الثلاثاء، 25 أبريل 2017

الإمام الشافعي

    الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، القرشي المطلبي الشافعي، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف المذكور، وباقي النسب إلى عدنان معروف، لقي جده شافع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وكان أبوه السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر، فأسر وفدى نفسه ثم أسلم، فقيل له: لم لم تسلم قبل أن تفدي نفسك فقال: ما كنت أحرم المؤمنين مطمعا لهم في.
    وكان الشافعي كثير المناقب جم المفاخر منقطع القرين، اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة رضي الله عنهم وآثارهم، واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة والعربية والشعر حتى إن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين ما لم يجتمع في غيره، حتى قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالست الشافعي، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلا قط أكمل من الشافعي، وقال عبد الله بن أحمد ابن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض وقال أحمد: ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له، وقال يحيى بن معين: كان أحمد بن حنبل ينهانا عن الشافعي، ثم استقبلته يوما والشافعي راكب بغلة وهو يمشي خلفه، فقلت: يا أبا عبد الله، تنهانا عنه وتمشي خلفه فقال: اسكت، لو لزمت البغلة انتفعت.
    وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن ابن عبد الحكم قال: لما حملت أم الشافعي به رأت كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع  في كل بلد منه شظية، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها (2) عالم يخص علمه أهل مصر ثم يتفرق في سائر البلدان.
    وقال الشافعي: قدمت على مالك بن أنس وقد حفظت الموطأ فقال لي: أحضر من يقرأ لك، فقلت: أنا قارئ، فقرأت عليه الموطأ حفظا، فقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام. وكان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا التفت إلى الشافعي فقال: سلوا هذا الغلام. وقال الحميدي: سمعت زنجي بن خالد - يعني مسلما - يقول للشافعي: أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن لك أن تفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة . وقال محفوظ بن أبي توبة البغدادي: رأيت أحمد بن حنبل عند الشافعي في المسجد الحرام، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا سفيان بن عيينة في ناحية المسجد يحدث، فقال: إن هذا يفوت وذاك لا يفوت. وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحدا من أهل العلم تعظيمه للشافعي، ولقد جاءه يوما فلقيه وقد ركب محمد بن الحسن ، فرجع محمد إلى منزله وخلا به يومه إلى الليل، ولم يأذن لأحد عليه.
    والشافعي أول من تكلم في أصول الفقه وهو الذي استنبطه، وقال أبو ثور: من زعم انه رأى مثل محمد بن إدريس في علمه وفصاحته ومعرفته وثباته وتمكنه فقد كذب، كان منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يعتض منه. وقال أحمد بن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منة. وكان الزعفراني يقول: كان أصحاب الحديث رقودا حتى جاء الشافعي فأيقظهم فتيقظوا. ومن دعائه: اللهم يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير، وهو مشهور بين العلماء بالإجابة، وأنه مجرب . وفضائله أكثر من أن تعدد.
    وموله سنة خمسين ومائة، وقد قيل إنه ولد في اليوم الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة ، وكانت ولادته بمدينة غزة، وقيل بعسقلان، وقيل باليمن، والأول أصح، وحمل من غزة إلى مكة وهو ابن سنتين فنشأ بها وقرأ القرآن الكريم، وحديث رحلته إلى مالك بن أنس مشهور فلا حاجة إلى التطويل فيه، وقدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها سنتين، ثم خرج إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة فأقام بها شهرا، ثم خرج إلى مصر، وكان وصوله إليها في سنة تسع وتسعين ومائة، وقيل سنة إحدى ومائتين. ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، ودفن بعد العصر من يومه بالقرافة الصغرى، وقبره يزار بها بالقرب من المقطم، رضي الله عنه.
    قال الربيع بن سليمان المرادي: رأيت هلال شعبان وأنا راجع من جنازته، وقال: رأيته في المنام بعد وفاته فقلت: يا أبا عبد الله، ما صنع الله بك فقال: أجلسني على كرسي من ذهب، ونثر علي اللؤلؤ الرطب. وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب طبقات الفقهاء ما مثاله: وحكى الزعفراني عن أبي عثمان ابن الشافعي قال: مات أبي وهو ابن ثمان وخمسين سنة  .
    وقد اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه.
    وللإمام الشافعي أشعار كثيرة فمن ذلك ما نقلته من خط الحافظ أبي طاهر السلفي رحمه الله تعالى:
    إن الذي رزق اليسار ولم يصب ... حمدا ولا أجرا لغير موفق
    الجد يدني كل أمر شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق
    وإذا سمعت بأن مجدودا حوى ... عودا فأثمر في يديه فصدق
    وإذا سمعت بأن محروما اتى ... ماء ليشربه فغاض فحقق
    لو كان بالحيل الغنى لوجدتني ... بنجوم (4) أقطار السماء تعلقي
    لكن من رزق الحجا حرم الغنى ... ضدان مفترقان أي تفرق
    ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمد ومن المنسوب إليه أيضا  :
    ماذا يخبر ضيف بيتك أهله ... إن سيل كيف معاده ومعاجه
    أيقول جاوزت الفرات ولم أنل ... ريا لديه وقد طغت أمواجه
    ورقيت في درج العلا فتضايقت ... عما أريد شعابه وفجاجه
    ولتخبرن خصاصتي بتملقي ... والماء يخبر عن قذاه زجاجه
    عندي يواقيت القريض ودره ... وعلي إكليل الكلام وتاجه
    تربي على روض الربا أزهاره ... ويرف في نادي الندى ديباجه
    والشاعر المنطيق أسود سالخ ... والشعر منه لعابه ومجاجه
    وعداوة الشعراء داء معضل ... ولقد يهون على الكريم علاجه ومن المنسوب إليه أيضا:
    رام نفعا فضر من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقا ومن المنسوب إلى الشافعي:
    كلما أدبني الده ... ر أراني نقص عقلي
    وإذا ما ازددت علما ... زادني علما بجهلي وهو القائل:
    ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد
    وقال الشافعي رضي الله عنه: تزوجت امرأة من قريش بمكة، وكنت أمازحها فأقول:
    ومن البلية أن تح ... ب فلا يحبك من تحبه 
    فتقول هي:
    ويصد عنك بوجهه ... وتلج أنت فلا تغبه
     وأخبرني أحد المشايخ الأفاضل أنه عمل في مناقب الشافعي ثلاثة عشر تصنيفا.ولما مات رثاه خلق كثير، وهذه المرثية منسوبة إلى أبي بكر محمد بن دريد صاحب المقصورة، وقد ذكرها الخطيب في " تاريخ بغداد " وأولها:
    [بملتفتيه للمشيب طوالع ... زواجر عن ورد التصابي روادع
    تصرفه طوع العنان وربما ... دعاه الصبا فاقتاده وهو طائع
    ومن لم يزعه لبه وحياؤه ... فليس له من شيب فوديه وازع
    هل النافر المدعو للحظ راجع ... أم النصح مقبول أم الوعظ نافع
    أم الهمك المغموم بالجمع عالم ... بأن الذي يوعي من المال ضائع
    وأن قصاراه على فرط ضنه ... فراق الذي أضحى له وهو جامع
    ويخمل ذكر المرء ذي المال بعده ... ولكن جمع العلم للمرء رافع
    ألم تر آثار ابن إدريس بعده ... دلائلها في المشكلات لوامع
    معالم يفنى الدهر وهي خوالد ... وتنخفض الأعلام وهي فوارع
    مناهج فيها للهدى متصرف ... موارد فيها للرشاد شرائع
    ظواهرها حكم ومستبطناتها  ... لما حكم التفريق فيه جوامع
    لرأي ابن إدريس ابن عم محمد ... ضياء إذا ما أظلم الخطب ساطع
    إذا المفظعات المشكلات تشابهت ... سما منه نور في دجاهن لامع
    أبى الله إلا رفعه وعلوه ... وليس لما يعليه ذو العرش واضع
    توخى الهدى واستنقذته يد التقى ... من الزيغ إن الزيغ للمرء صارع
    ولاذ بآثار الرسول فحكمه ... لحكم رسول الله في الناس تابع
    وعول في أحكامه وقضائه ... على ما قضى في الوحي والحق ناصع
    بطيء عن الرأي المخوف التباسه ... إليه إذا لم يخش لبسا مسارع
    وأنشا له منشيه من خير معدن ... خلائق هن الباهرات البوارع
    تسربل بالتقوى وليدا وناشئا ... وخص بلب الكهل مذ هو يافع
    وهذب حتى لم تشر بفضيلة ... إذا التمست إلا إليه الأصابع
    فمن يك علم الشافعي إمامه ... فمرتعه في ساحة العلم واسع
    سلام على قبر تضمن جسمه ... وجادت عليه المدجنات الهوامع
    لقد غيبت أثراؤه جسم ماجد ... جليل إذا التفت عليه المجامع
    لئن فجعتنا الحادثات بشخصه ... لهن لما حكمن فيه فواجع
    فأحكامه فينا بدور زواهر ... وآثاره فينا نجوم طوالع وقد يقول القائل: إن ابن دريد لم يدرك الشافعي، فكيف رثاه لكنه يجوز أن يكون رثاه بعد ذلك، فما فيه بعد، فقد رأينا مثل هذا في حق غيره، مثل الحسين، رضي الله تعالى عنه، وغيره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق