الجمعة، 26 مايو 2017

الوزير ابن الزيات

    أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن أبان بن حمزة، المعروف بابن الزيات، وزير لمعتصم؛ كان جده أبان رجلاً من أهل جبل من قرية كان بها يقال لها الدسكرة يجلب الزيت من مواضعه إلى بغداد، فسمت بمحمد المذكور همته - على ما سيأتي ذكره فيه - وكان من أهل الأدب الظاهر والفضل الباهر، أديباً فاضلاً بليغاً عالماً بالنحو واللغة.
    ذكر ميمون بن هرون الكاتب أن أبا عثمان المازني لما قدم بغداد في أيام المعتصم كان أصحابه وجلساؤه يخوضون بين يديه في علم النحو، فإذا اختلفوا فيما يقع فيه الشك يقول لهم أبو عثمان: ابعثوا إلى هذا الفتى الكاتب؛ يعني محمد بن عبد الملك المذكور، فاسألوه واعرفوا جوابه، فيفعلون ويصدر جوابه بالصواب الذي يرتضيه أبو عثمان ويوقفهم عليه.
    وقد ذكر دعبل بن علي الخزاعي المقدم ذكره في كتاب " طبقات الشعراء " وذكره أبو عبد الله هرون بن المنجم - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - في كتاب " البارع " وأورد له من شعره عدة مقاطيع.
    وكان في أول أمره من جملة الكتاب، وكان أحمد بن عمار بن شاذي البصري وزير المعتصم، فورد على المعتصم كتاب من بعض العمال فقرأه الوزير عليه، وكان في الكتاب ذكر الكلإ، فقال له المعتصم، ما الكلأ فقال: لا أعلم، وكان قليل المعرفة بالأدب، فقال المعتصم: خليفة أمي ووزير عامي! وكان المعتصم ضعيف الكتابة، ثم قال: أبصروا من بالباب من الكتاب، فوجدوا حمد بن عبد الملك المذكور، فأدخلوه إليه فقال له: ما الكلأ فقال الكلأ العشب على الإطلاق، فإن كان رطباً فهو الخلا، فإذا يبس فهو الحشيش، وشرع في تقسيم أنواع النبات، فعلم المعتصم فضله، فاستوزره وحكمه وبسط يده.
    وقد ذكرنا ما كان بينه وبين القاضي أحمد بن أبي داود الإيادي في ترجمته.
    وحكى أبو عبد الله البيمارستاني أن أبا حفص الكرماني كاتب عمرو بن مسعدة كتب إلى محمد بن عبد الملك الزيات المذكور: أما بعد فإنك ممن إذا غرس سقى، وإذا أسس بنى ليستتم بناء أسه ويجتني ثمره غرسه، وبناؤك في ودي وقد وهى وشارف الدروس، وغرسك عندي قد عطش وأشفى على اليبوس، فتدارك بناء ما أسست وسقي ما غرست، فقال البيمارستاني: فحدثت بذلك أبا عبد الرحمن العطوي، فقال في هذا المعنى يمدح محمد بن عمران بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، ثم وجدت الأبيات (2) في ديوان أبي نواس، صنعة الأصبهاني، وهي:
    إن البرامكة الكرام تعلموا ... فعل الجميل وعلموه الناسا
    كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لا يهدمون لما بنوه أساسا
    وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباسا
    فعلام تسقيني وأنت سقيتني ... كأس المودة من جفائك كاسا
    آنستني متفضلاً، أفلا ترى ... أن القطيعة توحش الإيناسا
    وقد تقدم في ترجمة عبد المحسن الصوري هذا المعنى أيضاً.
