السبت، 13 مايو 2017

ابن التعاويذي الشاعر

    أبو الفتح محمد بن عبيد الله بن عبد الله الكاتب المعروف بابن التعاويذي، الشاعر المشهور؛ كان مولى لابن المظفر واسمه نشتكين، فسماه ولده المذكور عبيد الله، وهو سبط أبي محمد المبارك بن علي بن نصر السراج الجوهري الزاهد المعروف بابن التعاويذي  ، وإنما نسب إلى جده المذكور لأنه كفله صغيرا، ونشأ في حجره فنسب إليه.
    وكان أبو الفتح المذكور شاعر وقته، لم يكن فيه مثله، جمع شعره بين جزالة الأافاظ وعذوبتها ورقة المعاني ودقتها، وهو في غاية الحسن والحلاوة، وفيما أعتقد لم يكن قبله بمائتين سنة من يضاهيه، ولا يؤاخذني من يقف على هذا الفصل فإن ذلك يختلف بميل الطباع، ولله القائل:
    وللناس فيما يعشقون مذاهب ... وكان كاتبا بديوان المقاطعات ببغداد، وعمي في آخره عمره سنة تسع وسبعين، وله في عماه أشعار كثيرة يرثي بها ويندب زمان شبابه وتصرفه، وكان قد جمع ديوانه بنفسه قبل العمى، وعمل له خطبة طريفة، ورتبه أربعة فصول،
    وكل ما جدده بعد ذلك سماه " الزيادات " فلهذا يوجد ديوانه في بعض النسخ خاليا من الزيادات، وفي بعضها مكملا بالزيادات، ولما عمي كان باسمه راتب في الديوان، فالتمس أن ينقل باسم أولاده، فلما نقل كتب إلى الإمام لدين الله هذه الأبيات يسأله أن يحدد له راتبا مدة حياته، وهي  :
    خليفة الله أنت بالدين والدن ... يا وأمر الإسلام مضطلع
    أنت لما سنه الأئمة أع ... لام الهدى مقتنف ومتبع
    قد عدم العدم في زمانك وال ... جور معا والخلاف والبدع
    فالناس في الشرع والسياسة ... والإحسان والعدل كلهم شرع
    يا ملكا يردع الحوادث ... والأيام عن ظلمها فترتدع
    ومن له أنعم مكررة ... لنا مصيف منها ومرتبع
    أرضي قد أجدبت وليس لمن ... أجدب يوما سواك منتجع
    ولي عيال لا در درهم ... قد أكلوا دهرهم وما شبعوا (2)
    إذا رأوني ذا ثروة جلسوا ... حولي ومالوا إلي واجتمعوا
    وطالما قطعوا حبالي إع ... راضا إذا لم تكن معي قطع
    يمشون حولي شتى كأنهم ... عقارب كلما سعوا لسعوا
    فمنهم الطفل والمرهق والرضي ... ع يحبو والكهل واليفع
    لا قارح منهم أؤمل أن ... ينالني خبره ولا جذع
    لهم حلوق تفضي إلى معد ... تحمل في الأكل فوق ما تسع
    من كل رحب المعاء أجوف نا ... ري الحشا لا يمسه الشبع
    لا يحسن المضغ فهو ينزل في ... فيه بلا كلفة ويبتلع
    ولي حديث يلهي ويعجب من ... يوسع لي خلقه فيسمع
    نقلت ريمي جهلا إلى ولد ... لست بهم ما حييت أنتفع
    نظرت في نفعهم وما أنا في اج ... تلاب نفع الاولاد مبتدع
    وقلت هذا بعدي يكون لكم ... فما أطاعوا أمري ولا سمعوا
    واختلسوه مني فما تركوا ... عيني عليه ولا يدي تقع
    فبئس والله ما صنعت فأض ... ررت بنفسي وبئس ما صنعوا
    فإن أردتم أمراً يزول به ال ... خصام من بيننا ويرتفع
    فاستأنفوا لي رسما أعود على ... ضنك معاشي به فيتسع
    وإن زعمتم أني أتيت بها ... خديعة فالكريم ينخدع
    حاشا لرسمي الكريم ينسخ من ... نسخ دواوينكم فينقطع
    فوقعوا لي بما سألت فقد ... أطعت نفسي واستحكم (1) الطمع

    ولا تطيلوا معي فلست ولو ... دفعتوني بالراح اندفع
    وحلفوني أن لا تعود يدي ... ترفع في نقله ولا تضع 
    فما ألطف ما توصل به إلى بلوغ مقصوده بهذه الأبيات التي لو مرت بالجماد لاستمالته وعطفته، فأنعم عليه أمير المؤمنين بالراتب، فكان يصله بصلة من الخشكار الرديء، فطتب إلى فخر الدين صاحب المخزن أبياتا يشكو من ذلك أولها  :
    مولاي فخر الدين أنت إلى الندى ... عجل وغيرك محجم متباطي ومنها:
    حاشاك ترضى أن تكون جرايتي ... كجراية البواب والنفاط
    سوداء مثل الليل سعر قفيزها ... ما بين طسوج إلى قيراط
    أخنت علي الحادثات وأفرطت ... فيها الرداءة أيما إفراط
    قد كدرت حسي المضيء، وغيرت ... طبعي السليم، وعفنت أخلاطي
    فتول تدبيري فقد أنهيت ما ... أشكوه من مرضي إلى بقراط
    وكان وزير الديوان العزيز شرف الدين أبو جعفر أحمد بن محمد بن سعيد بن إبراهيم التميمي وزير الإمام المستنجد بالله المعروف بابن البلدي ، وقد عزل أرباب الدواوين وحسبهم وحاسبهم وصادرهم وعاقبهم ونكل بهم، فعمل سبط ابن التعاويذي المذكور في ذلك قوله  :
    يا قاصدا بغداد حد  عن بلدة ... للجور فيها زخرة وعباب
    إن كنت طالب حاجة فارجع فقد ... سدت على الراجي بها الأبواب
    ليست، وما بعد الزمان، كعهدها ... أيام يعمر ربعها الطلاب
    ويحلها الرؤساء من ساداتها ... والجلة الأدباء والكتاب
    والدهر في أولى حداثته ولل ... أيام فيها نضرة وشباب
    والفضل في سوق الكرام يباع بال ... غالي من الأثمان، والآداب
    بادت وأهلوها معا، فبيوتهم ... ببقاء مولانا الوزير خراب
    وارتهم الأجداث أحياء تها ... ل جنادل من فوقهم وتراب
    فهم خلود في محابسهم يصب ... عليهم بعد العذاب عذاب
    لا يرتجى منها إيابهم، وهل ... يرجى لسكان القبور إياب
    والناس قد قامت قيامتهم، فلا ... أنساب بينهم ولا أسباب
    والمرء يسلمه أبوه وعرسه ... ويخونه القرباء والأحباب
    لا شافعاً تغني شفاعته، ولا ... جان له مما جناه متاب
    شهدوا معادهم فعاد مصدقا ... من كان قبل ببعثه يرتاب
    حشر وميزان وعرض جرائد ... وصائف منشورة وحساب
    وبها زبانية تبث على الورى ... وسلاسل ومقامع وعذاب
    ما فاتهم من كل ما وعدوا به ... في الحشر إلا راحم وهاب
     
    وله في الوزير المذكور:
    يا رب أشكو إليك ضرا ... أنت على كشفه قدير
    أليس صرنا زمان ... فيه أبو جعفر وزير
     وذكر محب الدين المعروف بابن النجار فيتاريخ بغداد أن الإمام المستنجد بالله توفي يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الآخر سنة وستين وخمسمائة وتولى بعده ولده المستضيء بأمر الله وجلس للمبايعة يوم الثلاثاء ثاني اليوم المذكور، فخرج أستاذ الدار عضد الدين  أبو الفرج المذكور عقيب هذا ومعه ابن السيبي فقال له: إن الخليفة قد تقدم أن يستوفي القصاص من هذان وأشار إلى الوزير، فأخذ وسحب وقطع أنفه ويده ورجلهن ثم ضربت رقبته، وجمع في ترس وألقي في دجلة، وكان هذا الوزير قد قطع أنف أم ابن السيبي  المذكور ويد أخيه ورجله في أيام ولايته، فاقتص منه في هذا اليوم، نعوذ بالله من سوء العاقبة .
    وكتب سبط ابن التعاويذي إلى عضد الدين أبي الفرج محمد بن المظفر، وهو من ابناء مواليه يطلب منه شعيرا لفرسه، وهو الذي فعل بالوزير ابن البلدي  تلك الفعلة المذكورة قبل هذا  :
    مولاي يا من له أياد ... ليس إلى عدها سبيل
    ومن إذا قلت العطايا ... فجوده وافر جزيل
    إليه إن جارت الليالي ... نأوي، وفي ظله نقيل
    إن كميتي العتيق سنا ... له حديث معي يطول (1)
    كان شرائي له فضولاً ... فأعجب لما يجلب الفضول
    ظننته حاملاً لرحلي ... فخاب ظني به الجميل
    ولم أخل للسقاء أني ... لثقل أعبائه حمول
    فإن أكن عاليا عليه ... فهو على كاهلي ثقيل
    أرجل (2) كالبوم ليس فيه ... خير كثير ولا قليل
    ليس له مخبر حميد ... ولا له منظر جميل
    وهو حرون وفيه بطء ... ولا جواد ولا ذلول
    لا كفل معجب لراء ... إذا رآه ولا تليل
    مقصرا إن مشى، ولكن ... إن حضر الاكل مستطيل
    يعجبه التبن والشعيرال ... مغسول والقت والقصيل
    إذا رأى عكرشا رأيت ... اللعاب من شدقه يسيل
    وليس فيه من المعاني ... شيء سوى أنه أكول
    فهب له اليوم ما تسنى ... وهبه من نعض ما تنيل
    ولا تقل إن ذا قليل ... فالجل في عينيه جليل
     وإنما أوردت هذه المقاطيع من شعره لكونها مستملحة. وأما قصائده المشتملة على النسيب والمدح فإنها في غاية الحسن، وصنف كتابا سماهالحجبة والحجاب يدخل في مقدار خمس عشرة كراسة، وأكال الكلام فيه، وهو قليل الوجود.
    وذكر العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة أن ابن التعاويذي المذكور كان 
    صاحب لما كان بالعراق، فلما انتقل العماد إلى الشام واتصل بخدمة السلطان صلاح الدين كتب إليهابن التعاويذي رسالة يطلب منه فروة، وذكر الرسالةن وهيوقد كلف مكارمه وإن لم يكن للجود عليها كلفة، وأتحفه بما وجهه إليه من أمله وهو لعمر الله تحفه، أهدى فروة دمشقية، سرية نقية، يلين لمسها، ويزين لبسها، ودباغتها نظيفة، وخياطتها لطيفة، طويلة كطوله، سابغة كأنعمه حالية كذكره، جميلة كفعله، واسعة كصدره، نقية كعرضه، رفيعة كقدره، موشية كنظمه ونثره، ظاهرها كظاهره، وباطنها كباطنه، يتجمل بها اللابس، وتتحلى بها المجالس، وهي لخادمه سربال، وله - حرس الله مجده - جمال، يشكره عليها من لم يلبسها، ويثني عليه من لم يتدرعها، تذهب خميلة وبرها، ويبقى حميد أثرها، ويخلق إهابها وجلدها، ويتجدد شكرها وحمدها، وقد نظم أبياتا ركب في نظمها الغرر، وأهدى بها التمر إلى هجر، إلا أنه قد عرض الطيب على عطاره، ووضع الثوب في يد بزازة، وأحل الثناء في محله، وجمع بين الفضل وأهله، وهي في حسنه وخفارة كرمه ثم ذكر القصيدة التي أولها :
    بأبي من ذبت في الح ... ب له شوقا وصبوة
    وهي موجودة في ديوانه. وكتب العماد جواب القصيدة على هذا الروي أيضا، وهما طويلتان.
    وذكر العماد قبل ذكر الرسالة والقصيدة في حقه: هو شاب فيه فضل وآداب ورياسة وكياسة ومروة وأبوه وفتوة، جمعني وإياه صدق العقيدة في عقد الصداقة، وقد كملت فيه أسباب الظرف واللطف واللباقة؛ ثم أتى بالرسالة والقصيدة وجوابها، وهذه الرسالة لم أر مثلها في بابها، سوى ماسيأتي في ترجمة بهاء الدين ابن شداد - في حرف الياء إن شاء الله تعالى - فان ابن خروف المغربي كتب إليه رسالة بديعة يستجديه فروة يستجديه فروة قرظ
    وكانت ولادة ابن التاويذي المذكور في العاشر من رجب يوم الجمعة سنة تسع عشرة وخمسمائة. وتوفي في ثاني شوال سنة أربع، وقيل ثلاث وثمانين وخمسمائة ببغداد، ودفن في باب أبرز، رحمه الله تعالى. وقال ابن النجارفي تاريخه: مولده يوم الجمعة، وتوفي يوم السبت ثامن عشر شوال.
    والتعاويذي: بفتح التاء المثناة من فوقها والعين المهملة وكسر الواو بعد الألف وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة ثم ذال معجمة، هذه النسبة إلى كتبه التعاويذ وهي الحروز.
    ) واشتهر بها أبو محمد المبارك بن المبارك بن السراج التعاويذي البغدادي الزاهد، المقدم ذكره في أول هذه الترجمة، وكان صالحا. ذكره ابن السمعاني في كتاب " الذيل "  وكتاب الأنساب وقال: لعل أباه كان يرقي ويكتب التعاويذ، وسمع منه ابن السمعاني المذكورن وقال: سألته عن مولده، فقال: ولدت في سنة ست وتسعين وأربعمائة بالكرخ. وتوفي في جمادى الأولى سنة ثىث وخمسين وخمسمائة، ودفن في جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الشوينزي، رحمه الله تعالى. وقال السمعاني: أنشدني أبو محمد المبارك المذكور لنفسه قوله:
    اجعل همومك واحدا ... وتخل عن كل الهموم
    فعساك أن تحظى بما ... يغنيك عن كل العلوم 
    ثم قال، قال لي ابن التعاويذي: ما قلت من الشعر غير هذين البيتين.
    ونشتكين: بضم النون وسكون الشين المعجمة وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف وبعدها النون وسكون الشين المعجمة وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة ثم نون، وهو اسم أعجمي تسمى به المماليك، وقد تقدم في أول الترجمة أنه كان من مماليك أحد بني المظفر رئيس الرؤساء (2) ، وله فيهم مدائع بديعة، وأفراد مدائعهم في فصل من الفصول الأربعة المرتبة في ديوانه لكونهم مواليه، وكانوا يحسنون إليه، والله أعلم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق