الأربعاء، 29 مارس 2017

ديك الجن

    أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن زيد بن تميم الكلبي الملقب ديك الجن، الشاعر المشهور؛ وذكر ابن الجراح في كتاب " الورقة " أنه مولى لطيء، والله أعلم؛ أصله من أهل سلمية، ومولده بمدينة حمص، وتميم أول من أسلم من أجداده على يد حبيب بن مسلمة الفهري، أخذ محارباً، وكان يفخر على العرب ويقول: ما لهم فضل علينا، أسلمنا كما أسلموا. وهو من شعراء الدولة العباسية، ولم يفارق الشام ولا رحل إلى العراق ولا إلى غيره منتجعاً بشعر، ولا متصدياً لأحد، وكان يتشيع تشيعاً حسناً، وله مراثٍ في الحسين، رضي الله عنه. وكان ماجناً خليعاً عاكفاً على القصف واللهو متلافاً لما ورثه، وشعره في غاية الجودة.
    حدث عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قال: كنت جالساً عند ديك الجن، فدخل عليه حدث فأنشده شعراً عمله، فأخرج ديك الجن من تحت مصلاه درجاً كبيراً فيه كثير من شعره فسلمه إليه وقال: يا فتى تكسب بهذا واستعن به على قولك. فلما خرج سألته عنه فقال: هذا فتى من أهل جاسم، 
    يذكر أنه من طيء، يكنى أبا تمام، واسمه حبيب بن أوس، وفيه أدب وذكاء وله قريحة وطبع، قال: وعُمِّر الملقب ديك الجن إلى أن مات أبو تمام ورثاه.
    ومولد ديك الجن سنة إحدى وستين ومائة وعاش بضعاً وسبعين سنة، وتوفي في أيام المتوكل سنة خمس أو ست وثلاثين ومائتين.
    ولما اجتاز أبو نواس بحمص قاصداً مصر لامتداح الخصيب بن عبد الحميد سمع ديك الجن بوصوله، فاستخفى منه خوفاً أن يظهر لأبي نواس أنه قاصر بالنسبة إليه، فقصده أبو نواس في داره وهو بها، فطرق الباب واستأذن عليه، فقالت الجارية: ليس هو ها هنا؛ فعرف مقصده فقال لها: قولي له اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك:
    موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها فلما سمع ديك الجن ذلك خرج إليه واجتمع به وأضافه. وهذا البيت من جملة أبيات وهي :
    بها غير معذولٍ  فداو خمارها ... وصل بحبالات  الغبوق ابتكارها
    ونل من عظيم الوزر كل عظيمةً ... إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها
    وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغرٍ ... ولا تسق إلا خمرها وعقارها
    فقام يكاد الكأس يحرق كفه ... من الشمس أو من وجنتيه استعارها
    ظللنا بأيدينا نتعتع روحها ... فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها
    موردةً من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
    وذكر الجهشياري في كتاب " أخبار الوزراء "  أن حبيب بن عبد الله بن رغبان المذكور في هذا النسب كان كاتباُ في أيام الخليفة المنصور، وكان يتقلد الاعطاء، وكان موجوداً في سنة ثلاث وأربعين ومائة، وأن ديك الجن الشاعر من ولده، وإليه ينسب مسجد ابن رغبان بمدينة السلام، وأنه مولى حبيب ابن مسلمة الفهري.
     قلت: وحبيب بن مسلمة كان من خواص معاوية، وله معه في وقعة صفين آثار شكرها له، ولما استقر الأمر لمعاوية سير حبيباً في بعض مهامه، فلقيه الحسن بن علي، رضي الله عنهما، وهو خارج فقال له: يا حبيب، رب مسيرٍ لك في غير طاعة الله، فقال له حبيب: أما إلى أبيك فلا، فقال له الحسن: بلى والله، ولقد طاوعت معاوية على دنياه، وسارعت في هواه، فلئن قام بك في دنياك فقد قعد بك في دينك، فليتك إذ أسأت الفعل أحسنت القول، فتكون كما قال الله تعالى " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً " " التوبة: 102 " ولكنك كما قال الله تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " " المطففين: 14 ". وكنية حبيب هذا أبو عبد الرحمن، ولاه معاوية أرمينية فمات بها سنة اثنتين وأربعين للهجرة ولم يبلغ خمسين سنة.
    وكانت لديك الجن جارية يهواها اسمها دنيا، فاتهمها بغلامه الوصيف فقتلها ثم ندم على ذلك فأكثر من التغزل فيها، فمن ذلك قوله :
    يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الردى بيديها
    رويت من دمها الثرى ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها
    مكنت سيفي من مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها
    فوحق نعليها وما وطئ الحصى ... شيء أعز علي من نعليها
    ما كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها
    لكن بخلت على سواي بحبها ... وأنفت من نظر الغلام إليها 
    جاءت تزور فراشي بعد ما قبرت ... فظلت ألثم نحراً زانه الجيد
    وقلت قرة عيني قد بعثت لنا ... فكيف ذا وطريق القبر مسدود
    قالت هناك عظامي فيه مودعةً ... تعيث فيها بنات الأرض والدود
    وهذه الروح قد جاءتك زائرةً ... هذي زيارة من في القبر ملحود
    وله فيها، وقيل أن هذه الأبيات لها في ولدها منه، واسمه رغبان :
    بأبي نبذتك بالعراء المقفر ... وسترت وجهك بالتراب الأعفر
    بأبي بذلتك بعد صونٍ للبلى ... ورجعت عنك صبرت أو لم أصبر
    لو كنت أقدر أن أرى أثر البلى ... لتركت وجهك ضاحياً لم يقبر
    [ويروى أن المتهم بالجارية غلام كان يهواه فقتله أيضاً، وصنع فيه أبياتاً وهي :
    أشفقت أن يرد الزمان بغدره ... أو أبتلى بعد الوصال بهجره
    فقتلته وله علي كرامةٌ ... ملء الحشا وله الفؤاد بأسره
    قمرٌ أنا استخرجته من دجنه ... لبليتي ورفعته من خدره
    عهدي به ميتاً كأحسن نائمٍ ... والحزن ينحر في مقلتي في نحره
    لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحي منه بكى له في قبره
    غصصٌ تكاد تفيظ منها نفسه ... ويكاد يخرج قلبه من صدره 
    فصنعت أخت الغلام:
    يا ويح ديك الجن يا تباً له ... مما تضمن صدره من غدره
    قتل الذي يهوى وعمر بعده ... يا رب لا تمدد له في عمره وقد ذكر أبو بكر الخرائطي في كتاب " اعتلال القلوب "  حديثه وشعره وله كل معنى حسن، رحمه الله تعالى.
    ورغبان: بفتح الراء وسكون الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون.
    وقد تقدم الكلام على سلمية في ترجمة المهدي عبيد الله. وحمص: مدينة مشهورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق