الثلاثاء، 16 مايو 2017

المعتصم ابن صمادح

    أبو يحيى محمد بن معن بن محمد بن أحمد بن صمادح، المنعوت بالمعتصم، التجيبي، صاحب المرية وبجاية والصمادحية من بلاد الأندلس.
     كان جده محمد بن أحمد بن صمادح صاحب مدينة وشقة وأعمالها، وذلك في أيام المؤيد هشام بن الحكم الأموي - المذكور في ترجمة المعتمد بن عباد - 
    فحاربه ابن عمه منذر بن يحيى التجيبي، فاستظهر عليه وعجز عن دفعه لكثرة رجاله، وترك مدينة وشقة، وفر بنفسه ولم يبق له بالبلد علقة، وكان صاحب رأي ودهاء ولسان وعارضة لم يكن في أصحاب السيوف من يعدله في هذه الخلال في ذلك العصر.
     وكان ولده معن والد المعتصم مصاهراً لعبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، فلما قتل زهير مولى أبيه - وكان صاحب المرية - وثب عبد العزيز على المرية فملكها لكونها كانت لمولاهم، فحسده على ذلك مجاهد بن عبد الله العامري المكني أبا الجيش صاحب دانية، فخرج قاصداً بلاد عبد العزيز وهو بالمرية مشتغل في تركة زهير، فلما سمع بخروج مجاهد خرج من المرية مبادراً لاستصلاحه واستخلف بها صهره ووزيره معن بن صمادح والد المعتصم فخانه في الأمانة وغدر به، وطرده عن الإمارة، فلم يبق في ملوك الطوائف بالأندلس أحد إلا ذمه على هذه الفعلة، إلا أنه تم له الأمر واستتب.
    فلما مات انتقل الملك إلى ولده المعتصم وتسمى بأسماء الخلفاء، وكان رحب الفناء، جزل  العطاء، حليماً عن الدماء، طافت به الآمال، واتسع في مدحه المقال، وأعملت إلى حضرته الرحال، ولزمه جماعة من فحول الشعراء، كأبي عبد الله بن الحداد وغيره، وله أشعار حسنة، فمن ذلك ما كتبه إلى أبي بكر ابن عمار الأندلسي - المقدم ذكر - يعاتبه:
    وزهدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحباً بعد صاحب
    فلم ترني الأيام خلاً تسرني ... بواديه إلا ساءني في العواقب
    ولا صرت أرجوه لدفع ملمة ... من الدهر إلا كان إحدى النوائب
    فكتب إليه ابن عمار جوابها، وهي أبيات كثيرة فلا حاجة إلى ذكرها.
    ومن شعره أيضاً:
    يا من بجسمي لبعده سقم ... ما منه غير الدنو يبريني
     بين جفوني والنوم معترك ... تصغر عنه حروب صفين
    إن كان صرف الزمان أبعدني ... عنك فطيف الخيال يدنيني ومن هنا أنشد بهاء الدين زهير بن محمد - الكاتب المقدم ذكره  - قوله من جملة قصيدة:
    بين جفوني والكرى ... مذ غبت عني معترك 
    وله غير ذلك مقاطيع كثيرة.
    ولأبي عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم المعروف بالحداد القيسي (2) من أهل المرية في مديحه قصائد بديعة، فمن ذلك قصيدته التي أولها:
    لعلي بالوادي المقدس شاطئ ... فكالعنبر الهندي ما أنا واطئ
    وإني من رياك واجد ريحهم ... فروح الهوى بين الجوانح ناشئ
    ولي في السرى من نارهم ومنارهم ... حدادة هداة والنجوم طوافئ
    لذلك ما حنت ركابي وحمحمت ... عرابي وأوحى سيرها المتباطئ
    فهل هاجها ما هاجني ولعلها ... إلى الوجد من نيران قلبي لواجئ
    رويداً فذا وادي لبيني وإنه ... لورد لباناتي وإني لظامئ
    ويا حبذا من آل لبنى مواطنٌ ... ويا حبذا في أرض لبنى مواطئ
    ميادين تهيامي ومسرح خاطري ... فللشوق غاياتٌ بها ومبادئ
    ولا تحسبوا غيداً حوتها مقاصرٌ ... فتلك قلوبٌ ضمنتها جآجئ
    وفي الكلة الزرقاء مكلوء عزه  ... تحف به زرق العوالي الكوالئ
    محاملة السلوان مبعث حسنه ... فكل إلى دين الصبابة صابئ ومنها أيضاً:
    تمنى مدى قرطبة عفرٌ توالع ... وتهوى ضيا عينيه عينٌ جوازئ
    وفي ملعب الصدغين أبيض ناصع ... تخلله للحسن أحمر قانئ
    أفاتكة الألحاظ ناسكة الهوى ... ورعت ولكن لحظ عينك (2) خاطئ
    وآل الهوى جرحى ولكن دماؤهم ... دموع هوامٍ والجروح مآقئ
    وكيف أعاني كلك طرفك في الحشا ... وليس لتمزيق المهند راقئ
    ومن أين أرجو برء نفسي من الجوى ... وما كل ذي سقم بارئ
    ويخرج من هذا إلى المدح، وهذه القصيدة طنانة طويلة.
    وقصده أيضاً من شعراء الأندلس أبو القاسم الأسعد بن بليطة ، وهو من فحول شعرائهم، ومدحه بقصيدته الطائية التي أولها:
    برامة ريم زارني بعدما شطا ... تقنصته في الحلم بالشط فاشتطا
    رعى من أناس في الحشا ثمر الهوى ... جنياً ولم يرع العرار ولا الخمطا 
    ومنها:
    وقد ذاب كحل الليل في دمع فجره ... إلى أن تبدي الصبح كاللمة الشمطا
    كأن الدجى جيش من الزنج نافر ... وقد أرسل الإصباح في إثره القبطا ومنها في صفة الديك: 
    كأن أنو شروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا
    سبى حلة الطاوس  حسن لباسه ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطا ومنها أيضاً:
    توهم عطف الصدع نوناً بخدها ... فباتت بمسك الخال تنقطه نقطا
    غلامية جاءت وقد جعل الدجى ... لخاتم فيها فص غالية خطا
    غدت تنفع المسواك في بر ثغرها ... وقد ضمخت مسكا غدائرها المشطا
    فقلت أحاجيها بما في جفونها ... وما في الشفاه اللعس من حسنها المعطى
    محيرة  الألحاظ من غير سكرةٍ ... متى شربت ألحاظ عينيك إسفنطا
    أرى صفرة المسواك في حمرة اللمى ... وشاربك المخضر بالمسك قد خطا
    عسى قزح قلبه فاخاله ... على الشفة اللمياء قد جاء مختطا 
    ومنها في المدح قوله :
    كأن أبا يحيى بن معن أجادها ... فعلمها من كفه الوكف والبسطا
    تألف من در وشذرٍ نجاره ... فجاءت به العليا على جيدها سمطا
    إذا سار سار المجد تحت لوائه ... فليس يحط المجد إلا إذا حطا
    رفيع عماد النار في الليل للسرى ... فما يخيط العشواء طارقه خبطا ومنها أيضاً:
    أقول لركب يمموا مسقط الندى ... وقد جاوز الركبان من دونك السقطا
    أفي المجد تبغي لابن معنٍ مناقضاً ... ومن يوقد المصباح في الشمس قد أخطا وهي قصيدة طويلة مقدار تسعين بيتاً، أحسن فيها ناظمها مع وعورة 
    مسلك حرف رويها.
    وكان المعتصم المذكور قد اختص بمؤانسة الأمير يوسف بن تاشفين عند عبوره إلى جزيرة الأندلس حسبما شرحناه في ترجمة المعتمد بن عباد المذكور قبله وأقبل عليه أكثر من بقية ملوك الطوائف، فلما تغيرت نية الأمير يوسف على المعتمد وجاهره المعتمد بالعصيان شاركه في ذلك المعتصم، ووافقه على الخروج عن طاعته وعدم الإنقياد لأمره، فلما قصد الأمير يوسف بلاد الأندلس عزم على خلعهما وقبضهما.
    قال ابن بسام في " الذخيرة " : وكان بين المعتصم وبين الله سريرة، أسلفت له عند الحمام يداً مشكورة، فمات وليس بينه وبين حلول الفاقرة به إلا أيام يسيرة، في سلطانه وبلده، وبين أهله وولده. حدثني من لا أرد خبره عن أروى بعض مسان حظايا أبيه قالت: إني لعنده وهو يرضى بشأنه، وقد غلب على أكثر يده ولسانه، ومعسكر أمير المسلمين  - تعني يوسف بن تاشفين - يومئذ بحيث نعد خيماتهم ونسمع اختلاط أصواتهم إذ سمع وجبة من وجباتهم، فقال: لا إله إلا الله، نعض علينا كل شيء حتى الموت! قالت أروى: فدمعت عيني، فلا أنسى طرفاً إلي يرفعه، وإنشاده لي بصوت لا أكاد أسمعه:
    ترفق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاء طويل
    وقال محمد بن أيوب الأنصاري في كتابه الذي صنفه للسلطان الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى في سنة ثمان وستين وخمسمائة في ترجمة المعتصم بن صمادح المذكور، بعد أن ذكر طرفاً من أخباره، وشيئاً من أشعاره، وحكى صورة حصاره، وقوله في مرضه نغض غلينا كل شيء حتى الموت: ومات - يعني المعتصم - في أثر ذلك عند طلوع الشمس يوم الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة بالمرية، رحمه الله تعالى، ودفن في تربة له عند باب الخوخة.
    وصمادح: بضم الصاد االمهملة وفتح الميم وبعد الألف دال مكسورة ثم حاء مهملة، وهو الشديد.
    وبليطة: والد أبي القاسم الأسعد الشاعر المذكور، بكسر الباء الموحدة واللام المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الطاء المهملة وبعدها هاء ساكنة، ولا أعرف معناه، وهو بلغة أعاجم الأندلس.
    والتجيبي: قد تقدم الكلام عليه.
    وبجاية: بفتح الباء الموحدة والجيم  وبعد الألف ياء  ثم هاء ساكنة، وهي مدينة بالأندلس.
    والمرية قد تقدم الكلام عليها؛ والصمادحية منسوبة إلى صمادح المذكور.
    ووشقة: بفتح الواو وسكون الشين المعجمة وفتح القاف وبعدها هاء ساكنة، بلدة بالأندلس أيضاً، والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق