الاثنين، 3 ديسمبر 2018

رضي الدين النيسابوري

أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي الأصل النيسابوري الدار المجدث الملقب رضي الدين؛ كان أعلى المتأخرين إسناداً، لقي جماعة من الأعيان وأخذ عنهم، وسمع صحيح مسلم من الفقيه أبي عبد الله محمد بن الفضل الفراوي - المقدم ذكره - وهو آخر من بقي من أصحابه، وسمع صحيح البخاري من أبي بكر وجيه بن طاهر بن محمد الشحامي وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه ابن أحمد الشاذياخي، وسمع المؤطأ رواية أبي مصعب إلا ما استثني منه من أبي محمد هبة الله بن سهل بن عمر (2) البسطامي المعروف بالسندي (3) ، وسمع " تفسير القرآن الكريم " تصنيف أبي إسحاق الثعلبي من أبي العباس محمد الطوسي المعروف بعباسة، وسمع أيضاً من جماعة من سيوخ نيسابور منهم الفقيه أبو محمد عبد الجبار ابن محمد الخواري وأم الخير فاطمة بنت أبي الحسن علي بن المظفر بن زعبل ، وحدث بالكثير، ورحل إليه من القطار، ولنا منه إجازة كتبها من خراسان باستدعاء الوالد رحمه الله تعالى في جمادى الآخرة سنةعشروستمائة، وإنماذكرته لشهرته تفرده في آخر عصره؛ وكانت ولادته سنة أربع وعشر وخمسمائة، ظنا. وتوفي ليلة العشرين من شوال سبع عشرة وستمائة بنيسابور، ودفن من الغد، رحمه الله تعالى.
ثم بعد إثبات هذه الترجمة على هذه الصورة بسنين رأيت بخط الشيخ المؤيد المذكور في إجازة، وقد رفع نسبه فقال: كتبه المؤيد بن محمد بن علي بن الحسن ابن محمد بن أبي صالح الطوسي.

أبو منصور الجواليقي

أبو منصور موهوب بن أبي طاهر أحمد بن محمد بن الخضر، الجواليقي البغدادي الأديب اللغوي؛ كان إماماً في فنون الأدب، وهو من مفاخر بغداد قرأ الأدب على الخطيب أبي زكريا التبريزي - الآتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - ولازمه وتتلمذ له حتى برع في فنه.
وهو متدين ثقة غزير الفضل وافر العقل مليح الخط كثير الضبط، صنف التصانيف المفيدة وانتشرت عنه، مثل شرح أدب الكاتب والمعرب ولم يعمل في جنسه أكبر منه وتتمة درة الغواص تأليف الحريري صاحب المقامات سماه التكملة فيما يلحن فيه العامة إلى غير ذلك، وكان يختار في بعض مسائل النحو مذاهب غريبة. وكان في اللغة أمثل منه في النحو، وخطه مرغوب فيه، يتنافس الناس في تحصيله والمغالاة فيه (2) .
وكان إماماً للإمام المقتفي بالله يصلي به الصلوات الخمس، وألف له كتاباً لطيفاً في علم العروض، وجرت له مع الطبيب هبة الله بن صاعد المعروف بابن التلميذ النصراني - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - واقعة عنده، وهي أنه لما حضر إليه للصلاة به ودخل عليه أول دخلة فما زاده على أن قال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله تعالى، فقال ابن التلميذ، وكان حاضراً قائماً بين يدي المقتفي، وله إدلال الخدمة والصحبة، ما هكذا يسلم (3) على أمير المؤمنين يا شيخ فلم يلتفت ابن الجواليقي إليه، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى له خبراً في صورة السلام ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانباً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المرضي لما لزمته كفارة الحنث لأن الله تالى ختم على قلوبهم، ولن يفك ختم الله إلا الإيمان، فقال له: صدقت وأحسنت فيما فعلت، وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه.
وسمع ابن الجواليقي من شيوخ زمانه وأكثر، أخذ الناس عنه علماً جماً، وينسب إليه من الشعر شيء قليل، فمن ذلك ما رأيته منسوباً إليه في بعض المجاميع ولم أتحققه له، وهو:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت خلف الورد وقفة حائم
حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم ثم وجدت هذين البيتين لابن الخشاب من جملة أبيات.
وحكى ولده أبو محمد إسماعيل، وكان أنجب أولاده، قال: كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر، والناس يقرؤون عليه، فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي، قد سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهما، وأريد أن تسمعهما مني وتعرفني مهناهما، فقال: قل، فأنشده:
وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجره النار يصليني به النارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني، وبالجوزاء إن زارا قال إسماعيل: فلما سمعهما والدي قال: يا بني، هذا شيء من معرفة علم النجوم وتسييرها لا من صنعة أهل الأدب، فانصرف الشاب من غير حصول فائدة، واستحيا والدي من أن يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، وقام، وآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر، فنظر في ذلك وحصل معرفته، ثم جلس.
ومعنى البيت المسئول عنه أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في غاية الطول، لأنه يكون آخر فصل الخريف، وإذا كانت في آخر الجوزاء يا شيخ فلم يلتفت ابن الجواليقي إليه، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى له خبراً في صورة السلام ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانباً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المرضي لما لزمته كفارة الحنث لأن الله تالى ختم على قلوبهم، ولن يفك ختم الله إلا الإيمان، فقال له: صدقت وأحسنت فيما فعلت، وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه.
وسمع ابن الجواليقي من شيوخ زمانه وأكثر، أخذ الناس عنه علماً جماً، وينسب إليه من الشعر شيء قليل، فمن ذلك ما رأيته منسوباً إليه في بعض المجاميع ولم أتحققه له، وهو:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت خلف الورد وقفة حائم
حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم ثم وجدت هذين البيتين لابن الخشاب من جملة أبيات.
وحكى ولده أبو محمد إسماعيل، وكان أنجب أولاده، قال: كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر، والناس يقرؤون عليه، فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي، قد سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهما، وأريد أن تسمعهما مني وتعرفني مهناهما، فقال: قل، فأنشده:
وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجره النار يصليني به النارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني، وبالجوزاء إن زارا قال إسماعيل: فلما سمعهما والدي قال: يا بني، هذا شيء من معرفة علم النجوم وتسييرها لا من صنعة أهل الأدب، فانصرف الشاب من غير حصول فائدة، واستحيا والدي من أن يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، وقام، وآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر، فنظر في ذلك وحصل معرفته، ثم جلس.
ومعنى البيت المسئول عنه أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في غاية الطول، لأنه يكون آخر فصل الخريف، وإذا كانت في آخر الجوزاء كان الليل في غاية القصر، لأنه آخر فصل الربيع، فكأنه يقول: إذا لم يزرني فالليل عندي في غاية الطول، وإن زارني كان الليل عندي في غاية القصر، والله أعلم.
ولبعض شعراء عصره فيه وفي المغربي مفسر المنامات (1) ، وذكرها في الخريدة لحيص بيض، هكذا وجدتها في مختصر الخريدة للحافظ:
كل الذنوب ببلدتي مغفورة ... إلا اللذين تعاظما أن يغفرا
كون الجواليقي فيها ملقيا ... أدباً، وكون المغربي معبرا
فأسير لكنته يمل (2) فصاحة ... وغفول يقظته يعبر عن كرى ونوادره كثيرة.
وكانت ولادته سنة ست وستين وأربعمائة. وتوفي يوم الأحد منتصف المحرم سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ببغداد، ودفن بباب حرب، رحمه اللله تعالى، بعد أن صلى عليه قاضي القضاة الزينبي بجامع القصر.
والجواليقي: نسبة إلى عمل الجوالق وبيعها، وهي نسبة شاذة لأن الجموع لا ينسب إليها، بل ينسب إلى آحادها إلا ما جاء شاذاً مسموعاً في كلمات محفوظة مثل قولهم: رجل أنصاري، في النسبة إلى الأنصار، والجواليق في جمع جوالق شاذ لأن الياء لم تكن موجودة في مفرده، والمسموع فيه جوالق بضم الجيم وجمعه جوالق بفتح الجيم، وهو باب مطرد، قالوا: رجل حلاحل، إذا كان وقوراً، وجمعه حلاحل، وشجر عدامل، إذا كان قديماً، وجمعه عدامل، ورجل عراعر، وهو السيد، وجمعه عراعر، ورجل علاكد، إذا كان شديداً، وجمعه علاكد، وله نظائر كثير. وهو اسم أعجمي معرب، والجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة واحدة عربية ألبيتة

موسى بن عبد الملك الأصبهاني

أبو عمران موسى بن عبد الملك بن هشام (2) الأصبهاني صاحب ديوان الخراج؛ كان من جلة الرؤساء، وفضلاء الكتاب وأعيانهم، تنقل في الخدم في أيام جماعة من الخلفاء. وكان إليه ديوان (3) السواد وغيره في أيام المتوكل، وكان مترسلاً، وله ديوان رسائل. وقد سبق طرف من خبره مع أبي العيناء في ترجمته، وما دار بينهما من المحاورة في قضية نجاح بن سلمة (4) . وله شعر رقيق حسن فمن ذلك قوله:
ولما وردنا القادسية حيث مجتمع الرفاق ...
وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق
 أيقنت لي ولمن أحب بجمع شمل واتفاق ...
وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق
لم يبق لي إلا تجشم ... هذه السبع الطباق
حتى يطول حديثنا ... بصفات ما كنا نلاقي [يروى: لما وردنا الثعلبية، وكلتاهما من منازل الحاج على طريق العراق، والثعلبية منسوبة إلى ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، قاله ابن الكلبي في " جمهرة النسب
ولهذه الأبيات حكاية مستطرفة أحببت ذكرها هاهنا وقد سردها الحافظ أبو عبد الله الحميدي، في كتاب جذوة المقتبس (1) ، وغيره من أرباب تواريخ المغاربة، وهي أن أبا علي الحسن بن الأشكري (2) المصري قال: كنت رجلاً من جلاس الأمير تميم بن أبي تميم، وممن يخفف عليه جداً - وهذا تميم هو أبو العز بن باديس المذكور في حرف التاء - قال: فأرسلني إلى بغداد، فاتبعت له جارية رائقة فائقةالغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه، قال: وكنت فيهم، ثم مدت الستارة، وأمرها بالغناء فغنت:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرا متمنع أركانه
فمضى لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظراً إليه وصده (3) سجانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه 
وهذه الأبيات ذكرها صاحب الأغاني (4) للشريف أبي عبد الله محمد بن صالح الحسني، قال ابن الأشكري: فأحسنت الجارية ما شاءت، فطرب الأمير تميم ومن حضر، ثم غنت:
سيسليك عما فات دولة مفضل ... أوائله محمودة وأواخره
ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على البر مذ شدت عليه مآزره 
قال: فطرب الأمير تميم ومن حضر طرباً شديداً، قال: ثم غنت:
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه 
وهذا البيت لمحمد بن زريق الكاتب البغدادي، من جملة قصيدة طويلة.
قال الراوي: فاشتد طرب الأمير تميم وأفراط جداً، ثم قال لها: تمني ما شئت، فقال، أتمنى عافية الأمير وسلامته، فقال: والله لا بد أن تتمني، فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى قال: نعم، فقالت: أتمنى أن أغني بهذه النوبة ببغدادفانتقع لون الأمير تميم وتغير وجهه وتكدر المجلس، وقام وقمنا.
وقال ابن الأشكري: فلقيني بعض خدمه وقال لي: ارجع فالأمير يدعوك، فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت عليه وقمت بين يديه، فقال لي: ويحك، ورأيت ما امتحنا به فقلت: نعم أيها الأمير، فقال: لا بد من الوفاء لها، ولا أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنت هناك فاصرفها، فقلت: سمعاً وطاعة.
قال: ثم قمت فتأهبت، وأمرها بالتأهب، وأصحبها جارية سوداء له تعادلها وتخدمها، وأمر بناقة ةمحمل، فأدخلت فيه، وجعلتها معي، وصرت إلى مكة مع القافلة وقضينا حجنا، ثم دخلت في قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا القادسية أتتني السوداء، وقالت لي: تقول لك سيدتي: أين نحن فقلت لها: نزول القادسية، فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتهاقد ارتفع بالغناء، وغنت الأبيات المذكورة، قال: فتصايح الناس من أقطار القافلة: وأعيدي بالله أعيدي قال: فما سمع لها كلمة. قال: ثم نزلنا الياسرية، وبينها وبين بغداد نحو خمسة أميال في بساتين متصلة، ينزل بها فيبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداد. فلما كان وقت الصباح وإذا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقلت: مالك قالت: إن سيدني ليست بحاضرة، فقلت: ويلك، وأين هي قالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثراً بعد ذلك، ودخلت بغداد وقضيت حوائجي منها، وانصرفت إلى الأمير تميم فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه واغتم له غماً شديداً، ثم ما زال بعد ذلك ذاكراً لها واجماً عليها.
والقادسية: بفتح القاف وبعد الألف دال مهملة مكسورة وسين مكسورة أيضاً وبعدها ياء مثناة من تحتها مشدودة ثم هاء ساكنة، وهي قرية فوق الكوفة وعندما كانت الوقعة المشهورة في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
والياسرية: بفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف سين مهملة مكسورة وراء مكسورة أيضاً وبعدها ياء مثناة من تحتها مشددة ثم هاء مشدودة ساكنة وقد ذكرنا أين هي، فلا حاجة إلى الإعادة.
وحكى إسحاق بن إبراهيم أخو زيد بن إبراهيم أنه كان يتقلد بلاد السيروان نيابة عن موسى بن عبد الملك المذكور، فاجتاز به إبراهيم بن العباس الصولي، - الشاعر المقدم ذكره - وهو يريد خراسان، والمأمون يوم ذاك بها، وقد بايع بالعهد علي بن موسى الرضا، وهي قضية مشهورة، وقد امتدحه إبراهيم المذكور بقصيدة ذكر فيها آل علي، وأنهم أحق بالخلافة من غيرهم. قال إسحاق بن إبراهيم المذكور: فاستحسنت القصيدة وسألت إبراهيم بن العباس أن ينسخها ففعل، ووهبته ألف درهم وحملته على دابة، وتوجه إلى خراسان. ثم تراخت الأيام إلى زمن المتوكل، فتولى إبراهيم المذكور موضع موسى بن عبد الملك المذكور، وكان يحب أن يكشف أسباب موسى، فعزلني وأمر أن تعمل مؤامرة (1) ، فعملت وحضرت للمناظرة عنها، فجعلت أحتج بما لايدفع فلا يقبله، ونحتكم إلى الكتاب فلا يلتفت إلى حكمهم، ويسمعني في خلال ذلك غليظ الكلام، إلى أن أوجب الكتاب اليمين على باب من الأبواب فحلفت، فقال: ليست يمين السلطان عندك يميناً لأنك رافضي، فقلت له: تأذن لي في الدنو منك فأذن لي، فقلت له: ليس مع تعريضك بمهبجتي للقتل صبر، وهذا المتوكل إن كتبت إليه بما أسمعه منك لم آمنه على نفسي، وقد احتملت كل ما جرى سوى الرفض. والرافضي من زعم أن علي بن أبي طالب أفضل من العباس، وأن ولده أحق من ولد العباس بالخلافة. قال: ومن هو ذاك قلت: أنت، وخطك عندي به. فأخبرته بالشعر الذي عنله في المأمون وذكر فيه علي بن موسى، فوالله ما هو إلا أن قلت له ذلك حتى سقط في يده ثم قال لي:
أحضر الدفتر الذي بخطي، فقلت له: هيهات، لا والله أو توثق لي بما أسكن إليه أنك لا تطالبني بشيء مما جرى على يدي، وتخرق هذه المؤامرة ولا تنظر لي في حساب، فحلف لي على ذلك بما سكنت إليه وخرق العمل المعمول، فأحضرت له الدفتر فوضعه في خفه، وانصرفت وقد زالت عني المطالبة.
ولموسى المذكور أخبار كثيرة أضربت عن ذكرها طلباً للاختصار. وتوفي في شوال سنة ست وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى.
والسيروان: بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء والواو وبعد الألف نون، وهي كورة ماسبذان من أعمال الجبل.
وماسبذان: بفتح الميم وبعد الألف سين مهملة وباء موحدة وذال معجمة والجميع مفتوح وبعد الألف نون، وهي قرية كان يسكنها المهدي بن المنصور أبي جعفر، والد هارون الرشيد، وبها توفي، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة الشاعر - المقدم ذكره:
وأكرم قبر بعد قبر محمد ... نبي الهدى قبر بماسبذان
عجبت لأيد هالت الترب فوقه ... ضحى كيف لم ترجع بغير بنان والسيروان: اسم لأربعة مواضع هذا أحدها.
وبلاد الجبل عبارة عن عراق العجم الفاصل بين عراق العرب وخراسان، وبلاده المشهورة: أصبهان وهمذان والري وزنجان.

الملك الأشرف موسى الأيوبي

أبو الفتح موسى ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، الملقب الملك الأشرف مظفر الدين؛ أول شيء ملكه من البلاد مدينة الرها، سيره إليها والده من الديار المصرية في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ثم أضيفت إليه حران. وكان محبوباً إلى الناس مسعوداً مؤيداً في الحروب من يومه، لقي نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل - المذكور في حرف الهمزة - وكان يوم ذاك من الملوك المشاهير الكبار، وتواقعا في مصاف فكسره، وذلك في سنة ستمائة يوم السبت تاسع عشر شوال بموضع يقال له بين النهرين من أعمال الموصل وهي وقعة مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها؛ ولما توفي أخوه عبد الملك الأوحد نجم الدين أيوب صاحب خلاط وميافارقين وتلك النواحي، أخذ الملك الأشرف مملكته مضافة إلى ملكه، وتوفي الملك في شهر ربيع الأول سنة تسع وستمائة وكانت وفاته بملازكرد من أعمال خلاط ودفن بها، وكان الملك الأوحد قد ملك خلاط في سنة أربع وستمائة.
فاتسعت حينئذ مملكته وبسط العدل على الناس وأحسن إليهم إحسانا لم يعهدوه ممن كان قبله، وعظم وقعه في قلوب الناس، وبعد صيته، وكان قد ملك نصيبين الشرق في سنة ست وستمائة، وأخذ سنجار سنة سبع عشرة في رابع جمادى الأولى، ورأيت في موضع آخر أنه أخذها في مستهل صفر من السنة، والله أعلم، كذلك الخابور، وملك (2) معظم بلاد الجزيرة، وكان يتنقل فيها، وأكثر إقامته بالرقة لكونها على الفرات.
ولما مات ابن عمه الملك الظاهر غازي صاحب حلب - في التاريخ المذكور في ترجمته في حرف الغين - عزم عز الدين كيكاوس بن غياث الدين كيسخرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان صاحب الروم على قصد حلب فسير أرباب الأمر بحلب إلى الملك الأشرف وسألوه الوصول إليهم لحفظ البلد، فأجابهم إلى شؤالهم وتوجه إليهم وأقام بالياروقية بظاهر حلب مدة ثلاث سنين، وجرت له مع صاحب الروم وابن عمه الملك الأفضل بن صلاح صاحب سمسياط وقائع مشهورة لا حاجة إلى الإطالة في شرحها.
ولما أخذت الفرنج دمياط في سنة ست عشرة وستمائة - حسبما شرحناه في ترجمة الملك الكامل - توجهت جماعة من ملوك الشام إلى الديار المصرية، لإنجاد الملك الكامل، وتأخر عنه الملك الأشرف لمنافرة كانت بينهما، فجاءه أخوه الملك العظيم - المقدم ذكره في حرف العين - بنفسه، وأرضاه، ولم يزل بلاطفه حتى استصبحه معه، فصادف عقيب وصوله إليها بأشهر - كما ذكرناه في ترجمة الكامل محمد - انتصار المسلمين على الفرنج وانتزاع دمياط من أيديهم، وكانوا يرون ذلك بسب يمن غرته. وكان وصوله إليها في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة، واستناب أخاه الملك المظفر شهاب الدبن غازي ابن الملك العادل في خلاط، فعصى عليه، فقصده في عساكره وأخذها منه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وستمائة.
ولما مات الملك المعظم - في التاريخ المذكور في ترجمته - قام بالأمر من بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، فقصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخذ دمشق منه، فاستنجد بعمه الملاك الأشرف، وكان يومئذ ببلاد الشرق، فوصل إليه، واجتمع به في دمشق، ثم خرج منها متوجهاً إلى أخيه الملك الكامل، واجتمع به وجرى الاتفاق بينهما على أخذ دمشق من الملك الناصر وتسليمها إلى الملك الأشرف، ويبقى للملك الناصر الكرك والشوبك ونابلس وبيسان وتلك النواحي، وينزل الملك الأشرف عن حران والرها وسروج والرقة ورأس عين، ويسلمها إلى الملك الكامل، فاستتب الحال على ذلك.
وتسلم الملك الكامل دمشق لاستقبال شعبان من السنة بنوابه، ورحل الناصر إلى بلاده التي عليه يوم الجمعة ثاني عشر شعبان، ثم دخل الملك الكامل إلى دمشق في سادس عشر الشهر المذكور وعاد وخرج إلى مكانه الذي كان فيه، ثم دخل هو الأشرف إلى القلعة في ثامن عشر شعبان ثم سلمها إلى أخيه الملك الأشرف على ما تقرر بينهما، في أواخر شعبان من سنة ست وعشرين وستمائة، وانتقل الملك الكامل إلى بلاده التي تسلمها بالشرق، ليكشف أحوالها ويرتب أمورها، واجتزت في التاريخ المذكور بحران وهو بها.
وانتقل الأشرف إلى دمشق واتخذها دار إقامة وأعرض عن بقية البلاد، ونزل جلال الدين خوارزم شاه على خلاط وحاصرها وضايقها أشد مضايقة، وأخذها في جمادى الآخرة من سنة ست وعشرين من نواب الملك الأشرف، وهو مقيم بدمشق، ولم يمكنه في ذلك الوقت قصدها للدفع عنها لأعذار كانت له. ثم عقيب ذلك دخل إلى بلاد الروم باتفاق مع سلطانها علاء الدين كيقباذ أخي عز الدين كيكاوس المذكور، وتعاقدا (1) على قصد خوارزم شاه، وضرب المصاف معه، فإن صاحب الروم أيضاً كان يخاف على بلاده منه. لكونه مجاوره، فتوجها نحوه في جيش عظيم من جهة الشام والشرق في خدمة الملك الأشرف، وعسكر صاحب الروم، والتقوا بين خلاط وأرزنكان، بموضع يقال له: يا للرحمان (2) في يوم الجمعة ثاني عشر رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة، وانكسر خوارزم شاه، وهي واقعة مشهورة، وعادت خلاط إلى الملك الأشرف وقد خربت.
ثم رجع إلى الشام وتوجه إلى الديار المصرية، وأقام عند أخيه الملك الكامل مدة، ثم خرج في خدمته قاصدين آمد، ونزلوا عليها وفتحوها في مدة يسيرة وذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة، وأضافها الملك الكامل إلى ممالكها ببلاد الشرق، ورتب فيها ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب - المذكور في ترجمة والده - وفي خدمته الطواشي شمس الدين صواب الخادم العادلي، ثم عاد كل واحد إلى بلاده.
ثم كانت واقعة ببلاد الروم والدربندات في أواخر سنة إحدى وثلاثين وستمائة وهي مشهورة، ورجع الكامل والأشرف ومن معهما من الملوك بغير حصول مقصود، ولما رجعا خرج عسكر صاحب الروم على بلاد الكامل بالشرق فأخذها وأخربها، ثم عاد الكامل والأشرف وأتباعهما ومن معهما من الملوك إلى بلاد الشرق، واستنقذوها من نواب صاحب الروم. ثم رجعوا إلى دمشق في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكنت يومئذ بدمشق، وفي تلك الواقعة (1) رأيت الكامل والأشرف، وكانا يركبان معاً ويلعبان بالكرة في الميدان الأخضر الكبير كل يوم، وكان شهر رمضان، فكانا يقصدان بذلك تعبير النهار لأجل الصوم؛ ولقد كنت أرى من تأدب كل واحد منهما مع الآخر شيئاً كثيراً، ثم وقعت بينهما وحشة، وخرج الأشرف عن طاعة الكامل، ووافقته الملوك بأسرها، وتعاهد هو وصاحب الروم وصاحب حلب وصاحب حماة وصاحب حمص وأصحاب الشرق، على الخروج على الملك الكامل، ولم يبق مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحب الكرك، فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية، فلما تحالفوا وتحزبوا واتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل، مرض الملك الأشرف مرضاً شديداً، وتوفي يوم الخميس رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة بدمشق، ودفن بقلعتها ثم نقل إلى التربة التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب الشمالي من جامع دمشق. وكان ولادته سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بالديار المصرية بالقاهرة، وقيل بقلعة الكرك، رحمه الله تعالى. وقد ذكرت في ترجمة أخيه الملك المعظم عيسى ما ذكره سبط ابن الجوزي في مولدهما؛ وتوفي أخوه شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين في رجب سنة خمس وأربعين وستمائة بميافارقين.
هذه خلاصة أحواله؛ وكان سلطاناً كريماً حليماً واسع الصدر كريم الأخلاق كثير العطاء، لا يوجد في خزانته شيء من المال مع إتساع مملكته، ولا تزال عليه الديون للتجار وغيرهم. ولقد رأى يوماً في دواة كاتبه وشاعره الكمال أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن النبيه المصري قلماً واحداً، فأنكر عليه ذلك، فأنشده في الحال دوبيت:
قال الملك الأشرف قولاً رشدا ... أقلامك يا كمال قلت عددا
جاوبت لعظم كتب ما تطلقه ... تحفى فتقط فهي تفنى أبدا ويقال إنه طرب ليلة في مجلس أنسه على بعض الملاهي، فقال لصاحب الملهى: تمن علي، فقال: تمنيت مدينة خلاط، فأعطاها له، وكان نائبه بها الأمين حسام الدين المعروف بالحاجب علي بن حماد الموصلي، فتوجه ذلك الشخص إليه ليتسلمها منه، فعوضه الحاجب عنها جملة كثيرة من المال وصالحه عنها، وكان له في ذلك غرائب.
وكان يميل إلى أهل الخير والصلاح ويحسن الاعتقاد فيهم، وبنى بدمشق دار حديث، فوض تدريسها إلى الشيخ تقي الدين عثمان المعروف بابن الصلاح، المقدم ذكره.
وكان بالعقيبة ظاهر دمشق خان يعرف بابن الزنجاري، قد أجمع أنواع أسباب الملاذ، ويجري فيه من الفسوق والفجور ما لايحد ولا يوصف، فقيل له عنه: إن مثل هذا لايليق أن يكون في بلاد المسلمين، فهدمه وعمره جامعاً غرم عليه جملة مستكثرة، وسماه الناس جامع التوبة كأنه تاب إلى الله تعالى وأناب مما كان فيه. وجرت في خطابته نكتة لطيفة، أحببت ذكرها، وهي: أنه كان بمدرسة ست الشام التي خارج البلد، إمام يعرف بالجمال السبتي، أعرفه شيخاً حسناً، ويقال كان في صباه بشيء من الملاهي، وهي التي تسمى الجغانة، ولما كبر حسنت طريقته وعاشر العلماء وأهل الصلاح، حتى صار معدوداً في الأخيار، فلما احتاج الجامع المذكور إلى خطيب ذكر للملك الأشرف جماعة، وشكر الجمال المذكور، فتولى خطابته، فلما توفي تولى موضعه العماد الواسطي الواعظ، وكان يتهم باستعمال الشراب، وكان صاحب دمشق يومئذ الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل بن أيوب، فكتب إليه الجمال عبد الرحيم المعروف بابن زويتينة الرحبي أبياتاً، وهي:
يا مليكاً أوضح الحق لدينا وأبانه ... جامع التوبة قد قلدني منه أمانه ...
قال قل للملك الصا ... لح أعلى الله شانه
يا عماد الدين يا من ... حمد الناس زمانه 
كم إلى كم أنا في ضر وبؤس وإهانه ...
لي خطيب واسطي ... يعشق الشرب ديانه
والذي قد كان من قب ... ل يغني بجغانه
فكما نحن فما زلن ... اوما نبرح حانه
ردني للنمط الأو ... ل واستبق ضمانه 
وهذه الأبيات في بابها في غاية الظرف (1) ، وكان ابن زويتينة المذكور قد وصل إلى الديار المصرية في رسالة من عند صاحب حمص، وأنشدني هذه الأبيات وحكى السبب الحامل عليها، وذلك في بعض شهور سنة سبع وأربعين وستمائة. ومدح الملك الأشرف أعيان شعراء عصره، وخلدوا مدائحه في دواوينهم فمنهم:
شرف الديم محمد بن عنين وقد سبق ذكره.
والبهاء أسعد السنجاري وقد سبق ذكره أيضاً.
والشرف راجح الحلي وقد ذكرته في ترجمة الملك الظاهر.
 والكمال ابن النبيه المذكرو وكانت وفاته سنة تسع عشرة وستمائة، بمدينة نصيبين الشرق، وعمره تقديراً مقدار ستين سنة ، كذا أخبرني صهره بالقاهرة.
والمهذب (2) محمد بن أبي الحسين (3) بن يمن بن علي بن أحمد بن محمد بن عثمان ابن عبد الحميد الأنصاري، المعروف بابن الأردخل الموصلي الشاعر المشهور، ومولده سنة سبع وسبعين وخمسمائة بالموصل، وتوفي في شهر رمضان، سنة ثمان وعشرين وستمائة بميافارقين، رحمه الله تعالى.
وغير هؤلاء خلق كثير، والله أعلم بالصواب.