الاثنين، 8 مايو 2017

ابن هانئ الأندلسي

    أبو القاسم وأبو الحسن، محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي الشاعر المشهور؛ قيل إنه من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وقيل بل هو من ولد أخيه روح بن حاتم - وقد تقدم ذكر يزيد وأخيه روح في ترجمة روح في حرف الراء  -؛ وكان أبوه هانئ من قرية من قرى المهدية بأفريقية، وكان شاعرا أديبا، فانتقل إلى الأندلس، فولد له بها محمد المذكور بمدينة إشبيلية ونشأ بها واشتغل، وحصل له حظ وافر من الأدب وعمل الشعر فمهر فيه، وكان حافظا لأشعار العرب وأخبارهم، واتصل بصاحب إشبيلية وحظي عنده، وكان كثير الانهماك في الملاذ متهما بمذهب الفلاسفة، ولما اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل إشبيلية وساءت المقالة في حق الملك بسببه، واتهم بمذهبه أيضا، فأشار الملك عليه بالغيبة عن البلد مدة ينسى فيها خبره، فانفصل عنها وعمره يومئذ سبعة وعشرون عاما.
    وحديثه طويل، وخلاصته أنه خرج إلى عدرة المغرب ولقي جوهرا للقائد مولى المنصور - وقد تقدم ذكره وما جرى له عند توجهه إلى مصر وفتحها للمعز  - فامتدحه ثم ارتحل إلى يحيى ابني علي - وقد تقدم ذكر جعفر  - وكانا بالمسيلة وهي مدينة الزاب، وكانا والييها، فبالغا في إكرامه والإحسان إليه، فنمي خبره إلى المعز أبي تميم معد بن المنصور العبيدي 
    - وسيأتي ذكره  في هذا الحرف إن شاء الله تعالى - فطلبه منهما، فلما انتهى إليه بالغ في الإنعام عليه.
    ثم توجه المعز إلى الديار المصرية - كما سيأتي في خبره - فشيعه ابن هانئ المذكور ورجع إلى المغرب لأخذ عياله والالتحاق به، فتجهز وتبعه، فلما وصل إلى برقة أضافه شخص  من أهلها، فأقام عنده أياما في مجلس الأنس، فيقال إنهم عربدوا عليه فقتلوه، وقيل خرج من تلك الدار وهو سكران فنام في الطريق وأصبح ميتا ولم يعرف سبب موته، وقيل إنه وجد في سانيه من سواني  برقة مخنوقا بتكة سراريله، وكان ذلك في بكرة يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من رجب سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وعمره ست وثلاثون سنة، وقيل اثنتان وأربعون، رحمه الله تعالى، هكذا قيده صاحب كتابأخبار القيروان وأشار إلى انه في صحبة المعز، وهو مخالف لماذكرته أولا من تشييعه للمعز ورجوعه لأخذ عياله. ولما بلغ المعز وفاته وهو بمصر تأسف عليه كثيرا وقال: هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك.
    وله في المعز المذكور غرر المدائح ونخب الشعر، فمن ذلك قصيدته النونية التي أولها :
    هل من أعقه عالج يبرين ... أم منهما بقر الحدوج العين
    ولمن ليال ما ذككنا عهدها ... مذ كن إلا أنهن شجون
    المشرقات كأنهن كواكب ... والناعمات كأنهن غصون
    بيض وما ضحك الصباح، وإنها ... بالمسك من طرر الحسان لجون
    أدمى  لها المرجان صفحة خده ... وبكى عليها اللؤلؤ المكنون

    أعدى الحمام تأوهي من بعدها ... فكأنه فيما سجعن رنين
    بانوا سراعا للهوادج زفرة ... مما رأين وللمطي حنين
    فكأنما صبغوا الضحى بقبابهم ... أو عصفرت فيه الخدود جفون
    ماذا على حلل الشقيق لو أنها ... عن لابسيها في الخدود تبين
    فلأعطشن الروض بعدهم ولا ... يرويه لي دمع عليه هتون
    أأعير لحظ العين بهجة منظر ... وأخونهم إني إذن لخؤون
    لا الجو جو مشرق ولو اكتسى ... زهرا، ولا الماء المعين معين
    لا يبعدن إذ العبير له ثرى ... والبان دوح والشموس قطين
    أيام فيه العبقري مفوف ... والسابري مضاعف موضون
    والزاغبية شرع والمشرفي ... ة لمع والمقربات صفون
    والعهد من ظمياء إذ لا قومها ... خزر ولا الحرب الزبون زبون
    حزني لذاك الجو وهو أسنة ... وكناس ذاك الخشف وهو عرين
    هل يدنيني منه أجرد سابح ... مرح وجائله النسوع أمون
    ومهند فيه الفرند كأنه ... ردء له خلف الغرار كمين
    عضب المضارب مقفر من أعين ... لكنه من أنفس مسكون
    قد كلن رشح حديده أجلا، وما ... صاغت مضاربه الرقاق قيون
    وكأنما يلقى الضريبة دونه ... بأس المعز أو اسمه المخزون ومنها في صفة الخيل:
    وصواهل لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا البيد الحزون حزون
    عرفت بساعة سبقها، لا أنها ... علقت بها يوم الرهان عيون
    وأجل علم البرق فيها أنها ... مرت بجانحتيه وهي ظنون
    في الغيث شبه من نداك كأنما ... مسحت  على الأنواء منك يمين

    وهذه القصيدة من قصائده الطنانة، ولولا طولها لأوردتها كلها.
    [وله أيضا:
    والله لولا أن يسفهني الهوى ... ويقول بعض القائلين تصابى
    لكسرت دملجها بضيق عناقه ... ورشفت من فيها البرود رضابا] وفي هذا الأنموذج دلالة على علو درجته وحسن طريقته. وديوانه كبير، ولولا ما فيه من الغلو في المدح والإفراط المفضي إلى الكفر لكان من احسن الدواوين، وليس في المغاربة  من هو في طبقته: لا من متقدميهم ولا من متأخريهم، بل هو أشعرهم على الإطلاق، وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة، وكانا متعاصرين، وإن كان في المتنبي مع أبي تمام من الاختلاف مافيه.
    وما زلت أتطلب تاريخ وفاة ابن هانيء المذكور من التواريخ والمظان التي يطلب منها فلا أجده، وسألت عنه خلقا كثيرا من مشايخ هذا الشأن فلم أجده، حتى ظفرت به في كتاب لطيف لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني سماه قراضة الذهب  فألفيته كما هو مذكور هاهنا، ونقلت مدة عمره من موضع آخر رأيت بعض الأفاضل قد اعتنى بأحواله فجمعها وكتبها في أول ديوانه، وذكر مدة العمر، ولم يذكر تاريخ الوفاة لأنه ماعثر عليه.
    ويقال إن أبا العلاء المعري كان إذا سمع شعر ابن هانئ يقول: ما أشبهه إلا برحى تطحن قرونا، لأجل القعقعة التي في ألفاظه، ويزعم أنه لاطائل تحت تلك الألفاظ، ولعمري ما أنصفه في هذا المقال، وما حمله على هذا فرط تعصبه للمتنبي، وبالجملة فما كان إلا من المحسنين في النظم  ، والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق