السبت، 3 يونيو 2017

موفق الدين العيلاني المصري

    أبو العز مظفر بن إبراهيم بن جماعة بن علي بن شامي (2) بن أحمد بن ناهض بن عبد الرزاق العيلاني، الحنبلي المذهب الملقب موفق الدين، الشاعر المشهور المصري؛ كان أديباً عروضياً شاعراً مجيداً، صنف في العروض مختصراً جيداً دل على حذقه فيه، وله ديوان شعر رائق (3) ، وكان ضريراً، فمن شعره:
    قالوا عشقت وأنت أعمى ... ظبياً كحيل الطرف ألمى
    وحلاه ما عاينتها ... فنقول قد شغفتك هما
    وخياله بك في المنا ... م فما أطاف ولا ألما
    من أين أرسل للفؤا ... د، وأنت لم تنظره، سهما
    ومتى رأيت جماله ... حتى كساك هواه سقما
    والعين داعية الهوى ... وبه تنم إذا تنمى] (1)
    وبأي جارحة وصل ... ت لوصفه نثراً ونظما
    فأجبت إني موسو ... ي العشق إنصاتاً وفهما
    أهوى بجارحة السما ... ع، ولا أرى ذات المسمى ولقد أذكرتني هذه الأبيات أبياتاً لرجل ضرير أيضاً، والشيء بالشيء يذكر، وهي هذه:
    وغادة قالت لأترابها ... يا قوم ما أعجب هذا الضرير
    أيعشق الإنسان ما لا يرى ... فقلت والدمع بعيني غزير:
    إن لم تكن عيني رأت شخصها ... فإنها قد مثلت في الضمير ومثل هذا أيضاً قول المهذب عمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي الأديب الشاعر المشهور من جملة قصيدة طويلة مدح بها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، والبيت المقصود قوله:
    وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها، والأذن كالعين تعشق
    وقد أخذ هذا المعنى من قول بشاربن برد الشاعر المقدم ذكره:
    يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... سمعت بها، والأذن تعشق قبل العين أحياناً
     وكان الوزير صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي، عرف بابن شكر، قد عاد من الشام إلى مصر، فخرج أصحابه للقائه إلى الخشبي المنزلة المجاورة للعباسة، فكتب مظفر المذكور إليه هذه الأبيات، يعتذر من تأخره عن الخروج إليه وهي:
    قالوا إلى الخشبي سرنا على عجل ... نلقى الوزير جميعاً ذوي الرتب 
    ولم تسر أيها الأعمى، فقلت لهم: ... لم أخش من تعب ألقى ولا نصب
    وإنما النار في قلبي لوحشته ... فخفت أجمع بين النار والخشب وهذا المعنى مطروق لكنه استعمله حسناً.
    وأخبرني أحد أصحابه أن شخصاً يقال له: رأيت في بعض تواليف أبي العلاء المعري ما صورته: أصلحك الله وأبقاك، لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي، لكي نحدث عهداً بك يا زين الأخلاء، فما مثلك من غير عهداً أو غفل؛ وسأله: من أي الأبحر هذا وهل هو بيت واحد أم أكثر فإن كان أكثر فهل أبياته على روي واحد أم هي مختلفة الروي قال: فأفكر فيه، ثم أجابه بجواب حسن، فلما قال لي المخبر ذلك قلت له: اصبر علي حتى أنظر فيه ولا تقل ما قاله، ثم أفكرت فيه فوجدته يخرج من بحر الرجز، وهو المجزوء منه، وتشتمل هذه الكلمات على أربع أبيات على روي الكلام، وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضيين، ومن لا يكون له معرفة بهذا الفن فإنه ينكرها، لأجل قطع الموصول منها، ولا بد من الإتيان بها لتظهر صورة ذلك، وهي:
    أصلحك (1) الله وأب ... قاك لقد كان من ال
    واجب أن تأتينا الي ... وم إلى منزلنا ال
    خالي لكي نحدث عه ... داً بك يا زين الأخل
    لاء فما مثلك من ... غير عهداً أو غفل وهذا إنما يذكره أهل هذا الشأن للمعاياة، لا لأنه من الأشعار المستعملة، فلما استخرجته عرضته على ذلك الشخص فقال: هكذا قاله مظفر الأعمى.
    وقال الشيخ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المحدث المصري، رحمه الله تعالى، أخبرني الأديب موفق الدين مظفر الضرير الشاعر المصري أنه دخل على القاضي السعيد بن سناء الملك - قلت: وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، واسمه هبة الله - قال: فقال لي: يا أديب، قد صنعت نصف بيت، ولي أيام أفكر فيه، ولا يأتي لي تمامه، فقلت: وما هو فأنشدني:
    بياض عذارى من سواد عذاره ... قال مظفر: فقلت: قد حصل تمامه وأنشدت:
    كما جل ناري فيه من جلناره ... فاستحسنه، وجعل يعمل عليه، فقلت في نفسي: أقوم وإلا يعمل المقطوع من كيسي  .
    وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود، لكن الكلام يسوق بعضه بعضاً.
    [وكتب مظفر المذكور لتقي الدين، ومدحه جماعة هو منهم، فخلع على الجميع ولم يخلع عليه:
    العبد مملوك مولانا وخادمه ... مظفر الشاعر الأعمى حليف ضنى
    يقبل الأرض إجلالاً لمالكه ... رقاً، وينهي إليه بعد كل هنا
    أن القميص جميع الناس قد بصروا ... به وما منهم يعقوب غير أنا وله يوم رمي الشواني:
    يا أيها الملك المسرور آمله ... هذي شوانيك ترمي يوم سراء
    كأنما هي قعبان بها ظمأ ... طاردت من البحر وانقضت على الماء وله في يوم لعبها:
    مولاي هذه الشواني في ملاعبها ... مثل الشواهين بين السهل والجبل
    تسقي مجاذيفها ماء وتنفضه ... نفض العقاب جناحهيا من البلل وله يصف فانوس الجامع العتيق بمصر:
    أرى علماً للناس ينصب ... على جامع ابن العاص أعلاه كوكب
    وما هو في الظلماء إلا كأنه ... على رمح زنجي سنان مذهب
    ومن عجب أن الثريا سماؤها ... مع الليل تلهي كل من يترقب
    فطوراً تحييه بباقة نرجس ... وطوراً يحييها بكاس تلهب
    وما الليل إلا قانص لغزالة ... بفانوس نار نحوها يتطلب
    ولم أر صيداً على البعد قبله ... إذا قربت منه الغزالة يهرب وشعره كثير] (1) .
    وكانت ولادة مظفر المذكور لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمصر. وتوفي بها سحر يوم السبت التاسع من المحرم سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ودفن من الغد بسفح المقطم، رحمه الله تعالى.
    والعيلاني، بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعد اللام ألف نون، هذه النسبة إلى قيس عيلان، وقيل قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن عدنان، فمن قال إنه قيس علان فقد اختلفوا في عيلان ماذا فمنهم من قال: هو اسم فرس كان له فأضيف إليه، وقيل اسم كلب كان له، وقيل اسم رجل كان قد حضنه صغيراً، وإنما أضيف إلى عيلان لأنه كان في عصره شخص يقال له قيس كبة - بضم الكاف وتشديد الباء الموحدة - وهو اسم فرس كنت له أيضاً، فكان كل واحد منهما يضاف إلى ما له ليتميز عن الآخر، والله أعلم، وقد قيل إن قيس عيلان اسمه الناس - بالنون - وهو أخو إلياس - بالياء - جد النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم بالصواب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق