الثلاثاء، 31 يناير 2017

عماد الدين ابن المشطوب

    أبو العباس أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمدبن أبي الهيجاء ابن عبد الله بن أبي الخليل  ابن مرزبان  الهكاري المعروف بابن المشطوب الملقب عماد الدين، والمشطوب لقب والده، وإنما قيل له ذلك لشطبة كانت بوجهه؛ كان أميراً كبيراً وافر الحرمة عند الملوك، معدوداً بينهم مثل واحد منهم، وكان عالي الهمة غزيرة الجود واسع الكرم شجاعاً أبي النفس تهابه الملوك وله وقائع مشهورة في الخروج عليهم، ولا حاجة إلى ذكرها.
    وكان من أمراء الدولة الصلاحية، فإن والده لما توفي وكانت نابلس إقطاعاً له أرصد منها السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى الثلث لمصالح بيت المقدس وأقطع ولده عماد الدين المذكور باقيها. وجده أبو الهيجاء كان صاحب العمادية وعدة قلاع من بلاد الهكارية.
    ولم يزل قائم الجاه والحرمة إلى أن صدر منه في سنة دمياط ما قد شهر، وقد شرحت ذلك في ترجمة الملك الكامل، فانفصل عن الديار المصرية، وآلت حاله إلى أن حوصر في شهر بيع الآخر بتل يعفور القلعة التي بين الموصل وسنجار، والقصة مشهورة، فراسله الأمير بدر الدين لؤلؤ أتابك صاحب الموصل ولم يزل يخدعه ويطمنه إلى أن أدعن للانقياد، وحلف له على ذلك، فانتقل إلى الموصل، وأقام  بها قليلاً، ثم قبض عليه، وذلك في سنة سبع عشرة وستمائة وأرسله إلى الملك الأشرف مظفر الدين ابن الملك العادل. وإنما قبض عليه تقريباً إلى قلبه، فإن خروجه في هذه الدفعة كان عليه، فاعتقله الملك الأشرف في قلعة حران، وضيق عليه تضييقا شديدا، من الحديد الثقيل في رجليه والخشب في يديه، وحصل في رأسه ولحيته وثيابه من القمل شيء كثير على ماقيل، وكنت أسمع بذلك في وقته وأنا صغير، وبلغني أن بعض من كان متعلقاً بخدمته كتب في ذلك الوقت إلى الملك الأشرف دوبيت في معناه وهو:
    يا من بدوام سعده دار فلك ... ما أنت من الملوك بل أنت ملك
    مملوكك ابن المشطوب في السجن هلك ... أطلقه فإن الأمر لله ولك ومكث على تلك الحال إلى أن توفي  في الاعتقال في شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة، وبنت له ابنته قبة على باب مدينة رأس عين، ونقلته من حران إليها ودفنته بها، رحمه الله تعالى؛ ورأيت قبره هناك.
    ولما كان في السجن كتب إليه بعض الأدباء دوبيت، وهو: 
    يا أحمد مازلت عماداً للدين ... يا أشجع من أمسك رمحاً بيمين
    لا تأس  إذا حصلت في سجنهم ... ها يوسف قد أقام في السجن سنين وهذا مأخوذ من قول البحتري من جملة أبيات  :
    أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والإفك
    أقام جميل الصبر في السجن برهة (4) ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
    وكانت ولادة الأمير عماد الدين في سنة خمس وسبعين وخمسمائة) تقديراً.
    ورأيت في بعض رسائل القاضي الفاضل أن الأمير سيف الدين أبا الحسن علي ابن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب كتب إلى الملك الناصر صلاح الدين يخبره بولادة ولده عماد الدين أبي العباس أحمد، وأن عنده امرأة أخرى حاملاً، فكتب القاضي الفاضل جوابه " وصل كتاب الأمير دالاً على الخبر بالولدين، الحال على التوفيق، والسائر كتب الله سلامته في الطريق، فسررنا بالغرة الطالعة من لثامها، وتوقعنا المسرة بالثمرة الباقية في أكمامها.
    (8) وأما والده سيف الدين المشطوب فإن السلطان صلاح الدين كان قد رتبه في عكا لما خاف عليها من الفرنج، هو بهاء الدين قراقوش - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - ولم يزل بها حتى حاصرها الفرنج بها وأخذوها. ولما خلص منها وصل إلى السلطان وهو بالقدس، يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قال ابن شداد (6) : دخل على السلطان بغته، وعنده أخوه الملك العادل، فنهض إليه واعتنقه، وسر به سروراً عظيماً، وأخلى المكان وتحث معه طويلاً. 
    وكانت وفاة سيف الدين يوم الخميس السادس والعشرين من شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بنابلس، رحمه الله تعالى؛ هكذا ذكره العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب البرق الشامي. وقال بهاء الدين بن شداد في كتابه سيرة صلاح الدين إنه نزفي يوم الأحد الثالث والعشرين من شوال من السنة المذكورة بالقدس الشريف، ودفن في داره بعد أن صلي عليه بالمسجد الأقصى.
    ولم يكن في أمراء الدولة الصلاحية أحد يضاهيه ولا يدانيه في المنزلة وعلو المرتبة، وكانوا يسمونه الأمير الكبير، وكان ذلك علماً عليه عندهم لا يشاركه فيه غيره، ورأيت بخط القاضي الفاضل " ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين المشطوب، أمير الأكراد وكبيرهم. وكانت وفاته يوم الأحد الثاني والعشرين من شوال من السنة المذكورة بالقدس، وخبزه يوم وفاته بنابلس وغيرها ثلثمائة ألف دينار، وكان بين خلاصه من أسره وحضور أجله دون مائة يوم. فسبحان الحي الذي لا يموت، وتهدم به بنيان قوم، والدهر قاض ما عليه لوم ".
    قلت: وقوله " وتهدم به بنيان قوم " هذا الكلام حل فيه بيت الحماسة وهو  :
    فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما وهذا البيت من جملة مرثية عبدة بن الطبيب التي رثى بها قيس بن عاصم التميمي الذي قدم من البادية على النبي صلى الله عليه وسلم في وقد بني تميم في سنة تسع للهجرة، وأسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: هذا سيد أهل الوبر، وكان عاقلاً مشهوراً بالحلم والسودد، وهذا البيت لأهل العربية في إعرابه كلام ليس هذا موضع ذكره، وقد ذكره أبو تمام الطائي في باب المراثي من جملة ثلاثة أبيات، وهي:
    عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
    تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زار عن شحط بلادك سلما
    فما كان قيس هُلكُه هلك واحد ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما وهذا قيس أول من وأد البنات في الجاهلية للغيرة والأنفة من النكاح، وتبعه الناس في ذلك إلى أن أبطله الإسلام.
    وأما الأمير بدر الدين لؤلؤ المذكور، فإنه توفي يوم الجمعة ثالث شعبان سنة سبع وخمسين وستمائة بقلعة الموصل، ودفن بها في مشهد هناك، وعمره مقدار ثمانين سنة، رحمه الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق