الثلاثاء، 31 يناير 2017

أبو العباس القسطلاني

الشيخ أبو العباس أحمد بن علي القسطلاني صحب الشيخ أبا عبد الله القرشي وانتفع به وتمت عليه بركته وروى عنه وجمع جميع كلامه وما كان يصدر عنه في مجلد كبير ووقفت عليه ونقلت منه ما مثاله: قال أبو العباس أحمد بن علي القسطلاني رحمه الله في ذي الحجة سنة عشر وستمائة سمعت الشيخ أبا عبد الله القرشي يقول: كنت عند الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن طريف حاضراً فأتى ليه إنسان فسأله: هل يجوز للإنسان أن يعقد على نفسه عقداً لا يحله إلا بنيل مطلوبه فقال الشيخ: نعم، واستدل بحديث أبي لبابة الأنصاري في قصة بني النضير، وقوله صلى الله عليه وسلم: أما أنه لو أتاني لاستغفرت له ولكن إذا فعل ذلك بنفسه، فدعوه حتى يحكم الله فيه؛ قال: فسمعت هذه المسألة وعقدت على نفسي أنني لا أتناول شيئا إلا بإظهار قدره فمكثت ثلاثة أيام وكنت إذ ذاك أعمل في الحانوت صناعتي، فبينا أنا جالس على الكرسي إذ ظهر لي شخص بيده شيء في إناء فقال لي: اصبر إلى العشاء تأكل من هذا، ثم غاب عني، فبينا أنا في وردي بين العشاءين إذ انشق الجدار وظهرت لي حوراء بيدها ذلك الإناء الذي كان بيد ذلك الشخص فيه شيء يشبه العسل، فتقدمت إلي وألعقتني منه ثلاثا فصعقت وغشي علي ثم أفقت وقد ذهبت فلم يطب لي بعد ذلك طعام، وأشربت في قلبي تلك الصورة فما استحسنت بعدها شخصا ولا كنت أتمكن من سماع كلام الخلق.

عزيز الدين المستوفي(472-525)

    أبو نصر أحمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله الأصبهاني الملقب عزيز الدين المستوفي عم العماد الكاتب الأصبهاني،
    وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
    كان العزيز المذكور رئيسا كبير القدر، ولي المناصب العلية في الدولة السلجوقية، ولم يزل مقدماً فيها، قصده بنو الحاجات، ومدحه الشعراء، وأحسن جوائزهم. وفيه يقول أبو محمد الحسن بن أحمد بن جكينا البغدادي الشاعر المشهور من جملة قصيدة:
    أميلوا  بنا نحو العراق ركابكم ... لنكتال من مال العزيز بصاعه
     وللقاضي أبي بكر أحمد بن محمد الأرجاني المقدم ذكره فيه مدائح، والأبيات البائية المذكورة في ترجمته هي من جملة قصيدة طويلة يمدح بها عزيز الدين المذكور، وكان ابن أخيه العماد يفتخر به كثيراً، وقد ذكره في أكثر تواليفه ، وكان في آخر أمره متولي الخزانة للسلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي.
    وكان السلطان محمود المذكور زوج بنت عمه السلطان سنجر بن ملكشاه، فماتت عنده فطالبه عمه بما خرج معها في جهازها من أنواع التحف والغرائب التي لا توجد في خزائن الملوك، فجحدها محمود، وخاف من عزيز الدين ان يشهد بما وصل صحبتها لأنه كان مطلعاً عليه من جهة الخزانة، فقبض عليه وسيرة إلى قلعة تكريت، وكانت القلعة له إذ ذاك، فحبسه بها ثم قتله بعد ذلك في أوائل سنة خمس وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
    وذكر ابن أخيه العماد الكاتب في كتاب " الخريدة " أن مولده بأصبهان سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، وقتله سنة ست وعشرين وخمسمائة بتكريت، وكان قبضه ببغداد، وذكر العماد الكاتب أنه لما قتل كان الميران نجم الدين أيوب أبو السلطان صلاح الدين واخوه أسد الدين شيركو في القلعة المذكورة متوليي أمورها وأنهما دافعا عنه فما أجدى الدفاع.

ابن عبد الحميد الجرجاني

    أبو العباس أحمد بن أبي نصر الخصيب بن عبد الحميد بن الضحاك الجرجاني الأصل؛ كل وزير المستنصر بالله، ونفاه المستعين إلى جزيرة أقريطش بجريرة صدرت منه سنة 48 وكان ينسب إلى الطيش والتهور، وله في ذلك أخبار؛ وكان قد ركب يوماً فوقف له متظلم وشكا حاله فأخرج رجله من الركاب وزج المتكلم في فؤاده فقتله، فتحدث الناس بذلك فقال بعض الشعراء في ذلك الزمان هذين البيتين:
    قل للخليفة يابن عم محمد ... أشكل وزيرك إنه ركال
    أشكله عن ركل الرجال وإن ترد ... مالاً فعند وزيرك الأموال 
    يقال: ركله إذا رفسه، وأبوه الخصيب ممدوح أبي نواس الحكي، كان سبب توليته أن الرشيد قرأ يوماً في المصحف فانتهى إلى قوله تعالى: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي، الآية فقال: لعنه الله ما كان أرقعه، ادعى الربوبية بملك مصر، والله لأولينها أخس خدمي، فولاها الخصيب وكان على وضوئه. ولأبي نواس فيه قصيدتاه الرائيتان وكان قد قصده بهما إلى مصر وهو أميرها، وما أحسن قوله في إحداهما:
    تقول التي من بيتها خف مركبي ... عزيز علينا أن نراك تسير
    أما دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير
    فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى من جريهن عبير
    دعيني أكثر حاسديك برحلةٍ ... إلى بلدٍ فيه الخصيب أمير وهي طويلة وأجازه عليها جائزة سنية.
    وكانت وفاة أحمد المذكور سنة 265 وكان نفيه إلى أقريطش في سنة248. وأقريطش جزيرة ببلاد المغرب (2) خرج منها جماعة من العلماء وأخذها الفرنج سنة350.

صلاح الدين الإربلي(572-631)

    أبو العباس أحمد بن عبد السيد بن شعبان بن محمد بن جابر بن قحطان الإربلي الملقب صلاح الدين، وهو من بيت كبير بإربل؛ وكان حاجباً عن الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل، فتغير عليه واعتقله مدة، فلما أفرج عنه خرج منها قاصداً بلاد الشام في سنة ثلاث وستمائة (2) صحبة الملك القاهر بهاء الدين أيوب ابن الملك العادل، فاتصل بخدمة الملك المغيث ابن الملك العادل، وكان قد عرفه من إربل، وحسنت حاله عنده، فلما توفي المغيث انتقل الصلاح إلأى الديار المصرية، وخدم الملك الكامل، فعظمت منزلته عنده، ووصل منه إلى ما لم يصل إليه غيره، واختص به في خلواته وجعله أميراً. وكان الصلاح ذا فضيلة تامة ومشاركات حسنة. بلغني أنه كان يحفظ " الخلاصة " في الفقه للإمام الغزالي، وله نظم حسن ودوبيت رائق، وبه تقدم عند الملوك.
    ثم إن الملك الكامل تغير عليه واعتقله في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة وهو بالمنصورة في قبالة الفرنج، ويره إلى قلعة القاهرة، ولم يزل في الاعتقال مضيقا عليه على هذه الحال إلى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فعمل الصلاح دوبيت وأملاه على بعض القيان، فغناه عند الملك الكامل، فاستحسنه وسأله: لمن هذا فقال: للصلاح، فأمر بالإفراج عنه، والدوبيت المذكور:
    ما أمر تجنيك على الصب خفي ... أفنيت زماني بالأسى والأسف
    ماذا غضب بقدر ذنبي ولقد ... بالغت وما أردت إلا تلفي وقيل: إن الدوبيت الذي كان سبب خلاصه قوله:
    اصنع ما شئت أنت أنت المحبوب ... ما لي ذنب، بلى كما قلت ذنوب
    هل تسمح بالوصال في ليلتنا ... تجلو صدأ القلب وتعفو وأتوب فلما خرج عادت مكانته عنده إلى أحسن مما كانت عليه.
    وكان الملك الكامل قد تغير على بعض إخوته - وهو الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل - فدخل على الصلاح وسأله أن يصلح أمره مع أخيه الملك الكامل، فكتب الصلاح إليه  :
    من شرط صاحب مصر أن يكون كما ... قد كان يوسف في الحسنى لإخوته
    أسوا فقابلهم بالعفو، وافتقروا ... فبرهم، وتولاهم برحمته وعند وصول الأنبرور  صاحب صقلية إلى ساحل الشام في سنة ست 
    وعشرين وستمائة بعث الملك الكامل الصلاح إليه رسولاً، فلما قرر القواعد واستحلفه كتب إلى الملك الكامل:
    زعم الزعيم  الأنبرور بأنه ... سلم يدوم لنا على أقواله
    شرب اليمين فإن تعرض ناكثاً ... فليأكلن لذاك لحم شماله ومن شعره أيضاً:
    وإذا رأيت بنيك فاعلم أنهم ... قطعوا إليك مسافة الآجال
    وصل البنون إلى محل أبيهم ... وتجهز الآباء للترحال وأنشدني بعض أصحابنا له:
    يوم القيامة فيه ما سمعت به ... من كل هول فكن منه على حذر
    يكفيك من هوله أن لست تبلغه ... إلا إذا ذقت طعم الموت في السفر وكتب إليه شرف الدين ابن عنين الشاعر الدمشقي كتابناً من دمشق إلى الديار المصرية، قال لي صاحبنا عفيف الدين أبو الحسن علي بن عدلان النحوي المترجم الموصلي: إن هذا الكتاب كان على يده، وتضمن الوصية عليه، وفي أوله:
    أبثك ما لقيت من الليالي ... فقد قصت نوائبها جناحي
    وكيف يفيق من عنت الرزايا ... مريض ما يرى وجه الصلاح وللصلاح المذكور ديوان شعر وديوان دوبيت، وما زال وافر الحرمة عالي المنزلة عنده وعند الملوك. فلما قصد الملك الكامل بلاد الروم وهو في الخدمة
    مرض في المعسكر بالقرب من السويداء، فحمل إلى الرها، فمات قبل دخولها في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة ودفن بظاهرها، وقيل: مات يوم السبت العشرين من ذي الحجة ودفن بظاهر الرها بمقبرة باب حران، ثم نقله ولده من هناك إلى الديار المصرية، فدفنه في تربة هناك بالقرافة الصغرى في آخر شعبان سنة سبع وثلاثين وستمائة  ، وكنت يومئذ بالقاهرة.
    وكان تقدير عمره يوم وفاته ستين سنة، رحمه الله تعالى؛ ثم وقفت على تاريخ مولده في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بإربل.
    والإربلي - بكسر الهمزة وسكون الراء وكسر الباء الموحدة وبعدها لام - هذه النسبة إلى إربل، وهي مدينة كبيرة بالقرب من الموصل، من جهتها الشرقية.

عماد الدين ابن المشطوب

    أبو العباس أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمدبن أبي الهيجاء ابن عبد الله بن أبي الخليل  ابن مرزبان  الهكاري المعروف بابن المشطوب الملقب عماد الدين، والمشطوب لقب والده، وإنما قيل له ذلك لشطبة كانت بوجهه؛ كان أميراً كبيراً وافر الحرمة عند الملوك، معدوداً بينهم مثل واحد منهم، وكان عالي الهمة غزيرة الجود واسع الكرم شجاعاً أبي النفس تهابه الملوك وله وقائع مشهورة في الخروج عليهم، ولا حاجة إلى ذكرها.
    وكان من أمراء الدولة الصلاحية، فإن والده لما توفي وكانت نابلس إقطاعاً له أرصد منها السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى الثلث لمصالح بيت المقدس وأقطع ولده عماد الدين المذكور باقيها. وجده أبو الهيجاء كان صاحب العمادية وعدة قلاع من بلاد الهكارية.
    ولم يزل قائم الجاه والحرمة إلى أن صدر منه في سنة دمياط ما قد شهر، وقد شرحت ذلك في ترجمة الملك الكامل، فانفصل عن الديار المصرية، وآلت حاله إلى أن حوصر في شهر بيع الآخر بتل يعفور القلعة التي بين الموصل وسنجار، والقصة مشهورة، فراسله الأمير بدر الدين لؤلؤ أتابك صاحب الموصل ولم يزل يخدعه ويطمنه إلى أن أدعن للانقياد، وحلف له على ذلك، فانتقل إلى الموصل، وأقام  بها قليلاً، ثم قبض عليه، وذلك في سنة سبع عشرة وستمائة وأرسله إلى الملك الأشرف مظفر الدين ابن الملك العادل. وإنما قبض عليه تقريباً إلى قلبه، فإن خروجه في هذه الدفعة كان عليه، فاعتقله الملك الأشرف في قلعة حران، وضيق عليه تضييقا شديدا، من الحديد الثقيل في رجليه والخشب في يديه، وحصل في رأسه ولحيته وثيابه من القمل شيء كثير على ماقيل، وكنت أسمع بذلك في وقته وأنا صغير، وبلغني أن بعض من كان متعلقاً بخدمته كتب في ذلك الوقت إلى الملك الأشرف دوبيت في معناه وهو:
    يا من بدوام سعده دار فلك ... ما أنت من الملوك بل أنت ملك
    مملوكك ابن المشطوب في السجن هلك ... أطلقه فإن الأمر لله ولك ومكث على تلك الحال إلى أن توفي  في الاعتقال في شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة، وبنت له ابنته قبة على باب مدينة رأس عين، ونقلته من حران إليها ودفنته بها، رحمه الله تعالى؛ ورأيت قبره هناك.
    ولما كان في السجن كتب إليه بعض الأدباء دوبيت، وهو: 
    يا أحمد مازلت عماداً للدين ... يا أشجع من أمسك رمحاً بيمين
    لا تأس  إذا حصلت في سجنهم ... ها يوسف قد أقام في السجن سنين وهذا مأخوذ من قول البحتري من جملة أبيات  :
    أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والإفك
    أقام جميل الصبر في السجن برهة (4) ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
    وكانت ولادة الأمير عماد الدين في سنة خمس وسبعين وخمسمائة) تقديراً.
    ورأيت في بعض رسائل القاضي الفاضل أن الأمير سيف الدين أبا الحسن علي ابن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب كتب إلى الملك الناصر صلاح الدين يخبره بولادة ولده عماد الدين أبي العباس أحمد، وأن عنده امرأة أخرى حاملاً، فكتب القاضي الفاضل جوابه " وصل كتاب الأمير دالاً على الخبر بالولدين، الحال على التوفيق، والسائر كتب الله سلامته في الطريق، فسررنا بالغرة الطالعة من لثامها، وتوقعنا المسرة بالثمرة الباقية في أكمامها.
    (8) وأما والده سيف الدين المشطوب فإن السلطان صلاح الدين كان قد رتبه في عكا لما خاف عليها من الفرنج، هو بهاء الدين قراقوش - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - ولم يزل بها حتى حاصرها الفرنج بها وأخذوها. ولما خلص منها وصل إلى السلطان وهو بالقدس، يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قال ابن شداد (6) : دخل على السلطان بغته، وعنده أخوه الملك العادل، فنهض إليه واعتنقه، وسر به سروراً عظيماً، وأخلى المكان وتحث معه طويلاً. 
    وكانت وفاة سيف الدين يوم الخميس السادس والعشرين من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بنابلس، رحمه الله تعالى؛ هكذا ذكره العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب البرق الشامي. وقال بهاء الدين بن شداد في كتابه سيرة صلاح الدين إنه نزفي يوم الأحد الثالث والعشرين من شوال من السنة المذكورة بالقدس الشريف، ودفن في داره بعد أن صلي عليه بالمسجد الأقصى.
    ولم يكن في أمراء الدولة الصلاحية أحد يضاهيه ولا يدانيه في المنزلة وعلو المرتبة، وكانوا يسمونه الأمير الكبير، وكان ذلك علماً عليه عندهم لا يشاركه فيه غيره، ورأيت بخط القاضي الفاضل " ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين المشطوب، أمير الأكراد وكبيرهم. وكانت وفاته يوم الأحد الثاني والعشرين من شوال من السنة المذكورة بالقدس، وخبزه يوم وفاته بنابلس وغيرها ثلثمائة ألف دينار، وكان بين خلاصه من أسره وحضور أجله دون مائة يوم. فسبحان الحي الذي لا يموت، وتهدم به بنيان قوم، والدهر قاض ما عليه لوم ".
    قلت: وقوله " وتهدم به بنيان قوم " هذا الكلام حل فيه بيت الحماسة وهو  :
    فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما وهذا البيت من جملة مرثية عبدة بن الطبيب التي رثى بها قيس بن عاصم التميمي الذي قدم من البادية على النبي صلى الله عليه وسلم في وقد بني تميم في سنة تسع للهجرة، وأسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: هذا سيد أهل الوبر، وكان عاقلاً مشهوراً بالحلم والسودد، وهذا البيت لأهل العربية في إعرابه كلام ليس هذا موضع ذكره، وقد ذكره أبو تمام الطائي في باب المراثي من جملة ثلاثة أبيات، وهي:
    عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
    تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زار عن شحط بلادك سلما
    فما كان قيس هُلكُه هلك واحد ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما وهذا قيس أول من وأد البنات في الجاهلية للغيرة والأنفة من النكاح، وتبعه الناس في ذلك إلى أن أبطله الإسلام.
    وأما الأمير بدر الدين لؤلؤ المذكور، فإنه توفي يوم الجمعة ثالث شعبان سنة سبع وخمسين وستمائة بقلعة الموصل، ودفن بها في مشهد هناك، وعمره مقدار ثمانين سنة، رحمه الله تعالى.

المستعلي الفاطمي(469-495)

    أبو لقاسم أحمد المنعوت بالمستعلي ابن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز ابن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله، وستأتي تتمة النسب عند ذكر المهدي في حرف العين وكيفية الاختلاف فيه، إن شاء الله تعالى.
    ولي الأمر بعد أبيه المستنصر بالديار المصرية والشامية، وفي أيامه اختلت دولتهم  ، وضعف أمرهم، وانقطعت (2) من أكثر مدن الشام دعوتهم، وانقسمت البلاد الشامية بين الأتراك والفرنج - خذلهم الله تعالى - فإنهم دخلوا الشام ونزلوا على انطاكية في ذي القعدة سنة تسعين وأربعمائة، ثم تسلموها في سادس عشر رجب سنة إحدى وتسعين، وأخذوا معرة النعمان في سنة اثنتين وتسعين وأخذوا البيت المقدس في شعبان سنة اثنتين وتسعين أيضاً، وكان الفرنج قد أقاموا عليه نيفاً وأربعين يوماً قبل أخذه، وكان أخذهم له ضحى يوم  الجمعة، وقتل فيه من المسلمين خلق كثير في مدة أسبوع، وقتل في الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً، وأخذوا من عند الصخرة من أواني الذهب والفضة مالا يضبطه الوصف، وانزعج المسلمون في جميع بلاد الإسلام بسبب أخذه غاية الانزعاج (4) - وسأتي ذكر طرف من هذه الواقعة في ترجمة الأفضل ابن أمير الجيوش في حرف الشين إن شاء الله تعالى -. وكان الأفضل شاهنشاه المنعوت بأمير الجيوش قد تسلمه من سكمانبن أرتق في يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وتسعين، وقيل: في شعبان سنة تسع وثمانين، والله أعلم بالصواب، وولي فيه من قبله فلم يكن لمن فيه طاقة بالفرنج فتسلموه منه، ولو كان في يد الأرتقية لكان أصلح للمسلمين، ثم استولى الفرنج على كثير من بلاد الساحل في أيامه، فملكوا حيفا في شوال سنة ثلاث وتسعين، وقيساربة في سنة أربع وتسعين. ولم يكن للمستعلي مع الأفضل حكم، وفي أيامه هرب أخوه نزار إلى الإسكندرية، ونزار هو الأكبر وهو جد أصحاب الدعوة بقلعة الأ موت ولك القلاع وكان من أمره ما قد شهر، والشرح يطول  وكانت ولادة المستعلي لعشر ليال بقين من المحرم سنة تسع وستين وأربعمائة بالقاهرة، وبويع في يوم عيد غدير خم، وهو الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وتوفي بمصر يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت (1) من صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، [وله من العمر ثمان وعشرون سنة وأيام، فكانت مدة ولايته سبع سنين وكسراً؛ وتولى بعده ولده أبو علي المنصور الملقب بالآمر، وله من الهمر خمس سنين وشهر وأربعة أيام، ولم يكن في من تسمى بالخلافة قط أصغر منه ومن المستنصر، وكان المستنصر أكبر من هذا، ولم يقدر يركب وحده الفرس. وقام بتدبير دولته الأفضل ابن أمير الجيوش أحسن قيام إلى أن قتل في التاريخ المذكور في بابه في حرف الشين

نصر الدولة ابن مروان الكردي (376-453)

    أبو نصر أحمد بن مروان بن دوستك  ، الكردي الحميدي الملقب نصر الدولة صاحب ميافارقين وديار بكر؛ ملك البلاد بعد أن قتل أخوه أبو سعيد منصور ابن مروان في قلعة الهتاخ  ليلة الخميس خامس جمادى الولى سنة إحدى وأربعمائة، وكان رجلاً مسعوداً عالي الهمة حسن السياسة كثير الحزم، قضى من اللذات وبلغ من السعادة ما يقصر الوصف عن شرحه.
    وحكى ابن الأزرق الفارقي ) في تاريخه أنه لم ينقل أن نصر الدولة المذكور صادرأحدا في أيامه، سوى شخص واحد، وقص قصته ولا حاجة إلى ذكرها، وأنه لم تفته صلاة الصبح عن وقتها مع انهماكه في اللذات، وأنه كان له ثلثمائة وستون جارية يخلو كل ليلة من ليالي السنة بواحدة، فلا تعود النوبة إليها إلا في مثل تلك الليلة من العام الثاني، وأنه قسم أوقاته: فمنها ما ينظر فيه في مصالح دولته، ومنها ما يتوفر فيه على لذاته والاجتماع بأهله وألزامه، وخلف أولاداً كثيرة، وقصده شعراء عصره ومدحوه وخلدوا مدائحه في دواوينهم.ومن جملة سعاداته أنه وزر له وزيران كانا وزيري خليفتين: أحدهما أبو القاسم الحسين بن علي المعروف بابن المغربي صاحب ديوان الشعر والرسائل والتصانيف المشهورة، وكان وزير خليفة مصر وأنفصل عنه، وقدم على الأمير أبي نصر المذكور فوزر له مرتين، والآخر فخر الدولة أبو نصر بن جهير، كان وزيره ثم انتقل إلى وزارة بغداد - وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى -.
    ولم يزل على سعادته وقضاء أوطاره إلى أن توفي في التاسع والعشرين من شوال سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، ودفن بجامع المحدثة، وقيل: في القصر بالسد لي، ثم نقل إلى القبة المعروفة بهم الملاصقة لجامع المحدثة.
    وعاش سبعا وسبعين سنة (1) ، وكانت إمارته اثنتين وخمسين سنة، وقيل اثنتين وأربعين سنة، رحمه الله تعالى.
    وميافارقين مشهورة فلا حاجة إلى ضبطها.
    والمحدثة - بضم الميم وسكرن الحاء المهملة وفتح الدال المهملة وبعدها ناء مثلثة - رباط بظاهر ميافارقين.
    والسدلي - بكسر السين المهملة والدال المهملة وبعدها لام مشددة مكسورة أيضا - قبة في القصر مبينة على ثلاث دعائم، وهو لفظ عجمي معناه ثلاث قوائم.
    وملك بعده ابنه نظام الدين أبو القاسم نصر.

معز الدولة ابن بويه (303-356)

    أبو الحسين أحمد بن بي شجاع بويه بن فناخسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الأصغر ابن شيركوه بن شيرزيل الأكبر ابن شيران شاه بن شيرفنه بن شستان شاه ين سسن فرو بن شروذيل (1) بن سناد (2) بن بهرام جور الملك بن يزد جردين بن هرمز كرمانشاه بن سابور ذي الأكتاف، وبقية النسب معروفة في ملوك بني ساسان فلا حاجة إلى الإطالة.
    وأبو الحسين المذكور يلقب معز الدولة، وهم ثلاثة إخوة، وسيأتي ذكر الجميع، وهو عم عضد الدولة وأحد ملوك الديلم، وكان صاحب العراق والأهواز وكان يقال له الأقطع لأنه كان مقطوع اليد اليسرى وبعض أصابع اليمنى، وسبب ذلك أنه كان في مبدأ (3) عمره وحداثة سنه تبعاً لأخيه عماد الدولة، وكان قد توجه إلى كرمان بإشارة أخويه عماد الدولة وركن الدولة، فلما وصلها سمع به صاحبها فتركها ورحل إلى سجستان من غير حرب، فملكها معز الدولة، وكان بتلك الأعمال طائفة من الأكراد قد تغلبوا عليها، وكانوا يحملون لصاحب كرمان في كل سنة شيئاً من المال بشرط أن لا يطأوا بساطه، فلما وصل معز الدولة سير إليه رئيس القوم وأخذ عهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثم أشار عليه كاتبه بنقض العهد وأن يسري (4) إليهم على غفلة ويأخذ أموالهم وذخائرهم، ففعل معز الدولة ذلك، وقصدهم في الليلفي طريق متوعرة، فأحسوا به فقعدوا له على مضيق، فلما وصل إليهم بعسكره ثاروا عليهم من جميع الجوانب، فقتلوا وأسروا، ولم يفلت منهم إلا اليسير، ووقع بمعز الدولة ضربات كثيرة، وطاحت يده اليسرى وبعض أصابع يده اليمنى، وأثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده، وسقط بين القتلى، ثم سلم بعد ذلك، وشرح ذلك يطول، وكان وصوله إلى بغداد من جهة الأهواز، فدخلها متملكا يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، في خلافة المستكفي، وملكها بلا كلفة.
    وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب شذور العقود أن معز الدولة المذكور كان في أول أمره يحمل الحطب على رأسه، ثم ملك هو وإخوته البلاد وآل أمرهم إلى ما آل، وكان معز الدولة أصغر الإخوة الثلاثة، وكانت مدة ملكه العراق  إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهراً.
    وتوفي يوم الاثنين سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وثلثمائة ببغداد، ودفن في داره، ثم نقل إلى مشهد بني له في مقابر قريش. ومولده في سنة ثلاث وثلثمائة، رحمه الله تعالى.
    ولما حضره الموت أعتق مماليكه وتصدق بأكثر ماله  ، ورد كثيراً من المظالم.
    قال أبو الحسين  أحمد العلوي: بينا أنا في داري على دجلة بمشرعة القصب  في ليلة ذات غيم ورعد وبرق، سمعت صوت هاتف يقول  :
    لما بلغت أبا الحسي ... ن مراد نفسك في الطلب
    وأمنت من حدث الليا ... لي واحتجبت عن النوب
    مدت إليك يد الردى ... وأخذت من بيت الذهب 
    قال: فإذا بمعز الدولة قد توفي في تلك الليلة.
    ولما توفي ملك موضعه ولده عز الدولة أبو المنصور بختيار، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
    وبويه: بضم الباء الموحدة وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة.
    وفناخسرو: بفتح الفاء وتشديد النون وبعد اللف خاء معجمة مضمومة ثم سين مهملة ثم سين مهملة ساكنة ثم راء مضمومة وبعدها واو.وتمام: بفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها ميم مخففة مفتوحة وبعد الألف ميم.
    ولولا خوف التطويل لقيدت بقية الأجداد، وقد ضبطته بخطي، فمن نقله فلينقله على هذه الصورة فهو صحيح، وسيأتي ذكر أخويه عماد الدولة علي وركن الدولة حسن.

أحمد بن طولون

الأمير أبو العباس أحمد بن طولون، صاحب الديار المصرية والشامية والثغور؛ كان المعتز بالله قد ولاه مصر، ثم استولى على دمشق والشام أجمع وانطاكية والثغور في مدة اشتغال الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل، وكان نائبا عن أخيه المعتمد على الله الخليفة وهو والد المعتضد بالله، بحرب صاحب الزنج.
وكان أحمد عادلاً جواداً شجاعاً متواضعاً حسن السيرة صادق الفراسة، يباشر الأمور بنفسه ويعمر البلاد ويتفقد أحوال رعاياه ويحب أهل العلم، وكانت له مائدة يحضرها كل يوم الخاص والعام، وكان له ألف دينار في كل شهر للصدقة، فأتاه وكيله يوماً فقال: إني تأتيني المرأة وعليها الإزار وفي يدها خاتم الذهب فتطلب مني، أفأعطيها فقال له: من مد يده إليك فأعطه. وكان مع ذلك كله طائش السيف، قال القضاعي: يقال إنه أحصي من قتله ابن طولون صبراً ومن مات في حبشه فكان عددهم ثمانية عشر ألفا. وكان يحفظ القرآن الكريم، ورزق حسن الصوت، وكان من أدرس الناس القرآن، وبنى الجامع المنسوب إليه الذي بين القاهرة ومصر في سنة تسع وخمسين ومائتين، وهذه الزيادة حكاها الفرغاني في تارخه، وذكر القضاعي في كتاب الخطط أنه شرع في عمارته سنة أربع وستين ومائتين، وفرغ منه في سنة ست وستين ومائتين، والله أعلم، وأنفق على عمارته مائة ألف وعشرين ألف دينارعلى ما حكاه أحمد بن يوسف مؤلف سيرته. وكان أبوه مملوكاً أهداه نوح بن أسد الساماني عامل بخارى إلى المأمون في جملة رقيق حمله إليه في سنة مائتين، ومات طولون في سنة أربعين ومائتين.

وكانت ولادة ولده أحمد بسامرا في الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، ويقال إن طولون تبناه ولم يكن ابنه، ودخل مصر لتسع - وقيل: لسبع - بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، وقيل: يوم الاثنين لخمس بقين منه.
وتوفي بها في ليلة الأحد لعشر بقين - وقال الفرغاني: لعشر خلون - من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين بزلق الأمعاء، رحمه الله تعالى. وزرت قبره في تربة عتيقة بالقرب من الباب المجاور للقلعة على طريق المتوجه إلى القرافة الصغرى بسفح المقطم.
وطولون: بضم الطاء المهملة وسكون الواو وضم اللام [وسكون الواو] وبعدها نون، وهو اسم تركي.
والساماني - بفتح السين المهملة وبعد الألف ميم مفتوحة وبعد الألف الثانية نون - هذه النسبة إلى سامام، وهو جد الملوك السامانية بما وراء النهر وخراسان.
وسامرا - بفتح السين المهملة وبعد الألف ميم مفتوحة ثم راء مشددة وبعدها ألف - مدينة كبيرة بناها المعتصم في سنة عشرين ومائتين بالعاق فوق بغداد، وحكى فيها الجوهري في كتاب الصحاح ست لغات في فصل رأى وهذه اللغة إحدى تلك الست، وليس هذا موضع استقصاء الست، وقد ذكرتها في ترجمة إبراهيم بن المهدي.

السبت، 28 يناير 2017

ابن الحطيئة اللخمي

    أبو العباس أحمد بن عبد الله بن احمد بن هشام بن الحطيئة اللخمي الفاسي؛ كان من مشاهير الصلحاء وأعيانهم، وكان مع صلاحه فيه فضيلة ومعرفة بالأدب، وكان رأساً في القراءات السبع، ونسخ بخطه كثيرا من كتب الأدب وغيرها، وكان جيد الخط، حسن الضبط، والكتب التي توجد بخطه مرغوب فيها للتبرك بها ولإتقانها.
    ومولده في الساعة الثامنة من يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بمدينة فاس، وانتقل إلى الديار المصرية، ولأهلها فيه اعتقاد كبير لما رأوه من صلاحه، وكان قد حج ودخل الشام، واستوطن خارج مصر في جامع راشدة، وكان لا يقبل لأحد شيئا ولا يرتزق على الإقراء، واتفق بمصر مجاعة شديدة فمشى إليه أجلاء المصريين وسألوه قبول شيء فامتنع، وكان عدلاً بزازاً في القاهرة، فتزوجها وسأل أن تكون أمها عندها، فأذن في ذلك، وكان قصدهم تخفيف العائلة عنه، وبقي منفردا ينسخ ويأكل من نسخه [وكان يعرض عليه المال فلا يقبل منه شيئا؛ قيل: جاء بعض التجار بمئزر أسود صوف وحلف عليه به، فقال: اجعله على ذلك الوتد، فأقام ثلاثين سنة موضعه. لم يزل بالشرق إلى نوبة مصر المشهورة وحريقها فنزل في دويرة بها ... ]
    وتوفي في أواخر المحرم سنة ستين وخمسمائة بمصر، ودفن في القرافة الصغرى
    وقبره يزار بها، وزرته ليلا فوجدت عنده أنسا كثيرا، رحمه الله تعالى.
    وكان يقول: أدرجت سعادة الإسلام في أكفان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أشار إلى الإسلام لم يزل في أيامه في نمو وازدياد، وشرع بعده في التضعضع والاضطراب.
    وذكر في كتاب " الدول المنقطعة " (1) في ترجمة أبي الميمون عبد المجيد صاحب مصر أن الناس أقاموا بلا قاض ثلاثة أشهرفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة ثم اختير في ذي القعدة أبو العباس ابن الحطيئة، فاشترط أن لا يقضي بمذهب الدولة فلم يمكن من ذلك، وتولى غيره، والله تعالى أعلم.
    والحطيئة: بضم الحاء المهملة وفتح الطاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعد الهمزة هاء.
    والفاسي - بفتح الفاء وبعد الألف سين مهملة - هذه النسبة إلى فاس وهي مدينة كبيرة بالمغرب بالقرب من سبتة خرج منها جماعة من العلماء.

ابن العريف

    أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي الأندلسي المريي المعروف بابن العريف؛ كان من كبار الصالحين والولياء المتورعين، وله المناقب المشهورة، وله كتاب " المجالس " (1) وغيره من الكتب المتعلقة بطريق القوم، وله نظم حسن في طرقهم أيضاً، ومن شعره :
    شدوا المطي وقد نالوا المنى بمنى ... وكلهم بأليم الشوق قد باحا
    سارت ركائبهم تندى روائحها ... طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحاً
    نسيم قبر النبي المصطفى لهم ... روح إذا شربوا من ذكره راحا
    يا واصلين إلى المختار من مضرٍ ... زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا
    إنا أقمنا على عذرٍ وعن قدر ... ومن أقام على عذرٍ كمن راحا وبينه وبين القاضي عياض بن موسى اليحصبي مكاتبات حسنة، وكانت عنده مشاركة في أشياء من العلوم، وعنتية بالقراءات وجمع الروايات واهتمام بطرقها وحملتها، وكان العباد وأهل الزهد يألفونه ويحمدون صحبته.
    وحكى بعض المشايخ الفضلاء أنه رأى بخطه فصلا في حق أبي محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الظاهري الأندلسي، وقال فيه: كان لسان ابن حزم المذكور وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين، وإنما قال ذلك لأن ابن حزم كان كثير الوقوع (3) في الأئمة المتقدمين والمتأخرين، لم يكد يسلم منه أحد. ومولده يوم الأحد بعد طلوع الفجر ثاني جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
    وكانت وفاة ابن العريف المذكور سنة ست وثلاثين وخمسمائة بمراكش، رحمه الله تعالى، ليلة الجمعة أول الليل، ودفن يوم الجمعة الثالث والعشرين من صفر، وقد كان سعي به إلى صاحب مراكش، فأحضره إليها فمات، واحتفل الناس بجنازته وظهرت له كرامات، فندم على استدعائه؛ وصاحب مراكش الذي استدعاه هو علي بن يوسف بن ناشفين - الآتي ذكره في ترجمة أبيه يوسف إن شاء الله تعالى . 
    المريي: هذه النسبة إلى المرية، وهي بفتح الميم وكسر الراء وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء، وهي مدينة عظيمة بالأندلس.

ابن الرشيد

أبو العباس أحمد بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور الهاشمي المعروف بالسبتي؛ كان عبداً صالحاً، ترك الدنيا في حياة أبيه مع القدرة، ولم يتعلق بشيء من أمورها، وأبوه خليفة الدنيا، وآثرالانقطاع والعزلة، وإنما قيل له السبتي لأنه كان يتكسب بيده في يوم السبت شيئاً ينفقه في بقية الأسبوع، ويتفرغ للاشتغال بالعبادة، فعرف بهذه النسبة، ولم يزل على هذه الحال إلى أن توفي سنة أربع وثمانين ومائة قبل موت أبيه، رحمهما الله تعالى؛ وأخباره مشهورة، فلا حاجة إلى التطويل فيها، وذكره ابن الجوزي في شذور العقود وفي صفوة الصفوة وهو مذكور في كتاب " التوابين " وفي " المنتظم " أيضا.

أحمد القطرسي النفيس

    أبو العباس أحمد بين أبي القاسم عبد الغني بن أحمد بن عبد الرحمن بن خلف بن مسلم اللخمي المالكي القطرسي، المنعوت بالنفيس؛ كان من الأدباء، وله ديوان شعر أجاد فيه، ونقلت منه قصيدة يمدح بها الأمير شجاع الدين جلدك التقوي، المعروف بوالي دمياط، أولها:
    قل للحبيب أطلت صدك ... وجعلت قتلي فيك وكدك
    إن شئت أن أسلو فرد ... علي قلبي فهو عندك
    أخلفت حتى في زيا ... رتنا بطيف منك وعدك
    وأنا عليك كما عهد ... ت وإن نقضت علي عهدك
    أحرقت يا ثغر الحبي ... ب حشاي لما ذقت بردك
    وشهدت أني ظالم ... لما طلبت إليك شهدك
    أتظن غصن البان يع ... جبني وقد عاينت قدك
    أم يخدع التفاح أل ... حاظي وقد شاهدت خدك
    أم خلت آس عذارك ال ... منشوق يحمي منك وردك
    لا والذي جعل الهوى ... مولاي حتى صرت عبدك
    يا قلب من لانت معا ... طفه علينا ما أشدك
    أتظنني جلد الهوى ... أو أن لي عزمات جلدك
    وهي قصيدة جيدة، ونقتصر منها على هذا القدر خوف الإطالة.
    وجاب النفيس المذكور البلاد، ومدح الناس، واستجدى بشعره.
    وذكره العماد الكاتب في الخريدة، فقال: فقيه مالكي المذهب، له يد في علوم الوائل والدب، ومن شعره قوله:
    يسر بالعيد أقوام لهم سعة ... من الثراء، وأما المقترن فلا
    هل سرني وثيابي فيه قوم سبا ... أو راقني وعلى رأسي به ابن جلا يعني قوم سبأ مزقناهم كل ممزق، وابن جلا ما له عمامة، يشير إلى قول الشاعر سحيم بن وثيل الرباحي:
    أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني وذكره العماد أيضاً في كتاب السيل فقال: كان من الفقهاء بمصر، وقد رأيت القاضي الفاضل يثني عليه، ووجدت له قصيدة كتبها من مصر إليه ونقلت من ديوانه أيضاً:
    يا راحلا وجميل الصبر يتبعه ... هل من سبيل إلى لقياك يتفق
    ما أنصفتك جفوني وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو محترق [ومن شعره أيضاً في الأمير فخر الدين إسماعيل بن ثعلب:
    مدحت الجعفري فما أثابت ... يداه فظن مدحي للثواب
    وما كان احتساب الأجر فيه ... على كذب المدائح في الحساب ومن شعره أيضاً:
    يأبى العذار المستدير بوجهه ... وكمال بهجة حسنه المنعوت
    فكأنما هو صولجان زمرد ... متلقف كرة من الياقوت] وله في كأس سقطت وهو معنى بديع:
    ما سقطت كاسك من علة ... لكن يد الفضل بتبديدها
    هيهات أن تحفظها راحة ... ما حفظت قط سوى جودها وله:
    فؤادي إليك شديد الظما ... وعيني تشكو لك الحاجبا
    فرتب لي الأذن سهلاً لديك ... فإني أرضى به راتباً [وكتب إلى القاضي الأسعد بن عثمان يستدعيه من جملة أبيات:
    صر إلينا على البراق وإلا ... جاءك العتب بعد فوت المراد وصار إليه وأنشده ارتجالاً:
    قد أجبت لنداء يا داعي ال ... مجد ولو كنت موثقاً في صفاد
    فودادي يصونني عن عتاب ... وبراقي عزيمتي في الوداد] وله في مغن اسمه حسام ويعرف بالأقرع وهي من الشعر المختار:
    وفتيان تملكت الحميا ... أزمة أمرهم ملك الأمير
    أرادوا من حسام أن يغني ... ليطربهم وذاك من الغرور
    فقلت لهم متى بالله غنى ... حسام قط في زمن السرور [ومن شعره أيضاً:
    لا تسأل اليوم عن حالي وعن خبري ... دهت فؤادي دواهي الحسن والقدر
    أصبحت قد ضل قلبي في هوى قمر ... فأعجب لمن ضل بين الشمس والقمر وله أيضا وكتب بهما إلى بعض أصدقائه يعاتبه:
    إن مسني من جنابٍ كنت أعهد لي ... فيه النعيم تكاليف من الشظف
    فالشمس والبدر حسبي أسوة بهما ... وربما كسفا في البيت والشرف 
    ومن شعره يصف دير القصير أولها:
    قصرنا على دير القصير ركابنا ... ليالي قضاها السرور قصارا
    محل يريك النيل والروض والمها ... ويدني من النجم البعيد مزارا
    وتهدي إلى أبصارنا وقلوبنا ... بغير عناء قوة وقدارا ويقتصر من شعره على هذا القدر.
    وكان جده يقال له قطرس.
    وتوفي في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة بمدينة قوص، وقد ناهز سبعين سنة من عمره، رحمه الله تعالى.
    واللخمي - بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة وبعدها ميم - هذه النمسبة إلى لخم بن عدي، واسمه مالك، وهو أخو جذام، واسم جذام عمر بن عدي، وكانا قد تشاجرا فلخم عمرو مالكا - أي لطمه - فضرب مالك عمرا بمدية فجذم يده - أي قطعها - فسمي مالك لخما، وسمي عمرو جذاماً لهذا السبب.
    والقطرسي - بضم القاف وسكون الطاء المهملة وضم الراء وبعدها سين مهملة - هذه النسبة كشفت عنها كثيراً ولم اقف لها على حقيقة، غير انه كان من أهل مصر، ثم أخبرني بهاء الدين زهير بن محمد الكاتب الشاعر - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - أن هذه النسبة إلى جده قطرس، وكان صاحبه، وروى عنه شيئا من شعره.
    (7) وجلدك: أبو المظفر عتيق تقي الدين عمر، صاحب حماة - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكان ديناً فاضلاً. ومات في الثامن والعشرين من شعبان سنة ثمان وعشرين وستمائة بالقاهرة، وقد ناهز ثمانين سنة، وله شعر، وروى عن الحافظ السلفي وغيره، ومن جملة ما روى بهاء الدين زهير من شعره في غلام يتعلم على الهندسة والهيئة:
    وذي هيئة يزهو بوجه مهندس ... أموت به كل يوم وأبعث
    محيط بأشكال الملاحة وجهه ... كأن به إقليدساً يتحدث
    فعارضه خط استواء وخاله ... به نقطة والصدغ شكل مثلث
     وتنسب هذه اليات إلى أبي جعفر العلوي المصري، والله أعلم.

القاضي الرشيد ابن الزبير

    القاضي الرشيد أبو الحسين أحمد ابن القاضي الرشيد أبي الحسن علي ابن القاضي الرشيد أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحسين بن الزبير الغساني الأسواني؛ كان من أهل الفضل والنباهة والرياسة، صنف كتاب جنان الجنان وياض الأذهان وذكر فيه جماعة من مشاهير الفضلاء (1) ، وله ديوان شعر، ولأخيه القاضي المهذب (2) أبي محمد الحسن ديوان شعر أيضاً، وكان مجيدين في نظمهما ونثرهما.
    (6) ومن شعر القاضي المهذب - وهو معنى لطيف غريب - من جملة قصيدة بديعة:
    وترى المجرة والنجوم كأنما (3) ... تسقي الرياض بجدول ملآن
    لو لم تكن نهراً لما عامت بها ... أبداً نجوم الحوت والسرطان وله أيضا من جملة قصيدة:
    وما لي إلى ماءٍ سوى النيل غلة ... ولو أنه، أستغفر الله، زمزم وله كل معنى حسن، وأول شعر قاله سنة ست وعشرين وخمسمائة. وذكره العماد الكاتب في كتاب السيل والذيل وهو أشعر من الرشيد، والرشيد أعلم منه في سائر العلوم، وتوفي بالقاهرة سنة إحدى وستين وخمسمائة في رجب، حمه الله تعالى.
    وأما القاضي الرشيد فقد ذكره الحافظ أبو الطاهر السلفي - رحمه الله تعالى - في بعض تعاليقه، وقال: ولي النظر بثغر الإسكندرية في الدواوين السلطانية بغير اختياره في سنة تسع وخمسين وخمسمائة، ثم قتل ظلماً وعدواناً في المحرم سنة ثلاث وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى؛ وذكره العماد أيضاً في كتاب السيل والذيل الذي ديل به علىالخريدة فقال: الخضم الزاخر، والبحر العباب، ذكرته في الخريدة وأخاه المهذب، قتله شاور ظلماً لميله إلى أسد الدين شيركوه في سنة ثلاث وستين وخمسمائة، كان أسود الجلدة،
    وسيد البلدة، أوحد عصره في علم الهندسة والرياضات  ، والعلوم الشرعيات، والآداب الشعريات، ومما أنشدني له الأمير عضد الدولة  أبو الفوارس مرهف بن أسامة بن منقذ، وذكر أنه سمعها منه:
    جلت لدي الرزايا بل جلت هممي ... وهل يضر جلاء الصارم الذكر
    غيري يغيره عن حسن شيمته ... صرف الزمان وما ياتي من الغير
    لو كانت النار للياقوت محرقة ... لكان يشتبه الياقوت بالحجر
    لا تغررن بأطماري وقيمتها ... فإنما هي أصداف على درر
    ولا تظن خفاء النجم من صغرٍ ... فالذنب في ذاك محمول على البصر قلت: وهذا البيت مأخوذ من قول أبي العلاء المعري في قصيدته الطويلة المشهورة، فإنه القائل فيها:
    والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر وأورد له العماد الكاتب في الجزيرة أيضاً قوله في الكامل بن شاور:
    إذا ما نبت بالحر دار يودها ... ولم يرتحل عنها فليس بذي حزم
    وهب بها صباً ألم يدر أنه ... سيزعجه منها الحمام على رغم وقال العماد: أنشدني محمد بن عيسى اليمني ببغداد سنة إحدى وخمسين، قال: أنشدني القاضي الرشيد باليمن لنفسه في رجل:
    لئن خاب ظني في رجائك بعد ما ... ظننت بأني قد ظفرت بمنصف
    فإنك قد قلدتني كل منةٍ ... ملكت بها شكري لدى كل موقف
    لأنك قد حذرتني كل صاحبٍ ... وأعلمتني أن ليس في الأرض من يفي وكان الرشيد أسود اللون، وفيه يقول أبو الفتح محمود بن قادوس
    الكاتب الشاعر يهجوه:
    يا شبه لقمان بلا حكمةٍ ... وخاسراً في العلم لا راسخاً
    سلخت أشعار الورى كلها ... فصرت تدعى الأسود السالخا وفيه أيضاً كما يغلب على ظني هذا:
    إن قلت من نار خلق ... ت وفقت كل الناس فهما
    قلنا صدقت فما الذي ... أضناك حتى صرت فحما وكان الرشيد سافر إلى اليمن رسولاً، ومدح جماعة من ملوكها، وممن مدحه منهم علي بن حاتم الهمداني قال فيه:
    لئن أجدبت أرض الصعيد وأقحطوا ... فلست أنال القحط في أرض قحطان
    ومذ كفلت لي مأرب بمآربي ... فلست على أسوان يوماً بأسوان
    وإن جهلت حقي زعانف خندفٍ ... فقد عرفت فضلي غطارف همدان فحسده الداعي في عدن على ذلك، فكتب بالأبيات إلى صاحب مصر، فكانت سبب الغضب عليه، فأمسكه وأنفذه إليه مقيداً مجرداً، وأخذ جميع موجوده، فأقام باليمن مدة ثم رجع إلى مصر، فقتله شاور كما ذكرناه، وكتب إليه الجليس بن الحباب:
    ثروة المكرمات بعدك فقر ... ومحل العلا ببعدك قفر
    بك تجلى إذا حللت الدياجي ... وتمر الأيام حيث تمر
    أذنب الدهر في مسيرك ذنباً ... ليس منه سوى إيابك عذر والغساني - بفتح الغين المعجمة والسين المهملة وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى غسان وهي قبيلة كبيرة من الأزد شربوا من ماء غسان، وهو باليمن فسموا به.
    والأسواني - بضم الهمزة وسكون السين المهملة وفتح الواو وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى أسوان، وهي بلدة بصعيد مصر، قال السمعاني: هي 
    بفتح الهمزة، والصحيح الضم، هكذا قال لي الشيخ الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر، نفعنا الله به آمين.

ناصح الدين الأرجاني


    أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني الملقب ناصح الدين؛ - كان قاضي تستر وعسكر مكرم -، وله شعر رائق في نهاية الحسن، ذكره العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب الخريدة فقال: كان الأرجاني في عنفوان عمره
    بالمدرسة النظامية بأصبهان، وشعره من آخر عهد نظام الملك، منذ سنة نيف وثمانين وأربعمائة، إلى آخرعهده، وهو سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ولم يزل نائب القاضي بعسكر مكرم، وهو مبجل مكرم، وشعره كثير والذي جمع منه لا يكون عشره، ولما وافيت عسكر مكرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة لقيت بها ولده محمداً رئيس الدين أعارني إضبارة كبيرة من شعر والده.
    منبت شجرته أرجان، وموطن أسرته تستر وعسكر مكرم من خوزستان، وهو وإن كان في العجم مولده، فمن العرب محتده، سلفه القديم من الأنصار، لم يسمح بنظيره سالف الأعصار، أوسي الأس خزرجيه، قسي النطق إياديه، فارسي القلم وفارس ميدانه، وسلمان برهانه، من أبناء فارس الذين نالوا العلم المتعلق بالثريا، جمع بين العذوبة والطيب في الري والريا. انتهى كلام العماد.
    قلت: ونقلت من ديوانه أنه كان ينوب في القضاء ببلاد خوزستان، تارة بتستر وتارة بعسكر مكرم، مرة عن قاضيها ناصر الدين أبي محمد عبد القاهر بن محمد، ومن بعده عن عماد الدين أبي العلاء رجاء، وفي ذلك يقول:
    ومن النوائب أنني ... في مثل هذا الشغل نائب
    ومن العجائب أن لي ... صبراً على هذي العجائب وكان فقيهاً شاعراً، وفي ذلك يقول:
    أنا أشعر الفقهاء غير مدافعٍ ... في العصر، أو أنا أفقه الشعراء
    شعري إذا ماقلت دونه الورى ... بالطبع لا بتكلف الإلقاء
    كالصوت في قلل الجبال إذا علا ... للسمع هاج تجاوب الأصداء ومن شعره أيضاً:
    شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كانت من أهل المشورات
    فالعين تلقى كفاحاً ما دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة ومن شعره أيضاً:
    ما جبت آفاق البلاد مطوفاً ... إلا وانتم في الورى متطلبي
    سعيي إليكم في الحقيقة، والذي ... تجدون عنكم فهو سعي الدهر بي
    أنحوكم ويرد وجهي القهقرى ... عنكم فسيري مثل سير الكوكب
    فالقصد نحو المشرق الأقصى لكم ... والسير رأي العين نحو المغرب ومن شعره أيضاً ما كتبه إلى بعض الرؤساء يعتب عليه لعدم سؤاله عنه وقد انقطع عنه مدة:
    نفسي فداؤك أيهذا الصاحب ... يا من هواه علي فرض واجب
    لم طال تقصيري وما عاتبتني ... فأنا الغداة مقصر ومعاتب
    ومن الدليل على ملالك أنني ... قد غبت أياماً وما لي طالب
    وإذا رأيت العبد يهرب ثم لم ... يطلب فمولى العبد منه هارب وله أيضاً، وهومعنى غريب:
    رثى لي وقد ساويته في نحوله ... خيالي لما لم يكن لي راحم
    فدلس بي حتى طرقت مكانه ... وأوهمت إلفي أنه بي حالم
    وبتنا ولم يشعر بنا الناس ليلة ... أنا ساهر في جفنه وهو نائم وله من قصيدة وأجاد فيها:
    تأمل تحت ذاك الصدغ خالاً ... لتعلم كم خبايا في الزوايا وله أيضاً:
    شبت أنا والتحى حبيبي ... وبان عني وبنت عنه
    وأبيض ذاك السواد مني ... وأسود ذاك البياض منه وله أيضاً:
    سأل الفضا عنه وأصغى للصدى ... كيما يجيب فقال مثل مقاله
    ناداه أين ترى محط رحاله ... فأجاب أين ترى محط رحاله
    وله أيضاً:
    لو كنت أجهل ما علمت (1) لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم
    كالصعو يرتع في الرياض، وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم (2) ومثله قول بعضهم:
    يقصد أهل الفضل دون الورى ... مصائب الدنيا وآفاتها
    كالطير لا يحبس من بينها ... إلا التي تطرب أصواتها وهذا ينظر إلى قول الغزي أبي إسحاق المقدم ذكره من جملة قصيدة طويلة:
    لا غرو أن تجني علي فضائلي ... سبب احتراق المندلي دخانه ونقتصر على هذه المقاطيع من شعره، ولا حاجة إلى ذكر شيء من قصائده المطولات خوفاً من الإطالة.
    وله أيضاً:
    أحب المرء ظاهره جميل ... لصاحبه وباطنه سليم
    مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم
     وهذا البيت - أعني الثاني منهما - يقرأ معكوساً، ويوجد في ديوان الغزي المذكور أيضاً، والله أعلم.
    وله ديوان شعر فيه كل معنى لطيف.
    ومولده سنة ستين وأربعمائة، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمدينة تستر، رحمه الله تعالى، وقيل بعسكر مكرم.
    والأرجاني - بفتح الهمزة وتشديد الراء المهملة وفتح الجيم وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى أرجان، وهي من كور الهواز من بلاد خوزستان،  وأكثر الناس يقولون: إنها بالراء المخففة، واستعملها المتنبي في شعره مخففة في قوله (1) :
    أرجان أيتهاالجياد، فإنه ... عزمي الذي يذر (2) الوشيج مكسرا وحكاها الجوهري في الصحاح، والحازمي في كتابه الذي سماه ما اتفق لفظه وافترق مسماه يتشديد الراء.
    وتستر - بضم التاء المثناة من فوقها وسكون السين المهملة وفتح التاء الثانية وبعدها راء - مدينة مشهورة بخوزستان، والعامة تسميها ششتر.
    وعسكر مكرم - قد اختلفوا في مكرم، فأكثر العلماء على أنه مكرم اخو مطرف بن سيدان بن عقيلة بن ذكوان بن حيان بن الخرزق بن عيلان بن حاوة بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان، هكذا نسبه استخرجته على هذه الصورة من كتاب الجمهرة لابن الكلبي، وليس في نسبه باهلة، ومكرم المذكور يعرف بمكرم الباهلي الحاوي، والله اعلم. وقيل: هو مكرم أحد بني جعونة العامري.
    وقيل: هو مكرم مولى الحجاج بن يوسف الثقفي، نزله لمحاربة خرزاد ابن بارس فسمي بذلك.
    وخوزستان - بضم الخاء المعجمة وبعد الواو زاي ثم سين مهملة - وهوإقليم متسع بين البصرة وفارس.

ابن منير الطرابلسي

    أبو الحسين أحمد بن منير بن أحمد بن مفلح الطرابلسي الملقب مهذب الدين عين الزمان الشاعر المشهور؛ له ديوان شعر، وكان أبوه ينشد (2) الأشعار، ويغني في أسواق طرابلس ، ونشأ أبو الحسين المذكور، وحفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة والأدب، وقال الشعر، وقدم دمشق فسكنها، وكان رافضياً كثير الهجاء خبيث اللسان، ولما كثر منه ذلك سجنه بوري بن أتابك طغتكين صاحب دمشق مدة وعزم على قطع لسانه، ثم شفعوا فيه فنفاه، وكان بينه وبين أبي عبد الله محمد بن نصر بن صغير المعروف بابن القيسراني  مكاتبات وأجوبة ومهاجاة، وكانا مقيمين بحلب ومتنافسين في صناعتهما كما جرت عادة المتماثلين.
    ومن شعره من جملة قصيدة:
    وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ... في منزل فالحزم أن يترحلا
    كالبدر لما أن تضاءل جد في ... طلب الكمال فحازه متنقلا
    سفها لحلمك أن رضيت بمشربٍ ... رنق ورزق الله قد ملأ الملا
    ساهمت عيسك مر عيشك قاعداً ... أفلا فليت بهن ناصية الفلا
    فارق ترق كالسيف سل فبان في ... متنيه ما أخفى القراب وأخملا
    لا تحسبن ذهاب نفسك ميتةً ... ما الموت إلا أن تعيش مذللاً
    للقفر لا للفقر هبها إنما ... مغناك ما أغناك أن تتوسلا
    لا ترضى من دنياك ما أدناك من ... دنس وكن طيفاً جلا ثم انجلى
    وصل الهجير بهجر قوم كلما ... أمطرتهم شهداً جنوا لك حنظلا
    من غادر خبثت مغارس وده ... فإذا محضت له الوفاة تأولا
    لله علمي بالزمان وأهله ... ذنب الفضيلة عندهم أن تكملا
    طبعوا على لؤم الطباع فخيرهم ... إن قلت قال وإن سكت تقولا
    أنا من إذا ما الدهر هم بخفضه ... سامته همته السماك الأعزلا
    واعٍ خطاب الخطب وهو مجمجم ... راعٍ أكل العيس من عدم الكلا
    زعم كمنبلج الصباح وراءه ... عزم كحد السيف صادف مقتلا ومن محاسن شعره القصيدة التي أولها:
    من ركب البدر في صدر الرديني ... وموه السحر في حد اليماني
    وأنزل النير الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسرواني
    طرف رنا أم قراب سل صارمه ... وأغيد ماس أم أعطاف خطي
    أذلني بعد عز والهوى أبداً ... يستعبد الليث للظبي الكناسي ومنها أيضاً:
    أما وذائب مسكٍ من ذوائبه ... على أعالي القضيب الخيزراني
    وما يجن عقيقي الشفاه من ال ... ريق الرحيقي والثغر الجماني
    لو قيل للبدر من في الأرض تحسده ... إذا تجلس لقال ابن الفلاني
    أربى علي بشتى من محاسنه ... تألفت بين مسموع ومرئي
    إباء فارس في لين الشآم مع الظ ... رف العراقي والنطق الحجازي
    وما المدامة بالألباب أفتك من ... فصاحة البدو في ألفاظ تركي
    أنكرت مقلته سفك دمي ... وعلى وجنته فاعترفت
    لا تخالوا خاله في خده ... قطرة (2) من دم جفني نطفت
    ذاك (3) من نار فؤادي جذوة ... فيه ساخت وانطفت ثم طفت وله من جملة قصدة:
    لا تغالطني فما تخ ... فى علامات المريب
    أين ذاك البشر يامو ... لاي من هذا القطوب ونقلت من خط الشيخ الحافظ المحدث زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المصري رحمه الله تعالى قال: حكى لي أبو المجد قاضي السويداء، قال: كان بالشام شاعران ابن منير وابن القيسراني، وكان ابن منير كثيراً ما يبكت (4) ابن القيسراني بأنه ما صحب أحدا إلا نكب (5) ، فاتفق أن أتابك عماد الدين زنكي صاحب الشام غناه مغن على قلعة جعبر، وهو يحاصرها، قول الشاعر:
    ويلي من المعرض الغضبان إذ نقل ال ... واشي إليه حديثا كله زور
    سلمت فازور يزوي قوس حاجبه ... كأنني كأس خمر وهو مخمور فاستحسنها زنكي، وقال: لمن هذه فقيل: لابن منير، وهو بحلب، فكتب إلى والي حلب يسيره إليه سريعاً، فسيره، فليلة وصل ابن منير قتل أتابك زنكي - قلت: وسيأتي شرح الحال في ذلك على التفصيل في ترجمة زنكي إن شاء الله تعالى - قال: فأخذ أسد الدين شيركوه، صاحب حمص، نور الدينمحمود بن زنكي وعسكر الشام وعاد بهم إلى حلب، وأخذ زين الدين علي ولد مظفر الدين صاحب إربل عساكر بلاد الشرق وعاد بهم إلى الموصل، وإلى سيف الدين غازي بن زنكي وملكه الموصل، فلما دخل ابن منير إلى حلب صحبة العسكر، قال له ابن القيسراني: هذه بجميع ما كانت تبكتني به! قلت: ولابن القيسراني المذكور في ابن منير، وكان قد هجاه:
    ابن منير هجوت مني ... حبراً أفاد الورى صوابه
    ولم تضيق بذاك صدري ... فإن لي أسوة الصحابه أشعاره لطيفة فائقة.
    وكانت ولادته سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بطرابلس، وكانت وفاته في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بحلب، ودفن في جبل جوشن، بقرب المشهد الذي هناك، رحمه الله تعالى.
    وزرت قبره ورأيت عليه مكتوبا:
    من زار قبري فليكن مرقناً ... أن الذي ألقاه يلقاه
    فيرحم الله امرءا زارني ... وقال لي: يرحمك الله وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، فقال في ترجمته: حدث الخطيب السديد أبو محمد عبد القاهر بن عبد العزيز خطيب حماة، قال: رأيت أبا الحسين ابن منير الشاعر في النوم بعد موته، وأنا على قرنة (1) بستان مرتفعة، فسألته عن حاله وقلت له: اصعد إلي، فقال: ما أقدر من رائحتي، فقلت: تشرب الخمر فقال: شراً من الخمر يا خطيب، فقلت له: ما هو فقال: تدري ما جرى علي من هذه القصائد التي قلتها في مثالب الناس فقلت له: ما جرى عليك منها فقال: لساني قد طال وثخن حتى صار مد البصر، وكلما قرأت قصيدة منها قد صارت كلابا تتعلق في لساني، وأبصرته حافياً عليه ثياب رثة إلى غاية، وسمعت قارئا يقرأ من فوقه لهم من فوقهم ظللمن النار - الآية ثم انتبهت مرعوبا.
    قلت: ثم وجدت في ديوان أبي الحكم عبيد الله الآتي ذكره أن ابن منير توفي بدمشق سنة سبع وأربعين، ورثاه بأبيات تدل على أنه مات بدمشق منها وهي هزلية على عادته في ذلك:
    أتوا به فوق أعواد تسير به ... وغسلوه بشطي نهر قلوط
    وأسخنوا الماء في قدر مرصصة ... وأشعلوا تحته عيدان بلوط وعلى هذا التقدير فيحتاج إلى الجمع بين هذين الكلامين، فعساه أن يكون قد مات بدمشق قم نقل إلى حلب فدفن بها، والله أعلم.
    ومنير: بضم الميم وكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء.
    ومفلح: بضم الميم وسكون الفاء وكسر اللام وبعدها حاء مهملة.
    والطرابلسي - بفتح الطاء المهملة والراء وبعد الألف باء موحدة مضمونة ثم سين مهملة - هذه النسبة إلى طرابلس، وهي مدينة بساحل الشام قريبة من بعلبك، وقد تزاد الهمزة إلى أولها فيقال أطرابلس، وأخذها الفرنج سنة ثلاث وخمسمائة، وصاحبها يومئذ أبو علي عمار بن محمد بن عمار، بعد أن حوصرت سبع سنين، والشرح في ذلك يطول.
    وجوشن: بفتح الجيم وسكون الواو وفتح الشين المثلثة ثم نون [جبل بحلب] .

ابن الخازن الكاتب

    أبو الفضل أحمد بن محمد بن الفضل بن عبد الخالق المعروف بابن الخازن، الكاتب الشاعر الدينوري الصل البغدادي المولد والوفاة؛ كان فاضلاً نادرة في الخط أوحد وقته فيه، وهو والد ابي الفتح نصر الله الكاتب المشهور، كتب من المقامات نسخاً كثيرة وهي موجودة بأيدي الناس، واعتني بجمع شعر والده فجمع منه ديواناً، وهو شعر جيد حسن السبك جميل المقاصد، فمن ذلك قوله، وهو من المعاني البديعة:
    من يستقم يحرم مناه، ومن يزغ ... يختص بالإسعاف والتمكين
    انظر إلى الألف استقام ففاته ... عجم وفاز به اعوجاج النون وله أيضاً:
    من لي بأسمر حجبوه بمثله ... في لونه والقد والعسلان
    من رامه فليدرع صبراً على ... طرف السنان وطرفه الوسنان
    راح الصبا تثنيه لا ريح الصبا ... سكران بي من حبه سكران
    طرف كطرف جامح مرحمتى ... أرسلت فضل عنانه عناني وله أيضاً:
    أيا عالم الأسرار إنك عالم ... بضعف اصطباري عن مداراة خلقه
    ففتر غرامي فيه تفتير لحظه ... وأحسن عزائي فيه تحسين خلقه
    فحمل الرواسي دون ما أنا حامل ... بقلبي المعنى من تكاليف عشقه
    وكتب إلى الحكيم أبي القاسم الهوازي، وقد فصده فآلمه:
    رحم الإله مجدلين سليمهم ... من ساعديك مبضع بالمبضع
    فعصائب تأتيهم بمصائب ... نشرت فتطوي أذرعاً في الأذرع
    أفصدتهم بالله أم أقصدتهم ... وخزاً بأطراف الرماح الشرع
    دست المباضع أم كنانة أسهم ... أم ذو الفقار مع البطين الأنزع
    غرراً بنفسي إن لقيتك بعدها ... يا عنتر العبسي غير مدرع وكان الحكيم المذكور قد أضافه يوماً وزاد في خدمته، وكان في داره بستان وحمام فأدخله إليهما، فعمل أبو الفضل المذكور:
    وافيت منزله فلم أرحاجباً ... إلا تلقاني بسن ضاحك
    والبشر فيوجه الغلام أمارة ... لمقدمات حياء وجه المالك
    ودخلت جنته وزرت جحيمه ... فشكرت رضواناً ورأفة مالك ثم إني وجدت هذه الأبيات للحكيم أبي القاسم هبة الله بن الحسين بن علي الأهوازي الطبيب الأصبهاني، ذكرها العماد الكاتب في الخريدة له، وقال: توفي سنة نيف وخمسين وخمسمائة، وذكرها في ترجمة أبي الفضل ابن الخازن المذكور، والله أعلم لمن هي منهما.
    ومن شعره أيضاً -[أعني ابن الخازن]-:
    وأهيف ينميه إلى العرب لفظه ... وناظره الفتان يعزي إلى الهند
    تجرعت كأس الصبر من رقبائه ... لساعة وصل منه أحلى من الشهد
    وهادنت أعماماً له وخؤولةً ... سوى واحد منهم غيور على الخد
    كنقطة مسك أودعت جلنارة ... رأيت بها غرس البنفسج في الورد [وكان أبو بكر الخوارزمي يروي لمعاً من شعره كقوله في وصف العيار
    وذكر أنه لم يسمع في معناه أملح منه وهو:
    إن هذا العيار ألبس عطفي ... عسلياً وديني التوحيد] وله أيضاً:
    وافى خيالك فاستعارت مقلتي ... من أعين الرقباء غمض مروع
    ما استكملت شفتاي لثم مسلمٍ ... منه ولا كفاي ضم مودع
    وأظنهم فطنوا فكل قائل ... لو لم يزره خيالها لم يهجع
    فانصاع يسرق نفسه فكأنما ... طلع الصباح بها وإن لم يطلع وجل شعره مشتمل على معان حسان.
    وكانت وفاته في صفر سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وعمره سبع وأربعون سنة، وقال الحافظ ابن الخوري في كتابه المنتظم: توفي سنة اثنتيي عشرة وخمسمائة، والله أعلم، رحمه الله تعالى.
    وكان ولده أبو الفتح نصر الله المذكور حياً في سنة خمس وسبعين وخمسمائة ولم أقف على تاريخ وفاته.

ابن الخازن الكاتب

    أبو الفضل أحمد بن محمد بن الفضل بن عبد الخالق المعروف بابن الخازن، الكاتب الشاعر الدينوري الصل البغدادي المولد والوفاة؛ كان فاضلاً نادرة في الخط أوحد وقته فيه، وهو والد ابي الفتح نصر الله الكاتب المشهور، كتب من المقامات نسخاً كثيرة وهي موجودة بأيدي الناس، واعتني بجمع شعر والده فجمع منه ديواناً، وهو شعر جيد حسن السبك جميل المقاصد، فمن ذلك قوله، وهو من المعاني البديعة:
    من يستقم يحرم مناه، ومن يزغ ... يختص بالإسعاف والتمكين
    انظر إلى الألف استقام ففاته ... عجم وفاز به اعوجاج النون وله أيضاً:
    من لي بأسمر حجبوه بمثله ... في لونه والقد والعسلان
    من رامه فليدرع صبراً على ... طرف السنان وطرفه الوسنان
    راح الصبا تثنيه لا ريح الصبا ... سكران بي من حبه سكران
    طرف كطرف جامح مرحمتى ... أرسلت فضل عنانه عناني وله أيضاً:
    أيا عالم الأسرار إنك عالم ... بضعف اصطباري عن مداراة خلقه
    ففتر غرامي فيه تفتير لحظه ... وأحسن عزائي فيه تحسين خلقه
    فحمل الرواسي دون ما أنا حامل ... بقلبي المعنى من تكاليف عشقه
    وكتب إلى الحكيم أبي القاسم الهوازي، وقد فصده فآلمه:
    رحم الإله مجدلين سليمهم ... من ساعديك مبضع بالمبضع
    فعصائب تأتيهم بمصائب ... نشرت فتطوي أذرعاً في الأذرع
    أفصدتهم بالله أم أقصدتهم ... وخزاً بأطراف الرماح الشرع
    دست المباضع أم كنانة أسهم ... أم ذو الفقار مع البطين الأنزع
    غرراً بنفسي إن لقيتك بعدها ... يا عنتر العبسي غير مدرع وكان الحكيم المذكور قد أضافه يوماً وزاد في خدمته، وكان في داره بستان وحمام فأدخله إليهما، فعمل أبو الفضل المذكور:
    وافيت منزله فلم أرحاجباً ... إلا تلقاني بسن ضاحك
    والبشر فيوجه الغلام أمارة ... لمقدمات حياء وجه المالك
    ودخلت جنته وزرت جحيمه ... فشكرت رضواناً ورأفة مالك ثم إني وجدت هذه الأبيات للحكيم أبي القاسم هبة الله بن الحسين بن علي الأهوازي الطبيب الأصبهاني، ذكرها العماد الكاتب في الخريدة له، وقال: توفي سنة نيف وخمسين وخمسمائة، وذكرها في ترجمة أبي الفضل ابن الخازن المذكور، والله أعلم لمن هي منهما.
    ومن شعره أيضاً -[أعني ابن الخازن]-:
    وأهيف ينميه إلى العرب لفظه ... وناظره الفتان يعزي إلى الهند
    تجرعت كأس الصبر من رقبائه ... لساعة وصل منه أحلى من الشهد
    وهادنت أعماماً له وخؤولةً ... سوى واحد منهم غيور على الخد
    كنقطة مسك أودعت جلنارة ... رأيت بها غرس البنفسج في الورد [وكان أبو بكر الخوارزمي يروي لمعاً من شعره كقوله في وصف العيار
    وذكر أنه لم يسمع في معناه أملح منه وهو:
    إن هذا العيار ألبس عطفي ... عسلياً وديني التوحيد] وله أيضاً:
    وافى خيالك فاستعارت مقلتي ... من أعين الرقباء غمض مروع
    ما استكملت شفتاي لثم مسلمٍ ... منه ولا كفاي ضم مودع
    وأظنهم فطنوا فكل قائل ... لو لم يزره خيالها لم يهجع
    فانصاع يسرق نفسه فكأنما ... طلع الصباح بها وإن لم يطلع وجل شعره مشتمل على معان حسان.
    وكانت وفاته في صفر سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وعمره سبع وأربعون سنة، وقال الحافظ ابن الخوري في كتابه المنتظم: توفي سنة اثنتيي عشرة وخمسمائة، والله أعلم، رحمه الله تعالى.
    وكان ولده أبو الفتح نصر الله المذكور حياً في سنة خمس وسبعين وخمسمائة ولم أقف على تاريخ وفاته.

الميداني

أبو الفضل أحمد بن محمد بن احمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري الأديب، كان فاضلاً عارفاً باللغة، اختص بصحبة أبي الحسن الواحدي صاحب التفسير، ثم قرأ على غيره، وأتقن فن العربية خصوصاً اللغة وأمثال العرب، وله فيها التصانيف المفيدة، منها كتاب الأمثال المنسوب إليه ولم يعمل مثله في بابه، وكتاب السامي في الأسامي وهو جيد في بابه، وكان قد سمع الحديث ورواه، وكان ينشد كثيراً وأظنهما له:
تنفس صبح الشيب في ليل عارضي ... فقلت عساه يكتفي بعذاري
فلما فشا عاتبته فأجابني ... ألا هل ترى صبحاً بغير نهار وتوفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثماني عشرة وخمسمائة بنيسابور، ودفن على باب ميدان زياد.
والميداني - بفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى ميدان زياد بن عبد الرحمن، وهي محلة في نيسابور.
وابنه أبو سعد سعيد بن أحمد كان أيضاً فاضلاً ديناً، وله كتاب الأسماء في الأسماء ، وتوفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.

ابن الخياط الدمشقي

    أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التغلبي المعروف بابن الخياط الشاعر الدمشقي الكاتب؛ كان من الشعراء المجيدين، طاف البلاد، وامتدح الناس، ودخل بلاد العجم وامتدح بها، ولما اجتمع بأبي الفتيان ابن حيوس الشاعر المشهور بحلب وعرض عليه شعره قال: قد نعاني هذا الشاب إلى نفسي، فقلما نشأ ذو صناعة ومهر فيها إلا وكان دليلاً على موت الشيخ منأ بناء جنسه، ودخل مرة إلى حلب وهو رقيق الحال لا يقدر على شيء، فكتب إلى ابن حيوس المذكور يستمنحه (2) شيئا من بره بهذين البيتين (3) :
    لم يبق عندي ما يباع بحبة ... وكفاك علما منظري عن مخبري
    إلا بقية ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وأين أين المشتري فلما وقف عليهما ابن حيوس قال: لو قال وأنت نعم المشتري لكان أحسن.
    ولا حاجة إلى ذكر شيء من شعره لشهرة ديوانه، ولو لم يكن له إلا 
    قصيدته البائية التي أولها (1) :
    خذا من صبا نجد أماناً لقلبه ... فقد كاد رياها يطير بلبه
     لكفاه، وأكثر قصائده غرر، وتتمة هذه القصيدة:
    وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هب كان الوجد أيسر خطبه
    خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه
    تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
    غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه
    وفي الركب مطوي الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبه
    إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمن منها داؤه دون صحبة
    ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من غراضه مثل حجبه
    أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذراً وخوفاً أن تكون لحبه وهي طويلة فنقتصر منها على هذا القدر.
    ومن شعره أيضا قوله (2) :
    سلوا سيف الحاظه الممتشق ... أعند القلوب دم للحق
    أما من معين ولا عاذر ... إذا عنف الشوق يوما رفق
    تجلى لنا صارم المقلتي ... ن مضنى (3) الموشح والمنتظق
    من الترك ما سهمه إذ رمى ... بأفتك من طرفه إذ رمق
    وليلة وافيته (4) زائراً ... سمير السهاد ضجيع القلق
    دعتني المخافة من فتكه ... إليه، وكم مقدم من فرق
    وقد راضت الكأس أخلاقه ... ووقر بالسكر منه النزق
    وحق العناق فقبلته ... شهي المقبل والمعتنق
    وبت أخالج فكري به ... أزور طراً أم خيال طرق
    أفكر في الهجر كيف انقضى ... وأعجب للوصل كيف اتفق
    وللحب ما عز مني وهان ... وللحسن ما جل منه ودق ويعجبني من شعره بيتان من جملة قصيدة، وهما في غاية الرقة (1) :
    وبالجزع حي كلما عن ذكرهم ... أمات الهوى مني فؤاداً وأحياه
    تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضا يا بعد ما أتمناه ومن شعره أيضاً يعتب على أهله وأصحابه (2) :
    يا من بمجتمع الشطين إن عصفت ... بكم رياحي فقد قدمت أعذاري
    لا تنكرن رحيلي عن دياركم ... ليس الكريم على ضيم بصبار وله أيضاً (3) :
    أتظنني لا أستط ... يع أحيل عنك الدهر ودي
    من ظن أن لا بد من ... هـ فإن منه ألف بد وكانت ولادته سنة خمسين وأربعمائة بدمشق، وتوفي بها في حاي عشر شهر رمضان سنة سبع عشرة وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وقيل: إنه مات في سابع عشر شهر رمضان، والأول أصح.

الأربعاء، 25 يناير 2017

ابن الأبار الخولاني

    أبو جعفر أحمد بن محمد الخولاني الأندلسي الإشبيلي المعروف بابن الأبار
    الشاعر المشهور؛ كان من شعراء المعتضد عباد بن محمد اللخمي صاحب إشبيلية، المجيدين في فنونه، وكان عالماً فجمع وصنف، وله في صناعة النظم فضل لايرد، وإحسان لايعد، فمن محاسن شعره قوله:
    لم تدر ما خلدت عيناك في خلدي ... من الغرام ولا ما كابدت كبدي
    أفديه من زائر رام الدنو فلم ... يسطعه من غرق في الدمع متقد
    خاف العيون فوافاني على عجل ... معطلا جيده إلا من الجيد
    عاطيته الكأس فاستحيت مدامتها ... من ذاك الشنب لعسول والبرد
    حتى إذا غازلت أجفانه سنة ... وصيرته بيد الصهباء طوع يدي
    أردت توسيده خدي وقل له ... فقال: كفك عندي أفضل الوسد
    فبات في حرم لا غدر يذعره ... وبت ظمآن لم أصدر ولم أرد
    بدر ألم وبدر التم ممتحق ... والأفق محلولك الأرجاء من حسد
    تحير الليل منه أين مطلعه ... أما درى الليل أن البدر في عضدي [وله أبيات ثابتة في المجموع الكبير بخطي في الكراس المنقول بالإسكندرية] (1) وله على هذا الأسلوب مقاطيع ملاح، وله ديوان شعر، وذكره ابن بسام في " الذخيرة ".
    وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.
    والأبار: بفتح الهمزة وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف راء.
    والخولاني - بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وبعد اللام ألف ونون - هذه النسبة إلى خولان بن عمرو، وهي قبيلة كبيرة نزلت الشام.
    والإشبيلي: نسبة إلى إشبيلية - بكسر الهمزة وسكون الشين المثلثة وكسر الباء الموحة وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر اللام وفتح الياء تحتها نقطتان وبعدها هاء - وهي من اعظم بلا الأندلس.

المنازي الكاتب

    أبو نصر احمد بن يوسف السليكي المنازي الكاتب؛ كان من أعيان الفضلاء وأماثل الشعراء، وزرلأ بي نصر أحمد بن مروان الكردي، صاحب ميافارقين وديار بكر - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -. وكان فاضلاً شاعراً كافياً، وترسل إلى القسطنطينية مراراً، وجمع كتباً كثيرة ثم وقفها على جامع ميافارقين وجامع آمد، وهي إلى الآن موجودة بخزائن الجامعين، ومعروفة بكتب المنازي. وكان قد اجتمع بأبي العلاء المعري بمعرة النعمان، فشكا أبو العلاء إليه حاله، وأنه منقطع عن الناس وهم يؤذنه، فقال: مالهم ولك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة فقال أبو العلاء: والآخرة أيضاً! وجعل يكررها، ويتألم لذلك، وأطرق فلم يكلمه إلى أن قام، وكان قد اجتاز في بعض أسفاره بوادي بزاعا فأعجبه حسنه وما هو عليه، فعمل فيه هذه الأبيات  :
    وقانا لفحه الرمضاء واد ... وقاه مضاعف النبت  العميم
    نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
    وأرشفنا على ظمإ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم
    يراعي الشمس أنى قابلته (1) ... فيحجبها ويأذن للنسيم
    تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم 
    وهذه الأبيات بديعة في بابها.
    وذكره أبو المعالي الحظيري في كتاب " زينة الدهر " (2) وأورد له شيئاً من شعره، فمما أورد له قوله:
    ولي غلام طال في دقة ... كحظ إقليدس (3) لا عرض له
    وقد تناهى عقله خفة (4) ... فصار كالنقطة لا جزء له ويوجد له بأيدي الناس مقاطيع. وأما ديوانه فعزيز الوجود، وبلغني أن القاضي الفاضل (5) - رحمه الله تعالى - أوصى بعض الأدباء السفارة أن يحصل له ديوانه، فسأل عنه في البلاد التي انتهى إيها فلم يقع له على خبر، فكتب إلى القاضي الفاضل كتاباً يخبره بعدم قدرته عليه، وفيه أبيات من جملتها عجز بيت وهو:
    وأقفرمن شعر المنازي المنازل ... وكانت وفاته سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.
    والمنازي - بفتح الميم والنون، وبعد اللف زاي - هذه النسبة إلى مناز جرد - بزيادة جيم مكسورة وبعدها راء ساكنة ثم دال مهملة - وهي مدينة عند خرت برت، وهي غير مناز كرد القلعة من أعمال خلاط - وسيأتي ذكرها في ترجمة تقي الدين عمر صاحب حماة -.وخرت برت: هي حصن زياد المشهور.
    وبزاعا - بضم الباء الموحدة وفتح الزاي وبعد الألف عين مهملة ثم ألف - وهي قرية كبيرة مابين حلب ومنبج في نصف الطريق.

ابن زيدون

    أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن احمد بن غالب بن زيدون المخزومي الندلسيالقرطبي الشاعر المشهور؛ قال ابن بسام صاحب الذخيرة في حقه: كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء بني مخزوم. أخذ من حر الأيام حراً (3) ، وفاق الأنام طراً، وصرف السلطان نفعاً وضراً، ووسع البيان نظماً ونثراً. إلى اديب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه. وحظ من النثر غريب المياني، شعري الألفاظ والمعاني. وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة، وبرع أدبه،وجاد شعره، وعلا شأنه، وانطلق لسانه. ثم انتقل عن قرطبة إلى المعتضد عباد صاحب إشبيلية في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، فجعله من خواصه: يجالسه في خلواته، ويركن إلى إشاراته. وكان معه في صورة وزير. وذكر له شيئاً كثيراً من الرسائل والنظم، فمن ذلك قوله:
    بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع
    يا بائعاً حظه مني، ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
    يكفيك أنك إن حملت قلبي ما ... لا تستطيع قلوب الناس يستطع
    ته أحتمل واستطل أصبر وعز أهن ... وول أقبل وقل أسمع ومر أطع ومن شعره أيضاً:
    ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سرع ما استودعك
    يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذ شيعك
    يا أخا البدر سناء وسناً ... حفظ الله زماناً أطلعك
    إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك وله القصائد الطنانة، ولولا خوف الإطالة لذكرت بعضها.
    ومن بديع قلائده قصيدته النونية التي منها:
    نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
    حالت لبعدكم (1) أيامنا فغدت ... سودا وكانت بكم بيضاً ليالينا
    بالأمس كناوما يخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا وهي طويلة، وكل أبياتها نخب، والتطويل يخرج بنا عن المقصود.
    وكانت وفاته في صدر رجب سنة ثلاث وستين وأربعمائة بمدينة إشبيلية، رحمه الله تعالى، ودفن بها.
     وذكر ابن بشكوال في كتاب " الصلة " (1) أباه وأثنى عليه، وقال: كان يكنى أبا بكر. وتوفي بالبيرة سنة خمس وأربعمائة، وسيق إلى قرطبة فدفن بها يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر من السنة. وكانت ولادته سنة أربع وخمسين وثلثمائة. وكان يخضب بالسواد، رحمه الله تعالى.
     وكان لأبي الوليد المذور ابن يقال له أبو بكر (2) ، وتولى وزارة المعتمد بن عباد، وقتل يوم أخذ يوسف بن تاشفين قرطبة من ابن عباد المذكور لما استولى على مملكته، كما سيشرح بعد هذا في ترجمة المعتمد وابن ناشفين إن شاء الله تعالى، وذلك يوم الأربعاء ثاني صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وكان قتله بقرطبة.
    وزيدون: بفتح الزاي وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الدال المهملة وعدها واو ونون.
    واما القرطبي فقد تقدم الكلام في ضبطه فلا حاجة إلى إعادته، وذلك في ترجمة أحمد بن عبد ربه، مصنف كتاب العقد، وأخذها الفرنج من المسلمين في شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.

ابن دراج القسطلي

    أبو عمر أحمد بن محمد بن العاصي بن أحمد بن سليمان بن عيسى بن دراج الأندلسي القسطلي الشاعر الكاتب؛ كان كاتب المنصور بن أبي عامر وشاعره، وهو معدود في تاريخ الأندلس من جملة الشعراء المجيدين والعلماء المتقدمين، ذكره أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر، وقال في حقه: كان بصقع الأندلس كالمتنبي بصقع الشام، وهو احد الشعراء الفحول، وكان يجيد ما ينظم ويقول، واورد له أشعاراً حسنةً، وذكره أبو الحسن ابن بسام في كتاب الذخيرة، وساق طرفاً من رسائله ونظمه، ونقلت من ديوانه - وهو جزءان - أن المنصور بن أبي عامر أمره أن يعارض قصيدة أبي نواس الحكمي التي مدح بها الخطيب بن عبد الحميد ) صاحب الخراج بمصر التي أولها:
    أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير فعارضها بقصيدة بليغة، من جملتها  :
    ألم تعلمي أن الثواء هو التوى ... وأن بيوت العاجزين قبور
    تخوفني طول السفار، وإنه ... لتقبيل كف العامري سفير
    دعيني أرد ماء المفاوز آجناً ... إلى حيث ماء المكرمات نمير
    فإن خطيرات المهالك ضمن ... لراكبها أن الجزاء خطير
     ومنها في وصف وداعه لزوجته وولده الصغير:
    ولما تدانت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنة وزفير
    تناشدني عهد المودة والهوى ... وفي المهد مبغوم النداء صغير
    عيي بمرجوع الخطاب ولحظه ... بموقع أهواء النفوس خبير
    تبوأ ممنوع القلوب ومهدت ... له أذرع محفوفة ونحور
    فكل مفداة الترائب مرضع ... وكل محياة المحاسن ظير
    عصيت شفيع النفس فيه وقادني ... رواح لتدآب السرى وبكور
    وطار جناح البين بي وهفت بها ... جوانح من ذعر الفراق تطير
    لئن ودعت مني غيوراً فإنني ... على عزمتي من شجوها لغيور
    ولو شاهدتني والهواجر تلتظي ... علي ورقراق السراب يمور
    أسلط حر الهاجرات إذا سطا ... على حر وجهي والأصيل هجير
    وأستنشق النكباء وهي لوافح ... وأستوطىء الرمضاء وهي تفور
    وللموت في عين الجبان تلون ... وللذعر في سمع الجريء صفير
    لبان لها أني من البين جازع ... وأني على مضى الخطوب صبور
    أمير على غول التنائف ماله ... إذا ريع إلا المشرفي وزير
    ولو بصرت بي والسرى جل عزمتي ... وجرسي لجنان الفلاة سمير
    وأعتسف الموماة في غسق الدجى ... وللأسد في غيل الغياض زئير
    وقد حومت زهر النجوم كأنها ... كواكب في خضر الحدائق حور
    ودارت نجوم القطب حتى كأنها ... كؤوس مها (1) والى بهن مدير
    وقد خيلت طرق المجرة انها ... على مفرق الليل البهيم قتير (2)
    وثاقب عزمي والظلام مروع ... وقد غضن أجفان النجوم فتور قد أيقنت أن المنى طوع همتي ... وأني بعطف العامري جدير وهي طويلة، وفي هذا القدر منها كفاية. وإذا قد ذكرت هذه القصيدة فينبغي أن أذكر شيئاً من قصيدة أبي نواس التي وازنها أبو عمر؛ وكان أبو نواس قد خرج من بغداد قاصداً مصر ليمدح أبا نصر الخطيب بن عبد الحميد صاحب ديوان الخراج بها، فأنشده هذه القصيدة، وذكر المنازل التي مر عليها في طريقه، وقد ذكرت منها بيتاً في ترجمة أبي إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزي، ولا حاجة إلى ذكر جميعها فإنها طويلة، ولكن أذكر الذي أختاره منها، فمن ذلك (1) :
    تقول التي من بيتها خفف محملي (2) ... عزيز علينا أن نراك تسير
    أما دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير
    فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى من جريهن غدير
    ذريني أكثر حاسديك برحلةٍ ... إلى بلدة فيها الخطيب أمير
    إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأي فتى بعد الخطيب تزور
    فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
    فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور ومنها أيضاً:
    فمن كان (3) أمسى جاهلاً بمقالتي ... فإن أمير المؤمنين خبير
    وما زلت توليه النصيحة يافعاً ... إلى أن بدا في العارضين قتير
    إذا هاله (4) أمر فإما كفيته ... وإما عليه بالكفي تشير ثم شرع من ههنا في ذكر المنازل، ثم قال في أواخرها:زها بالخصيب السيف والرمح في الوغى ... وفي السلم يزهو منبر وسرير
    جواد إذا الأيدي قبضن عن الندى ... ومن دون عورات النساء غيور
    فإني جدير إن بلغتك للغنى ... وأنت لما أملت منك جدير
    فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور ثم مدحه بعد هذه بعدة قصائد، ويقال إنه لما عاد إلى بغداد مدح الخليفة، فقيل له: وأي شيء تقول فينا بعد أن قلت في بعض نوابنا:
    إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... البيتان المذكوران؛ فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وأنشد يقول:
    إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
    وإن جرت الألفاظ منا بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
     ومن شعر أبي عمر المذكور من جملة أبيات (1) :
    إن كان واديك ممنوعاً فموعدنا ... وادي الكرى فلعلي فيه ألقاك
     وقد ألم في هذا البيت بقول الآخر:
    هل سبيل إلى لقائك بالجز ... ع فإن الحمى كثير الوشاة
     وكانت ولادته في المحرم سنة سبع وأربعين وثلثمائة ، وتوفي ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت (3) من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، رحمه الله تعالى. ودراج - بفتح الدال المهملة وفتح الراء المشددة وبعد اللف جيم - وهو اسم جده.
    والقسطلي - بفتح القاف وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وتشديد اللام - هذه النسبة إلى قسطلة (1) ، وهي مدينة بالأندلس يقال لها قسطلة دراج، ولا أعلم أهي منسوبة إلى جده دراج المذكور أم إلى غيره، والله سبحانه أعلم.

جحظة البرمكي

    أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك المعروف بجحظة البرمكي النديم؛ كان فاضلاً صاحب فنون وأخبار ونجوم ونوادر ومنادمة، وقد جمع أبو نصر ابن المرزبان أخباره وأشعاره، وكان من ظرفاء عصره، وهو من ذرية البرامكة، وله الأشعار الرائقة، فمن شعره قوله:
    أنا ابن أناس مول الناس جودهم ... فأضحوا حديثاً للنوال المشهر
    فلم يخل من إحسانهم لفظ مخبر ... ولم يخل من تقريظهم بطن دفتر وله أيضاً:
    فقلت لها بخلت علي يقظى ... فجودي في المنام لمستهام
    فقالت لي وصرت تنام أيضا ... وتطمع أن أزورك في المنام وله أيضاً:
    أصبحت بين معاشرٍ هجروا الندى ... وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم
    قوم أحاول نيلهم فكأنما ... حاولت نتف الشعر من آنافهم
    هات اسقنيها بالكبير وغنني ... ذهب الذين يعاش في أكنافهم وله أيضاً:
    يا أيها الركب الذي ... ن فراقهم إحدى البليه
    وصيكم الصب المقي ... م بقلبه خير الوصيه وله أيضاً:
    وقائلة لي كيف حالك بعدنا ... أفي ثوب مثرٍ أنت أم ثوب مقتر
    فقلت لها لا تسأليني فإنني ... أروح وأغدو في حرامٍ مقتر وله ديوان شعر أكثره جيد، وقضاياه مشهورة، ومن أبياته السائرة قوله:
    ورق الجو حتى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمان ولابن الرومي فيه، وكان مشوه الخلق:
    نبئت جحظة يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان
    وارحمتا لمنادميه تحملوا ... ألم العيون للذة الآذان وتوفي سنة ست وعشرين وثلثمائة، وقيل: سنة أربع وعشرين، بواسط، وقيل: حمل تابوته من واسط إلى بغداد، رحمه الله تعالى.
    وجحظة - بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الظاء المعجمة وبعدها هاء - وهو لقب عليه لقبه به عبد الله بن المعتز.
    قال الخطيب: وكانت ولادته في شعبان سنة أربع وعشرين ومائتين. وله ذكر في تاريخ بغداد، وفي كتاب " الأغاني ".

الثلاثاء، 24 يناير 2017

ابن طباطبا

    أبو القاسم أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم ابن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الشريف الحسني الرسي  المصري؛ كان نقيب الطالبين بمصر، وكان من أكابر رؤسائها، وله شعر مليح في الزهد والغزل وغير ذلك، وذكره أبو منصور الثعالبي في كتاب اليتيمة وذكر له مقاطيع، ومن جملة ما أورد له قوله:
    خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على ريب الزمان لواجد
    أيبقي جميعاً شملها وهي ستة ... وأفقد من أحببته وهو واحد

     وأورد له أيضاً، وذكرها في أوائل الكتاب لذي القرنين بن حمدان، قوله:
    قالت لطيف خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
    فقال أبصرته لو مات من ظمإ ... وقلت قف عن ورود الماء  لم يرد
    قالت صدقت الوفا في الحب  عادته ... يا برد ذلك الذي قالت على كبدي وله غير هذا أشياء حسنة.
    ومن شعره المنسوب إليه في طول الليل، وهو معنى غريب:
    كأن نجوم الليل سارت نهارها ... فوافت عشاء وهي أنضاء أسفار
    وقد خيمت كي يستريح ركابها ... فلا فلك جار ولا كوكب ساري ثم وجدت هذين البيتين في ديوان أبي الحسن ابن طباطبا من جملة قصيدة طويلة.
    ونقلت من ديوان أبي الحسن المذكور من جملة أبيات:
    بانوا وأبقوا في حشاي لبينهم ... وجداً إذا ظعن الخليط أقاما
    لله أيام السرور كأنما ... كانت لسرعة مرها أحلاما
    لو دام عيش رحمةً لأخي هوًى ... لأقام لي ذاك السرور وداما
    يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا ... عاماً ورد من الصبا أياما ولا أدري من هذا أبو الحسن، ولا وجه النسبة بينه وبين أبي القاسم المذكور، والله أعلم.
    وذكره الأمير المختار المعروف بالمسبحي في تاريخ مصر وقال: توفي في سنة خمس وأربعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى؛ وزاد غيره: ليلة الثلاثاء لخمس بقين من شعبان، ودفن في مقبرتهم خلف المصلى الجديد بمصر، وعمره أربع وستون سنة.
    وطباطبا - بفتح الطاءين المهملتين والباءين الموحدتين - وهو لقب جده إبراهيم، وإنما قيل له ذلك لأنه كان يلثغ فيجعل القاف طاء، وطلب يوماً ثيابه، فقال له غلامه: أجيء بدراعة فقال: لا، طباطبا، يرد قبا قبا،
    فبقي عليه لقباً، واشتهر به .
    والرسي: بفتح الراء والسين المشددة المهملة، قال ابن السمعاني: هذه نسبة إلى بطن من بطون السادة العلوية.

أبو الرقعمق

    أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاكي المنبور بأبي الرقعمق الشاعر المشهور؛ ذكره الثعالبي في اليتيمة فقال في حقه: هو نادرة الزمان، وجملة الإحسان، وممن تصرف بالشعر في أنواع الجد والهزل، وأحرز قصب الفضل، وهو أحد المداح المجيدين، والشعراء المحسنين، وهو بالشام كابن حجاج بالعراق.
    فمن غرر محاسنه قوله يمدح أبا الفرج يعقوب بن كلس وزير العزيز بن المعز العبيدي صاحب مصر، وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى:
    قد سمعنا مقاله واعتذاره ... وأقلناه ذنبه وعثاره
    والمعاني لمن عنيت ولكن ... بك عرضت فاسمعي يا جاره
    من تراديه أنه أبد الده ... ر تراه محللاً أزراره
    عالم أنه عذاب من الل ... هـ متاح لأعين النظاره
    هتك الله ستره فلكم هت ... ك من ذي تستر أستاره
    سحرتني ألحاظه وكذا ك ... ل مليح ألحاظه سحاره
    ما على مؤثر التباعد والإع ... راض لو آثر الرضى والزياره

    وعلى أنني وإن كان قد ع ... ذب بالهجر مؤثر إيثاره
    لم أزل لا عدمته من حبيب ... أشتهي قربه وآبى نفاره ومن مديحها:
    لم يدع لي العزيز في سائرالأر ... ض عدواً إلا وأخمد ناره
    كل يوم له على نوب الده ... ر وكر الخطوب بالبذل غاره
    ذو يد شأنها الفرار من البخ ... ل وفي حومة الندى كراره
    هي فلت عن العزيز عداه ... بالعطايا وكثرت أنصاره
    هكذا كل فاضل يده تم ... سي وتضحي نفاعة ضراره
    فاستجره فليس يأمن إلا ... من تفيا ظلاله واستجاره
    وإذا ما رأيته كطرقاً يع ... مل فيما يريده أفكاره
    لم يدع بالذكاء والذهن شيئاً ... في ضمير الغيوب إلا أثاره
    لا ولا موضعاً من الأرض إلا ... كان بالرأي مدركاً أقطاره
    زاده الله بسطة وكفاه ... خوفة من زمانه وحذاره وأكثر شعره جيد، وهو على أسلوب شعر صريع الدلاء القصار البصري.
    وأقام بمصر زماناً طويلاً، ومعظم شعره في ملوكها ورؤسائها، ومدح بها المعز أبا تميم معد بن المنصور بن القائم بن المهدي عبد الله، وولده العزيز، والحاكم بن العزيز، والقائد جوهراً، والوزير أبا الفرج ابن كلس، وغيرهم من أعيانها، وكل هؤلاء الممدوحين سيأتي ذكرهم في تراجمهم إن شاء الله تعالى.
    وذكره الأمير المختار المسبحي في تاريخ مصر وقال: توفي سنة تسع وتسعين وثلثمائة، وزاد غيره: في يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان، وقيل: في شهر ربيع الآخر، رحمه الله تعالى؛ وأظنه توفي بمصر.
    والأنطاكي - بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الطاء المهملة وبعد الألف كاف - هذه النسبة إلى أنطاكية وهي مدينة بالشام بالقرب من حلب.
    والرقعمق - بفتح الراء والقاف وسكون العين المهملة وفتح الميم وبعدها قاف - وهو لقب عليه.



النامي الشاعر

    أبو العباس أحمد بن محمد الدارمي المصيصي المعروف بالنامي الشاعر المشهور؛ كان من الشعراء المفلقين، ومن فحولة شعراء عصره، وخواص مداح سيف الدولة بن حمدان، وكان عنده تلو أبي الطيب المتنبي في المنزلة والرتبة، وكان فاضلاً أديباً بارعاً عارفاً باللغة والأدب، وله أمال أملاها بحلب روى فيها عن ابي الحسن علي بن سليمان الأخفش وابن در ستويه وأبي عبد الله الكرماني وأبي بكر الصولي وإبراهيم بن عبد الرحمن العروضي وأبيه محمد المصيصي، وروى عنه أبو القاسم الحسين بن علي بن أبي أسامة الحلبي وأخوه أبو الحسين أحمد وأبو الفرج الببغاء وأبو الخطاب ابن عون الحريري وأبو بكر الخالديوالقاضي أبو طاهر صالح بن جعفر الهاشمي.
    ومن محاسن شعره قوله فيه من جملة قصيدة :
    أمير العلا إن العوالي كواسب ... علاءك في الدنيا وفي جنة الخلد
    يمر عليك الحول، سيفك في الطلى ... وطرفك ما بين الشكيمة واللبد
    ويمضي عليك الدهر، فعلك للعلا ... وقولك للتقوى وكفك للرفد ومن شعره أيضاً:
    أحقاً أن قاتلتي زرود ... وأن عهودها تلك العهود
    وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد
    فشكت في عذالي فقالوا ... لرسم الدار أيكما العميد وله مع المتنبي وقائع ومعارضات في الأناشيد.
    وحكى أبو الخطاب ابن عون الحريري النحوي الشاعر أنه دخل على أبي العباس النامي قال: فوجدته جالساً ورأسه كالثغامة بياضاً وفيه شعرة واحد سوداء، فقلت له: ياسيدي في رأسك شعرة سوداء، فقال: نعم، هذه بقية شبابي وأنا أفرح بها ولي فيها شعر، فقلت: أنشدنيه، فأنشدني:
    رأيت في الرأس شعرة بقيت ... سوداء تهوى العيون رؤيتها
    فقلت للبيض إذ تروعها ... بالله ألا رحمت (2) غربتها (3)
    فقل لبث السوداء في وطن ... تكون فيه البيضاء ضرتها ثم قال: يا أبا الخطاب بيضاء واحدة تروع ألف سوداء، فكيف حال سوداء بين ألف بيضاء!
    ومن شعره - وينسب إلى الوزير أبي محمد المهلبي، وليس الأمر كذلك -:
    أتاني في قميص اللاذ يسعى ... عدو لي يلقب بالحبيب
    وقد عبث الشراب بمقلتيه ... فصير خده كسنا اللهيب
    فقلت له بما استحسنت هذا ... لقد أقبلت في زي عجيب
    أحمرة وجنتيك كستك هذا ... أم أنت صبغته بدم القالوب
    فقال الراح أهدت لي قميصاً ... كلون الشمس في شفق المغيب
    فثوبي والمدام ولون خدي ... قريب من قريب من قريب وتوفي سنة تسع وتسعين وثلثمائة  ، وقيل: سنة سبعين أو إحدى وسبعين، بحلب، وعمره تسعون سنة، رحمه الله تعالى.
    والدارمي - بفتح الدال المهملة وبعد اللف راء مكسورة ثم ميم - هذهالنسبة إلى دارم بن مالك، بطن كبير من تميم.
    والمصيصي - بكسر الميم والصاد المهملة المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها صاد ثانية مهملة - هذه النسبةإلى المصيصة، وهي مدينة على [ساحل] البحر الرومي تجاور طرطوس والسيس وتلك النواحي، بناها صالح بن علي عم أبي جعفر المنصور في سنة أربعين ومائة بأمر المنصور.

بديع الزمان الهمذاني


    أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمذاني، الحافظ المعروف ببديع الزمان؛ صاحب الرسائل الرائقة  ، والمقامات الفائقة، وعلى منواله نسج الحريري مقاماته واحتذى حذوه واقتفى أثره، واعترف في خطبته بفضله، وأنه الذي أرشده إلى سلوك ذلك المنهج، وهو أحد الفضلاء 
    الفصحاء، روى عن أبي الحسين احمد بن فارس صاحب " المجمل " في اللغة وعن غيره، وله الرسائل البديعة والنظم الميح، وسكن هراة من بلاد خراسان.
    فمن رسائله  : " الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه. وإذا سكن متنه، تحرك نتنه. وكذلك الضيف يسمج لقاؤه، إذا طال ثواؤه، ويثقل ظله، إذا انتهى محله. والسلام ".
    ومن رسائله  : " حضرته التي هي كعبة المحتاج، لاكعبة الحجاج. ومشعر الكرم، لا مشعر الحرم. ومنى الضيف، لا منى الخيف. وقبلة الصلات، لا قبلة الصلاة ".
    وله من تعزية  : الموت خطب قد عظم حتى هان، ومس قد خشن حتى لان. والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخف خطوبها، وجنت  حتى صار أصغر ذنوبها. فلتنظر (5) يمنة، هل ترى إلا محنة ثم انظر يسرة هل ترى إلا حسرة.
    ومن شعره من جملة قصيدة طويلة  :
    وكاد يحكيك صوب الغيث منسكباً ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
    والدهر لو لم يخن، والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا ومن شعره في ذم همذان، ثم وجدتهما لأبي العلاء محمد بن [علي بن] حسول الهمذاني:
    همذان لي بلد أقول بفضله ... لكنه من أقبح البلدان
    صبيانه في القبح مثل شيوخه ... وشيوخه في العقل  كالصبيان وله كل معنى مليح حسن من نظم ونثر.وكانت وفاته سنة ثمان وتسعين وثلثمائة مسموماً بمدينة هراة، رحمه الله تعالى.
    ثم وجدت في آخر رسائله التي جمعها الحاكم أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن دوست ما مثاله: هذا آخر الرسائل، وتوفي رحمة الله تعالى بهراة يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وثلثمائة؛ قال الحاكم المذكور: وسمعت الثقات يحكون أنه مات من السكنة وعجل دفنه، فأفاق في قبره وسمع صوته بالليل، وأنه نبش عنه فوجدوه قد قبض على لحيته ومات من هول القبر

ابو الطيب المتنبي

    أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور، وقيل: هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار، والله أعلم.
    هو من أهل الكوفة، وقدم الشام في صباه وجال في أقطاره، واشتغل بفنون الأدب ومهر فيها، وكان من الكثيرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها، ولا يسأل عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر، حتى قيل: إن الشيخ أبا علي الفارسي، صاحب الإيضاح والتكملة، قال له يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعلي: فطالعت كتب اللغة ثلاث 
    ليال علي أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً، فلم أجد. وحسبك من يقول في حقه أبو علي هذه المقالة. وحجلى: جمع حجل، وهو: الطائر الذي يسمى القبج.
    والظربي: جمع ظربان - على مثال قطران - وهي دويبة منتنة الرائحة.
    وأما شعره فهو في النهاية، ولا حاجة إلى ذكر شيء منه لشهرته، لكن الشيخ تاج الدين الكندي رحمه الله كان يروي له بيتين لا يوجدان في ديوانه وكانت روايته لهما بالإسناد الصحيح المتصل به، فأحببت ذكرهما لغرابتهما، وهما:
    أبعين مفتقر إليك نظرتني ... فأهنتني وقد فتني من حالق
    لست الملوم أنا الملوم لأنني ... أنزلت آمالي بغير الخالق

    ولما كان بمصر مرض، وكان له صديق يغشاه في علته، فلما أبل أنقطع عنه، فكتب إليه: وصلتني وصلك الله معتلاً، وقطعتني مبلاً، فإن رأيت أن لا تحبب العلة إلي، ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله تعالى.
    والناس في شعره على طبقات: فمنهم من يرجحه على أبي تمام ومن بعده، ومنهم من يرجح أبا تمام عليه، وقال أبو العباس أحمد بن محمد النامي الشاعر الآتي ذكره عقيب هذا: كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي، وكنت أشتهي أن أكون قد سبقته إلى معنيين قالهما ماسبق إليهما، أحدهما قوله:
    رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
    فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال 

    والآخر قوله:
    في جحفل ستر العيون غباره ... فكأنما يبصرن بالآذان واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه، وقال لي أحد المشايخ الذين أخذت عنهم: وقفت له على أكثر من أربعين شرحاً ما بين مطولات ومختصرات، ولم يفعل هذا بديوان غيره، ولاشك أنه كان رجلاً مسعوداً، ورزق في شعره السعادة التامة. 
    وإنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيدية فأسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلاً ثم استتابه وأطلقه، وقيل غير ذلك، وهذا أصح، وقيل: إنه قال: أنا أول من تنبأ بالشعر.
    ثم التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان في سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلثمائة، ومدح كافوراً الإخشيدي وأنوجور ابن الإخشيد، وكان يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسط سيف ومنطقة ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق، ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلثمائة، ووجه كافور خلفه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق، وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاليه في شعره وسموه بنفسه خافه، وعوتب فيه فقال: يا قوم، من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أما يدعي المملكة مع كافور فحسبكم.
    قال أبو الفتح ابن جني النحوي: كنت قرأت ديوان أبي الطيب المتنبي عليه، فقرأت عليه قوله في كافور القصيدة التي أولها:
    أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب 

    ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... ولا اشتكي فيها ولا أتعتب
    وبي ما يذود الشعر عني أقله ... ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب فقلت له: يعز علي، كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة فقال: حذرناه وأنذرناه فما نفع، ألست القائل فيه:
    أخا الجود، أعط الناس ما أنت مالك ... ولا تعطين الناس ما أنا قائل فهو الذي أعطاني كافوراً بسوء تدبيره وقلة تمييزه.
    وكان لسيف الدولة مجلس يحضره العلماء كل ليلة فيتكلمون بحضرته، فوقع  
    بين المتنبي وبين ابن خالويه النحوي كلام، فوثب ابن خالويه على المتنبي فضرب وجهه بمفتاح كان معه، فشجه وخرج ودمه يسيل على ثيابه، فغضب وخر إلى مصر وامتدح كافوراً.
    ثم رحل عنه وقصد بلاد فارس، ومدح عضد الدولة بن بويه الديلمي، فأجزل جائزته، ولما رجع من عنده قاصداً إلى بغداد ثم إلى الكوفة في شعبان لثمان خلون منه عرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي في عدة من أصحابه، وكان مع المتنبي أيضاً جماعة من أصحابه، فقاتلوهم، فقتل المتنبي وابنه مُحسد وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية، في موضع يقال له الصافية، وقيل حيال الصافية، من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهما مسافة ميلين.
    وذكر ابن رشيق في كتاب " العمدة "  في باب منافع الشعر ومضاره أن أبا الطيب لما فر حين رأى الغلبة قال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبدا وأنت القائل:
    فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم
    فكر راجعاً حتى قتل، وكان سبب قتله هذا البيت، وذلك يوم الأربعاء ليست بقين - وقيل: لثلاث بقين، وقيل: لليلتين بقيتا - من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وقيل: إن قتله كان يوم الاثنين لثمان بقين من شهر رمضان، وقيل: لخمس بقين من شهر رمضان من السنة المذكورة.
    ومولده في سنة ثلاث وثلثمائة بالكوفة في محلة تسمى كندة فنسب إليها، وليس هو من كندة التي هي قبيلة، بل هو جعفي القبيلة - بضم الجيم وسكون العين المهملة وبعدها فاء - وهو جعفي بن سعد العشيرة بن مذحج، واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وإنما قيل له سعد العشيرة لأنه كان يركب - فيما قيل - في ثلثمائة من ولده وولد ولده، فإذا قيل له: من هؤلاء قال: عشيرتي، مخافة العين عليهم.
    ويقال: إن أبا المتنبي كان سقاء بالكوفة، ثم انتقل إلى الشام بولده، ونشأ ولده بالشام، وإلى هذا أشار بعض الشعراء في هجو المتنبي حيث قال:
    أي فضل لشاعر يطلب الفض ... ل من الناس بكرة وعشيا
    عاش حيناً يبيع في الكوفة الما ... ء، وحيناً يبيع ماء المحيا وسيأتي في حرف الحاء نظير هذا المعنى لابن المعذل في أبي تمام حبيب بن أوس الشاعر المشهور.
    ولما قتل المتنبي رثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بقوله:
    لا رعى الله سرب هذا الزمان ... إذ دهانا في مثل ذاك اللسان
    ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزمان
    كان من نفسه الكبيرة في جي ... ش وفي كبرياء ذي سلطان
    هو في شعره نبي، ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني والطبسي - بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وبعدها سبن مهملة - هذه النسبة إلى مدينة في البرية بين نيسابور وإصبهان وكرمان يقال لها طبس.
    ويحكى أن المعتمد بن عباد اللخمي صاحب قرطبة وإشبيلية أنشد يوماً في مجلسه بيت المتنبي، وهو من جملة قصيدته المشهورة  :
    إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أثاب بها معيي المطي
    ورازمه وجعل يردده استحساناً له، وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الأندلسي، فأنشد ارتجالاً:
    لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما ... تجيد العطايا واللها تفتح اللها
    تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك تروي شعره لتألها وذكر الإفليلي أن المتنبي أنشد سيف الدولة بن حمدان في الميدان قصيدته التي أولها:
    لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
     فلما عاد سيف الدولة إلى داره استعاده إياها، فأنشدها قاعداً، فقال بعض الحاضرين - يريد أن يكيد أبا الطيب - لو أنشدها قائماً لأسمع، فإن أكثر الناس لا يسمعون، فقال أبو الطيب: أما سمعت أولها:
    لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وهذا من مستحسن الأجوبة، وبالجملة فسمو نفسه وعلو همته وأخباره وما جرياته كثيرة، والاختصار أولى.
    واسم ولده محسد: بضم الميم وفتح الحاء المهملة والسين المهملة المشددة وبعدها دال مهملة.

الاثنين، 23 يناير 2017

ابن فارس

    أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكرياء بن محمد بن حبيب الرازي اللغوي؛ كان إماماً في علوم شتى، وخصوصاً اللغة فإنه أتقنها، وألف كتابه المجمل في اللغة، وهو على اختصاره جمع شيئاً كثيراً، وله كتاب حلية الفقهاء، وله رسائل أنيقة، ومسائل في اللغة، ويعايي بها الفقهاء، ومنه اقتبس الحريري صاحب المقامات الآتي ذكره إن شاء الله تعالى ذلك الأسلوب، ووضع المسائل الفقهية في المقامة الطيبة، وهي مائة مسألة. وكان مقيماً بهمذان، 
    وعلي اشتغل بديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وله أشعار جيدة، فمنها  قوله:
    مرت بنا هيفاء مجدولة  ... تركية تنمى لتركي
    ترنو بطرف فاتر فاتنٍ ... أضعف من حجة نحوي 

    وله أيضاً:
    اسمع مقالة ناصح ... جمع النصيحة والمقه
    إياك واحذر أن تبي ... ت من الثقات على ثقه

     وله أيضاً:
    إذا كنت في حاجة مرسلاً ... وأنت بها كلف مغرم
    فأرسل حكيماً ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم وله أيضاً:
    سقى همذان الغيث، لست بقائل ... سوى ذا، وفي الأحشاء نار تضرم
    وما لي لا أصفي الدعاء لبلدة ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلم
    نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدين وما في جوف بيتي درهم 
    وله أشعار كثيرة حسنة.
    توفي سنة تسعين وثلثمائة - رحمه الله تعالى - بالري، ودفن مقابل مشهد القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني. وقيل: إنه توفي في صفر سنة خمس وسبعين وثلثمائة بالمحمدية، والأول أشهر.
    والرازي - بفتح الراء المهملة وبعد الألف زاي - هذه نسبة إلى الري، 
    وهي من مشاهير بلاد الديلم، والزاي زائدة فيها كما زادوها في المروزي عند النسبة إلى مرو الشاهجان.
    ومن شعره أيضاً:
    وقالوا كيف حالك قلت خير ... تقضى حاجة وتفوت حاج
    إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج
    نديمي هرتي، وأنيس نفسي ... دفاتر لي، ومعشوقي السراج 

ابن شهيد

    أبو عامر أحمد بن أبي مروان عبد الملك بن مروان بن ذي الوزارتين الأعلى أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن عيسى بن شهيد الأشجعي الأندلسي القرطبي؛ هو من ولد الوضاح بن رزاح الذي كان مع الضحاك بن قيس الفهري يوم مرج راهط، ذكره ابن بسام في كتاب الذخيرة، وبالغ في الثناء عليه، وأورد له طرفاً وافراً من الرسائل والنظم والوقائع. وكان من أعلم أهل الأندلس (2) ، متفنناً بارعاً في فنونه، وبينه وبين ابن حزم الظاهري مكاتبات وماعبات، وله التصانيف الغربية البديعة، منها كتاب كشف الدك وإيضاح الشك، ومنها التوابع والزوابع، ومنها حانوت عطار، وغير ذلك. وكان فيهفضائل كرم مفرط، وله في ذلك حكايات ونوادر ومن محاسن شعره من جملة قصيدة (1) :
    وتدري سباع الطير أن كماته ... إذا لقيت صيد الكماة سباع
    تطير جياعاً فوقه وتردها ... ظباه إلى الأوكار وهي شباع وإن كان هذا معنى مطروقاً، وقد سبقه إليه جماعة من الشعراء في الجاهلية والإسلام، لكنه أحسن في سبكه وتلطف في أخذه.
    ومن رقيق شعره وظريفه قوله (2) :
    ولما تملأ من سكره ... ونام ونامت عيون العسس (3)
    دنوت إليه على بعده ... دنو رفق درى ما التمس
    أدب إليه دبيب الكرى ... واسمو إليه سمو النفس
    وبت به ليلتي ناعماً ... إلى أن تبسم ثغر الغلس
    أقبل منه بياض الطلى ... وأرشف منه سواد اللعس وما ألطف قول أبي منصور علي بن الحسن المعروف بصردر في هذا المعنى، وهو قوله :
    وحي طرقناه على غير موعد (5) ... فما إن وجدنا عند نارهم هدى
    وما غفلت أحراسهم غير أننا ... سقطنا عليهم مثلما يسقط (6) الندى وقد استعمل هذا المعنى جماعة من الشعراء، والأصل فيه قول امرىء القيس سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال ومعظم شعره فائق.
    وكانت ولادته سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، وتوفي ضحى نهارالجمعة سلخ جمادى الأولى سنة ست وعشرين وأربعمائة، بقرطبة. ودفن ثاني يوم في مقبرة أم سلمة، رحمه الله تعالى.
    وأبوه عبد الملك مذكور في كتاب الصلة  .
    وشهيد: بضم الشين المثلثة وفتح الهاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة.
    والأشجعي - بفتح الهمزة وسكون الشين المثلثة وفتح الجيم وبعدها عين مهملة - هذه النسبة إلى أشجع بن ريث بن غطفان، وهي قبيلة كبيرة.

أبو العلاء المعري

     أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن أنوربن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي بن غطفان بن عمر بن بريح بن جديمة بن تيم الله ابن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قصناعة التنوخي المعري للغوي الشاعر؛ كان متضلعاً من فنون الأدب، قرأ النحو واللغة على أبيه بالمعرة، وعلى محمد بن عبد الله بن سعد النحوي بحلب، وله التصانيف الكثيرة المشهورة والرسائل المأثورة، وله من النظم لزوم ما لا يلزم وهو كبير يقع في خمسة أجزاء أو ما يقاربها، وله سقط الزند أيضاً، وشرحه بنفسه، وسماه ضوء السقط، وبلغني أن له كتباً سماه الأيك والغصون وهو المعروف بالهمزة والردف يقارب المائة جزء في الأدب أيضاً، وحكى لي من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف وقال: لا أعلم ما كان يعوزه بعد هذا المجلد. وكان علامة عصره.
    وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، والخطيب أبو زكريا التبريزي وغيرهما.
    وكانت ولادته يوم الجمعة عند مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلثمائة بالمعرة، وعمي من الجدري أول سنة سبع وستين، غشى يمنى عينيه بياض وذهبت اليسرى جملة، قال الحافظ السلفي: أخبرني أبو محمد عبد الله (2) بن الوليد بن غريب الإيادي أنه دخل مع عمه على أبي 
    العلاء يزوره، فرآه قاعداً على سجادة لبد وهو شيخ، قال: فدعا لي ومسح على رأسي وكنت صبيا، قال: وكأني أنظر إليه الساعة وإلى عينيه إحداهما نادرة (1) والأخرى غائرة جدا، وهو مجدر الوجه، نحيف الجسم.
    ولما فرغ من تصنيف كتاب اللامع العزيزي في شرح شعر المتنبي وقرىء عليه أخذ الجماعة في وصفه فقال أبو العلاء: كأنما نظر المتنبي إلي بلحظ الغيب حيث يقول:
    أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم واختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه ذكرى حبيب وديوان البحتري وسماه عبث الوليد وديوان المتنبي وسماه معجز أحمد وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم، وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم، والتوجيه في أماكن لخطئهم.
    ودخل بغداد سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، ودخلها ثانية سنة تسع وتسعين، وأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى المعرة ولزم منزله، وشرع في التصنيف وأخذ عنه الناس، وسار إليه الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار، وسمى نفسه رهين المحبسين للزومه منزله ولذهاب عينيه، ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تديناً لأنه كان يرى رأي الحكماء المتقدمين وهم لا يأكلونه كي لا يذبحوا الحيوان ففيه تعذيب له وهم لا يرون الإيلام في جميع الحيوانات.
    وعمل الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ومن شعره في اللزوم قوله:
    لا تطلبن بآلةٍ لك رتبهً ... قلم البليغ بغير جد مغزل
    سكن السماكان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل وتوفي يوم الجمعة ثالث - وقيل: ثاني - شهر ربيع الأول، وقيل: ثالث عشره، سنة تسع وأربعين واربعمائة بالمعرة، وبلغني أنه أوصى أن يكتب على قبره هذا البيت:
    هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد وهو أيضا متعلق باعتقاد الحكماء، فانهم يقولون: إيجاد الولد وإخراجه إلى هذا العالم جناية عليه، لأنه يتعرض للحوادث والآفات.
    وكان مرضه ثلاثة أيام، ومات في اليوم الرابع، ولم يكن عنده غير بني عمه فقال لهم في اليوم الثالث (1) : اكتبوا عني، فتناولوا الدوي والأقلام، فأملى عليهم غير الصواب، فقال القاضي أبو محمد عبد الله التنوخي: أحسن الله عزاءكم في الشيخ فإنه ميت؛ فمات ثاني يوم. ولما توفي رثاه تلميذه أبو الحسن علي بن همام بقوله:
    إن كنت لم ترق الدماء زهادة ... فلقد أرقت اليوم من جفني دماً
    سيرت ذكرك في البلاد كأنه ... مسك فسامعة يضمخ أو فما
    وأرى الحجيج إذا أرادوا ليلة ... ذكراك أخرج فدية من أحرما وقد أشار في البيت الأول إلى ما كان يعتقده ويتدين به من عدم الذبح كما تقدم ذكره.
    وقبره في ساحة من دوار أهله، وعلى الساحة باب [صغير قديم] (2) ، وهو على غاية ما يكون من الإهمال وترك القيام بمصالحه، وأهله لايحتفلون به.
    والتنوخي - بفتح التاء المثناة من فوقها وضم النون المخففة وبعد الواو خاء معجمة - وهذه النسبة إلى تنوخ، وهواسم لعدة قبائل اجتمعوا قديماً بالبحرين، وتحالفوا على التناصر، وأقاموا هناك فسموا تنوخاً. والتنوخ: الإقامة، وهذه القبيلة إحدى القبائل الثلاث التي هي نصارى العرب، وهم: بهراء، وتنوخ، وتغلب.
    والمعري - بفتح الخميم والعين المهملة وتشديد الراء - وهذه النسبة إلى معرة النعمان، وهي: بلدة صغيرة بالشام بالقرب من حماة وشيزر، وهي منسوبة إلى النعمان بن بشير الأنصاري، رضي الله تعالى عنه، فإنه تديرها، فنسبت إليه، وأخذها الفرنج من المسلمين في محرم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ولم تزل بأيدي الفرنج من يومئذ إلى أن فتحها عماد الدين زنكي بن آق سنقر الآتي ذكره إن شاء الله تعالى سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ومن على أهلها بأملاكهم.