    ولابن الزيات المذكور أشعار رائقة، فمن ذلك قوله :
    سماعاً يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاح 
    فإن الحب آخره المنايا ... وأوله يهيج بالمزاح
    وقالوا دع مراقبة الثريا ... ونم فالليل مسود الجناح
    فقلت وهل أفاق القلب حتى ... أفرق بين ليلي والصباح وله على ما نقلته من خط بعض الأفاضل  :
    ظالم ما علمته ... معتدٍ لا عدمته
    مطمع في الوصال مم ... تنع حين رمته
    قال إذ أفصح البكا ... ء بما قد كتمته
    لو بكى طول عمره ... بدم ما رحمته
    رب هم طويت في ... هـ وغيظ كظمته
    وحياة سئمتها ... والهوى ما سئمته وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد "  أن ابن الزيات المذكور كان يعشق جارية من جواري القيان، فبيعت من رجل من أهل خراسان، فأخرجها، قال: فذهل عقل ابن الزيات حتى غشي عليه، ثم إنه أنشأ يقول  :
    يا طول ساعات ليل العاشق الدنف ... وطول رعيته للنجم في السدف
    ماذا أوارى ثيابي من أخي حرق ... كأنما الجسم منه دقة الألف
    ماذا قال يا أسفا يعقوب من كمد ... إلا لطول الذي لاقى من الأسف
    من سهر أن يرى ميت الهوى دنفا ... فليستدل على الزيات وليقف
    ومن شعره ما ذكره في كتاب " البارع " يرثي جاريته، وقد خلفت له ابن ثمان سنين، وكان يبكي عليها فيتألم بسببه وهو : 
    ألا من رأى الطفل المفارق أمه ... بعيد الكرى عيناه تنسكبان
    رأى كل أم وابنها غير أمه ... يبيتان تحت الليل يننتجيان
    وبات وحيداً في الفراش تجيبه ... بلابل قلب دائم الخفقان
    فهبني أطلت الصبر عنها لأنني ... جليد، فمن للصبر بابن ثمان
    ضعيف القوى لا يعرف الصبر جسمه ... ولا يأتسي بالناس في الحدثان وله ديوان رسائل جيد.
    ومدحه البحتري بقصيدته الدالية واحسن في مصف خطه وبلاغته، وقال في آخرها (1) :
    ورأى الخلق مجمعين على فض ... لك من بين سيد ومسود
    عرف العالمون فضلك بالعل ... م وقال الجهال بالتقليد ولأبي تمام فيه مدائح وجماعة من شعراء عصره، ولإبراهيم بن العباس الصولي المقدم ذكره فيه مقاطيع يعبث به فيها، فمن ذلك قوله (2) :
    أخ كنت آوي منه عند إدركاره ... إلى ظل آباء من العز شامخ
    سعت نوب الأيام بيني وبينه ... فأقلعن منه عن ظلوم وصارخ
    وإني وإعدادي لدهري محمداً ... كملتمسٍ إطفاءه نار نافخ ومن ذلك قوله أيضاً:
    دعوتك عن بلوى ألمت ضرورة ... فأوقدت عن طعن علي سعيرها
    وإني إذا أدعوك عند ملمة ... كداعيةٍ عند القبور نصيرها له أيضاً فيه:
    أبا جعفر خف نبوة بعد دولة ... وقصر قليلاً عن مدى غلوائكما
     فإن يك هذا اليوم يوماً حويته ... فإن رجائي في غدٍ كرجائكما وله فيه أيضاً:
    قلت لها حين أكثرت عذلي: ... ويحك! أزرت بنا المروءات
    قالت: فأين السراة قلت لها: ... لا تسألي عنهم فقد ماتوا
    قالت: ولم ذاك قلت لها: ... هذا وزير الإمام زيات وله فيه أيضاً:
    لئن صدرت بي زورة عن محمد ... بمنع لقد فارقته ومعي قدري
    أليست يداً عندي لمثل محمد ... صيانته عن مثل معروفه شكري وله فيه أيضاً:
    فإن تكن الدنيا أنالتك ثروة ... فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر
    فقد كشف الإثراء منك خلائقاً ... من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر وله فيه أيضاً:
    من يشتري مني إخاء محمد ... أم من يريد إخاءه مجانا
    أم من يخلص من إخاء محمد ... وله مناه كائناً من كانا 
    وله أشياء غير ذلك، وما زالت الأشراف تهجي وتمدح.
    وفيه يقول بعضهم، ولا أذكره الآن، ثم ظفرت به بعد ذلك، وهو القاضي أحمد بن أبي داود الإيادي - المقدم ذكره  - وكان ابن الزيات المذكور قد هجاه بتسعين بيتاً، فعمل القاضي أحمد فيه بيتين وهما:
    أحسن من تسعين بيتاً سدى ... جمعك معناهن في بيت
    ما أحوج الملك إلى مطرةٍ ... تغسل عنه وضر الزيت
     ونسب صاحب " العقد "  هذين البيتين إلى علي بن الهجم، والأول حكاه في " الأغاني " والله تعالى أعلم؛ " فأجابه ابن الزيات عن بيتيه بقوله، معرضاً بأن بعض أجداد القاضي كان يبيع القار:
    يا أيها الطامع في هجونا ... نفسك قد عرضت للموت
    الزيت لا يزري بأحسابنا ... أحسابنا معروفة البيت
    قيرتم الملك فلم ننقه ... حتى غسلنا القار بالزيت "
     ولما مات المعتصم وقام بالأمر ولده الواثق هارون أنشد ابن الزيات المذكور :
    قد قلت إذ غيبوك وامصرفوا ... في خير قبر لخير مدفون
    لن يحبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون وأقره الواثق على ما كان عليه في أيام المعتصم، بعد أن كان متسخطاً عليه في أيام أبيه وحلف يميناً مغلظة أنه ينكبه إذا صار الأمر إليه، فلما ولي أمر الكتاب أن يكتبوا ما يتعلق بأمر البيعة، فكتبوا فلم يرض ما كتبوه، فكتب ابن الزيات نسخة رضيها، وأمر بتحرير المكاتبات عليها، فكفر عن يمينه وقال: عن المال والفدية عن اليمين عوض، وليس عن الملك وابن الزيات عوض. فلما مات وتولى المتوكل كان في نفسه منه شيء كثير، فسخط عليه بعد ولايته بأربعين يوماً، فقبض عليه واستصفى أمواله، وكان سبب قبضه عليه أنه لما مات الواثق بالله أخو المتوكل أشار محمد المذكور بتولية ولد الواثق وأشار القاضي أحمد ابن دواد المذكور بتولية المتوكل وقام في ذلك وقعد حتى عممه بيده وألبسه البردة وقبله بين عينيه وكان المتوكل في أيام الواثق يدخل على الوزير المذكور فيتجهمه ويغلظ عليه في الكلام، وكان يتقرب بذلك إلى قلب الواثق فحقد المتوكل ذلك عليه، فلما ولي الخلافة خشي إن نكبه عاجلاً أن يستر أمواله فيفوته، فاستوزره ليطمئن، وجعل القاضي أحمد يغريه ويجد لذلك عنده موقعاً، فلما قبض عليه ومات في التنور - كما سيأتي ذكره - لم يجد من جميع أملاكه وضياعه وذخائره إلا ما كانت قيمته مائة ألف دينار، فندم على ذلك ولم يجد عنه عوضاً، وقال للقاضي أحمد: أطعمتني في باطل وحملتني على شخص لم أجد عنه عوضاً.
    وكان ابن الزيات المذكور قد اتخذ تنوراً من حديد وأطراف مساميره المحددة إلى داخل، وهي قائمة مثل رؤوس المسال، في أيام وزارته، وكان يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال، فكيفما انقلب واحد منهم أو تحرك من حرارة العقوبة  تدخل المسامير في جسمه، فيجدون لذلك أشد الألم لم يسبقه أحد إلى هذه المعاقبة، وكان إذا قال أحد منهم أيها الوزير ارحمني، فيقول له: الرحمة خور في الطبيعة، فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور، قيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد فقال: يا أمير المؤمنين ارحمني، فقال له: لرحمة خور في الطبيعة، كما كان يقول للناس، فطلب دواة وبطاقة فأحضرتا إليه فكتب :
    هي السبيل فمن يوم إلى يوم ... كأنه ما تريك العين في النوم
    لا تجزعن، رويداً إنها دول ... دنيا تنقل من قوم إلى قوم
     وسيرها إلى المتوكل، فاشتعل عنها ولم يقف عليها إلا في الغد، فلما قرأها المتوكل أمر بإخراجه، فجاؤوا إليه فوجدوه ميتاً، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكانت مدة إقامته في التنور أربعين يوماً، وكان القبض عليه لثمان مضين من صفر من السنة المذكورة.
    ولما مات وجد في التنور مكتوب بخطه قد خطه بالفحم على جانب لتنور يقول:
    من له عهد بنوم ... يرشد الصب إليهِ 
    رحم الله رحيماً ... دل عيني عليه
    سهرت عيني ونامت ... عين من هنت لديه وقال أحمد الأحوال: لما قبض على ابن الزيات تلطفت إلى أن وصلت إليه فرأيته في حديد ثقيل، فقلت له: يعز علي ما أرى، فقال:
    سل ديار الحي من غيرها ... وعفاها ومحا منظرها
    وهي الدنيا إذا ما أقبلت ... صيرت معروفها منكرها
    إنما الدنيا كظل مائل ... نحمد الله كذا قدرها ولما جعل في التنور قال له خادمه: يا سيدي، قد صرت إلى ما صرت إليه وليس لك حامد، فقال: وما نفع البرامكة صنعهم فقال: ذكرك لهم هذه الساعة، فقال: صدقت، رحمه الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق