الأحد، 16 فبراير 2025

نصر الخبزأرزي

أبو القاسم نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون البصري، المعروف بالخبزأرزي الشاعر المشهور؛ كان أمياً لا يتهجى ولا يكتب، وكان يخبز خبز الأرز بمربد البصرة في دكان، وكان ينشد أشعاره المقصورة على الغزل والناس يزدحمون عليه ويتطرفون باستماع شعره ويتعجبون من حاله وأمره، وكان أبو الحسين محمد بن محمد المعروف بابن لنكك، البصري الشاعر المشهور - مع علو قدره عندهم - ينتاب دكانه ليسمع شعره، واعتنى به، وجمع له ديواناً، وكان نصر المذكور قد وصل إلى بغداد وأقام بها دهراً طويلاً.



وذكره الخطيب في تاريخه وقال: قرأ عليه ديوانه، وروى عنه مقطعات من شعره المعافى بن زكريا الجريري، وأحمد بن منصور بن محمد بن حاتم النوشري، وعد جماعة رووا عنه.

وذكره الثعالبي في كتاب " اليتيمة " وأورد له مقاطيع، فمن ذلك قوله:

خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولىً تمشى إلى عبد أتى زائراً من غير وعد وقال لي: ... أجلك عن تعليق قلبك بالوجد



فما زال نجم الوصل بيني وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد

فطوراً على تقبيل نرجس ناظر ... وطوراً على تعضيض تفاحة الخد وأورد له أيضاً:

ألم يكفني ما نالني من هواكم ... إلى أن طففتم بين لاه وضاحك

شماتتكم بي فوق ما قد أصابني ... وما بي دخول النار بي طنز مالك وذكر له أيضاً :

كم أناس وفوا لنا حين غابوا ... وأناس جفوا وهم حضار

عرضوا ثم أعرضوا، واستمالوا ... ثم مالوا، وجاوروا ثم جاروا

لا تلمهم على التجني فلو لم ... يتجنوا لم يحسن الاعتذار

ومن شعره أيضاً:

وكان الصديق يزور الصديق ... لشرب المدام وعزف القيان

فصار الصديق يزور الصديق ... لبث الهموم وشكوى الزمان

ومن شعره أيضاً:

كم أقاسي لديك قالاً وقيلا ... وعدات ٍ تترى ومطلاً طويلا

جمعةٌ تنقضي وشهر يولي ... وأمانيك بكرة وأصيلا

إن يفتني منك الجميل من الفع ... ل تعاطيت عنك صبراً جميلا

والهوى يستزيد حالاً فحالاً ... وكذا ينسلي قليلاً قليلا

ويك لا تأمنن صروف الليالي ... إنها تترك العزيز ذليلا

فكأني بحسن وجهك قد صاح ... ت به اللحية الرحيل الرحيلا

فتبدلت حين بدلت بالنو ... ر ظلاماً، وساء ذاك بديلا

فكأن لم تكن قضيباً رطيباً ... وكأن لم تكن كثيباً مهيلا

عندها يشمت الذي لم تصله ... ويكون الذي وصلت خليلا وله أيضاً:

رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النظر

فلم أدر من حيرتي فيهما ... هلال الدجى من (١) هلال البشر

ولولا التورد في الوجنتين ... وما راعني من سواد الشعر

لكنت أظن الهلال الحبيب ... وكنت أظن الحبيب القمر وقال أحمد بن منصور بن محمد بن حاتم الموشري: أنشدنا أبو القاسم نصر ابن أحمد الخبرأرزي لنفسه:

بات الحبيب منامي ... والسكر يصبغ وجنتيه

ثم اغتدى وقد ابتداء ... صبغ الخمار بمقلتيه

وهبت له عيني الكرى ... وتعوضت نظراً إليه

شكراً لإحسان الزما ... ن كما يساعدني عليه وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " ما مثاله: حكى أبو محمد عبد الله بن محمد الأكفاني النصري، قال: خرجت مع عمي أبي عبد الله الأكفاني الشاعر

وأبي الحسين ابن لنكك  وأبي عبد الله المفجع وأبي الحسن  السباك، في بطالة عيد، وأنا يومئذ صبي أصحبهم، فمشوا حتى انتهوا إلى نصر بن أحمد الخبرأرزي، وهو جالس يخبر على طابقه، فجلست الجماعة عنده يهنونه بالعيد ويتعرفون خبره، وهو يوقد السعف تحت الطابق، فزاد في الوقود فدخنهم، فنهضت الجماعة عند تزايد الدخان، فقال نصر بن أحمد لأبي الحسن ابن لنكك: متى أراك يا أبا الحسين فقال له أبو الحسين: إذا اتسخت ثيابي، وكانت ثيابه يومئذ  جدداً على أنقى ما يكون من البياض للتجمل بها في العيد، فمشينا في سكة بني سمرة، حتى انتهينا إلى دار أبي أحمد ابن المثنى، فجلس أبو الحسين ابن لبكك، قال: يا أصحابنا إن نصراً لا يخلي هذا المجلس الذي مضى لنا معه من شيء يقوله فيه، ويجب أن نبدأه قبل أن يبدأنا، واستدعى دواة وكتب:

لنصر في فؤادي فرط حبٍ ... أنيف به على كل الصحاب

أتيناه فبخرنا بخوراً ... من السعف المدخن للثياب

فقمت مبادراً وظننت نصراً ... أراد بذاك طردي أو ذهابي

فقال: متى أراك أبا حسين ... فقلت له: إذا اتسخت ثيابي وأنفذ الأبيات إلى نصر، فأملى جوابها، فقرأناه فإذا هو قد أجاب:

منحت أبا الحسين صميم ودي ... فداعبني بألفاظ عذاب

أتى وثيابه كقتير شيب ... فعدن له كريعان الشباب

ظننت جلوسه عندي لعرس ... فجدت له بتمسيك الثياب

فقلت: متى أراك أبا حسين ... فجوابني: إذا اتسخت ثيابي

فإن كان الترفه فيه خير ... فلم يكنى الوصي أبا تراب

وحكى أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم الخالديان الشاعران المشهوران في كتاب " الهدايا والتحف "  أن الخبرأرزي أهدى إلى ابن يزداد والي البصرة فصاً وكتب معه:

أهديت ما لو أن أضعافه ... مطرحٌ عندك ما بانا

كمثل بلقيس التي لم يبن ... إهداؤها عند سليمانا

هذا امتحانٌ لك إن ترضه ... بان لنا أنك رضانا والشيء بالشيء يذكر - وجدت في هذا الكتاب نادرة طريقة فأحببت ذكرها، وهي (٢) : كان بأصبهان رجل حسن النعمة واسع النفس كامل المروءة يقال له سماك بن النعمان، وكان يهوى مغنية من أهل أصبهان لها قدر ومعنى تعرف بأم عمرو. فلإفراط حبه إياها وصبابته بها (٣) وهبها عدةً من ضياعه، وكتب عليه بذلك كتباً، وحمل الكتب إليها على بغل، فشاع الخبر بذلك، وتحث الناس به واستعظموه؛ وكان بأصبهان رجل متخلف بين الركاكة يهوى مغنية أخرى فلما اتصل به ذلك ظن بجهله وقلة عقله أن سماكاً أهدى إلى أم عمرو جلوداً بيضاً لا كتابة فيها، وأن هذا من الهدايا التي تستحسن ويجل موقعها عند من تهدى إليه، فاتباع جلوداً كثيرة، وحملها على بغلين لتكون هديته ضعف هدية سماك، وأنفذها إلى التي يحب، فلما وصلت الجلود إليها ووقفت على الخبر فيها تغظيت عليه، وكتبت إليه رقعة تشتمه وتحلف أنها لا تكلمه أبداً، وسألت بعض الشعراء أن يعمل أبياتاً في هذا المعنى لتودعها الرقعة، ففعل، وكانت الأبيات:

لا عاد طوعك من عصاكا ... وحرمت من وصلٍ مناكا

فلقد فضحت العاشقي ... ن بقبح ما فعلت يداكا

أرأيت من يهدي الجلو ... د إلى عشيقته سواكا

وأظن أنك رمت أن ... تحكي بفعلك ذا سماكا

ذاك الذي أهدى الضيا ... ع لأم عمرو والصكاكا

فبعثت منتنةً كأن ... ك قد مسحت بهن فاكا

من لي بقربك يا رقي ... ع ولست أهوى أن أراكا

لكن لعلي أن أقط ... ع ما بعثت على قفاكا ونقلت من هذا الكتاب أيضاً (١) أن اللبادي الشاعر خرج من بعض مدن أذربيجان يريد أخرى، وتحته مهر له رائع، وكانت السنة مجدبة، فضمه الطريق وغلاماً حدثاً على حمار له، قال: فحادثته فرأيته أديباً راوية للشعر، خفيف الروح حاضر الجواب جيدة الحجة، فسرنا بقية يومنا، فأمسيا إلى خان على ظهر الطريق فطلبت من صاحبه شيئاً نأكله، فامتنع  أن يكون عنده شيء، فرفقت به إلى أن جاءني برغيفين، فأخذت واحداً ودفعت إلى ذلك الغلام الآخر، وكان غمي على المهر أن يبيت بغير علف أعظم من غمي على نفسي، فسألت صاحب الخان عن الشعير فقال: ما أقدر منه على حبة واحدة، فقلت: فاطلب لي، وجعلت له جعيلة على ذلك، فمضى وجاءني بعد طويل وقال: قد وجدت مكوكين عند رجل حلف بالطلاق أنه لا ينقصهما عن مائة درهم، فقلت: ما بعد يمين الطلاق كلام، فدفعت إليه خمسين درهم، فجاءني بمكوك، فعلقته على دابتي وجلست أحادث الفتى، وحماره واقف بغير علف، فأطرق ملياً ثم قال: تسمع، أيدك الله، أبياتاً حضرت الساعة فقلت: هاتها، فأنشد:

يا سيد شعري نفياية شعركا ... فلذاك نظمي ما يقوم بنثركا

وقد انبسطت إليك في إنشاد ما ... هو في الحقيقة قطرةمن بحركا

آنستني وسررتني وبررتني ... وجعلت أمري من مقدم أمركا

وأريد أذكر حاجة إن تقضها ... أك عبد مدحك ما حييت وشكركا

أنا في ضيافتك العيشة ها هنا ... فاجعل حماري في ضيافة مهركا فضحكت واعتذرت إليه من إغفالي أمر حماره، وابتعت المكوك الآخر بخمسين درهماً، ودفعته إليه.

وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود.

وأخبار نصر المذكور ونوادره كثيرة. وتوفي سنة عشرة وثلثمائة، رحمه الله تعالى، وتاريخ وفاته فيه نظر، لأن الخطيب ذكر في تاريخه أن أحمد ابن منصور النوشري المذكور سمع منه سنة خمس وعشرين وثلثمائة [لكن نقلت تاريخ وفاته على هذه الصورة من تاريخ ابن أزرق الفارقي، والله أعلم] .

والخبرأرزي: بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة وفتح الزاي وبعدها همزة ثم راء ثم زاي؛ وفتح الهمزة وضمها وتشديد الزاي وتخفيفها في الأرز يختلف باختلاف اللغات في هذه الكلمة، وفيها ست لغات: الواحدة بضم الهمزة والراء وتشديد الزاي، والأخرى بفتح الهمزة والباقي مثل الأولى، والثالثة أرز: بضم الهمزة وسكون الراء وتخفيف الزاي، والرابعة مثل الثالثة لكن الراء مضمومة، والخامسة رز، بضم الراء وتشديد الزاي، والسادسة رنز، بضم الراء وسكون النون وتخفيف الزاي؛ وإنما نسب نصر المذكور هذه النسبة لأنه كان يتعاطى هذه الحرفة كما تقدم ذكره في أول هذه الترجمة.

ابن لنكك: بفتح اللام وسكون النون وكافين متواليين، وهو لفظ أعجمي، معناه بالعربي أعيرج، تصغير أعرج، لأن كلمة لنك معناها أعرج، وعادة العجم إذا صغروا اسماً ألحقوا في آخره كافاً.

ومربد البصرة: بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء الموحدة وبعدها دال مهملة، وهو اسم موضع بالبصرة مشهور، وهو في الأصل اسم لكل مكان تحبس فيه الإبل وغيرها، ثم صار علماً على الموضع المذكور.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق