الاثنين، 3 يوليو 2017

مخلص الدولة ابن منقذ

    أبو المتوج مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، الملقب مخلص الدولة، والد الأمير سديد الدولة أبي الحسن علي صاحب قلعة شيزر، المقدم ذكره؛ كان رجلاً نبيل القدر سائر الذكر، رزق السعادة في بنيته وحفدته،، وقد تقدم في ترجمة ولده المذكور طرف من بدء أمرهم، وكيف ملك القلعة المذكورة.
    وكان والده مقلد المذكور في جماعة كثيرة من أهل بيته مقيمين بالقرب من 
    قلعة شيزر عند جسر بني مقلد المنسوب إليهم، وكانوا يترددون إلى حلب وحماة وتلك النواحي، ولهم بها الآدار  النفسية والملاك المثمنة، وذلك كله قبل أن ملكوا  قلعة شيزر، وكان ملوك الشام يكرمونهم ويبجلون أقدارهم، وشعراء عصرهم يقصدونهم ويمدحونهم، وكان فيهم جماعة أعيان رؤساء كرماء علماء، وقد سبق ذكر أسامة بن منقذ  ، وهو من أحفاده.
    ولم يزل مخلص الدولة في رياسته وجلالته، إلى أن توفي في ذي الحجة سنة خمسين وأربعمائة بحلب، وحمل إلى كفرطاب؛ ورأيت في ديوان ابن سنان الخفاجي الشاعر عقيب أشعار له في المذكور  ، يقول ما صورته: وقال يرثيه وقد توفي في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، والله أعلم بالصواب، رحمه الله تعالى. ورثاه القاضي أبو يعلى حمزة بن عبد الرزاق بن أبي حصين  بهذه القصيدة، وهي من فائق الشعر، وأنشدها لولده أبي الحسن علي المذكور، سأذكرها كلها إن شاء الله تعالى، وإن كانت طويلة، لكنها غريبة قليلة الوجود بأيدي الناس، وما رأيت أحداً قط يحفظ منها إلا أبياتاً يسيرة فأحببت ذكرها لذلك، وهي هذه:
    ألا كل حي مقصدات مقاتله ... وآجل ما يخشى من الدهر عاجله
    وهل يفرح الناجي السليم وهذه ... خيول الردى قدامه (6) وحبائله
    لعمر الفتى إن السلامة سلم ... إلى الحين والمغرور بالعيش آمله
    فتسلب أثواب الحياة معارها ... ويقضي غريم الدين ما هو ماطله
    مضى قيصرٌ لم تغن عنه قصوره ... وجدل كسرى ما حمته مجادله
    وما صد هلكاً عن سليمان ملكه ... ولا منعت منه أباه سرابله
    ولم يبق إلا من يروح ويغتدي ... على سفر ينأى عن الأهل قافله
    وما نفس الإنسان إلا خزامة ... بأيدي المنايا والليالي مراحله
    فهل غال بدءاً مخلص الدولة الردى ... وهل تنزوي عمن سواه غوائله
    ولكنه حوض الحمام، ففارط ... إليه، وتالٍ مسرعاتٍ رواحله
    لقد دفن الأقوام أروع لم تكن ... بمدفونةٍ طول الزمان فضائله
    سقى جدثاً هالت عليه ترابه ... أكفهم طل الغمام ووابله
    ففيه سحابٌ يرفع المحل هديه ... وبحر ندىً يستغرق البر ساحله
    كأن ابن نصر سائراً في سريره ... حبي (1) من الوسمي أقشع هاطله
    يمر على الوادي فتثني رماله ... عليه، وبالنادي فتبكي أرامله
    سرى تعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله
    أناعيه إن النفوس منوطةٌ ... بقولك فانظر ما الذي أنت قائله
    بفيك الثرى لم تدر من حل بالثرى ... جهلت وقد يستصغر الأمر جاهله
    هو السيد المهتز للتم بدره ... وللجود عطفاه وللطعن عالمه
    أفاض عيون الناس حتى كأنما ... عيونهم مما تفيض أنامله
    فيا عين سحي لا تشحي بسائل ... على ماجد لم يعرف الشح سائله
    متى يسألوه المال تند بنانه ... وإن لم يسألوه الضيم تبد عوامله
    وكم عاد عنه بالخسار مقنع ... وكم نال منه قانع ما يحاوله
    له الغلب القاضي على كل باسل ... يجالده أو كل خصم يجادله
    محاسنه في روضةٍ طلها الندى ... ولكنه في المجد مات مساجله
    فيا عمره أنى قصرت ولم تطل ... منازله بل كفه بل حمائله
    جرت تحته العلياء ملء فروجها ... إلى غاية طالت على من يطاوله
    فما مات حتى نال أقصى مراده ... كما يستسر البدر تمت منازله (1)
    فتى طالما يعتاده الجيش عافياً ... فينزله أو عادياً فينازله
    صفوحٌ عن الجاني وصفحة سيفه ... إذا هي لم تقتله فالصفح قاتله
    وأدمى عسيب الطرف بعدك هلبه ... وعادته أن يقذف الدم كاهله
    فيا طرفه ما كان عجزك حاملاً ... أدى (2) صارم لو أن ظهرك حامله
    لقد كثر الملبوس بعد مروع ... جرت ببيان المشكلات شواكله
    إذا ظن لا يخطي كأن ظنونه ... على ما يضل الناس عنه دلائله
    فلا رحلت عنه نوازل رحمةٍ ... ضحاه بها موصولة وأصائله
    وروى ثراه منهن العفو في غد ... فقد روت العافين أمس مناهله
    قضى الله أن يرزا الأمير وهذه ... صوافنه موقورة (3) ومناصله
    وكل فتى كالبراق إبريق غمده (4) ... إذا شماه (5) ، او كالذبالة ذابله
    فليت ظباه صلت اليوم خلفه ... وظلت على غير الصيام صواهله
    بني منقذ صبراً فإن مصابكم ... يصاب به حافي الأنام وناعله
    لقد جل حتى كل واجد لوعة ... إذا لج فيها ليس يوجد عاذله
    إذا صوحت أيدي الرجال فأنتم ... بني منقذ روض الندى وخمائله
    وإن فر من وزر الزمان مفرحٌ ... فإنكم أوزاره ومعاقله
    وصاحب، علي، الصبر عنه فما غوى ... مصاحب صبرٍ عن حبيب يزايله
    وما نام حتى قام منك وراءه ... أخو يقظات وافر العزم  كامله
    كأنكما نوءان في فلك العلا ... فطالعه هذه وذلك آفله
    وما كفلوك (1) الأمر إلا لعلمهم ... قيامك بالأمر الذي أنت كافله
    سعيت إلى نيل المكارم سعيه ... ولو كنت لا تسعى كفتك فواضله
    ولم تر أن ترقى بما كان فاعلاً ... أجل إنما المرفوع بالفعل فاعله
    لعمرك إني في الذي عن كله ... شريك عنان ناصح الود ناخله
    وكيف خلو القلب من ذلك الهوى ... وقد خلدت بين الشغاف دواخله
    نجزت القصيدة بتمامها وكمالها. وقد تقدم في ترجمة الصالح طلائع بن رزيك وزير مصر مرثية رثاه بها الفقيه عمارة الميني، وهي على وزن هذه المرثية ورويها، ولم أذكر منها هناك سوى أبيات قلائل لكثرة وجود ديوان عمارة بأيدي الناس، وهذه لا تكاد توجد بكمالها، فلهذا أتممتها ها هنا، وقد تقدم منها ذكر بيتين في ترجمة الوزير جمال الدين أبي جعفر محمد المعروف بالجواد الأصبهاني وزير الموصل.
    وتوفي أخوه أبو الغيث منقذ بن نصر بن منقذ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، ورثاه الشيخ الأديب أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن يحيى بن الحسين بن محمد بن الربيع بن سنان بن الربيع الخفاجي الحلبي الشاعر المشهور صاحب الديوان الشعر بقوله، وهو من شعره القديم زمن الصبا:
    غربت خلائقك الحسان غريبةً ... ورمى الزمان دنوها ببعاد
    ذهبت كما ذهب الربيع وخلفت ... فيض الدموع حرارة الأكباد والخفاجي المذكور رثى مخلص الدولة المذكور أيضاً بقصيدة طويلة رائية، ومدحه بأخرى حائة أجاد فيهما وتركتهما لطولهما، والله تعالى أعلم بالصواب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق