الأحد، 18 يونيو 2017

شبل الدولة

    أبو الهيجاء مقاتل بن عطية بن مقاتل البكري الحجازي، الملقب شبل الدولة؛ كان من أولاد أمراء العرب، فوقع بينه وبين إخوته وحشة أوجبت رحيله عنهم، ففارقهم ووصل إلى بغداد ثم خرج إلى خراسان وانتهى إلى غزنة، وعاد إلى خراسان، واختص بالوزير نظام الملك وصاهره، ولما قتل نظام النلك رثاه أبو الهيجاء المذكور ببيتين، تقدم ذكرهما في ترجمته.
    ثم عادى إلى بغداد وأقام بها مدة، وعزم على قصد كرمان مسترفداً وزيرها ناصر الدين مكرم بن العلاء، وكان من الأجواد المشاهير، فكتب إلى الأمام المستظهر بالله قصة يلتمس فيها الإنعام عليه بكتاب إلى الوزير المذكور، مضمونه الإحسان إليه، فوقع المستظهر على رأس قصته: " يا أبا الهيجاء، أبعدت النجعة، أسرع الله بك الرجعة، وفي ابن العلاء مقنع، وطريقه في الخير مَهْيَع، وما يسديه إليك تستحلي ثمرة شكره، وتستعذب مياه بره، والسلام " فاكتفى أبو الهيجاء بهذه الأسطر، واستغنى عن الكتاب.
    وتوجه إلى كرمان، فلما وصلها قصد حضرة الوزير واستأذن في الدخول فأذن له، فدخل عليه وعرض على رأيه القصة، فلما رآها قام وخرج عن دسته فأذن له، إجلالاً لها وتعظيماً لكاتبها، وأطلق لأبي الهيجاء ألف دينار في ساعته ثم عاد إلى دسته، فعرفه أبو الهيجاء أن معه قصيدة يمدحه بها، فاستنشده إياها فأنشده:
    دع العيس تذرع عرض الفلا ... إلى ابن العلاء، وإلا فلا فلما سمع الوزير هذا البيت أطلق له ألف دينار أخرى، ولما أكمل إنشاده القصيدة أطلق له ألف دينار أخرى، وخلع عليه، وقاد إليه جواداً بمركبة، وقال له: دعاء أمير المؤمنين مسموع مرفوع، وقد دعا بسرعة الرجوع، وجهزه بجميع ما يحتاج إليه.
    فرجع إلى بغداد وأقام بها قليلاً، ثم سافر إلى ما وراء النهر وعاد إلى خراسان ونزل إلى مدينة هراة، وهوي بها امرأة وأكثر من التشبيب فيها، ثم رحل إلى مرو واستوطنها؛ ومرض في آخر عمره وتسودن، وحمل إلى البيمارستان، وتوفي في حدود سنة خمس وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
    وكان من جملة الأدباء الظرفاء، وله النظم البديع الرائق، وبينه وبين العلامة أبي القاسم الزمخشري المقدم ذكره مكاتبات ومادعبات، وكتب إليه قبل الاجتماع به:
    هذا أديب كامل ... مثل الدراري درره
    زمخشري فاضلٌ ... أنجبه زمخشره
    كالبحر إن لم أره ... فقد أتاني خبره فكتب إليه الزمخشري:
    شعره أمطر شعري شرفا ... فاعتلى منه ثياب الحسد (1) كيف لا يستأسد النبت إذا ... بات مسقياً بنوء الأسد (1) وله كل مقطوع لطيف، رحمه الله تعالى.
    والوزير المذكور هو الذي تقدم ذكره في ترجمة أبي إسحاق إبراهيم الغزي الشاعر المشهور، فإن قصده بكرمان وامتدحه بقصيدة بائية طنانة ذكرت منها في ترجمة الغزي بيتين هما من الشعر العجيب، وضمنهما المعنى الغريب.
    وأول هذه القصيدة:
    ورود ركايا الدمع يكفي الركائبا ... وشم تراب الربع يشفي الترائبا
    إذا شمت من برق العقيق عقيقه ... فلا تنتجع دون الجفون (2) السحائبا ومنها عند الخروج إلى المديح:
    وعيسٍ لها برهان عيسى بن مريم ... إذا قتل الفج العميق المطالبا
    يرقصهن الآل إما طوافيا ... تراهن في آذيه أو رواسبا
    سوانح (3) كالبنيان تحسب أنني ... مسحت المطايا إذ مسحت السباسبا
    تنسمن من كرمان عرفاً عرفته ... فهن يلاعبن النشاط لواغبا
    يرين وراء الخفاقين من المنى ... مشارق لم يؤبه لها ومغاربا
    إلى ماجد لم يقبل المجد وارثاً ... ولكن سعى حتى حوى المجد كاسبا
    تبسم ثغر الدهر منه بصاحب ... إذا جد لم يصحب سوى العزم صاحبا ومنها:
    تصيخ له الأسماع ما دام قائلاً ... وتعنو له الأبصار مادام كاتبا
    ولم أر ليثاً خادراً قبل مكرم ... ينافس في العليا ويعطي الرغائبا
    ولو لم يكن ليثاً مع الجود لم يكن ... إذا صال بالأقلام صارت مخالبا
    ومنها:
    إذا زان قوماً بالمناقب واصف ... ذكرنا له فضلاً يزين المناقبا
    له السئيم الشم التي لو تجسمت ... لكانت لوجه الدهر عيناً وحاجبا
    ثنى نحو شمطاء الوزارة طرفه ... فصارت بأدنى لحظة منه كاعبا
    تناول أولاها وما مد ساعداً ... وأحرز أخراها وما قام واثبا وهي من غرر القصائد، وفي هذا الأنموذج منها دلالة على الباقي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق