الأحد، 19 مارس 2017

العباس بن الأحنف

    أبو الفضل العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة بن جردان بن كلدة ابن خريم بن شهاب بن سالم بن حية بن كليب بن عبد الله بن عدي بن حنيفة بن لجيم الحنفي اليمامي الشاعر المشهور؛ كان رقيق الحاشية لطيف الطباع، جميع شعره في الغزل، لا يوجد في ديوانه مديح، ومن رقيق شعره قوله من جملة قصيدة (2) :
    يا أيها الرجل المعذب نفسه ... أقصر فإن شفاءك الإقصار
    نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عيناً يعينك دمعها المدرار
    من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عيناً للبكاء تعار
    ذكر أبو علي القالي في كتاب " الأمالي "  قال: قال بشار بن برد: ما زال غلام من بني حنيفة يدخل نفسه فينا ويخرجها منا حتى قال هذه الأبيات.
    ومن شعره أيضاً من جملة أبيات، وينسبان إلى بشار بن برد أيضاً والله أعلم  :
    أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
    واستنهضوني فلما قمت منتصباً ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا
    [ويحكى أن الرشيد كان يهوى جاريته ماردة هوى شديداً، فتغاضبا مرة ودام بينهما الغضب، فأمر جعفر البرمكي العباس بن الأحنف أن يعمل في ذلك شيئاً فعمل  :
    راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إذ المتيم قلما يتجنب
    إن التجانب إن تطاول منكما ... دب السلو له ففر المطلب
    وأمر إبراهيم الموصلي فغنى بهما، فلما سمعه الرشيد بادر إلى ماردة فترضاها، فسألت عن السبب في ذلك فقيل لها، فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم وأمرت الرشيد أن يكافئهما فأمر لهما بأربعين ألف درهم .
    وله أيضاً :
    تعب يطول مع الرجاء لذي الهوى ... خير له من راحةٍ في اليأس
    لولا محبتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس وله أيضاً:
    وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... جنوناً فزدني من حديثك يا سعد
    هواها هوًى لم يعرف القلب غيره ... فليس له قبلٌ وليس له بعد وله أيضاً:
    إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعةٌ ... فلا خير في ودٍ يكون بشافع
    فأقسم ما تركي عتابك عن قلًى ... ولكن لعلمي أنه غير نافع
    وإني إذا لم ألزم الصبر طائعاً ... فلا بد منه مكرهاً غير طائع
    قيل أنه أنشد الرشيد يوماً قوله  :
    طاف الهوى في عباد الله كلهم ... حتى إذا مر بي من بينهم وقفا
    قال له الرشيد: ما الذي رأى فيك حتى وقف عليك قال: سألني عن وجود أمير المؤمنين فأخبرته، فاستحسن الرشيد جوابه ووصله.
    قيل إن الرشيد  عمل في الليل بيتاً ورام أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه، فقال: علي بالعباس، فلما طرق عليه ذعر وفزع أهله، فلما وقف بين يدي الرشيد قال له: وجهت إليك بسبب بيت قلته ورمت أن أشفعه بمثله فامتنع القول علي، فقال: يا أمير المؤمنين، دعني حتى ترجع إلي نفسي فإني تركت عيالي على حال من القلق عظيمة، ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف؛ فانتظر هنيهة ثم أنشده:
    جنانٌ قد رأيناها ... شطر ثانيولم نر مثلها بشرا 
    فقال العباس بن الأحنف:
    يزيدك وجهها حسناً ... إذا ما زدته نظرا فقال: زدني، فقال:
    إذا ما الليل سال علي ... ك بالإظلام واعتكرا
    ودج فلم تر قمراً ... فأبرزها تر قمرا
    فقال له الرشيد: قد ذعرناك وأفزعنا عيالك وأقل الواجب أن نعطيك ديتك، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
    وله - أعني الرشيد -:
    إن تشق عيني بها فقد سعدت ... عينا رسولي وفزت بالخبر
    وكلما جاءني الرسول لها ... رددت عمداً في عينه نظري
    خذ مقلتي يارسول عاريةً ... فانظر بها واحتكم على بصري 
    وأخذ المأمون هذا المعنى بعينه فقال:
    بعثتك مرتاداً ففزت بنظرةٍ ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
    فناجيت من أهوى وكنت مباعداً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
    أرى أثراً منها بعينك بيناً ... لقد أخذت عيناك من عينها حسناً
    وللعباس أيضاً  :
    أغيب عنك بودٍ لا يغيره ... نأي المحل ولا صرفٌ من الزمن
    فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت فبطول الهم والحزن
    قد حسن الحب في عيني ما صنعت ... حتى أرى حسناً ما ليس بالحسن
    تعتل بالشغل عنا لا تكلمنا ... الشغل للقلب ليس الشغل للبدن
    قال الزبير بن بكار: لا أعلم شيئاً من أمور الدنيا خيرها وشرها إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بنصف هذا البيت الأخير.
    وله أيضاً :
    قد كنت أبكي وأنت راضيةٌ ... حذار هذا الصدود والغضب
    إن تم ذا الهجر يا ظلوم ولا ... تم فما لي في العيش من أرب وله أيضاً:
    أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
    صرت كأني ذبالةٌ نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق
    قال الرياشي: لو لم يقل من الشعر إلا هذين البيتين لكفياه.
    وقال أبو بكر الصولي  : كنت عند القاسم بن إسماعيل فقال: انشدني عمك إبراهيم بن العباس لخاله العباس بن الأحنف:
    قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا
    فكاذبٌ قد رمى بالظن غيركم ... وصادقٌ ليس يدري أنه صدقا
    قال عبد الله بن المعتز: لو قيل لي: ما أحسن شيء تعرفه لقلت: بيتا العباس بن الأحنف، وأنشد هذين البيتين.
    وله أيضاً (2) :
    اليوم آخر أيام السرور به ... واليوم أول يومٍ فيه أكتئب
    ما كنت أحسب أن الحزن ينزل بي ... بعد السرور فقد جاءت به العقب وله ايضاً:
    خيالك حين أرقد نصب عيني ... إلى وقت انتباهي لا يزول
    وليس يزورني صلةً ولكن ... حديث النفس عنك به الوصول وله أيضاً:
    يا ذا الذي أنكرني طرفه ... إن ذاب جسمي وعلاني الشحوب
    ما مسني ضرٌ ولكنني ... جفوت نفسي إذ جفاني الحبيب وله أيضاً:
    أرى الطريق قريباً حين أسلكه ... إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف
    وشعره كله جيد، وهو خال إبراهيم بن العباس الصولي - وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته في حرف الهمزة.
    وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة ببغداد.
    وحكى عمر بن شبة قال: مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف وهشيمة الخمارة، فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا الأول فقالوا: إبراهيم الموصلي، فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف، فقدم فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال: يا سيدي، كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر فأنشد  :
    وسعى بها ناس فقالوا: إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد
    فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد ثم قال: أتحفظهما فقلت: نعم، وأنشدته، فقال لي المأمون: أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة فقلت: بلى والله يا سيدي.
    قلت: وهذه الحكاية تخالف ما يأتي في ترجمة الكسائي، لأنه مات بالري على الخلاف في تاريخ وفاته  . وقيل إن العباس توفي سنة اثنتين وتسعين ومائة ، وقال أبو بكر الصولي: حدثني عون بن محمد قال: حدثني أبي قال: رأيت العباس بن الأحنف ببغداد بعد موت الرشيد، وكان منزله بباب الشام، وكان لي صديقاً، ومات وسنه أقل من ستين سنة. قال الصولي: وهذا يدل على أنه مات بعد سنة اثنتين وتسعين، لأن الرشيد ملت ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة بمدينة طوس.
    وكانت وفاة الأحنف والد العباس المذكور سنة خمسين ومائة، ودفن بالبصرة، رحمه الله تعالى. وحكى المسعودي في كتاب " مروج الذهب "  عن جماعة من أهل البصرة قالوا: خرجنا نريد الحج، فلما كنا ببعض الطريق إذا غلام واقف على المحجة وهو ينادي: أيها الناس هل فيكم أحد من أهل البصرة قال: فعدلنا إليه وقلنا له: ما تريد قال: إن مولاي لما به يريد أن يوصيكم، فملنا معه، فإذا بشخصٍ ملقى على بعد من الطريق تحت شجرة لا يحير جواباً، فجلسنا حوله، فأحس بنا فرفع طرفه وهو لايكاد يرفعه ضعفاً، وأنشأ يقول  :
    يا غريب الدار عن وطنه ... مفرداُ يبكي على شجنه
    كلما جد البكاء به ... دبت الأسقام في بدنه
    ثم أغمي عليه طويلاً ونحن جلوس  حوله، إذ أقبل طائر فوقع على أعلى الشجرة وجعل يغرد ففتح عينيه وجعل يسمع تغريد الطائر، ثم أنشأ الفتى يقول:
    ولقد زاد الفؤاد شجًى ... طائر يبكي على فننه
    شفه ما شفني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه
    قال: ثم تنفس تنفساً فاضت نفسه  منه، فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه وتولينا الصلاة عليه، فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه، فقال: هذا العباس بن الأحنف، رحمه الله تعالى؛ والله أعلم أي ذالك كان.
    والحنفي: بفتح الحاء المهملة والنون وبعدها فاء، هذه النسبة إلى بني حنيفة ابن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وهي قبيلة كبيرة مشهورة، واسم حنيفة أثال - بضم الهمزة وبعدها ثاء مثلثة وبعد الألف لام - وإنما قيل له حنيفة لأنه جرى بينه وبين الأحزن بن عوف العبدي مفاوضة في قصة يطول شرحها فضرب حنيفة الأحزن المذكور بالسيف، فجذمه فسمي جذيمة، وضرب  
    الأحزن حنيفة على رجله فحنفها، فسمي حنيفة وحنيفة، أخو عجل.
    واليمامي: بفتح الياء المثناة من تحتها والميم وبعد الألف ميم ثانية، هذه النسبة إلى اليمامة، وهي بلدة بالحجاز في البادية أكثر أهلها بنو حنيفة وبها تنبأ مسيلمة الكذاب  وقتل، وقصته مشهورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق