضاتهم الخزائن.
    ثم خرج محمود إلى هراة وجدد مكاتبة أخيه، وهو لا يزداد إلا اعتياصاً (1) ، فدعا محمود عمه بغراجق إلى موافقته فأجابه؛ وكان أخوه أبو المظفر نصر بن سبكتكين أميراً بناحية بست، فنهض إليه وعرض عليه الإنقاياد لمتابعته فلم يتوقف عليه، فلما قوي جأشه بعمه وأخيه قصد أخاه إسماعيل بغزنة وهما معه، فنازلهما في جيش عظيم وجم غفير وحاصرها، واشتد القتال عليها ففتحها، وانحاز إسماعيل إلى قلعتها متحصناً بها، ثم تلطف في طلب الأمان من أخيه محمود فأجابه إلى سؤاله، ونزل في حكم أمانة وتسلم منه مفاتيح الخزائن، ورتب في غزنة النواب والأكفاء وانحدر إلى بلخ.
    وكان السلطان محمود قد اجتمع بأخيه إسماعيل في مجلس الأنس بعد ظفره به، فسأله عما كان في نفسه أنه يعتمد في حقه لو ظفر به، فحملته سلامة صدره ونشوة السكر على أن قال: كان في عزمي إن أسيرك إلى بعض القلاع موسعاً عليك فيما تقترحه من دار وغلمان وجوار ورزق على قدر الكفاية (2) ، فعامله بجنس ما كان قد نواه له، وسيره إلى بعض الحصون وأوصى عليه الوالي أن يمكنه من جميع ما يشتهي.
    ولما انتظم الأمر للسسلطان محمود، كان في بعض بلاد خراسان نواب لصاحب ما وراء النهر من ملوك بني سامان، فجرى بين السلطان محمود وبينهم حروب  انتصر فيها عليهم، وملك بلاد خراسان وانقطعت الدولة السامانية  منها، وذلك في سنة تسع وثمانين وثلثمائة، واستتب له الملك، وسير له الإمام القادر بالله خلعة السلطنة، ولقبه بالألقاب المذكورة في أول ترجمته، وتبوأ سرير المملكة، وقام بين يديه أمراء خراسان سماطين مقيمين برسم الخدمة، وملتزمين حكم الهيبة، وأجلهم بعد الإذن العام على مجلس الأندلس، وأمر لكل واحد منهم ولسائر غلمانه ووجوه أوليائه وحاشيته من الخلع والصلات ونفائس الأمتعة ما لم يسمع بمثله. واتسعت الأمور عن آخرها في كنف إيالته، واستوسقت الأعمال في ضمن كفالته، وفرض على نفسه في كل عام غزو الهند. ثم إنه ملك سجستان في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، بدخول قوادها وولاة أمرها في طاعته من غير قتال.
    ولم يزل يفتح في بلاد الهند حتى انتهى إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية، ولم تتل  به قط سورة ولا آية، فرحض عنها أدناس الشرك وبنى بها مساجد وجوامع، وتفصيل حاله يطول شرحه. ولما فتح بلاد الهند كتب إلى الديوان العزيز ببغداد كتاباً يذكر فيه ما فتحه الله تعالى على يديه من بلاد الهند، وأنه كسر الصنم  المعروف بسومنات. وذكر في كتبه أن هذا الصنم عند الهنود يحي ويميت ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنه إذا شاء أبرأ من جميع العلل، وربما كان يتفق لشقوتهم إبلال عليل يقصده فيوافقه طيب الهواء وكثرة الحركة فيزيدون به افتناناً ويقصدونه من أقاصي البلاد رجالاً وركباناً، ومن لم يصادف منهم انتعاشاً احتج بالذنب وقال: إنه لم يخلص له الطاعة، ولم يستحق منه الإجابة، ويزعمون أن الأرواح إذا فارقت الأجسام اجتمعت لديه على مذهب أهل التناسخ، فينشئها فيمن يشاء، وأن مد البحر وجزره عبادة له على قدر طاقته، وكانوا بحكم هذا الاعتقاد يحجونه من كل صقيع بعيد، ويأتونه من كل فج عميق، ويتحفونه بكل مال نفيس. ولم يبق في بلاد السند والهند على تباعد أقطارها وتفاوت أديانها ملك ولا سوقة إلا تقرب إلى هذا الصنم بما عز عليه من أمواله وذخائره حتى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية مشهورة في تلك البقاع  ، وامتلأت خزائنه من أصناف الأموال، وفي خدمته من البراهمة ألف رجل يخدمونه، وثلثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه ولحاهم عند الورود عليه، وثلثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنون ويرقصون عند بابه، ويجري من مال الأوقاف المرصدة له لكل طائفة من هؤلاء رزق معلوم.
    وكان بين المسلمين وبين القلعة التي فيها الصنم مسيرة شهر في مفازة موصوفة بقلة المياه وصعوبة المسالك واستيلاء الرمل على طرقها، فسار إليها السلطان محمود في ثلاثين ألف فارس جريدة مختارة من بين عدد كثير، وأنفق عليهم من الأموال ما لا يحصى؛ فلما وصلوا إلى القلعة وجدوها حصناً منيعاً وفتحوها في ثلاثة أيام، ودخلوا بيت الصنم وحوله من الأصنام الذهب المرصع بأصناف الجوهر عدة كثيرة (1) محيطة بعرشه، يزعمون أنها الملائكة، وأحرق المسلمون الصنم المذكور فوجدوا في أذنه نيفاً وثلثين حلقة، فسألهم محمود عن معنى ذلك فقالوا: كل حلقة عبادة ألف سنة، وكانوا يقولون بقدم العالم ويزعمون أن هذا الصنم يعبد منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة، وكلما عبدوه ألف سنة علقوا في أذنه حلقة، وبالجملة فإن شرح ذلك يطول.
    وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أن بعض الملوك بقلاع الهند أهدى له هدايا كثيرة من جملتها طائر على هيئة القمري، من خاصيته أنه إذا حضر الطعام وفيه سم دمعت عينا هذا الطائر وجرى منها ماء وتحجر؛ فإذا حك (2) ووضع على الجراحات الواسعة لحمها، ذكر ذلك في سنة أربع عشرة وأربعمائة.
    وقد جمع سيرته أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي الفاضل المعروف في كتاب سماه " اليميني " وهو مشهور، وذكر في أوله أن السلطان المذكور ملك الشرق بجنبيه، والصدر من العالم ويديه، لانتظام الإقليم الرابع بما يليه من الثالث والخامس في حوزة ملكه وحصول ممالكها الفسيحة وولايتها (3) العريضة في قبضة ملكه، ومصير أمرائها وذوي الأ لقاب الملوكية من عظمائها تحت حمايته وجبايته، واسدرائهم من آفات الزمان بظل ولايته ورعايته، وإذعان ملوك الأرض لعزته، وارتياعهم بفائض (4) هيبته، واحتراسهم - على تقاذف الديار وتحاجز الأنجاد والأغوار - من فاجئ ركضته، واستخفاء الهند تحت جيوبها (1) عند ذكره، واقشعرارهم لمهب الرياح من أرضه، وقد كان مذ لفظه المهد وجفاه الرضاع، وانحلت عن لسانه عقدة الكلام، واستغنى عن الإشارة بالإفهام مشغول اللسان بالذكر والقرآن، مشغوف النفس بالسيف والسنان، ممدود الهمة إلى معالي الأمور، معقود الأمنية بسياسة الجمهور، لعبه مع الأتراب جد، وجده مستكد، يألم لما لا يعلم حتى يقتله (2) خبراً، ويحزن لما يحزن حتى يدمثه قسراً وقهراً.
    وذكر إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني - المقدم ذكره - في كتابه الذي سماه " مغيث الخلق في اختيار الأحق " أن السلطان محموداً المذكور كان على مذهب أبي حنيفة، رضي الله عنه، وكان مولعاً بعلم الحديث، وكانوا يسمعون الحيث من الشيوخ بين يديه، وهو يسمع، وكان يستفسر الحاديث، فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي رضي الله عنه، فوقع في خلده (3) حكة، فجمع الفقهاء من الفريقين في مرو، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتفاق على أن يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وعلى مذهب أبي حنيفة، رضي الله عنه، لينظر فيه السلطان، ويتفكر ويختار ما هو أحسنهما، فصلى القفال المروزي - وقد تقدم ذكره - بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والسترة واستقبال القبلة، وأتى بالأركان والهيئات والسنن والآداب والفرائض على وجه الكمال والتمام، وقال: هذه صلاة لا يجوز الإمام الشافعي دونها رضي الله عنه، ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه، فلبس جلد كلب مدبوغاً ولطخ ربعه بالنجاسة، وتوضأ بنبيذ التمر، وكان في صميم الصيف في المفازة، واجتمع عليه الذباب والبعوض، وكان وضوءه منكساً منعكساً، ثم استقبل القبلة، وأحرم بالصلاة من غير نية في الوضوء، وكبر بالفارسية دو بركك سبز، ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ومن غير ركوع، وتشهد، وضرط في آخره، من غير نية السلام، وقال: أيها السلطان، هذه صلاة أبي حنيفة (1) ، فقال السلطان، لو لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة لقتلك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين، فأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلة أبي حنيفة، فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة، وأمر السلطان نصرانياً كاتباً يقرأ (2) المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة، وتمسك بمذهب الشافعي رضي الله عنه؛ انتهى كلام إمام الحرمين.
    وكانت مناقب السلطان محمود كثيرة، وسيرته من أحسن السير، ومولده ليلة عاشوراء سنة إحدى وستين وثلثمائة. وتوفي في شهر ربيع الآخر، وقيل حادي عشر صفر، سنة إحدى، وقيل اثنتين وعشرين وأربعمائة بغزنة، رحمه الله تعالى.
     وقام بالأمر من بعده ولده محمد بوصية من أبيه، اجتمعت عليه الكلمة، وغمرهم بإنفاق الأموال فيهم، وكان أخوه أبو سعيد مسعود غائباً، فقدم نيسابور وقد استتب أمر أخيه محمد، فراسله، ومال الناس إليه لقوة نفسه وتمام هيبته (3) ، وزعم أن الإمام القادر بالله قلده خراسان، ولقبه الناصر لدين الله وخلع عليه وطوقه سواراً، فقوي أمره لذلك. وكان محمد هذه سيء التدبير منهمكاً في ملاذه، فأجمع الجند على عزل محمد وتولية الملك المسعود، ففعلوا ذلك، وقبضوا على محمد وحملوه إلى قلعة ووكلوا به.
     واستقر الملك للأمير مسعود، وجرى له مع بني سلجوق خطوب يطول شرحها. وله في ترجمة المعتمد بن عباد حكاية في المنام، فلتننظر هناك (4) . وقتل سنة ثلاثين وأربعمائة، واستولى على المملكة بنو سلجوق، وقد تقدم 
    في ترجمة السلطان طغرلبك السلجوقي طرف من الخبر، وكيفية ما اعتمده السلطان محمود في حقهم، وكيف تغلبوا على الأمر.
    وسبكتكين: بضم السين المهملة والباء الموحدة وسكون الكاف وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف الثانية وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون.
    وتفسر " دو بركك سبز " ورقتان خضراوان، وهو معنى قوله تعالى في سورة الرحمن " مدهامتان " الرحمن: 64 والله تعالى أعلم.

القاضي الأصبهاني

أبو طالب محمود بن علي بن أبي طالب بن عبد الله بن أبي الرجا التميمي الصبهاني، المعورف بالقاضي، صاحب الطريقة في الخلاف، تفقه على الشهيد محمد بن يحي - المقدم ذكره - وبرع في الخلاف، وصنف فيه التعليقة التي شهدت بفضله وتحقيقه وتبريزه على أكثر نظرائه، وجمع فيها بين الفقه والتحقيق، وكان عمدة المدرسين في إلقاء الدروس عليها ومن لم يذكرها فإنما كان لقصور فهمه عن إدراك دقائقها، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، وصاروا علماء مشاهير. وكان له في الوعظ اليد الطولى، وكان متفنناً في العلوم خطيباً، خطب ودرس بأصبهان مدة؛ وتوفي في شوال سنة خمس وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.

الزمخرشي

    أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري، الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان؛ كان إمام عصره من غير ما دفع، تشد إليه الرحال في فنونه. أخذ النحو عن أبي مضر منصور  ، وصنف التصانيف البديعة: منها " الكشاف " في تفسير القرآن العزيز، لم يصنف قبله مثله و " المحاجاة بالمسائل النحوية " و " المفرد والمركب " في العربية  و " الفائق " في تفسير الحديث، و " أساس البلاغة " في اللغة، و " ربيع الأبرار وفصوص الأحبار " و " متشابه أسامي الرواة " و " النصائح الكبار " و " النصائح الصغار " و " ضالة الناشد والرائض  في علم الفرائض "
    و " المفصل في النحو وقد اعتنى بشرحه خلق كثير، و " الأنموذج " في النحو، و " المفرد والمؤلف " في النحو، و " رؤوس المسائل " في الفقه، و " شرح أبيات كتاب سيبويه " و " المستقصى (1) في أمثال العرب " و " صميم العربية " و " سوائر الأمثال " و " دويان التمثيل " و " شقائق النعمان في حقائق النعمان " و " شافي العي من كلام الشافعي " رضي الله عنه، و " القسطاس " في العروض، و " معجم الحدود " و " المنهاج " في الأصول، و " مقدمة الآداب " (2) و " ديوان الرسائل " و " ديوان الشعر " و " الرسالة الناصحة " والأمالي في كل فن وغير ذلك؛ وكان شروعه في تأليف " المفصل " في غرة شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وفرغ منه في غرة المحرم سنة خمس عشرة وخمسمائة.
    وكان قد سافر إلى مكة، حرسها الله تعالى، وجاور بها زماناً، فصار يقال له " جار الله " لذلك، وكان هذا الاسم علماً عليه. وسمعت من بعض المشايخ أن إحدى رجليه كانت ساقطة، وأنه كان يمشي في جاون خشب، وكان سبب سقوطها أنه كان في بعض أسفاره ببلاد خوارزم أصابه ثلج كثير وبرد شديد في الطريق فسقطت منه رجله، وأنه كان بيده محضر فيه شهادة خلق كثير ممن اطلعوا على حقيقة ذلك خوفاً من أن يظن من لم يعلم صورة الحال أنها قطعت لريبة، والثلج والبرد كثيراً ما يؤثر في الأطراف في تلك البلاد فتسقط، خصوصاً خوارزم، فإنها في غاية البرد، ولقد شاهدت خلقاً كثيراً ممن سقطت أطرافهم بهذا السبب، فلا يستبعده من لم يعهده.
    ورأيت في تاريخ بعض المتأخرين (3) أن الزمخشري لما دخل بغداد واجتمع بالفقيه الحنفي الدامغاني سأله عن سبب قطع رجله، فقال: دعاء الوالدة، وذلك أني في صباي أمسكت عصفوراً وربطته بخيط في رجله، وأفلت من يدي، فأدركته وقد دخل في خرق، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت 
    والدتي لذلك وقال: قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله؛ فلما وصلت إلى سن الطلب رحلت إلى بخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت الرجل (1) وعملت علي عملاً أوجب قطعها؛ والله أعلم بالصحة.
    وكان الزمخشري المذكور معتزلي الاعتقاد متظاهراً به، حتى نقل عنه أنه كان إذا قصد صاحباً له واستأذن عليه في الدخول يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له أبو القاسم المعتزلي بالباب. وأول ما صنف كتاب " الكشاف " كتب استفتاح الخطبة " الحمد لله الذي خلق القرآن " فيقال إنه قيل له: متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس ولا يرغب أحد فيه، فغيره بقوله " الحمد لله الذي جعل القرآن " وجعل عندهم بمعنى خلق، والبحث في ذلك يطول، ورأيت في كثير من النسخ " الحمد لله الذي أنزل القرآن " وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنف.
    وكان الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي المقدم ذكره، رحمه الله تعالى، قد كتب إليه من الإسكندرية (2) ، وهو يومئذ مجاور بمكة حرسها الله تعالى، يستجيره في مسموعاته ومصانفه، فرد جزابه بما لا يشفي الغليل، فلما كان في العام الثاني كتب إليه أيضاً مع الحجاج استجازه أخرى اقتراح فيها مقصوده، ثم قال له في آخرها: ولا يحوج، أدام الله توفيقه، إلى المراجعة، فالمسافة بعيدة، وقد كاتبه في السنة الماضية قلم يجبه بما يشفي الغليل، وله في ذلك لأجر الجزيل. فكتب إليه الزمخشري جوابه، ولولا خوف التطويل لكتبت الاستدعاء والجواب، لكن نقتصر على بعض الجواب وهو " ما مثلي مع أعلام العلماء إلا كمثل السها مع مصابيح السماء، والجهام الصفر من الرهام مع الغوادي الغامرة للقيعان والآكام، والسكيت المخلف مع خيل السباق، والبغاث مع الطير العتاق، وما التقيت بالعلامة، إلا شبه الرقم بالعلامة، والعلم مدينة أحد بابيها الدارية، والثاني الرواية (3) ، وأنا في كلا البابين ذو بضاعة مزجاة، ظلي فيه أقلص من ظل حصاة، أما الرواية فحديثة الميلاد، قريبة الإسناد، لم تستند إلى علماء نحارير، ولا إلى أعلام المشاهير، وأما الدراية فثمد لا يبلغ أفواها، وبرض لا يبل شفاها " ثم كتب بعد هذا: لا يغرنكم قول فلان في ولا قول فلان وعدد جماعة من الشعراء والفضلاء مدحوه بمقاطيع من الشعر، وأوردها كلها، ولا حاجة إلى الاتيان بها ها هنا، فلما فرغ من إيرادها كتب " فإن ذلك اعتزاز منهم بالظاهر المموه، وجهل بالباطن المشوه، ولعل الذي غرهم مني ما رأوا من حسن منصح للمسلمين ويبلغ الشفقة على المستفيدين، وقطع المطامع عنهم، وإفادة المبار والصنائع عليهم، وعزة النفس والرب بها على عن الإسفاف للدنيات، والإقبال على خويصتي، والإعراض عما يغنيني، فجللت في عيونهم، وغلطوا في ونسبوني إلى ما لست منه قبيل ولا دبير، وما أنا فيا أقول بهاضمٍ لنفسي كما قال الحسن البصري، رحمه الله تعالى، في أبكر الصديق رضوان الله عليه بقوله " وليتكم ولست بخيركم ": إن المؤمن ليهضم نفسه، وإنما صدقت الفاحص عني وعن كنه روايتي ودرايتي ومن لقيت وأخذت عنه، وما بلغ علمي وقصارى فضلي، وأطلعته طلع أمري، وأفضيت إليه بخبية سري، وألقيت إليه عجري وبجري، وأعلمته نجمي وشجري. وأما الموالد فقرية مجهولة من قرى خوارزم تسمى زمخشر، وسمعت أبي، رحمه الله تعالى، يقول: اجتاز بها أعرابي فسأل عن اسمها واسم كبيرها، فقيل له: زمخشر والرداد، فقال لا خير في شر ورد، ولم يلمم بها؛ وقت الميلاد شهر الله الصم في عام سبع وستين وأربعمائة، والله المحمود، والمصلى عليه محمد وآله وأصحابه " هذا آخر الإجازة، وقد أطال الكلام فيها، ولم يصرح له بمقصوده فيها، وما أعلم هل أجازه بعد ذلك أم لا.
    وبيني وبينه في الرواية شخص واحد، فإنه أجاز زينب بنت الشعري، ولي منها إجازة كما تقدم في ترجمتها في حرف الزاي.
    ومن شعره السائر قوله، وقد ذكره السمعاني في " الذيل " (1) قال: أنشدني أحمد بن محمود الخوارزمي إملاء بسمرقند، فقال: أنشدنا محمود بن عمر الزمخشري 
    لنفسه بخوارزم، وذكر الأبيات وهي:
    ألا قل لسعدي ما لنا فيك من وطر ... وما تطلبين النجل من أعين البقر
    فإنا اقتصرنا بالذين تضايقت ... عيونهم والله يجزي من اقتصر
    مليح ولكن عنده كل جفوة ... ولم أر في الدنيا صفاء بلا كدر
    ولم أنس إذ غازلته قرب روضة ... إلى جنب حوض فيه للماء منحدر
    فقلت له: جئني بورد وإنما ... أردت به ورد الخدود وما شعر
    فقال: انتظرني رجع طرفٍ أجيء به ... فقلت له: هيهات ما لي منتظر
    فقال: ولا ورد سوى الخد حاضر ... فقلت له، إني قنعت بما حضر ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر منصوراً المذكور أولاً:
    وقائله: ما هذه الدرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين
    فقلت: هو الدر الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذني تساقط من عيني وهذا مثل قول القاضي أبي بكر الرجاني - المقدم ذكره - ولا أعلم أيهما أخذ من الآخر لأنهما كانا متعاصرين، وهو:
    لم يبكني إلا حديث فراقكم (1) ... لما أسر به إلى مودعي
    هو ذلك الدر الذي أدعتم ... في مسمعي أجريته من مدمعي وهذان البيتان من جملة قصدية طويلة بديعة؛ ومن المنسوب إلى القاضي الفاضل في هذا المعنى:
    لا تزدني نظرة ثانية ... كَفَتِ الأولى ووفت ثمني
    لك في قلبي حديث مودع ... لا جحدت العب ما أودعتني
    خذه من جفني عقوداً إنه ... بعض ما أودعته في أذني ومما أنشده لغيره في كتابه " الكشاف " عند تفسير قول الله تعالى في سورة البقرة " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها " " البقرة: 26 " فإنه قال: أنشدت لبعضهم:
    يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
    ويرى عروق نياطها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل
    اغفر لعبدٍ تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول وكان بعض الفضلاء قد أنشدني هذه الأبيات بمدينة حلب وقال: إن الزمخشري المذكور أوصى أن تكتب على لوح قبره هذه البيات، ثم أنشدني ذلك الفاضل الرئيس بيتين وذكر أن صاحبهما أوصى أن يكتبا على قبره وهما (1) :
    إلهي قد أصبحت ضيفك في الثرى ... وللضيف حق عند كل كريم
    فهب لي ذنوبي في قراي فإنها ... عظيم ولا يفرى بغير عظيم
    وأخبرني بعض الأصحاب أنه رأى بجزيرة سواكن تربة ملكها عزيز الدولة ريحان وعلى قبره مكتوب:
    يا أيها الناس كان لي أمل ... قصر بي عن بلوغه الأجل
    فليتق الله ربه رجل ... امكنه قبل موته العمل
    ما أنا وحدي نقلت حيث ترى ... كل إلى ما نقلت ينتقل وكانت ولادة الزمخشري يوم الربعاء السابع والعشرين من شهر رجب سنة سبع وستين وأربعمائة بومخشر. وتوفي ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، بجرجانية خوارزم، بعد رجوعه من مكة، رحمه الله تعالى ورثاه بعضهم بأبيات، ومن جملتها:
    فأرض مكة تذري الدمع مقلتها ... حزناً لفرقة جار الله محمود
     وزمخشر: بفتح الزاي والميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الشين المعجمة
    __________
    (1) ينتهي هناالجزء الأول من المختار، وقد سقطت منه تراجم، ثم يبدأ الجزء الثاني بترجمة " أبو تميم معد ".
    (5/173)

    وبعدها راء، وهي قرية كبيرة من قرى خوارزم.
    وجرجانية: بضمن الجيم الأولى وفتح الثانية وسكون الراء بينهما وبعد الألف نون مكسورة وبعدها ياء مثناة من تحتها مفتوحة مشددة ثم هاء ساكنة، وهي قضبة خوارزم.
    قال ياقوت الحموي في كتاب " البلدان ": يقال لهم بلغتهم كركانج، وقد عربت فقيل لها الجرجانية، وهي على شاطء جيحون، والله تعالى أعلم بالصواب.

أبو الوفاء المهندس

    أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العباس البوزجاني الحاسب المشهور؛ أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، وله فيه استخراجات غريبة لم يسبق بها، وكان شيخنا العلامة كمال الدين أبو الفتح موسى بن يونس، تغمده الله برحمته وهو القيم بهذا الفن، يبالغ في وصف كتبه ويعتمد عليها في أكثر مطالعاته، ويحتج بما يقوله. وكان عنده من تواليفه عدة كتب. وله في استخراج الأوتار تصنيف جيد نافع.
    وكانت ولادته يوم الأربعاء مستهل شهر رمضان المعظم سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، بمدينة بوزجان. وتوفي سنة سبع وثمانين وثلثمائة ، رحمه الله تعالى.
    ووزجان: بضم الباء الموحدة وسكون الواو والزاي وفتح الجيم وبعد الألف نون، وهي بليدة بخراسان بين هراة ونيسابور.
    وكان قد قدم العراق سنة ثمان وأربعين وثلثمائة.
    وكنت وقفت على تاريخ ولادته على هذه الصورة في كتاب " الفهرست " تأليف أبي الفرج ابن النديم، ولم يذكر تاريخ وفاته. فكتبت هذه الترجمة، وذكرت تاريخ الولادة، فأخليت بياضاً لأجل تاريخ الوفاة لعي أظفر به، فإن قصدي في هذا التاريخ إنما هو ذكر الوفاة كما ذكرته في أول الكتاب. ثم إني وجدت تاريخ الوفاة في تاريخ شيخنا ابن الأثير قد ذكرها في السنة المذكورة فألحقتها. وكان بين شروعي في هذا التاريخ وظفري بالوفاة أكثر من عشرين سنة، والله تعالى أعلم.

البتاني الحاسب

    أبو عبد الله محمد بن جابر الحراني الأصل البتاني الحاسب، المنجم المشهور صاحب الزيج، الصابي؛ له الأعمال العجيبة والأرصاد المتقنة. وأول ما ابتدأ بالرصد في سنة أربع وستين ومائتين، إلى سنة ست وثلثمائة، وأثبت الكواكب الثابتة في زيجه لسنة تسع وتسعين ومائتين. وكان أوحد عصره في فنه، وأعمال تدل على غزارة فضله وسع علمه. وتوفي سنة سبع عشرة وثلثمائة، عند رجوعه من بغداد، بموضع يقال له قصر الحضر، ولم أعلم أنه أسلم، لكن اسمه يدل على إسلامه.
    وله من التصانيف " الزيج " وهو نسختان: أولى وثانية، والثانية أجود وكتاب " معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك " ورسالة في " مقدار الاتصالات "، وكتاب شرح فيه أربع أرباع الفلك، ورسالة في تحقيق أقدار الاتصالات، وشرح أربع مقالات بطليموس  ، وغير ذلك.
    والبتاني: بفتح الباء الموحدة، وقال أبو محمد هبة الله بن الأكفاني بكسرها، وبتشديد التاء المثناة من فوقها وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى بتان، وهي ناحية من أعمال حران.
    والحضر: بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وبعدها راء، وهي مدينة قديمة، بالقرب من تكريت؛ بين دجلة والفرات في البرية، وكان صاحبها الساطرون، فحاصره أردشير بن بابك أول ملوك الفرس، وأخذ البلد وقتله، وفي ذلك يقول أبو داود الإيادي، واسمه حارثة بن حجاج، وقيل حنظلة بن شرقي  :
    وأرى الموت قد تدلى من الحض ... ر على رب أهله الساطرون
    صرعته الأيام  من بعد ملك ... ونعيم وجوهر مكنون
    وذكره أيضاً عدي بن زيد العبادي في قوله  :
    وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور وجاء ذكره في السعر كثيراً، وقيل إن الذي حصروه سابور ذو الأكتاف وهو الذي ذكره ابن هشام في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول أصح.
    والساطرون: بفتح السن المهملة وبعد الألف طاء مهملة مكسور ثم راء مضمومة ثم واو ساكنة وبعدها نون وهو لفظ سرياني، ومعناه الملك، واسمه ضيزن - بفتح الصاد المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الزاي وبعدها نون - بن معاوية.
    وضيزن: اسم صنم كان في الجاهلية وبه سمي الرجل، وهو قضاعي، وكان من ملوك الطوائف، وإذا اجتمعوا لحرب غيرهم تقدم عليهم، لعظمته (4) عندهم.
    فأقام أردشير على حصره أربع سنين وهو لا يقدر عليه، وكان للساطرون ابنة يقال لها نضيرة - بفتح النون وكسر الضاد المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء وبعدها هاء ساكنة - وفيها يقول الشاعر:
    أقفر الحضر من نضير فالمر ... باع منها فجانب الثرثار وكانت في غاية الجمال، وكانت عادتهم إذا حاضت المرأة أنزلوها إلى الربض، فحاضت نضيرة فأنزلت إلى ربض الحضر، فأشرفت ذات يوم فأبصرت أردشير وكان من أجمل الرجال فهويته، فأرسلت إليه أن يتزوجها وتفتح له الحصن، واشترطت عليه، والتزم لها ما طلبت، ثم اختلفوا في السبب الذي دلته عليه حتى فتح الحصن، والذي قاله الطبري أنها دلته على طلسم كان في الحصن، وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء وتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم ترسل الحمامة فتنزل على سور الحصن، فيقع الطلسم (1) فيفتح الحصن، ففعل أردشير ذلك واستباح الحصن وخربه أباد أهله " وقتل الساطرون أباها " (2) وسار بنضيرة وتزوجها، فبينما هي نائمة على فراشها ليلاً إذ جعلت تتململ لا تنام  ، فدعا بالشمع، ففتش فراشها فوجد عليه ورق آس، فقال لها أردشير: أهذا الذي أسهرك قال: نعم، قال: فما كان أبوك يصنع بك قالت: كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير ويطعمني المخ والزبد وشهد أبكار النحل، ويسقيني الخمر الصافي، قال: فكان جزاء أبيك ما صنعت به أنت إلي بذلك أسرع، ثم أمر بها (4) فربطت قرون رأسها بذنب فرس، ثم ركض الفرس حتى قتلها. والحضر إلى الآن آثاره باقية، وفيه بقايا عمائر، لكنه لم يسكن منذ ذلك الوقت؛ وقد طال الكلام فيه، إنما هي حكاية غريبة فأحببت إثباتها.
     ورأيت في تاريخ آخر أنه دخل بغداد وخرج منها وتوفي في الطريق بقصر الحضر في التاريخ المذكور، قال ياقوت الحموي في كتابه " المشترك ": قصر الحضر بقرب سامرا من أبنية المعتصم، والله تعالى أعلم 

ابن شاكر

    أبو عبد الله بن موسى بن شاكر؛ أحد الأخوة الثلاثة الذي ينسب إليهم حيل بن موسى، وهم مشهورون بها، واسم أخويه أحمد والحسن، وكانت لهم همة عالة في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل، وأتعبوا أنفسهم في شأنها، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها لهم، وأحضروا النقلة من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة بالبذل السني، فأظهروا عجائب الحكمة. وكان الغالب عليهم من العلوم: الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم، وهو الأقل. ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها، وهو مجلد واحد.
    ومما اختصوا به في ملة (1) الإسلام وأخرجوه من القوة إلى الفعل - وإن كان أرباب الأرصاد المتقدمون على الإسلام قد فعلوه، لكنه لم يقل إن أحداً من أهل هذه الملة تصدى له وفعله، إلا هم - وهو أن المأمون كان مغرى بعلوم الأوائل وتحقيقها، ورأى فيه أن دور كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل، كل ثلاثة أميال فرسخ، فيكون المجموع ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لو وضع طرف حبل على أي نقطة كانت من الأرض، وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض، والتقى طرفا الحبل، فإذا مسحنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل.
    فأراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك، فسأل بني موسى المذكورين عنه فقالوا: نعم، هذا قطعي. فقال: أريد منكم أن تعملوا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى نبصر هل يتحرر ذلك أم لا، فسألوا عن الأراضي المتساوية في أي البلاد هي فقيل لهم: صحراء سنجار في غاية الاستواء وكذلك وطأة الكوفة، فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم، ويركن إلى معرفتهم بهذه الصناعة، وخرجوا إلى سنجار، وجاءوا إلى الصحراء المذكورة، فوقفوا في موضع منها وأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات، وضربوا في ذلك الموضع وتداً وربطوا فيه حبلاً طويلاً، ثم مشوا إلى جهة الشمالية على الاستواء من غير انحراف إلى اليمين واليسار حسب الإمكان. فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً، ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول؛ ولم يزل ذلك دأبهم، حتى انتهوا إلى موضع أخذوا (2) فيه ارتفاع القطب المذكور، فوجدوه قد زاد على الارتفاع الأول درجة، فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبل، فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل، فعلموا أن كل درجة من درج الفلك، يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلاً وثلثان. ثم عادوا إلى الموضع الذي ضربوا فيه الوتد الأول وشدوا فيه حبلاً وتوجهوا إلى جهة الجنوب، ومشوا على الاستقامة، وعملوا عاماً عملوا في جهة الشمال: من نصب الأوتاد وشد الحبال، حتى فرغت الحبال التي استعملوها في جهة الشمال، ثم أخذوا الارتفاع فوجدوا القطب الشمالي قد نقص عن ارتفاعه الأول درجة، فصح حسابهم وحققوا ما قصدوه من ذلك، وهذا إذا وقف عليه من له يد في علم الهيئة ظهر له حقيقته. ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلثمائة وستون درجة، لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً، وكل برج ثلاثون درجة، فتكون الجملة ثلثمائة وستين درجة، فضربوا عدد درج الفلك في ست وستين ميلاً وثلثين - أي التي هي حصة كل درجة - فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ، وهذا محقق لا شك فيه.
    فلما عاد بنو موسى إلى المأمون وأخبروه بما صنعوا، وكان موفقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل، طلب تحقيق ذلك في موضع آخر، فسيرهم إلى أرض الكوفة وفعلوا كما فعلوا في سنجار، فتوافق الحسابان، فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك، وهذا الفصل هو الذي أشرت إليه في ترجمة أبي بكر محمد بن يحيى الصولي وقلت: لولا التطويل لبينت ذلك .
    وكانت لبني موسى المذكورين أوضاع نادرة غريبة، ولولا الإطالة لذكرت شيئاً منها.
    وتوفي محمد المذكور في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين ومائتين، رحمه الله تعالى؛ والله أعلم بالصواب.

الفارابي الفيلسوف

    أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي التركي الحكيم المشهور، صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم، وهو أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي ابن سينا - المقدم ذكره - بكتبه تخرج وبكلامه انتفع في تصانيفه. وكان رجلاً تركياً ولد في بلده ونشأ بها - وسيأتي الكلام عليها في آخر الترجمة إن شاء الله تعالى - ثم خرج من بلده وتنقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد، وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي، فشرع في اللسان العربي فتعلمه وأتقنه غاية الإتقان، ثم اشتغل بعلوم الحكمة.
     ولما دخل بغداد كان بها أبو بشر متى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير، وكان يقرأ الناس عليه (2) فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم المئون من المشتغلين بالمنطق، وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس في المنطق ويملي على تلامذته شرحه، فكتب عنه في شرحه سبعون  سفراً، ولم يكن في ذلك الوقت أحد مثله في فنه، وكان حسن العبارة في تواليفه لطيف الإشارة، وكان يستعمل في تصانيفه البسط والذليل، حتى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر يعني المذكور، وكان أبو نصر يحضر حلقته في غمار تلامذته.
    فأقام أبو نصر كذلك برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان  الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفاً من المنطق أيضاً، ثم أنه قفل راجعاً إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطاطاليس وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها، ويقال إنه وجد " كتاب النفس " لأرسطاطاليس وعليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: إني قرأت هذا الكتاب مائتي مرة. ونقل عنه أنه كان يقول: قرأت " السماع الطبيعي " لأرسطاطاليس الحكيم أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته. ويروى عنه أنه سئل: من أعلم الناس بهذا الشأن أنت أم أرسطاطاليس فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته.
    وذكره أبو القاسم صاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن صاعد القرطبي في كتاب " طبقات الحكماء " فقال: الفارابي فيلسوف المسلمين بالحقيقة، أخذ صناعة المنطق عن يوحنا بن حيلان المتوفى بمدينة السلام في أيام المقتدر، فبذ جميع أهل الإسلام وأربى عليهم في التحقيق لها وشرح غامضها وكشف سرها وقرب تناولها، وجميع ما يحتاج إليه منها، في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة، منبهاً على ما أعيا الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم، وأوضح القول فيها عن مواد المنطق الخمسة، وأفاد وجوه الانتفاع بها وعرف طرق استعمالها، وكيف تصرف صورة القياس في كل مادة منها، فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافية والنهاية الفاضلة، ثم له بعد هذا كتاب شريف في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه ولا ذهب أحد مذهبه فيه ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به، انتهى كلام ابن صاعد؛ وذكر بعد ذلك شيئاً من تواليفه ومقاصده فيها.
    ولم يزل أبو نصر ببغداد مكباً على الاشتغال بهذا العلم والتحصيل له إلى أن برز فيه وفاق أهل زمانه، وألف بها معظم كتبه، ثم سافر منها إلى دمشق، ولم يقم بها، ثم توجه إلى مصر، وقد ذكر أبو بصر في كتابه الموسوم بالسياسة المدنية، أنه ابتدأ بتأليفه في بغداد وأكمله بمصر، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها، وسلطانها يومئذ سيف الدولة بن حمدان، فأحسن إليه.
    ورأيت في بعض المجاميع أن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه وهو بزي الأتراك، وكان ذلك زيه دائماً، فوقف، فقال له سيف الدولة: اقعد، فقال: حيث أنا أم حيث أنت فقال: حيث أنت، فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يسارهم به قل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء إن لم يوف بها فاخرقوا به، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير (1) ، اصبر فإن الأمور بعواقبها، فعجب سيف الدولة منه وقال له: أتحسن هذا اللسان فقال: نعم أحسن أكثر من سبعين لساناً، فعظم عنده. ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك في أن تأكل فقال: لا، فقال: فهل تشرب فقال: لا، فقال: فهل تسمع فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر وقال له: أخطأت، فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصناعة شيئاً فقال: نعم، ثم أخرج من سوطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيداناً وركبها، ثم لعب بها، فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر وضرب بها فبكي كل من في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وحركها فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نياماً وخرج.
    ويحكى أن الآلة المسماة القانون من وضعه، وهو أول من ركبها هذا التركيب. وكان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس (1) ، وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون غالباً إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض، ويؤلف هناك كتبه، وينتابه المشتغلون عليه. وكان أكثر تصنيفه في الرقاع، ولم يصنف في الكراريس إلا القليل، فلذلك جاءت أكثر تصانيفه فصولاً وتعاليق، ويوجد بعضها ناقصاً مبتوراً. وكان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة كل يوم من بيت المال أربعة دراهم، وهو الذي اقتصر عليها لقناعته. ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في سنة تسع وثلاثين وثلثمائة بدمشق، وصلى عليه سيف الدولة في أربعة من خواصه، وقد ناهز ثمانين سنة، ودفن بظاهر دمشق خارج باب الصغير، رحمه الله تعالى.
    وتوفي متى بن يونس ببغداد في خلافة الراضي، هكذا حكاه ابن صاعد القرطبي في " طبقات الأطباء " (2) .
    وظفرت في مجموع بأبيات منسوبة إلى الفارابي، ولا أعلم صحتها، وهي:
    أخي خل حيز ذي باطل ... وكن للحقائق في حيز
    فما الدار دار مقام لنا ... وما المرء في الأرض بالمعجز
    ينافس هدا لهذا على ... أقل من الكلم الموجز
    وهل نحن إلا خطوط وقعن ... على نقطة وقع مستوفز
    محيط السموات أولى بنا ... فماذا التنافس في مركز (235) ورأيت هذه الأبيات في " الخريدة " منسوبة إلى الشيخ محمد بن عبد الملك الفارقي البغدادي الدار. وقال العماد مؤلف " الخريدة ": إنه اجتمع به يوم الجمعة ثامن عشر شهر رجب، سنة إحدى وستين وخمسمائة، وتوفي بسنيات بعد ذلك. 
    وطرخان: بفتح الطاء المهملة وسكون الراء وفتح الخاء المعجمة وبعد الألف نون.
    وأوزلغ: بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الزاي واللام وبعدها غين معجمة، وهما من أسماء الترك.
    والفارابي: بفتح الفاء والراء وبينهما ألف وبعد الألف الثانية باء موحدة، هذه النسبة إلى فاراب، وتسمى في هذا الزمان أطرار - بضم الهمزة وسكون الطاء المهملة وبين الراءين ألف ساكنة - وقد غلب عليها هذا الاسم، وهي مدينة فوق الشاش، قريبة من مدينة بلاساغون، وجميع أهلها على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وهي قاعدة من قواعد مدن الترك، ويقال له فاراب الداخلة، ولهم فاراب الخارجة، وهي من أطراف بلاد فارس.
    وبلاساغون: بفتح الباء الموحدة واللام ألف والسين المهملة وبعد الألف غين معجمة ثم واوا ساكنة وبعدها نون، وهي بلدة في ثغور الترك وراء نهر سيحون - المقدم ذكره - بالقرب من كاشغر.
    وكاشغر: بفتح الكاف وبعد الألف شين معجمة ساكنة ثم غين معجمة مفتوحة وفي آخرها راء، وهي من المدن العظام في تخوم الصين؛ والله تعالى أعلم بالصواب.

ابن زكريا الرازي

    أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور؛ ذكر ابن جلجل في " تاريخ الأطباء " أنه دبر مارستان الري ثم مارستان بغداد - في أيام المكتفي. ومن أخباره أنه كان يضرب بالعود ويغني، فلما التحى وجهه قال: نجاة
    ل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يستظرف  ، فنزع عن ذلك وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة، فقرأها قراءة رجل متعقب على مؤلفيها، فبلغ من معرفة غوائرها الغاية، واعتقد الصحيح منها وعلل السقيم، وألف في الطب كتباً كثيرة.
    وقال غيره: كان إمام وقته في علم الطب والمشار إليه في ذلك العصر، وكان متقناً لهذه الصناعة حاذقاً فيها عارفاً بأوضاعها وقوانينها، تشد إليه الرحال في أخذها عنه، وصنف فيها الكتب النافعة، فمن ذلك كتاب " الحاوي " وهو من الكتب الكبار، يدخل في مقدار ثلثين مجلداً، وهو عمدة الأطباء في التنقل منه والرجوع إليه عند الاختلاف. ومنها كتاب " الجامع "، وهو أيضاً من الكتب الكبار النافعة. وكتاب " الأعصاب " (2) وهو أيضاً كبير، وله أيضاً كتاب " المنصوري " المختصر المشهور، وهو - عل صغر حجه - من الكتب المختارة، جمع فيه بين العمل والعلم ويحتاج إليه كل أحد، وكان قد صنفه لأبي صالح منصور بن نوح بن نصر بن إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان، أحد الملوك السامانية، فنسب الكتاب إليه، وله غير ذلك تصانيف كثيرة وكلها يحتاج إليها.
    ومن كلامه: مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج بالأدوية، مهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب؛ من كلامه: إذا كان الطبيب عالماً والمريض مطيعاً فما أقل لبث العلة؛ ومن كلامه: عالج في أول العلة بما لا تسقط به القوة.
    [وذكر القاضي التنوخي في كتاب " الفرج بعد الشدة " في باب من اشتد بلاؤه بمرض عافاه الله بأيسر سبب وأقاله: أن غلاماً من بغداد قدم الري وكان ينفث الدم، وكان لحقه ذلك في طريقه، فاستدعى أبا بكر الرازي الطبيب المشهور بالحذق، صاحب الكتب المصنفة، فأراه ما ينفث ووصف له ما يجد، فأخذ الرازي مجسه، ورأى قارورته واستوصف حاله منذ ابتداء ذلك به، فلم يقم له دليل على سل ولا قرحة، ولم يعرف العلة، واستنظر الرجل لينظر في الأمر، فقامت على العليل القيامة وقال: هذا أيأس لي من الحياة لحذق الطبيب وجهله بالعلة، فازداد ما به من الألم، فولد الفكر للرزاي أن عاد إليه فسأله عن المياه التي شربها في طريقه، فأخبر أنه شرب من مستنقعات وصهاريج، فقام في نفس الرازي بحدة الخاطر وجودة الذكاء أن علقة كانت في الماء وقد حصلت في معدته وأن ذلك الدم من فعلها وقال له: إذا كان في غد جئتك فعالجتك ولم أنصرف حتى تبرأ، ولكن بشرط أن تأمر غلمانك أن يطيعوني فبك لم آمرهم، فقال: نعم؛ فانصرف الرازي فجمع ملء مركنين كبيرين من طحلب فأحضرهما في غد معه فأراه إياهما وقال له: ابلع، فقال: لا أستطيع، فقال للغلمان: خذوه فأنيموه، ففعلوا به ذلك، وطرحوه على قفاه وفتحوا فاه وأقبل الرازي يدس الطحلب في حلقه ويكبسه شديداً ويسأله ببلعه ويهدده بأن يضرب، إلى أن أبلعه كارهاً أحد المركنين بأسره، والرجل يستغيث فلا ينفعه مع الرازي شيء، إلى أن قال العليل: الساعة أقذف، فزاد الرازي في ما يكبسه في حلقه، فذرعه القيء فقذف، فتأمل الرازي قذفة فإذا فيه علقة، وإذا هي لما وصل إليها الطحلب قربت إليه بالطبع وتركت موضعها والتفت على الطحلب ونهض العليل معافى] (1) .
    ولم يزل رئيس هذا الشان، وكان اشتغاله به على كبر، يقال إنه لما شرع فيه كان قد جاوز أربعين سنة من العمر، وطال عكره فعمي في آخر مدته، وتوفي سنة إحدى عشرة وثلثمائة، رحمه الله تعالى.
    وكان اشتغاله بالطب على الحكيم أبي الحسن علي بن ربن الطبري صاحب التصانيف المشهورة، منها " فردوس الحكمة " وغيره. وكان مسيحياً ثم أسلم. وقد تقدم الكلام على الرازي.
    وأما الملوك السامانية فكانوا سلاطين ما وراء النهر وخراسان، وكانوا أحسن الملوك سيرة، ومن ولي منهم كان يقال له سلطان السلاطين، لا ينعت إلا به، وصار كالعلم لهم، وكان يغلب عليهم العدل والدين والعلم، وملك من بينهم جماعة، ولم تنقرض دولتهم إلا بدولة السلطان محمود بن سبكتكين - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكانت مدة ولايتهم مائة سنة وسنتين وستة أشهر وعشرة أيام.
     وكانت وفاة أبي صالح منصور المذكور في شوال سنة خمس وستين وثلثمائة وكان قد صنف له الرازي المذكور الكتاب المذكور في حال صغره، ليشتغل به.
    ثم رأيت نسخة كتاب (1) " المنصوري "، وعلى ظهره: أن المنصور الذي وسم الرازي هذا الكتاب باسمه هو المنصور بن إسحاق بن أحمد بن نوح من ولد بهرام كوس (2) صاحب كرمان وخراسان، وكنيته أبو صالح، والله أعلم بالصواب.
    وحكى ابن حلجل - المقدم ذكره - في تاريخه أيضاً: أن الرازي المذكور صنف لمنصور المذكور كتاباً في إثبات صناعة الكيمياء، وقصد به من بغداد فدفع له الكتاب، فأعجبه وشكره عليه وحباه بألف دينار وقال له: أريد أن تخرج هذا الذي ذكرت في هذا الكتاب إلى الفعل، فقال له الرازي: إن ذلك مما يتمون له المؤن، ويحاج إلى آلات وعقاقير صحيحة، وإلى إحكام صنعة ذلك كله، وكل ذلك كلفة، فقال له منصور: كل ما احتجت إليه من الآلات، ومما يليق بالصناعة أحضره لك كاملاً حتى تخرج عما ضمنته كتابك إلى العمل. فلما حقق عليه كع عن مباشرة ذلك وعجز عن عمله. فقال له منصور: ما اعتقدت أن حكيماً يرضى بتحليل الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة، يشغل بها قلوب الناس ويتعبهم فيما لا يعود عليهم من ذلك منفعة. ثم قال له: قد كافأتك على قصدك وتعبك بما صار إليك من الألف دينار، ولا بد من معاقبتك على تخليد الكذب، فحمل السوط على رأسه، ثم أمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى يتقطع، ثم جهزه وسير به إلى بغداد، فكان ذلك الضرب سبب نزول الماء إلى عينيه، ولم يسمح بقدحهما وقال: قد رأيت الدنيا.
     وكانت وفاة والده أبي محمد نوح بن نصر في شعر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة.
     وكانت وفاة جده أبي الحسن نصر بن إسماعيل في رجب سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة.
     وكانت وفاة جد أبيه أبي إبراهيم إسماعيل بن احمد في صفر ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت منه، سنة خمس وتسعين ومائتين ببخاري؛ ومولده سنة أربع وثلاثين ومائتين بفرغانة، وكن يكتب الحديث ويكرم العلماء.
     وكانت وفاة أحمد بن أسد بن سامان سنة خمسين ومائتين بفرغانة، رحمهم الله تعالى.
    وسامان: بفتح السين المهملة والميم وبينهما ألف وبعد الألف الثانية نون - وهذا وإن كان خارجاً عن المقصور، لكن مساق (1) الكلام جره، وفيه فائدة لا يستغنى عنها، والله أعلم بالصواب.

الوزير الجواد جمال الدين

    أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور، الملقب جمال الدين المعورف بالجواد الأصفهاني، وزير صاحب الموصل؛ كان جده أبو منصور فهاداً للسلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فتأدب ولده وسمت همته، فاشتهر أمره وخدم في مناصب علية وصاهر الأكابر، فلما ولد له جمال الدين المذكور عني بتأديبه وتهذيبه، ثم ترتب في ديوان العرض للسلطان محمود بن محمد بن ملكشاه - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فظهرت كفايته وحمدت طريقته، فلما تولى أتابك زنكي بن آق سنقر - المقدم ذكره - الموصل وما والاها استخدم جمال الدين المذكور وقربه واستصحبه معه إليها، فولاه نصيبين، فظهرت كفايته، وأضاف إليه الرحبة، فأبان عن كفاية وعفة، وكان من خواصه وأكبر ندمائه، فجعله مشرف مملكته كلها وحكمه تحكيماً لا مزيد عليه. وكان الوزير يومئذ ضياء الدين أبا سعيد بهرام بن الخضر الكفرتوثي، استوزره أتابك نكي في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وتوفي خامس شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وهو على وزارته، وتولى الوزارة بعده أبو الرضى ابن صدقة، وجمال الدين المذكور على وظائفه.
    وكان جمال الدين دمث الأخلاق، حسن المحاضرة مقبول المفاكهة، فخف على أتابك زنكي المذكور وأعجبه حديثه ومحاورته، وجعله من ندمائه، وعول عليه في آخر مدته في أشراف ديوانه  وزارد ماله، ولم يظهر منه في أيام أتابك زنكي كرم ولا جود ولا تظاهر بموجود، فلما قتل على قلعة جعبر - كما تقدم في ترجمته - أراد بعض العسكر قتل الوزير المذكور ونهب ماله، فتعرضوا له ورموا خيمته بالنشاب، فحماه جماعة من الأمراء، وتوجه بالعسكر إلى الموصل، فرتبه سيف الدين غازي بن أتابك زنكي - المقدم ذكره - في وزارته، وفوض الأمور وتدبير أحوال الدولة إليه وإلى زين الدين علي بن بكتكين والد مظفر الدين صاحب إربل - وقد تقدم طرف من خبره فير ترجمة ولده في حرف الكاف - فظهر حينئذ جود الوزير المذكور وانبسطت يده، ولم يزل يعطي ويبذل الأموال ويبالغ في الإنفاق حتى عرف بالجواد، وصار ذلك كالعلم عليه، حتى لا يقال له إلا " جمال الدين الجواد ". ومدحه جماعة من الشعراء، من جملتهم محمد بن نصر بن صغير القيسراني الشاعر - المقدم ذكره فإنه قصده بقصيدته المشهورة التي أولها:
    سقى الله بالزوراء من جانب الغربي ... مهاً وردت عين الحياة من القلب وهي من القصائد الطنانة.
    وأثر آثار جميلة، وأجرى الماء إلى عرفات أيام الموسم من مكان بعيد، وعمل الدرج من أسفل الدبل إلى أعلاه، وبنى سور مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان خرب من مسجده، وكان يحمل في كل سنة إلى مكة شرفها الله تعالى والمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام من الأموال والكسوات للفقراء والمنقطعين ما يقوم بهم مدة سنة كاملة، وكان له ديوان مرتب باسم أرباب الرسوم والقصاد لا غير، ولقد تنوع في فعل الخير حتى جاء في زمنه بالموصل غلاء مفرط فواسى الناس حتى لم يبق له شيء، وكان إقطاعه عشر مغل البلاد على جاري عادة وزراء الدولة السلجوقية، فأخبر بعض وكلائه أنه دخل عليه يوماً فناوله بقياره، وقال له: بع هذا واصرف ثمنه إلى المحاويج، فقال له الوكيل: إنه لم يبق عندك سوى هذا البقيار والذي على رأسك، وإذا بعت 
    هذا ربما تحتاج إلى تغيير  البقيار فلا تجد ما تلبسه، فقال له: إن هذا الوقت صعب كما ترى، وربما لا أجد وقتاً أصنع فيه الخير كهذا الوقت، وأما البقيار فإني أجد عوضه كثيراً، فخرج الوكيل وباع البقيار وتصدق بثمنه؛ وله من هذه النوادر أشياء كثيرة.
    وأقام على هذه الحال إلى أن توفي مخدومه غازي - في التاريخ المذكور في ترجمته - وقام بالأمر من بعده أخوه قطب الدين مودود - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - فاستولى عليه مدة، ثم إنه استكثر إقطاعه وثقل عليه أمره، فقبض عليه في شهر رجب الفرد سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وفي أخبار زين الدين صاحب إربل طرف من خبر قبضه وحبسه في قلعة الموصل. ولم يزل مسجوناً (2) بها إلى أن توفي في العشر الأخير من شهر رمضان المعظم، وقيل شعبان، سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وصلي عليه، وكان يوماً مشهوداً من ضجيج الضعفاء (3) والأرامل والأيتام حول جنازته، ودفن بالموصل إلى بعض سنة ستين، ثم نقل إلى مكة - حرسها الله تعالى - وطيف به حول الكعبة، وكان بعد أن صعدوا به ليلة الوقفة إلى جبل عرفات، وكانوا يطوفون به كل يوم مراراً مدة مقامهم بمكة، شرفها الله تعالى، وكان يوم دخوله مكة يوماً مشهوداً من اجتماع الخلق والبكاء عليه، ويقال إنه لم يعهد (4) عندهم مثل ذلك اليوم، وكان معه شخص مرتب يذكر محاسنه ويعدد مآثره، إذا وصلوا به إلى المزارات والمواضع المعظمة، فلما انتهوا به إلى الكعبة وقف وأنشد:
    يا كعبة الإسلام هذا الذي ... جاءك يسعى كعبة الجود
    قصدت في العام وهذا الذي ... لم يخل يوماً غير مقصود ثم حمل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ودفن بها بالبقيع بعد أن أدخل 
    المدينة، وطيف به حول حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مراراً وأنشد الشخص الذي كان مرتباً معه، فقال:
    سرى نعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله
    يمر على الوادي فتثني رماله ... عليه وبالنادي فتبكي أرامله

    قلت: وهذان البيتان من جملة القصيدة المذكورة في ترجمة المقلد بن نصر بن منفذ الشيزري - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى؛ رحمه الله تعالى.
    (233) وكان ولده أبو الحسن علي الملقب جلال الدين، من الأدباء الفضلاء البلغاء الكرماء، رأيت له ديوان رسائل أجاد فيه، وجمعه مجد الدين أبو السعادات المبارك المعروف بابن الأثير الجزري صاحب جامع الأصول - وقد تقدم ذكره (1) - وسماه كتاب الجواهري واللآلي من الإملاء المولوي الوزيري الجلالي ". وكان مجد الدين المذكور في أول أمره كاتباً بين يديه، يملي رسائله وإنشاءه عليه، وهو كاتب يده، وقد أشار مجد الدين إلى ذلك في أول هذا الكتاب، وبالغ في وصف جلال الدين المذكور وتقريضه، وفضله على كل من تقدم من الفصحاء، وذكر أنه كان بينه وبين حيص بيص - الشاعر المقدم ذكره (2) - مكاتبات، ولولا خوف الإطالة لذكرت بعض رسائله.
    وفي جملة ما ذكره أن حيص بيص كتب إليه على يد رجل عليه دين رسالة مختصرة، فأتيت بها لقصرها، وهي " الكرم غامر والذكر سائر، والعون على الخطوب أكرم ناصر، وإغاثة الملهوف من أعظم الذخائر، والسلام "  .
    وكان جلا الدين المذكور وزير سيف الدين غازي بن قطب الدين مودو، - وقد تقدم ذكره أيضاً في حرف الغين .
    وتوفي جلا الدين المذكور سنة أربع وسبعين وخمسمائة، بمدينة دنيسر
    وحمل إلى الموصل ثم نقل إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ودفن بها في تربة والده، رحمه الله تعالى.
    ودنيسر: بضم الدال المهملة وفتح النون، وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح السين المهملة وبعدها راء، وهي مدينة بالجزيرة الفراتية بين نصيبين ورأس عين، تطرقها التجار من جميع الجهات، وهي مجمع الطرقات، ولهذا قيل لها: دنيسر، وهي لفظ مركب عجمي، وأصله دنياسر، ومعناه رأس الدنيا، وعادة العجم في الأسماء المضافة أن يؤخروا المضاف عن المضاف إليه، وسر بالعجمي رأس.
    والكفر توثي الوزير المذكور: بفتح الكاف وسكون الفاء وفتح الراء وضم التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وبعدها ثاء مثلثة، هذه النسبة إلى كفرتوثا وهي قرية من أعمال الجزيرة الفراتية بين رأس عين ودارا، والله أعلم بالصواب.

العماد الأصفهاني

    أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي الفرج محمد بن نفيس  الدين أبي الرجا حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله المعروف بابن أخي العزيز - وقد تقدم ذكر عمه العزيز في حرف الهمزة (3) -. المعروف بأله، الملقب عماد الدين، الكاتب الأصبهاني.
    كان العماد المذكور فقيهاً شافعي المذهب، تفقه بالمدرسة النظامية زماناً، وأتقن الخلاف وفنون الأدب، وله من الشعر والرسائل ما يغني عن الإطالة في شرحه. وكان قد نشأ بأصبهان وقد بغداد في حداثته، وتفقه على الشيخ أبي منصور سعيد بن محمد بن الزاز مدرس النظامية، وسمع بها الحديث من أبي الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام وأبي منصور محمد بن عبد الملك بن جيرون وأبي المكارم المبارك بن علي السمرقندي وأبي بكر أحمد بن علي بن الأشقر، وغيرهم، وأقام بها مدة.
    ولما تخرج ومهر تعلق بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد، فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، ولم يزل ماشي الحال مدة حياته، فلما توفي - في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى - تشتت شمل أتباعه والمنتسبين إليه ونال المكروه بعضهم، وأقام العماد مدة في هيش منكد وجفن مسهد، ثم انتقل إلى مدينة دمشق، فوصلها في شعبان سنة اثنتين وستين خمسمائة، وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن أتابك زنك - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وحاكمها ومتولي أمورها وتدبير دولتها القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد ابن الشهرزوري - المقدم ذكره (1) - فتعرف به وحضر مجالسه، وذكر لديه مسألة في الخلاف، وعرفه الأمير الكبير نجم الدين أبو الشكر أيوب والد السلطان صلاح الدين رحمهما الله تعالى، وكان يعرف عمه العزيز من قلعة تكريب فأحسن إليه وأكرمه وميزه عند الأعيان والأماثل، وعرفه السلطان صلاح الدين من جهة والده، ومدحه في ذلك الوقت بدمشق المحروسة، وذكر العماد ذلك في كتابه " البرق الشامي " وأورد القصيدة التي مدحه بها يومئذ.
    ثم إن القاضي كمال الدين نوه بذكره عند السلطان نور الدين، وعدد عليه فضائله وأهله لكتابة الإنشاء. قال العماد: فبقيت متحيراً في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي، ولا تقدمت لي به دربة. ولقد كانت مواد هذه الصناعة عتيدة عنده، لكنه لم يكن قد مارسها فجبن عنها في الابتداء، فلما باشرها هانت عليه، وأجاد فيها وأتى فيها بالغرائب؛ وكان ينشئ الرسائل باللغة العجمية أيضاً، وحصل بينه وبين صلاح الدين في تلك المدة مودة أكيدة وامتزاج تام (2) ،وعلت منزلته عند نور العين، وصار صاحب سره، وسيره إلى دار السلام بغداد رسولاً في أيام الإمام المستنجد، ولما عاد فوض إليه تدريس المدرسة المعروفة به في دمشق، أعني العماد، وذلك في شهر رجب سنة سبع وستين وخمسمائة، ثم رتبه في إشراف الديوان في سنة ثمان وستين، ولم يزل مستقيم الحال رخي البال، إلى أن توفي نور الدين - في التاريخ الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وقام ولده الملك الصالح إسماعيل مقامه وكان صغيراً فاستولى عليه جماعة كانوا يكرهون العماد فضايقوه وأخافوه إلى أن ترك جميع ما هو فيه وسافر قاصداً بغداد فوصل إلى الموصل ومرض بها مرضاً شديداً.
    ثم بلغه خروج السلطان صلاح الدين من الديار المصرية لأخذ دمشق، فانثنى عزمه عن قصد العراق وعزم على العود إلى الشام وخرج من الموصل رابع جمادى الأولى سنة سبعين وخمسمائة، وسلك طريق البرية، فوصل إلى دمشق في ثامن جمادى الآخرة وصلاح الدين يومئذ نازل على حلب، ثم قصد خدمته وقد تسلم قلعة حمص في شعبان من السنة، فحضر بين يديه وأنشده قصيدة أطال نفسه فيها، ثم لزم الباب ينزل لنزول السلطان ويرحل لرحيله (1) ، فاستمر على عطلته مديدة، وهو يغشى مجالس السلطان وينشده في كل وقت مدائح ويعرض عليه ويقرب بصحبته القديمة، ولم يزل على ذلك حتى نظمه في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه وقرب (2) منه، فصار من جملة الصدور المعدودين والأماثل المشهورين، يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم. وكان القاضي الفاضل في أكثر أوقاته ينقطع عن خدمة السلطان ويتوفر على مصالح الديار المصرية، والعماد ملازم الباب بالشام وغيره وهو صاحب السر المكتوم.
    وصنف التصانيف النافعة، من ذلك: كتاب " خريدة القصر وجريدة العصر " جعله ذيلاً على " زينة الدهر " تأليف أبي المعالي سعد بن علي الوراق الحظيري، والحظيري جعل كتابه ذيلاً على دمية القصر وعصر أهل العصر للباخرزي، والباخرزي جعل كتابه ذيلاً على " يتيمة الدهر " للثعالبي، وقد 
    تقدم ذكر هؤلاء الثلاثة المؤلفين، والثعالبي جعل كتابه ذيلاً على كتاب " البارع " لهارون بن علي المنجم - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وقد ذكر العماد في خريدته (1) الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والمغرب، ولم يترك أحداً (2) إلا النادر الخامي، وأحسن في هذا الكتاب، وهو في عشر مجلدات.
    وصنف كتاب " البرق الشامي " في سبع مجلدات، وهو مجموع تاريخ، وبدأ فيه بذكر نفسه وصورة انتقاله من العراق إلى الشام، وما جرى له في خدمة السلطان نورد الدين محمود، وكيفية تعلقه بخدمة السلطان صلاح الدين، وذكر شيئاً من الفتوحات بالشام، وهو من الكتب الممتعة، وإنما سماه " البرق الشامي " لأنه شبه أوقاته في تلك الأيام بالبرق الخاطف لطيبها وسرعة انقضائها.
    وصنف كتاب " الفتح القدسي (3) في الفتح القدسي " في مجلدين، يتضمن كيفية فتح البيت المقدس، وصنف كتاب " السيل على الذيل " جعله ذيلاً على " الذيل " لابن السمعاني المقدم ذكره الذي ذيل به " تاريخ بغداد " تأليف الخطيب البغدادي الحافظ، هكذا كنت قد سمعت ثم إني وقفت عليه فوجدته ذيلاً على كتابه " خريدة القصر " المذكور، وصنف كتاب " نصرة الفترة وعصره الفطرة في أخبار الدولة السلجوقية " وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات، ونفسه في قصائده طويل، وله ديوان صغير جميعه دوبيت.
    وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطاف، فمن ذلك ما يحكى عنه أنه لقيه يوماً وهو راكب على فرس، فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له الفاضل: دام علا العماد، وهذا مما يقرأ مقلوباً وصحيحاً سواء. واجتمعا يوماً في موكب السلطان، وقد انتشر من الغبار لكثرة الفرسان ما سد الفضاء، فتعجبا من ذلك، فأنشد العماد في الحال:
    أما الغبار فإنه ... مما أثارته السنابك
    والجو منه مظلم ... لكن أنار به السنابك 
    يا دهر لي عبد الرحي ... م فلست أخشى مس نابك 
    وقد اتفق له الجناس في الأبيات الثلاثة، وهو في غاية الحسن.
    وكان القاضي الفاضل قد حج من مصر في سنة أربع وسبعين وخمسمائة وركب البحر في طريقه، فكتب إليه العماد: طوبى للحجر والحجون من ذي الحجر والحجا، منيل الجدا ومنير الدحى، ولندي الكعبة من كعبة الندى، وللهدايا المشعرات من مشعر الهدى، وللمقام الكريم من مقام الكريم، ومن حاط فقار القفر للحطيم، ومتى رؤي هرم في الحرم، وحاتم ماتح زمزم ومتى ركب البحر البحر، وسلك البر البر لقد عادي قس إلى عكاظه، ولقبلة يستقبلها قبلة القبول والإقبال، والسلام.
    لقد أبدع في هذه الرسالة وما أودعها من الصناعة، لكن الظاهر أنه غلط في قوله قيس لحفاظه، فإن المشهور أنس الحافظ، وهم أربعة أخوة لكل واحد منهم لقب، ولولا خوف الإطالة والانتقال عما نحن بصدده لذكرت قصتهم .
    ولما توفي الوزير عون الدين بن هبيرة اعتقل الديوان العزيز جماعة من أصحابه وكان العماد في جملة من اعتقل، لأنه كان ينوب عنه في واسط تلك المدة، فكتب من الحبس إلى عماد الدين بن عضد الدين بن رئيس الرؤساء، وكان حينئذ أستاذ الدار المستنجدية، وذلك في شعبان سنة ستين وخمسمائة من قصيدة:
    قل للإمام: علام حبس وليكم ... أولوا جميلكم جميل ولائه
    أوليس إذ حبس الغمام وليه ... خلى أبوك سبيله بدعائه
    فأمر بإطلاقه، وهذا معنى مليح غريب، وفيه إشارة إلى قضية العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن الغيث قد انقطع في زمن خلافته وأمحلت الأرض، فخرج للاستسقاء ومعه
    العباس والناس، فلما وقف للدعاء قال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبينا فاسقنا، فسقوا. وأما الوي فهو المطر الذي يأتي بعد الوسمي، وسمي ولياً لأنه يلي الوسمي، والوسمي: مطر الربيع الأول، وسمي بذلك لأنه يسم الأرض بالنبات، وهو منسوب إلى الوسم، وقد جمعها المتنبي في بيت واحد وهو:
    أمنعمة بالعود الظبية التي ... بغير ولي كان نائلها الوسمي يعني أنه لم تكن لزيارتها الأولى ثانية:
    ولم يزل العماد الكاتب على مكانته ورفعة منزلته إلى أن توفي السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، فاختلت أحواله وتعطلت أوصاله، ولم يجد في وجهه باباً مفتوحاً، فلزم بيته وأقبل على الاشتغال بالتصانيف، وقد ساق في أوائل " البرق الشامي " طرفاً من ذلك. وتقد في ترجمة ابن التعاويذي ما دار بينهما في طلب الفروة والرسالة والقصيدة وجوابهما.
    وكانت ولادته يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة، وقيل في شعبان، سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان. وتوفي يوم الاثنين مستهل شهر رمضان المعظم سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق، ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر، رحمه الله تعالى.
    أخبرني بعض الرؤساء ممن كان ملازمه في مدة مرضه أنه كان إذا دخل عليه أحدٌ يعوده أنشده:
    أنا ضيف بربعكم ... أين أين المضيف
    أنكرتني معارفي ... مات من كنت أعرف وأله: بفتح الهمزة وضم اللام وسكون الهاء، وهو اسم عجمي معناه بالعربي العقاب، وهو الطائر المعروف، وقد قيل إن العقاب لا يوجد فيه ذكر بل جميعه أنثى، وإن الذي يسافده طائر آخر من غير جنسه، وقيل إن الثعلب يسافده، وهذا من العجائب.
    ولابن عنين الشاعر المقدم ذكره في هجو شخص يقال له ابن سيده:
    ما أنت إلا كالعقاب فأمه ... معروفة وله ب مجهول 
    وهذه إشارة إلى ما نحن فيه، والله تعالى أعلم بالصواب.

السبت، 27 مايو 2017

عميد الملك الكندري

    أبونصر محمد بن منصور بن محمد، الملقب عميد الملك الكندري؛ كان من رجال الدهر جوداً وسخاء وكتابة وشهامة، واستوزره السلطان طغرلبك السلجوقي - المقدم ذكره - ونال عنده الرتبة العالية والمنزلة الجليلة، ولم يكن أحد من أصحابه معه كلام، وهو أول وزير كان لهذه الدولة، ولم تكن له منقبة إلا صحبة إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد الجويني الفقيه الشافعي صاحب " نهاية المطلب " على ما ذكره المسعاني في ترجمة أبي المعالي في كتاب " الذيل " فإنه قال - بعد الإطناب في وصف إمام الحرمين وذكر تنقله في البلاد - ثم قال: وخرج إلى بغداد وصحب العميد الكندري أبا نصر مدة يطوف معه ويلتقي في حضرته بالأكابر من العلماء ويناظرهم، وتحنك بهم حتى تهذب في النظر، وشاع ذكره  .
    وذكره شيخنا ابن الأثير في تاريخه  في سنة ست وخمسين وأربعمائة وقال: إن الوزير المذكور كان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقيعة في الشافعي، رضي الله عنه، حتى بلغ من تعصبه أنه خاطب السلطان ألب أرسلان السلجوقي في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأذن في ذلك، فلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية، فانف من ذلك أئمة خراسان، منهم أبو القاسم القشيري وإمام الحرمين الجويني وغيرهما، ففارقوا خراسان، وأقام إمام الحرمين بمكة شرفها الله تعالى أربع سنين يدرس ويفتي، فلهذا قيل له إمام الحرمين فلما جاءت الدولة النظامية أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم؛ وقيل إنه تاب عن الوقيعة في الشافعي، فإن صح فقد أفلح.
    وكان عميد الملك ممدحاً مقصداً للشعراء، مدحه جماعة من أكابر شعراء عصره، منهم أبو الحسن الباخرزي - المقدم ذكره - والرئيس أبو منصور علي بن الحسين بن علي بن الفضل، الكاتب المعروف بصردر - المقدم ذكره أيضاً - وفيه يقول قصيدته النونية، وهي  :
    أكذا يجازى ود كل قرين ... أم هذه شيم الظباء العين
    قصوا علي حديث من قتل الهوى ... إن التأسي روح كل حزين
    ولئن كتمتم مشفقين لقد درى ... بمصارع العذري والمجنون
    فوق الركاب ولا أطيل مشبها ... بل ثم شهوة أنفس وعيون
    هزت قدوهدهم وقالت للصبا ... هزؤاً عند البان مثل غصوني
    ووراء ذياك المقبل مورد ... حصباؤه من لؤلؤ مكنون
    إما بيوت النحل بين شفاههم ... منظومة أو حانة الزرجون
    ترمي بعينيك الفجاج مقلباً ... ذات الشمال بها وذات يمين
    لو كنت زرقاء اليمامة ما رأت ... من بارق حياً على جيرون
    شكواك من ليل التمام وإنما ... أرقي بليل ذوائب وقرون
    ومعنف (3) في الوجد قلت له اتئد ... فالدمع دمعي والحنين حنيني
    ما نافعي إذ كان ليس بنافعي ... جاه الصبا وشفاعة العشرين
    لا تطرقن خجلاً للومة لائم ... ما أنت أول حازم  مفتون
    أأسومهم، وهم الأجانب، طاعة ... وهواي بين جوانحي يعصيني
     ديني على ظبياته ما يقتضى ... فبأي حكم يقتضون رهوني
    وخشيت من قلبي الفرار إليهم ... حتى لقد طالبته بضمين
    كل النكال أطيق إلا ذلة ... إن العزيز عذابه بالهون
    يا عين مثل قذاك رؤية معشر ... عار على دنياهم والدين
    لم يشبهوا الإنسان إلا أنهم ... متكونون من الحما المسنون
    نجس العيون فإن رأيتهم مقلتي ... طهرتها فنزحت ماء جفوني
    أنا إن هم حسبوا الذخائر دونهم ... وهم إذا عدوا الفضائل دوني
    لا يشمت الحساد أن مطامعي ... عادت إلي بصفقة المغبون
    ما يستدير البدر إلا بعدما ... أبصرته في الضمر كالعرجون
    هذا الطريق اللحب زاجر ناقتي ... واليم قاذف فلكي المشحون
    فإذا عميد الملك حلى ربعه ... ظفراً بفأل الطائر الميمون
    ملك إذا ما العزم حث جياده ... مرحت بأزهر شامخ العرنين
    بأغر ما أبصرت نور جبينه ... إلا اقتضاني بالسجود جبيني
    تجلو النواظر في نواحي دسته ... والسرج بدر دجى وليث عرين
    عمت فضائله البرية فالتقى ... شكر الغني ودعوة المسكين
    قالوا وقد شنوا عليه غارة ... أصلات جود أم قضاء ديون
    لو كان في الزمن القديم تظلمت ... منه الكنوز إلى يدي قارون
    أما خزائن ماله فمباحة ... فاستوهبوا من علمه المخزون
    ما الرزق محتاجاً بعرصته إلى ... طلب وليس الأجر بالمنون
    أقسمت أن ألقى المكارم عالماً ... أني برؤيته أبر يميني
    ساس الأمور فليس يخلي رغبة ... من رهبة، وبسالة من لين
    كالسيف رونق أثره في متنه ... ومضاؤه في حده المسنون
    شهدت علاه أن عنصر ذاته ... مسك وعنصر غيره من طين 
    وكان إنشاده إياه  هذه القصيدة عند وصول عميد الملك إلى العراق، وهو في دست وزارته وعلو منصبه، وهذه القصيدة من الشعر الفائق المختار وقد أثبتها بكمالها ما خلا ثلاثة أبيات فإنها لم تعجبني فأهملتها، وقد وازن هذه القصيدة جماعة من الشعراء منهم ابن التعاويذي - المقدم ذكره - وازنه بقصيدته التي أولها:
    إن كان دينك في الصبابة ديني ... فقف المطي برملتي يبرين وهي القصيدة النادرة، وأرسلها من العراق إلى الشام ممتدحاً بها السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، ولولا خوف الإطالة لأثبتها، ثم ذكرتها في ترجمة صلاح الدين يوسف بن أيوب فتطلب هناك؛ ووازنه أيضاً ابن المعلم - المقدم ذكره - بقصيدته التي أولها:
    ما وقفة الحادي على يبرين ... وهو الخلي من الظباء العين
    وهي أيضاً قصيدة جيدة، وقد ذكرت بعضها في ترجمته، وقد وازنها الأبله أيضاً، وبالجملة فما قاربها إلا ابن التعاويذي، وقد خرجنا عن المقصود، ولكن انتشر الكلام فلم يكن بد من استيفائه.
    ولم يزل عميد الملك في دولة طغرلبك عظيم الجاه والحرمة، إلى أن توفي طغرلبك - في التاريخ المذكور في ترجمته - وقام في المملكة ابن أخيه ألب أرسلان - المقدم ذكره - فأقره على حاله وزاد في إكرامه ورتبته، ثم إنه سيره إلى خوارزم شاه ليخطب له ابنته، فأرجف أعداؤه أنه خطبها لنفسه، وشاع ذلك بين الناس فبلغ عميد الملك الخبر، فخاف تغير قلب مخدومه عليه، فعمد إلى لحيته فحلقها وإلى مذاكيره فجبها، فكان ذلك سبب سلامته من ألب أرسلان، وقيل إن السلطان خصاه، فلما فعل ذلك عمل أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي المذكور في ترجمته قوله:
    قالوا محا السلطان عنه بعدكم ... سمة الفحول وكان قرماً صائلاً
    قلت اسكتوا فالآن زاد فحولة ... لما اغتدى من أنثييه عاطلاً
    فالفحل يأنف أن يسمى بعضه ... أنثى، لذلك جذه مستاصلا وهذا من المعاني الغريبة البديعة.
    ثم إن ألب أرسلان عزله من الوزارة في المحرم من سنة ست وخمسين وأربعمائة لسبب يطول شرحه، وفوض الوزارة إلى نظام الملك أبي علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي المقدم ذكره. وحبس عميد الملك بنيسابور في دار عميد خراسان، ثم نقله إلى مرو الروذ وحبسه في داره، فكان في حجرة تلك الدار عياله، وكانت له بنت واحدة لا غير، فلما أحس بالقتل دخل الحجرة وأخرج كفنه وودع عياله وأغلق باب الحجرة واغتسل وصلى ركعتين، وأعطى الذي هم بقتله مائة دينار نيسابورية وقال: حقي عليك أن تكفنني في هذا الثوب الذي غسلته بماء زمزم، وقال لجلاده: قل للوزير نظام الملك: بئس ما فعلت، علمت الأتراك قتل الوزراء، وأصحاب الديوان، ومن حفر مهواة وقع فيها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ ورضي بقضاء الله المحتوم.
    وقتل يوم الأحد سادس عشر ذي الحجة سنة خمس وخمسين وأربعمائة وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة، فعمل في ذلك الباخرزي الشاعر المذكور مخاطباً للسلطان ألب أرسلان.
    وعمك أدناه وأعلى محله ... وبوأه من ملكه كنفاً رحبا
    قضى كل مولى منكما حق عبده ... فخوله الدنيا وخولته العقبى ومن العجائب أنه دفنت مذاكيره بخوارزم، واريق دمه بمرو الروذ، ودفن جسده بقريته كندر، وجمجمته ودماغه بنيسابور، وحشيت سوأته بالتين ونقلت إلى كرمان، وكان نظام الملك هناك، ودفنت ثم، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر، بعد أن كان رئيس عصره، رحمه الله تعالى.
    والكندري: بضم الكاف وسكون النون وضم الدال المهملة وبعدها راء، هذه النسبة إلى كندر، وهي قرية من قرى طريثيت - بضم الطاء المهملة 
    الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر الثاء المثلثة وسكون الياء المثناة من تحتها أيضاً وبعدها ثاء مثلثة - وهي كورة من نواحي نيسابور، خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم، والله تعالى أعلم بالصواب.

الجمعة، 26 مايو 2017

ظهير الدين الروذراوري

    أبو شجاع محمد بن الحسين بن محمد  بن عبد الله بن إبراهيم، الملقب ظهير الدين، الروذراوري الأصل الأهوازي المولد؛ قرأ الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وقرأ الأدب، وولي الوزارة للإمام المقتدي بأمر الله بعد عزل عميد الدولة أبي منصور ابن جهير المذكور قبله في ترجمة أبيه فخر الدولة، وذلك في سنة ست وسبعين وأربعمائة، وعزل عنها يوم الخميس تاسع عشر صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وأعيد ابن جهير. ولما قرأ أبو شجاع التوقيع بعزله أنشد:
    تولاها وليس له عدو ... وفارقها وليس له صديق وخرج بع عزله ماشياً يوم الجمعة من داره إلى الجامع، وانثالت عليه العامة تصافحه وتدعوا له، وكان ذلك سبباً لإلزامه بالقعود في داره، ثم خرج إلى روذراور وهي موطنه قديماً، فأقام هناك مدة، ثم خرج إلى الحج في الموسم سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وخرجت العرب على الركب الذي هو فيه بقرب الربذة، فلم يسلم من الرفقة سواه، وجاور بعد الحج بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن توفي في النصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، ودفن بالبقيع عند القبة التي فيها قبر إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليع وسلم؛ وكانت ولادته سنة سبع وثلاثين وأربعمائة رحمه الله تعالى.
    قال العماد الكاتب في " الخريدة " في حقه: وكان عصره أحسن العصور، وزمانه أنضر  الأزمان، ولم يكن في الوزراء من يحفظ أمر الدين وقانون الشريعة مثله، صعباً شديداً في أمور الشرع، سهلاً في أمور الدنيا، لا تأخذه في الله لومة لائم.
    ثم قال: ذكره ابن الهمذاني في " الذيل "  فقال: كانت أيامه أوفى الأيام سعادة للدولتين، وأعظمها بركة على الرعية، وأعمها أمناً وأشملها رخصاً وأكملها صحة، لم يغادها  بؤس ولم تشبها مخافة، وقامت للخلافة في نظره من الحشمة والاحترام، ما أعادت سالف الأيام، وكان أحسن الناس خطاً ولفظاً.
    وذكره الحافظ ابن السمعاني في " الذيل " فقال: كان يرجع إلى فضل كامل وعقل وافر ورزانة ورأي صائب، وكان له شعر رقيق مطبوع، أدركته حرفة الأدب، وصرف عن الوزارة وكلف لزوم البيت، فانتقل من بغداد إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام إلى حين وفاته، وزرت قبره غير مرة عند قبر إبراهيم ابن نبينا، صلى الله عليه وسلم، بالبقيع؛ ثم قال السمعاني بعد ذلك: سمعت من أثق به يقول إن الوزير أبا شجاع وقت أن قرب أمره وحان ارتحاله من الدنيا حمل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف عند الحظيرة وبكى وقال: يا رسول الله، قال الله سبحانه وتعالى: " ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً " النساء: - 14 - ولقد جئتك معترفاً بذنوبي وجرائمي أرجو شفاعتك، وبكى ورجع وتوفي من يومه.
    وله شعر حسن مجموع في ديوان، فمن ذلك  قوله:
    لأعذبن العين غير مفكر ... فيها بكت بالدمع أو فاضت دما
    ولأهجرن من الرقاد لذيذه ... حتى يعود على الجفون محرما
    هي أوقعتني في حبائل فتنة ... لو لم تكن نظرت لكنت مسلما
    سفكت دمي لأسفكن دموعها ... وهي التي بدأت فكانت أظلما 
    وإلى هذا المعنى ينظر قول بعضهم:
    يا عين ما ظلم الفؤاد ... ولا تعدى في الصنيع
    جرعته مر الهوى ... فمحا سوادك بالدموع  وله أيضاً:
    وإني لأبدي في هواك تجلداً ... وفي القلب مني لوعة وغليل فلا تحسبي أني سلوت فربما ... ترى صحة بالمرء وهو عليل  وله أيضاً  :
    أيذهب جل العمر بيني وبينكم ... بغير لقاء إن ذا لشديد
    فإن يسمح الدهر الخؤون بوصلكم ... على فاقتي إني إذاً لسعيد
    وعمل ذيلاً على كتاب " تجارب الأمم "، تأليف أبي علي أحمد بن محمد المعروف بمسكويه، وهو التاريخ المشهور بأيدي الناس.
    وقال محمد بن عبد الملك الهمداني في تاريخه: وظهر منه من التلبس في الدين وإظهاره وإعزاز أهله والرأفة بهم والأخذ على أيدي الظلمة ما أذكر به عدل العادلين؛ وكان لا يخرج من بيته حتى يكتب شيئاً من القرآن العظيم ويقرأ في المصحف ما تيسر. وكان يؤدي زكاة أمواله الظاهرة في سائر أملاكه وضياعه واقطاعه ويتصدق سراً. وعرضت عليه رقعة فيها: إن الدار الفلانية بدرب القيار، فيها إمراة معها أربعة أيتام وهو عراة جياع، فاستدعى صاحباً له وقال له: مر واكسهم وأشبعهم، وخلع أثوابه وحلف: لا لبستها ولا دفئت حتى تعود إلي وتخبرني أنك كسوتهم وأشبعتهم. ولم يزل يرعد إلى أن جاء صاحبه وأخبره بذلك؛ وكانت له مبار كثيرة.
    والروذراوري: بضم الراء وسكون الواو والذال المعجمة وفتح الراء والواو بينهما ألف في آخرها راء أخرى، هذه النسبة على روذراور، وهي بليدة (3) بنواحي همذان، والله تعالى أعلم.

أبو نصر ابن جهير

    أبو نصر محمد بن محمد بن جهير، المقلب فخر الملك مؤيد الدين الموصلي الثعلبي؛ كان ذا رأي وعقل وحزم وتدبير، خرج من الموصل لأمر يطول شرحه، وصار ناظر الديوان بحلب، ثم صرف عنه وانتقل إلى آمد، وأقام بها مدة طويلة بطالاً، ثم توصل إلى أن وزر للأمير) نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي صاحب ميافارقين وديار بكر - وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمة نصر الدولة - وكان نافذ الكلم مطاع الأمر، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي نصر الدولة في التاريخ المذكور في ترجمته، وقام بالأمر ولده نظام الدين، فأقبل عليه وزاد في إكرامه فرتب أمور دولته وأجراها على الأوضاع التي كانت في أيام أبيه.
    ثم خطر له التوجه إلى بغداد، فعمل على ذلك، وكان يكاتب الإمام القائم بأمر الله، ولم يزل يتوصل ويبذل الأموال حتى خرج إليه نقيب النقباء ابن طراد الزينبي، فقرر معه ما أراد تقريره ثم خرج لوداعه، ويمم إلى بغداد، وأرسل ابن مروان خلفه من يرده فلم يقدر عليه، فلما بلغها تولى وزارة القائم بدلاً من أبي الغنائم ابن دراست في سنة أربع وخمسين وأربعمائة، ودام فيها إلى أن توفي القائم، وتولى ولده المقتدي بأمر الله فأقره على الوزارة مدة سنين، ثم عزله عنها يوم عرفة الأمير أبو الغنائم ابن دراست، بإشارة الوزير نظام الملك، وكان ولده عميد الدولة شرف الدين أبو منصور محمد ينوب عنه فيها، فلما عزل والده خرج هو نظام الملك أبي الحسن وزير ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي - المقدم ذكره واسترضاه وأصلح حاله معه وعاد إلى بغداد، وتولى الوزارة مكان أبيه.
    وخرج أبوه فخر الدولة في سنة ست وسبعين إلى جهة السلطان ملكشاه المذكور باستدعائه إياه، فعقد له على ديار بكر، وسار معه الأمير أرتق بن أكسب صاحب حلوان - المقدم ذكره - في جماعة من التركمان والأكراد والأمراء، فلما وصلوا إلى ديار بكر فتح ولده أبو القاسم زعيم الرؤساء مدينة آمد بعد حصار شديد، ثم فت أبوه فخر الدولة ميافارقين بعد ثلاثة أشهر من فتح آمد وكان أخذها من ناصر الدولة أبي المظفر منصور بن نظام الدين، واستولى على أموال بني مروان وذلك في سنة تسع وسبعين وأربعمائة. ومن عجيب الاتفاق أن منجماً حضر إلى ابن مروان نصر الدولة، وحكم له بأشياء، ثم قال له: ويخرج على دولتك رجل قد أحسنت إليه، فيأخذ الملك من أولادك، فأفكر ساعة ثم رفع رأسه إلى فخر الدولة وقال: إن كان هذا القول صحيحاً فهو الشيخ هذا، ثم أقبل عليه وأوصاه على أولاده، فكان الأمر كما قال، فإنه وصل إلى البلاد وكان فتحها على يديه كما ذكرنا، والشرح في ذلك يطول.
    وكان رئيساً جليلاً، خرج من بيتهم جماعة من الوزراء والرؤساء، ومدحهم أعيان الشعراء، فمنهم أبو منصور علي بن الحسن  المعروف بصردر، أنفذ إلى فخر الملك المذكور من واسط عند تقلده الوزارة قصيدة، وهي من مشاهير القصائد، وأولها :
    لجاجة قلب ما يفيق غرورها ... وحاجة نفس ليس يقضى يسيرها
    وقفنا صفوفاً في الديار كأنها ... صحائف ملقاة ونحن سطورها
    يقول خليلي والظباء سوانح: ... أهذا الذي تهوى فقلت: نظيرها
    لئن شابهت أجيادها وعيونها ... لقد خالفت أعجازها وصدورها
    فيا عجباً منها يصد أنيسها ... ويدنو على ذعر إلينا نفورها
    وما ذاك إلا أن غزلان عامر ... تيقن أن الزائرين صقورها
    ألم يكفها ما قد جنته شموسها ... على القلب حتى ساعدتها بدورها
    نكصنا على الأعقاب خوف إناثها ... فما بالها تدعو نزال ذكورها
    ووالله ما أدري غداة نظرننا ... أتلك سهام أم كؤوس تديرها
    فإن كن من نبل فأين حفيفها ... وإن كن من مر فأين سرورها
    أيا صاحبي استأذنا لي خمرها ... فقد أذنت لي في الوصول خدورها
    هباها تجافت عن خليل يروعها ... فهل أنا إلا كالخيال يزورها
    وقد قلتما لي ليس في الأرض جنة ... أما هذه فوق الركائب حورها
    فلا تحسبا قلبي طليقاً فإنما ... لها الصدر سجن وهو فيه أسيرها
    يعز على الهيم الخوامس وردها ... إذا كان ما بين الشفاه غديرها
    أراك الحمى قل لي بأي وسيلة ... توسلت حتى قبلتك ثغورها ومن مديحها:
    أعدت إلى جسم الوزارة روحه ... وما كان يرجى بعثها ونشورها
    أقامت زماناً عند غيرك طامثاً ... وهذا الزمان قرؤها طهورها
    من الحق أن يحبى بها مستحقها ... وينوعها مردوة مستعيرها
    إذا ملك الحسناء من ليس كفؤها ... أشار عليها بالطلاق مشيرها وأنشده أيضاً لما عاد إلى الوزارة في صفر سنة إحدى وستين وأربعمائة بعد العزل، وكان المقتدري بالله قد أعاده إلى الوزارة بعد العزل وقبل الخروج إلى
    السلطان ملكشاه، فعمل فيه صردر هذه القصيدة  :
    قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من كل الورى أولى به
    ما كنت إلا السيف سلته يد ... ثم أعادته إلى قرابه
    هزته حتى أبصرته صارماً ... رونقه يغنيه عن ضرابه
    أكرم بها وزارة ما سلمت ... ما استودعت إلا إلى أربابه
    مشوقة إليك مذ فارقتها ... شوق أخي الشيب إلى شبابه
    مثلك محسود ولكن معجز ... أن يدرك البارق في سحابه
    حاولها قوم ومن هذا الذي ... يخرج ليثاً خادراً من غابه
    يدمى أبو الأشبال من زاحمه ... في خيسه بظفره ونابه
    وهل سمعت او رأيت لابساً ... ما خلع الأرقم من إهابه ومنها:
    تيقنوا لما رأوها صعبة  ... أن ليس للجو سوى عقابه
    إن الهلال يرتجي طلوعه ... بعد السرار ليلة احتجابه
    والشمس لا يؤيس من طلوعها ... وإن طواها الليل في جنابه
    ما أطيب الأوطان إلا انها ... للمرء أحلى أثر اغترابه
    كم عودة دلت على دوامها ... والخلد للإنسان في مآبه
    لو قرب الدر على جالبه ... ما لجج الغائض في طلابه
    ولو أقام لازماً أصدافه ... لم تكن التيجان في حسابه
    ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه ... إلا وراء الهول من عبابه وهي قصيدة طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر.
    وقد سبق في ترجمة سابور بن أردشير ثلاثة أبيات كتبها إليه أبو إسحاق الصابي لما عاد إلى الوزارة بعد العزل، ولم يعمل في هذا الباب مثلها.
    وممن مدحه أيضاً القائد أبو الرضا الفضل بن منصور الشريف الفارقي، وفيه عمل الأبيات الحائية المشهورة، وهي:
    يا قالة الشعر قد نصحت لكم ... ولست أدهى إلا من النصح
    قد ذهب الدهر بالكرام وفي ... ذاك أمور طويلة الشرح
    وأنتم تمدحون بالحسن وال ... ظرف  وجوهاً في غاية القبح
    وتطلبون السماح من رجل ... قد طبعت نفسه على الشح
    من أجل ذا تحرمون كدكم ... لأنكم تكذبون في المدح
    صونوا القوافي فما أرى أحداً ... يعثر فيه الرجاء سمح
    فإن شككتم فيما أقول لكم ... فكذبوني بواحد سمح
    سوى الوزير الذي رياسته ... تعرك أذن الزمان بالملح
    وكانت ولادة فخر الدولة المذكور في سنة ثمان وتسعين وثلثمائة بالموصل؛ وتوفي بها في شهر رجب، وقيل في المحرم، سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ودفن في تل توبة، وهو تل في قبالة الموصل يفصل بينهما عرض الشط، رحمه الله تعالى. وكان قد عاد إلى ديار ربيعة متولياً من جهة ملكشاه أيضاً في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، فأول ما ملك نصيبين في شهر رمضان من هذه السنة، ثم ملك الموصل وسنجار والرحبة والخابور وديار ربيعة أجمع، وخطب به على منابرها نيابة عن الموصل إلى أن توفي.
     وأما ولده عميد الدولة المذكور فقد ذكره محمد بن عبد الملك الهمداني في تاريخه فقال: انتشر عنه الوقار والهيبة والعفة وجودة الرأي، وخدم ثلاثة من الخلفاء ووزر لاثنين منهم، وكان عليه رسوم كثيرة وصلات جمة، وكان نظام الملك يصفه دائماً بأوصاف عظيمة، ويشاهدها بعين الكافي الشهم، ويأخذ رأيه في أهم الأمور ويقدمه على الكفاة والصدور، ولم يكن يعاب بأشد من الكبر 
    الزائد، فإن كلماته كانت محفوظة مع ضنه بها، ومن كلمة بكلمة قامت عنده مقام بلوغ الأمل، فمن جملة ذلك ما قاله لولد الشيخ الإمام أبي نصر ابن الصباغ: اشتغل وتأدب، وإلا كنت صباغاً بغير أب، انتهى كلامه ابن الهمداني.
    وكان نظام الملم الوزير قد زوجه زبيدة ابنته، وكان قد عزل عن الوزارة ثم أعيد إليها بسبب المصاهرة، وفي ذلك يقول الشريف أبو يعلى ابن الهبارية - المقدم ذكره -:
    قل للوزير ولا تفزعك هيبته ... وإن تعاظم واستولى لمنصبه
    لولا ابنة الشيخ ما استوزرت ثانية ... فاشكر حراً صرت مولانا الوزير به ووجدت بخط أسامة بن منقذ - المقدم ذكره أن السابق بن أبي مهزول الشاعر المعري قال: دخلت العراق واجتمعت بابن الهبارية، فقال لي في بعض الأ يام: امض بنا لنخدم الوزير ابن جهير، وكان قد عزل ثم استوزر، قال السابق: فدهلت معه حتى وقفنا بين يدية الوزير، فدفع إليه رقعة صغيرة، فلما قرأها تغير وجهه ورأيت فيه الشر، وخرجنا من مجلسه فقلت: ما كان في الرقعة فقال: خير، الساعة تضرب رقبتي ورقبتك، فأشفقت وقلقت، وقلت: أنا رجل غريب صحبتك هذه الأيام، وسعيت في هلاكي، فقال: كان ما كان. فقصدنا باب الدار لنخرج فردنا البواب، فقال: أمرت بمنعكما، فقال السابق: أنا رجل غريب من أهل الشام ما يعرفني الوزير، إنما القصد هذا، فقال البواب: لا تطول فما إلى خروجك من سبيل، فأيقنت بالهلاك، فلما خف الناس من الدار خرج إليه غلام معه قرطاس فيه خمسون ديناراً وقال: قد شكرنا فاشكر، فانصرفنا، ودفع لي عشرة دنانير منها، فقلت: ما كان في الرقعة فأنشدني البيتين المذكورين، فآليت أن لا أصحبه بعدها.
    ولعميد الدولة شعر ذكره في " الخريدة " لكنه غير مرضي، وذكره ابن السمعاني في كتاب " الذيل "؛ ومدحه خلق كثير من شعراء عصره، وفيه يقول صردر المذكور قصيدته العينية المشهورة التي أولها :
    قد بان عذرك والخليط مودع ... وهوى النفوس مع الهوادج يرفع
    لك حيثما سمت الركائب لفتة ... أترى البدور بكل واد تطلع
    في الظاعنين من الحمى ظبي له ال ... أحشاء مرعى والمآقي مكرع
    ممنوع أطراف الجمال رقيبه ... حذراً عليه من العيون البرقع
    عهد الحبائل صائدات شبهه ... فارتاع فهو لكل حبل يقطع
    لم يدر حامي سربه أني إذا ... حرم الكلام له لساني الأصبع
    وإذا الطيوف إلى المضاجع أرسلت ... بتحية منه فعيني تسمع
    وهذه القصيدة طويلة، وهي من غرر الشعر، وقوله فيها:
    عهد الحبائل صائدات شبهه ... فارتاع فهو لكل حبل يقطع 
    نظير قول ابن الحمارة الأندلسي:
    عن النوم سل عيناً به طال عهدها ... وكان قليلاً في ليال قلائل
    إذا ظن وكراً مقلتي طائر الكرى ... رأى هدبها فارتاع خوف الحبائل ولا أدري أيهما أخذ من الآخر، لأني لم أقف على تاريخ وفاة ابن الحمارة حتى أعرف عصره . ويجوز أن يكون ذلك بطريق التوارد على هذا المعنى من غير أن يأخذ أحدهما من الآخر.
    وعزل عميد الدولة المذكور عز الدولن الوزارة وحبس وقيد في شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وأربعمائة، وتوفي في شوال من السنة، وإليه كتب أبو الكرم ابن العلاف الشاعر قوله:
    ولولا مدائحنا لم تبن  ... فعال المسيء من المحسن
    فهبك احتجبت عن الناظرين ... فهلا احتجبت عن الألسن
     وتوفيت زوجته بنت نظام الملك المذكور في شعبان سنة سبعين وأربعمائة وكان تزوجها في سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وتوفي سنة ثلاث وتسعين في حصن مقابل لتل بها .
     ولصردر أيضاً في زعيم الرؤساء أبي القاسم ابن فخر الدولة قصيدته القافية التي أولها  :
    صبحها الدمع ومساها الأرق ... هل بين هذين بقاء للحدق
    وهي بديعة مختارة مشهورة فلا حاجة إلى التطويل في الاتيان بها، وتولى زعيم الرؤساء أبو القاسم ابن فخر الدولة وزارة الإمام المستظهر بالله، في شعبان من سنة ست وتسعين وأربعمائة، ولقبه نظام وقيل قوام، الدين.
    وجهير: بفتح الجيم وكسر الهاء وسكون الياء الثمناة من تحتها وبعدها راء، وقال السمعاني: بضم الجيم، وهو غلط، يقال رجل جهير بين الجهارة، أي ذو منظر، ويقال أيضاً جهير الصوت بمعنى جهوري الصوت، والله تعالى أعلم بالصواب.

الوزير فخر الملك

    أبو غالب محمد بن علي بن خلف، الملقب فخر الملك، وزير بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بن بوية، وبعد وفاته وزر لولده سلطان الدولة أبي شجاع فناخسرو. وكان فخر الملك المذكور من أعظم وزراء آل بويه على الإطلاق بعد أبي الفضل محمد بن العميد والصاحب بن عباد - المقدم ذكرهما - وكان أصله من واسط، وأبوه صيرفياً، وكان واسع النعمة فسيح مجال الهمة جم الفضائل والإضال جزيل العطايا والنوال، قصد جماعة من أعيان الشعراء ومدحوه، وقرضوه بنخب المدائح، منهم أبو نصر عبد العزيز بن نباتة الشاعر - المقدم ذكره - له فيه قصائد مختارة، منها قصيدته النونية التي من جملتها يقول:
    لكل فتى قرين حين يسمو ... وفخر الملك ليس له قرين
    أنخ بجنابه واحكم عليه ... بما أملته فأنا الضمين
    أخبرني بعض علماء الأدب أن بعض الشعراء امتدح فخر الملك بعد هذه القصيدة، فأجازه إجازة لم يرضها، فجاء الشعر إلى نباتة، وقال له: أنت غررتني  ، وأنا ما مدحته إلا ثقة بضمانك، فتعطي ما يليق بمثل قصيدتي، فأعطاه من عنده شيئاً رضي به، بلغ ذلك فخر الملك، فسير لابن نباتة جملة مستكثرة لهذا السبب.
    ويقرب من معنى هذين البيتين في شدة الوثوق بالعطاء قول المتنبي:
    وثقنا بأن تعطي فلو لم تجد لنا ... لخلناك قد أعطيت من قوة الوهم ويحكى في هذا المعنى أيضاً أن بعض الشعراء مدح بعض الأكابر بقصيدة، فلما أصبح كتب إليه:
    لم أعالجك بالرقاع إلى أن ... عاجلتني رقاع أهل الديون
    علموا أنني بمدحك أمسي ... ت ملياً فأصبحوا يرفعوني
     ومن جملة مداحه المهيار بن مرزويه الكاتب الشاعر المشهور - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وفيه يقول قصيدته الرائية التي منها :
    أرى كبدي وقد بردت قليلاً ... أمات الهم أم عاش السرور
    أم الأيام خافتني لأني ... بفخر الملك منها أستجير
    ومدائحه كثيرة، ولأجله صنف أبو بكر محمد بن الحسن الحاسب الكرجي  كتاب " الفخري " في الجبر والمقابلة، وكتاب " الكافي " في الحساب.
    ورأيت في بعض المجاميع أن رجلاً شيخاً رفع إلى فخر الملك المذكور قصة 
    سعى فيها بهلاك شخص، فلما وقف فخر الملك عليها قلبها وكتب في ظهرها: " السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح، فخسرانك فيها أكثر من الربح، ومعاذ الله أن نقبل من مهتوك في مستور، ولولا أنك في خفارة من شيبك لقابلناك بما يشبه مقالك، ونردع به أمثالك، فاكتم هذا العيب، واتق من يعلم الغيب، والسلام ".
    وذكر أبو منصور الثعالبي في كتاب " تتمة يتيمة الدهر " للأشرف بن فخر الملك قوله  :
    مر بي الموكب لكنني ... لم أر فيه قمر الكوكب
    قل لأمير الجيش يا سيدي ... ما لأمير الحسن لم يركب
    ومحاسن فخر الملك كثيرة، ولم يزل في عزه وجاهه وحرمته إلى أن نقم عليه مخدومه سلطان الدولة المذكور بسبب اقتضى ذلك، فحبسه ثم قتله بسفح جبل قريب من الأهواز، يوم السبت، وقيل يوم الثلاثاء، لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعمائة، ودفن هناك، ولم يستقص في دفنه فنبشت الكلاب قبره وأكلته، ثم أعيد دفن رمته، فشفع فيه بعض أصحابه فنقلت عظامه إلى مشهد هناك فدفنت فيه في سنة ثمان وأربعمائة.
    وقال أبو عبد الله أحمد بن القادسي في " أخبار الوزراء ": وكان الوزير فخر الملك قد أهمل بعض الواجبات فعوقب سريعاً، وذلك أن بعض خواصه قتل رجلاً ظلماً، فتصدت له زوجة المقتول تستغيث، فلم يلتفت إليها، فلقيه ليلة في مشهد باب التبن وقد حضر للزيارة، فقالت له: يا فخر الملك، القصص التي أرفعها إليك ولا تلتفت إليها صرت أرفعها إلى الله، وأنا منتظرة خروج التوقيع من جهته، فلما قبض عليه قال: لا شك أن توقيعها خرج، واستدعي إلى مضرب سلطان الدولة، ثم قبض عليه وعدل به إلى خركاه، وقد أحيط على أمواله وخزائنه وكراعه وولده وأصحابه، وقتل في التاريخ المذكور أعلاه وأخذ من ماله ستمائة ألف دينار ونيف وثلاثون ألف دينار، وقيل إنه وجد له ألف ألف ومائتا ألف دينار منطبعة.
    ورثاه الشريف الرضي بأبيات ما اخترت منها شيئاً حتى أثبته هاهنا فسبحان اللطيف الخبير، الفعال لما يريد. ومولده بواسط يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وقد استوفى هلال ابن الصابي أخباره في تاريخه، والله تعالى أعلم بالصواب.

ابن بقية

    الوزير أبو الطاهر محمد بن محمد بن بقية بن علي، الملقب نصير الدولة، وزير عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه - المقدم ذكره  - كان من جلة الرؤساء، أكابر الوزراء، وأعيان الكرماء. وقد تقدم فر ترجمة عز الدولة طرف من خبره في قضية الشمع، وأن الشماع لما سئل عن راتب عز الدولة في السمع كم كان، فقال: كان راتب وزيره محمد بن بقية ألف من في كل شهر، فإذا كان هذا راتب الشمع خاصة مع قلة الحاجة إليه، فكم يكون غيره مما تشتد الحاجة إليه
    وكان من أهل أوانا من أعمال بغداد، وكان في أول أمره قد توصل إلى أن صار صاحب مطبخ معز الدولة والد عز الدولة، ثم تنقل إلى غيرها من الخدم.
    ولما مات معز الدولة وأفضى الأمر إلى عز الدولة حسنت حاله عنده، ورعى خدمته لأبيه، وكان فيه توصل وسعة صدر، وتقدم إلى أن استوزره عز الدولة يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وثلثمائة.
    ثم إنه قبض عليه لسبب اقتضى ذلك يطول شرحه؛ وحاصله أنه حمله على محاربة ابن عمه عضد الدولة، فالتقيا على الأهواز وكسر عز الدولة، فنسب ذلك إلى رأيه ومشورته، وفي ذلك يقول أبو غسان الطبيب بالبصرة:
    أقام على الأهواز خمسين ليلة ... يدبر أمر الملك حتى تدمرا
    فدبر أمراً كان أوله عمى ... وأوسطه بلوى وآخره خرا وكان قبضه يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة ست وستين وثلثمائة بمدينة واسط، وسمل عينيه ولزم بيته. وكان في مدة وزارته يبلغ عضد الدولة ابن بويه عنه أمور يسوءه سماعها، منها أنه كان يسميه أبا بكر الغددي  تشبيهاً له برجل أشقر أزرق أنمش يسمى أبا بكر كان يبيع الغدد برسم السنانير ببغداد، وكان عضد الدولة بهذه الحلية وكان الوزير يفعل ذلك تقرباً إلى قلب مخدومه عز الدولة لما كان بينه وبين ابن عمه عضد الدولة من العداوة، فلما قتل عز الدولة - كما وصفناه في ترجمته - وملك عضد الدولة بغداد ودخلها طلب ابن بقية المذكور وألقاه تحت أرجل الفيلة، فلما قتل صلبه بحضرة البيمارستان العضدي ببغداد، وذلك في يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة سبع وستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى.
    وقال ابن الهمذاني في كتاب " عيون السير ": لما استوزر عز الدولة بختيار ابن بويه ابن بقية المذكور، بعد أن كان يتولى أمر المطبخ، قال الناس: من الغضارة إلى الوزارة، وستر كرمه عيوبه، وخلع في عشرين يوماً عشرين ألف خلعة، قال أبو إسحاق الصابي: رأيته وهو يشرب في بعض الليالي، وكلما لبس خلعة خلعها على أحد الحاضرين، فزادت على مائتي خلعة، فقالت له مغنيته  : 
    يا سيدي الوزير في هذه الثياب زنابير ما تدعها تثبت على جسمك، فضحك وأمر لها بحقة حلي. وهو أول وزير لقب بلقبين، فإن الإمام المطيع لقبه بالناصح، ولقبه ولده الطائع بنصير الدولة.
    ولما جرت الحرب بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة قبض عز الدولة عليه وسمله وحمله إلى عضد الدولة مسمولاً، فشهره عضد الدولة وعلى رأسه برنس، ثم أمر بطرحه للفيلة فقتله، ثم صلبه عند داره بباب الطاق، وعمره نيف وخمسون سنة. ولما صلب رثاه أبو الحسن محمد بن عمر بن يعقوب الأنباري أحد العدول ببغداد بقوله:
    علو في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إحدى المعجزات
    كأن الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصلات
    كأنك قائم فيهم خطيباً ... وكلهم قيام للصلاة
    مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدهما  إليهم بالهبات
    ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الممات
    أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... عن الكفان ثوب السافيات
    لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحفاظ وحراس ثقات
    وتشعل عندك النيران ليلاً ... كذلك كنت أيام الحياة
    ركبت مطية من قبل زيد ... علاها في السنين الماضيات
    وتلك فضيلة فيها تأس ... تباعد عنك تعيير العداة
    ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات
    أسأت إلى النوائب فاستثارت ... فأنت قتيل ثأر النائبات
    وكنت تجير من صرف الليالي ... فعاد مطالباً لك بالترات
    وصير دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السيئات
    وكنت لمعشر سعداً، فلما ... مضيت تفرقوا بالمنحسات
    غليل باطن لك في فؤادي ... يخفف بالدموع الجاريات
    ولو أني قدرت على قيام ... لفرضك والحقوق الواجبات
    ملأت الأرض من نظم القوافي ... ونحت بها خلاف النائحات
    ولكني أصبر عنك نفسي ... مخافة أن أعد من الجناة
    وما لك تربة فأقول تسقى ... لأنك نصب هطل الهاطلات
    عليك تحية الرحمن تترى ... برحمات غواد رائحات ولم يزل  ابن بقية مصلوباً إلى أن توفي عضد الدولة - في التاريخ المذكور في ترجمته في حرف الفاء  - فأنزل عن الخشبة، ودفن في موضعه، فقال فيه أبو الحسن ابن الأنباري صاحب المرثية المذكورة:
    ولم يلحقوا بك عاراً إذ صلبت بلى ... باءوا بإثمك ثم استرجعوا ندما
    وأيقنوا أنهم في فعلهم غلطوا ... وأنهم نصبوا من سؤدد علما
    فاسترجعوك وواروا منك طود علا ... بدفنه دفنوا الأفضال والكرما
    لئن بليت فلا يبلى نداك فيك كما ... يُنسى، وكم هالك ينسى إذا عدما
    تقاسم الناس حسن الذكر فيك كما ... ما زال مالك بين الناس منقسما
    قال الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق ": لما صنع أبو الحسن المرثية التائية كتبها ورماها في شوارع بغداد، فتداولتها الأدباء  ، إلى أن وصل الخبر إلى عضد الدولة، فلما أنشدت بين يديه تمنى أن يكون هو المصلوب دونه، فقال: علي بهذا الرجل، فطلب سنة كاملة، واتصل الخبر بالصاحب ابن عباد وهو بالري فكتب له الأمان، فلما سمع أبو الحسن ابن الأنباري بذكر الأمان قصد حضرته فقال له: أنت القائل هذه الأبيات قال: نعم، قال: أنشدنيها من فيك، فلما أنشد:
    ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات
    قام إليه الصاحب وعاتقه وقبل فاه، وأنفذ إلى عضد الدولة، فلما مثل بين يديه قال له: ما الذي حملك على مرثية عدوي فقال: حقوق سلفت وأياد مضت، فجاش الحزن في قلبي فرثيت، فقال: هل يحضرك شيء في الشموع، والشموع تزهر بين يديه، فأنشأ يقول:
    كأن الشموع وقد أظهرت ... من النار في كل رأس سنانا
    أصابع أعدائك الخائفين ... تضرع تطلب منك الأمانا
    فلما سمعها خلع عليه وأعطاه فرساً وبدرة؛ انتهى كلام الحافظ ابن عساكر رحمه الله.
     قلت: قوله في الأبيات:
    ركبت مطية من قبل زيد ... علاها في السنين الماضيات
    زيد هذا هو أبو الحسين زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكان قد ظهر في أيام هشام بن عبد الملك في سنة اثنتين وعشرين ومائة، ودعا إلى نفسه، فبعث إليه يوسف بن عمر الثقفي والي العراقين يومئذ جيشاً مقدمه العباس المري، فرماه رجل منهم بسهم فأصابه فمات، وصلب بكناسة الكوفة  ، ونقل رأسه إلى البلاد. وقال ابن قانع: كان ذلك في صفر سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل سنة اثنتين وعشرين ومائة في صفر أيضاً، بالكوفة، ولزيد من العمر اثنان وأربعون سنة يومئذ. وقال ابن الكلبي في كتاب " جمهرة النسب ": إن زيد بن علي رضي الله عنهما أصابه سهم في جبهته فاحتمله أصحابه، وكان ذلك عند المساء، ثم دعوا الحجام فانتزع النشابة (2) وسالت نفسه، رضي الله عنه. وذكر أبو عمرو الكندي في كتاب " أمراء مصر " أن أبا الحكم ابن أبي الأبيض العبسي (3) قدم إلى مصر برأس زيد ابن علي خطيباً يوم الأحد لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين ومائة، واجتمع إليه الناس في المسجد، وهو صاحب المشهد الذي بين مصر وبركة قارون، بالقرب من جامع ابن طولون يقال: إن رأسه مدفون به، والله أعلم بالصواب.
     وقتل ولده يحيى بن زيد سنة خمس وعشرين ومائة، وقصته مشهورة بالجوزخان، قتله سالم بن أحوز المازني، وقيل جهم بن صفوان صاحب الجهمية  .
    وهذه القصيدة اتفق العلماء على أنه لم يعمل في بابها مثلها. وقد ذكر أبو تمام أيضاً حال المصلوبين في قصيدته التي مدح بها المعتصم لما صلب الأفشين خيذر ابن كاوس مقدم قواده وبابك ومازيار في سنة ست وعشرين ومائتين، وقصتهم مشهورة، فمنها قوله  :
    ولقد شفى الأحشاء من برحائها ... إذ صار بابك جار مازيار
    ثانية في كبد السماء ولم يكن ... كاثنين ثان إذ هما في الغار
    وكأنما اتنبذا لكيما يطويا ... عن ناطس خبراً من الأخبار
    سود اللباس كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدارعاً من قار
    بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النجار
    لا يبرجون ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفر من الأسفار وقبل هذا في وصف الأفشين خاصة:
    رمقوا أعالي جذعه فكأنما ... رمقوا الهلال عشية الإفطار وهي من القصائد الطنانة. والأفشين مشهور فلا حاجة إلى ضبطه، وهو بكسر الهمزة وفتحها، واسمه خيذر - بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الذال المعجمة وبعدها راء - وإنما قيدته لأنه يتصحف على كثير من الناس بحيدر، بالحاء المهملة.ومن شعر أبي الحسن الأنباري المذكور في الباقلي الأخضر قوله :
    فصوص زمرد في غلف در ... بأقماع حكت تقليم ظفر
    وقد خلع الربيع له ثيابا ... لها لونان من بيض وخضر وقد ذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " (2) وقال: إنه من المقلين في الشعر، رحمه الله تعالى.