الخميس، 9 مارس 2017

بهاء الدين زهير

أبو الفضل زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن منصور بن عاصم المهلبي العتكي (2) الملقب بهاء الدين الكاتب؛ من فضلاء عصره، واحسنهم نظماً ونثراً وخطاً، ومن أكبرهم مروءة، كان قد اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح أبي الفتح أيوب ابن السلطان الملك الكامل بالديار المصرية، وتوجه في خدمته إلى البلاد (3) الشرقية، وأقام بها إلى أن ملك الملك الصالح مدينة دمشق، فانتقل إليها في خدمته، وأقام كذلك إلى أن جرت الكائنة المشهورة على الملك الصالح، وخرجت عنه دمشق وخانه عسكره وهو على نابلس وتفرق عنه، وقبض عليه الملك الناصر صاحب الكرك، واعتقله بقلعة الكرك، فأقام بهاء الدين زهير المذكور بنابلس محافظة لصاحبه، ولم يتصل بخدمة غيره، ولم يزل على ذلك حتى خرج الملك الصالح وملك الديار المصرية، وقدم إليها في خدمته، وذلك في أواخر ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة - وهذا الفصل مذكور في ترجمة أبيه الملك الكامل محمد فينظر هناك -.
وكنت يومئذ مقيماً بالقاهرة، وأود لو اجتمعت به لما كنت أسمعه عنه، فلما وصل اجتمعت به ورأيته فوق ما سمعت عنه  من مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة  ودماثة السجايا، وكان متمكناً من صاحبه كبير القدر عنده، لا يطلع 
على سره الخفي غيره، ومع هذا كله فإنه كان لا يتوسط عنده إلا بالخير، ونفع خلقاً كثيراً بحسن وساطته وجميل سفارته (1) .
وأنشدني كثيراً من شعره، فمن ذلك ما كتبه إلى بعض أصحابه وكان قد غرقت به سفينة فسلم بنفسه وذهب ما كان معه (2) :
لا تعتب الدهر في خطب رماك به ... إن استرد فقدماً طالما وهبا
حاسب زمانك في حالي تصرفه ... تجده أعطاك أضعاف الذي سلبا
والله قد جعل الأيام دائرة ... فلا ترى راحة تبقى ولا تعبا
ورأس مالك وهي الروح قد سلمت ... لا تأسفن لشيء بعدها ذهبا
ما كنت أول مفدوح بحادثة ... كذا مضى الدهر لا بدعاً ولا عجبا
ورب مال نما من بعد مرزئة ... أما ترى الشمع بعد القط ملتهبا
وأنشدني المذكور، وكتب بها لفخر الدين ابن قاضي داريا يشكو إليه سوء أدب غلمانه
سواك الذي ودي لديه مضيع ... وغيرك من سعيي إليه محبب
ووالله ما آتيك إلا محبة ... وأني في أهل الفضيلة أرغب
أبث لك الذكر الذي طاب نشره ... وأطري بما أثني عليك وأطرت
فما لي ألقى دون بابك جفوة ... لغيرك تعزى، لا إليك، وتنسب
أرد برد الباب إن جئت زائراً ... فيا ليت شعري أين أهل ومرحب
ولست بأوقات الزيارة جاهلاً ... ولا أنا ممن قربه يتجنب
وقد جعلوا في خادم المرء أنه ... بما كان من أخلاقه يتهذب
    فهلا سرت منك اللطافة فيهم ... وأعددتهم آدابهم فتأدبوا
    ويصعب عندي حالة ما ألفتها ... على أن بعدي عن جنابك أصعب
    فأمسك نفسي عن لقائك كارهاً ... " أغالب فيك الشوق والشوق أغلب "
    وأغضب للفضل الذي أنت ربه ... لأجلك، لا أني لنفسي أغضب
    وآنف إما عزة منك نلتها ... وإما لإدلال به أتعتب
    وإن كنت ما أعتد هاتيك زلة ... فحسبي بها من خجلة حين أذهب وله من قصيدة يمدح بها الملك المسعود صلاح الدين يوسف ابن الملك الكامل رحمه الله:
    وتهتز أعواد المنابر باسمه ... فهل ذكرت أيامها وهي قضبان
    فدع كل ماء حين يذكر زمزم ... ودع كل واد حين يذكر نعمان
    وما كل أرض مثل أرضي هي الحمى ... وما كل بيت مثل بيتي هو البان وله من قصيد يمدح به الأمير علاء الدين وله الأمير شجاع الدين جلدك التقوي بثغر دمياط سنة خمس وستمائة، وهي أول شيء قاله من المدح:
    فيا ظبي هلا كان فيك التفاتة ... ويا غصن هلا كان فيك تعطف
    ويا حرم الحسن الذي هو آمن ... وألبابنا من حوله تتخطف
    عسى عطفة بالوصل يا واو صدغه ... وحقك إني أعرف
     الواو تعطف وله من قصيدة:
    وما كل مخضوب البنان بثينة ... ولا كل مسلوب الفؤاد جميل
     وله من قصيدة يمدح بها الأمير نصير الدين بن اللمطي ويهنيه:
    وهل كنت إلا السيف خالطه الصدا ... فكنت له يا ذا المواهب صيقلا
    وما لي لا أسمو إلى كل غاية ... إذا كنت عوني في الزمان وكيف لا
    وله من أبيات كتب بها إلى القاضي فخر الدين ابن قاضي داريا يشكره لمعروف ابتدأه به:
    وخذها على ما خيلت بنت ساعة ... أتتك على استحيائها تتعثر ومما أنشدنيه قوله (1) :
    يا روضة الحسن صلي ... فما عليك ضير
    فهل رأيت روضة ... ليس بها زهير 
    وأنشدني أيضاً لنفسه  :
    كيف خلاصي من هوى ... مازج روحي واختلط
    وتائه أقبض في ... حبي له وما انبسط
    يا بدر إن رمت به ... تشبهاً رمت شطط
    ودعه يا غصن النقا ... ما أنت من ذاك النمط
    قام بعذري وجهه ... عند عذولي وبسط
    لله أي قلم ... لواو ذاك الصدغ خط
    ويا له من عجب ... في خده كيف نقط
    يمر بي ملتفتاً ... فهل رأيت الظبي  قط
    ما فيه من عيب سوى ... فتور عينيه فقط
    يا قمر السعد الذي ... نجمي لديه قد هبط
    يا مانعي حلو الرضا ... ومانحي مر السخط
    حاشاك أن ترضى بأن ... أموت في الحب غلط
    وأنشدني لنفسه أيضاً  :
    أنا ذا زهيرك ليس إلا جود كفك لي مزينه ...
    أهوى جميل الذكر عن ... ك كأنما هو لي بثينه
    فاسأل ضميرك عن ودا ... دي إنه فيه جهينه
    وأنشدني لنفسه أيضاً أبياتاً لم يعلق على خاطري منها سوى بيتين من آخرها، وهما  :
    وأنت يا نرجس عينيه كم ... تشرب من قلبي وما أذبلك
    ما لك في حسنك من مشبه ... ما تم في العالم ما تم لك وأنشدني غير ذلك شيئاً كثيراً، وشعره كله لطيف، وهو كما يقال: السهل الممتنع، وأجازني رواية ديوانه، وهو كثير الوجود بأيدي الناس فلا حاجة إلى الإكثار من ذكر مقاطيعه.
    فسير إليه زهير المذكور جوابه مع المطلوب:
    مولاي سيرت ما أمرت به ... وهو يسير المداد والورق
    وعز عند يسير ذاك وقد ... شبهته بالخدود والحدق] (1) وأخبرني بهاء الدين زهير المذكور أنه توجه إلى الموصل رسولاً من جهة مخدومه الملك الصالح لما كان ببلاد الشرق، وأنه كان ببلاد الموصل يومئذ صاحبنا الأديب شرف الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي الوفاء بن خطاب المعروف بابن الحلاوي الموصلي الأصل الدمشق المولد والدار، فحضر إليه ومدحه بقصيدة طويلة أحسن فيها كل الإحسان، وكان من جملتها قوله:
    تجيزها وتجيز المادحين بها ... فقل لنا أزهير أنت أم هرم وأنه لما رجع من الموصل اجتمع بجمال الدين بن مطروح المذكور فأوقفه على القصيدة المذكورة فأعجبه منها هذا البيت المذكور، فكتب إليه البيتين المذكورين  .
    قلت: وبيت ابن الحلاوي المذكور ينظر إلى قول ابن القاسم في الداعي سبأ ابن أحمد الصليحي، أحد ملوك اليمن، وكان شاعراً جواداً من قصيدة (3) :
    ولما مدحت الهبرزي ابن أحمد ... أجاز وكافاني على المدح بالمدح
    فعوضني شعراً بشعر وزادني ... عطاء فهذا رأس مالي وذا ربحي وأخبرني بهاء الدين أيضاً أن مولده في خامس ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بمكة حرسها الله تعالى، وأخبرني مرة أخرى أنه ولد بوادي نخلة، وهو بالقرب من مكة، والله أعلم، وهو الذي أملى علي نسبه على هذه الصورة، وسطرت هذا الفصل وهو في قيد الحياة منقطعاً في بيته بالقاهرة بعد موت مخدومه، طيب الله قلبه وأجراه على أجمل عاداته، وأخبرني أن نسبته

    وأخبرني جمال الدين أبو الحسين يحيى بن مطروح - الآتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - قال: كتبت إليه، وكان خصيصاً به:
    أقول وقد تتابع منك بر ... وأهلاً ما برحت لكل خير
    ألا لا تذكروا هرما بجود ... فما هرم بأكرم من زهير [قال: وكتب إليه مرة أخرى يطلب درج ورق ومداداً :
    أفلست يا سيدي من الورق ... فجد بدرج كعرضك اليقق
    وآتني بالمداد مقترناً ... فمرحباً بالخدود والحدق
    إلى المهلب بن أبي صفرة - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى -.
    ثم حصل بالقاهرة ومصر مرض عظيم لم يكد يسلم منه أحد، وكان حدوثه يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال سنة ست وخمسين وستمائة، وكان بهاء الدين المذكورة ممن مسه منه ألم، فأقام أياماً ثم توفي قبيل المغرب يوم الأحد رابع ذي القعدة من السنة المذكورة، ودفن من الغد بعد صلاة الظهر بالقرافة الصغرى بتربته بالقرب من قبة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، في جهتها القبلية  ، ولم يتفق لي الصلاة عليه لاشتغالي بالمرض، رحمه الله تعالى. ولما أبللت من المرض مضيت إلى تربيته وزرته وقرأت عنده شيئاً من القرآن وترحمت عله لمودة كانت بيننا.
    وأنشدني الفقيه أبو الحجاج يوسف الضرير لبهاء الدين لغزاً في القفل  :
    وأسود عار أنحل البرد جسمه ... وما زال من أوصافه الحرص والمنع
    وأعجب شيء كونه الدهر حارساً ... وليس له عين وليس له سمع 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق